وتبين لي أن هذا المنزل هو أفضل منزل في المنطقة المرتفعة وقد وطنت نفسي على البقاء فيه وبدأت أنظمه قدر المستطاع، وغادرنا الباشا للرجوع على الباخرة نفسها عند عودتها. وبقيت مع والدتي وابنتي وسيدة شركسية من معاتيق الخديوي إسماعيل باشا أبت إلا أن ترافقني في رحلتي بعد أن رفضت خادمتي أن تصحبني؛ لأن لها ولدا لا يمكنها أن تبتعد عنه زمنا طويلا. ولقد أفادتني هذه السيدة كثيرا وقدمت لي خدمات كبيرة لا أنساها. وكان اسمها «مهرماه هانم» وكانت كبيرة قالغوات «وصيفات» سراي إسماعيل باشا ... وكانت حائزة رتبة باشجاويش، ووظيفتها في الحفلات والمواسم أن تسير أمام والدة باشا وبيدها صولجان طويل. وعندما تدخل الوالدة غرفة استقبالها وتجلس تلقي أمامها مهرماه هانم خطبة التعظيم المعتادة، ثم تقف إلى جانبها.
كانت هذه السيدة تتردد علينا وتحب ابنتي كثيرا ولكن حبها تحول كلية بعد ذلك إلى ابني «محمد» حتى صارت تزاحمني في حبه.
وقد بقينا في استنابول ببيوك دره ثلاثة أشهر، وكان يعالج ابنتي طوال هذه المدة طبيب إيطالي اختصاص في أمراض الأطفال. ورغم أنه كان ذائع الصيت، فإن ابنتي كانت تتحسن فترة، ثم لا تلبث أن تسوء أضعاف هذه الفترة، ولذلك أمضيت فترة وجودي في إسطنبول دون أن أحظى برؤية آثارها ومعالمها، وأذكر أنني لم أنزل إلى المدينة إلا مرة أو اثنتين لشراء بعض لوازمنا الضرورية، وقد لفت نظري تزاحم الكلاب في الشوارع والأزقة لدرجة يتعطل معها السير، وعندما سألت عن سر هذه الظاهرة العجيبة، قيل لي: إن الخليفة يحمي هذه الكلاب ويتبرك بها، ولذلك أجرى عليها راتبا خاصا من الجراية. كذلك فقد استرعى انتباهي السوق الكبيرة «أوزوث جارشي» وهي تشبه سوق خان الخليلي في مصر، وكنا نرى السيدات التركيات يجبن السوق في المآزر الحريرية المختلفة الألوان وعلى وجوههن النقاب الأسود.
وعندما رأيت أنه لا فائدة من إطالة البقاء، رجعت إلى وطني وأنا أكثر بؤسا مني عند السفر إلى تركيا التي غادرتها دون أن أعرف عنها أكثر من بيوك دره والبوسفور، وأذكر هنا أن الطبيب الإيطالي الذي كان يعالج ابنتي هناك، رفض أن يتقاضى أتعابا؛ لأنه لم يوفق لشفائها، فوضعت النقود في جيبه عند نزوله من المركب دون أن يشعر؛ حيث كان قد أتى ليوصلنا إلى الباخرة.
الفصل العاشر
عدت إلى مصر واليأس يملأ قلبي، إن السفر لم يغير شيئا بالنسبة لابنتي، والطبيب الإيطالي أعلن في نهاية الأمر، وبينما كنت أحارب الموت في ابنتي لدرجة يتألم معها كل من حولي لحالي وحالها، أتت صديقتي حرم رشدي باشا ذات يوم مهللة مستبشرة، وقالت لي: لقد حضر من فرنسا طبيب أخصائي في أمراض الأمعاء وهو «الدكتور هويس »، وسوف أحضره معي ليرى بثنة، وأنا متفائلة بقدومه خيرا.
وشكرتها، ولكنني كنت في الحقيقة غير مبالية بما تقول بعد أن استولى اليأس علي تماما، وجاءت في اليوم التالي ومعها الطبيب الذي فحص ابنتي، ثم قال لي: إن مرض هذه الطفلة ناشئ أغلبه من الجوع، وسوف تموت من الضعف إذا داومتم على اتباع الحمية معها؛ لأن لكل شيء حدا.
ولا أستطيع أن أنسى منظرها في هذه اللحظة وهي تتطلع إلى الطبيب بابتسامة شاحبة هزيلة.
وسألني الطبيب عن تلك الأمراض التي اعترتها من يوم ولادتها. ولما عرف بأمر الحمى التي كانت تعتريها، قال: لا شك في أن الملاريا هي التي تسبب كل هذه المضاعفات. ووصف لها العلاج اللازم للملاريا، وأمر بتغذيتها، وقد نجحت طريقته وصرت ألجأ إلى اتباعها كلما اقتضى الحال.
بقيت كذلك مع ابنتي حتى بلغت السادسة من عمرها. وانقطعت عن كل شيء طوال هذه المدة تفرغا لعلاجها ومحاربة الموت فيها. فانفضت بعض صديقاتي من حولي وغضب بعضهن الآخر لانقطاعي عنهن. وكن ينادينني «أم بثنة» رغم أنني رزقت بولدي «محمد» بعد ولادتها بسنتين ونصف سنة.
Unknown page