وكان من جراء ذلك أن حاز الرجال وحدهم شرف تحقيق هذا المشروع الحيوي العظيم، الذي كانت المرأة أولى بالقيام به من الرجل! ...
الفصل التاسع
بعد أن فشلت أول محاولة لإيجاد رابطة أدبية لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن، بقينا بعد ذلك نتلمس كل فرصة لتوجيه اهتمام السيدات إلى الأمور الاجتماعية، وذلك من خلال دعوتهن لزيارة معارض الفنون الجميلة في أوقات محددة لهن.
وكان يقوم جماعة من الفنانين الإفرنج بعرض لوحاتهم وكذلك لوحات مشاهير الفنانين الأوروبيين في معارض فنية سنوية بشارع المدابغ «شارع شريف الآن» لتنمية روح الفن في الأوساط المصرية. وقد نجحوا في ذلك حتى إن الأمير يوسف كمال شجع هذه الروح بتأسيس مدرسة الفنون الجميلة التي صادفت نجاحا باهرا، وانتهى الأمر بأن وضعتها وزارة المعارف تحت إشرافها، وقد كانت هذه المدرسة أول معهد ساعد على إظهار استعداد المصريين وميلهم الفطري للفن الجميل.
وفي ذلك الوقت ظهر كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» الذي نبه الأذهان إلى وجوب خلق نهضة عامة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها. وكان كتابه الجريء بمثابة الحجر الأول في بناء أساس تلك النهضة التي قابلها الرأي العام بعاصفة شديدة من الاستنكار والمقاومة. ولو أن تلك العواصف قد أثرت في قاسم وهزته، إلا أنها لم تستطع أن تنال من رسالة الحق التي أداها في جرأة وشجاعة ... وكم سمعنا في ذلك الوقت السيدات أنفسهن يستنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه رغم إنها كانت في صالحهن؛ لأنها كانت تظهرن في الثوب الحقيقي من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبرياءهن، فكن بذلك يذكرنني بالجواري عندما تعطي لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر ...
ولقد كانت صديقتي حرم رشدي بك موضع تقدير أصدقاء زوجها، ومنهم قاسم أمين بك والإمام الشيخ محمد عبده وسعد زغلول باشا ومصطفى كامل باشا والشيخ عبد العزيز جاويش وغيرهم من رجالات مصر المعدودين، وكانت كثيرا ما تقص علي ما يدور بينها وبينهم من الحديث، وكانت تعجب بآراء قاسم أمين وشجاعته الأدبية، وفي الوقت نفسه تأسف لعدم تقدير مواطنيه له إلا القليل من أصدقائه، كما كانت ترثي لتألمه من جحود مواطنيه لفضله وتخلي أصدق أصدقائه ومؤيدي مبادئه عنه أثناء هبوب العاصفة التي أثيرت ضده عندما صرح بآرائه في تحرير المرأة.
لقد كانت صديقتي حرم رشدي باشا المثل الأعلى للمرأة المهذبة الكاملة، وكانت لا تطيق أن ترى أي سوء تفاهم أو بغضاء بين أصدقائها أو معارفها ... وكان لها التأثير الكبير علي في الصلح مع زوجي.
ولقد قدر لهذه السيدة أن تتلقى صدمات عائلية ومادية متتالية، فلم تقو على احتمال هذه الصدمات نظرا لما كانت عليه من قلة المقاومة نتيجة مرض مزمن فضلا عن إرهاق نفسها بالأعمال، فأضعف كل ذلك قلبها الطيب، وكان أن مرضت وتوفيت إثر عملية جراحية أجريت لها في باريس في أكتوبر 1908.
وقد علمت من زوجي الذي كان بباريس في تلك السنة وقابلها هناك، أنني كنت شغلها الشاغل، وإنها كانت تعرض عليها الأشياء التي كلفتها بها وهي على سرير المرض. وكان هذا دليلا على الاهتمام والصداقة والمحبة. وقد كتبت لي عند دخولها المستشفى تقول: «دخلت المستشفى لتجرى لي عملية جراحية صغيرة، فلا تجزعي إذا وصلك نبأ خاطئ بأنني قد مت، ولا تبكي علي كما رأيتك تبكين عندما أشيع خطأ خبر وفاة الدكتور هيس.»
وجاءت وفاتها بعد وفاة الزعيم المعروف مصطفى كامل باشا الذي كانت تقدره وتناصر آراءه، وكان مصطفى كامل أصدق أصدقاء أخي، ثم لحق بهما قاسم أمين نصير المرأة والصديق الحميم لسعد زغلول باشا ورشدي باشا، فخسرت مصر ثلاثة من المجاهدين المخلصين في خدمة قضيتها. ومن غريب الصدف أن شقيقي رزئ في أعز صديق لديه في الوقت الذي رزئت فيه في أعز صديقاتي وأحبهن إلي، ومن شدة حزني عليها مرضت مرضا شديدا، أدى إلى إذعان زوجي أخيرا لمشورة الأطباء بسفرنا إلى الخارج للاستشفاء في فرنسا، وهناك أدركت هول الفاجعة التي لحقت بي بفقدان صديقتي لما لقيته من كل معارفها وأصحابها من العناية بي والاهتمام بأمري.
Unknown page