وبعد أن أخذت هذه الرواية قسطها وأكملت عدتها، وعرضت على الجمهور وقتا طويلا، جاء أوان التفكير في غيرها، فاتجهت نيتي إلى اقتحام ميدان الاقتباس، وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتني. وما إن أطلعت زميلي بديع على نيتي حتى ساهم وإياي في خطتي، وبدأنا في الحال، فلما انتهينا اخترنا للرواية اسم «اتبحبح»، ولما كانت روايتنا هذه هي أول محاولة لنا في الاقتباس، فقد وضعت يدي على قلبي وخشيت أن يكون نصيبها من الجمهور فشلا يعود بنا سنوات إلى الوراء.
كانت الرواية من النوع الكوميدي الأخلاقي، وكان خوفي عليها ناشئا من كثرة حوادثها وضرورة متابعة المتفرج لهذه الحوادث بانتباه تام، ومزيد من العناية والاهتمام، بحيث إذا فاته شيء ولو قليل، ضاع منه كل شيء، وهوت الرواية من أساسها، دون أن يكون لموضوعها دخل في هذا السقوط.
وبعد حمد الله والثناء عليه أقول إن الجمهور قابل روايتنا الجديدة مقابلة لم أكن أنتظرها، وقد شجعني إقباله هذا على أن أقدم له أنواعا جديدة، بمعنى أن أعرج بين وقت وآخر على الفودفيل، ثم أستأنف الكوميدي الذي كان رائدنا على كل حال. وتنفيذا لهذه الخطة أخرجنا رواية «ليلة نغنغة» فنجحت هي الأخرى.
بعد ذلك قامت في مخنا - بديع وأنا - أن نطلع على الجمهور برواية استعراضية ولم يطل بنا التفكير حتى وضعنا رواية «مصر باريس نيويورك»، وقد جاءت والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أسخف ما جادت به القرائح البشرية لدرجة كنت أشعر معها وأنا على المسرح بأنني أجبر الجمهور على الاستماع بطريق الغصب تماما، كما يفعل الطبيب حين يناول مريضه شربة الملح الإنجليزي! ومرت أيام هذه البتاعة وبلاش الرواية ويسرني أن أقول بأن الجمهور ونحن معه قد نسينا ومحونا من أذهاننا ذكراها.
نحن الآن في عام 1930 ولا مانع من أن أقف لحظة لأقدم للقراء شخصية جديدة.
الأستاذ طبنجة
عرفت أثناء رحلتي في فلسطين وسوريا شابا من طرابلس الشام اسمه (ناجي صبيح)، كان إذ ذاك مندوبا لجريدة لسان العرب، فلما عادت الفرقة إلى مصر، وراحت أيام وجاءت أيام، وأصبحنا في عام 1930 كما قدمت، وإذا بي أرى هذا السيد ناجي صبيح وقد ترك الصحافة وجاء يخطب ود الفن.
وضممته إلى الفرقة، لا ممثلا لا سمح الله ولا موسيقيا أو مؤلفا، بل وكيلا للإدارة. وسواء أظهر في عمله كفاءة أم لم يظهر، فقد كانت فيه ناحية تعجبني والسلام. ذلك أنه كان كثير التحدث ببطولته، وبما كان يرويه من حوادث البطولة والشهامة التي وقعت له أثناء وجوده جنديا في الجيش!
كان ناجي يعقب على كل نادرة أو قصة أو حكاية بجملة مأثورة، هي أنه أخرج الطبنجة من جيبه. واخبط راح خاطف روحه. فمثلا يقص علينا أنه طلب فنجان قهوة من الجرسون، فتأخر هذا قليلا في تنفيذ المطلوب «فلم يكن مني إلا أن أخرجت الطبنجة. واخبط. رحت خاطف روحه!».
وفي أحد الأيام جلس ناجي يلعب النرد (نرد إيه يا خويا والطاولة جرى لها إيه؟ سيبك يا شيخ). جلس يلعب الطاولة مع الممثل كمال المصري المعروف باسم شرفنطح. وهو معروف إلى جانب ذلك بأنه يخاف من خياله. وكثيرا ما كان ينصت إلى الجملة إياها، أو اللازمة التي لا تفارق ناجي، فيرتجف هولا، ويخشى أن يعملها ناجي بعقله، ويخبطه طبنجة من طبنجاته يخطف فيها روحه، علشان خاطر دوش أو شيش جهار أو دوسه يختلفان عليها والا حاجة! نهايته لعب الاثنان، وكان أن وقعت الواقعة، واحتدم الجدال بين اللاعبين، فلم يكن من شرفنطح إلا أن تشجع «وبرق» عينيه الواسعتين، ولعب حاجبيه وسأل ناجي قائلا: «الطبنجة معاك دلوقت والا مش معاك؟» ... وأجابه هذا بأنها معه، وفي الحال أقفل شرفنطح الطاولة بشدة وقال له: «طيب اخلص أعمل معروف واخطف روحي بسرعة»، وانتقى بعد ذلك من الجمل المستوية ما ختمها بقوله: «يا خويا أنت من يوم ما وصلت مصر، وانت شطبت على أرواح عباد الله ... شفهي كده، اتفضل دلوقتي اخطف لك روح واحدة تحريري ولو بصفة بروفه!».
Unknown page