وكنا نقضي أغلب أوقاتنا في اللعب والمرح في حديقتهم الفسيحة المترامية التي كانت تشغل كل الأرض التي بنيت عليها لوكاندة سافوي القديمة وعمارة بهلر الحديثة. وكان ممرنا الموصل إليها حديقة قطاوي باشا التي كانت تمتد من شارع الشريفين إلى ميدان سليمان باشا. وكثيرا ما كنا نلعب في تلك الحديقة ومعنا أنجال قطاوي باشا.
ومن كثرة اختلاطي بالصبيان ولعبي معهم، تطبعت بطباعهم وشببت عليها، وهنا أقرر أن اختلاط الجنسين منذ الصغر إن لم يكن له تأثير حسن في تربية الأطفال، فليس من ورائه الضرر الذي يحدث من الاختلاط في أدوار المراهقة وما بعدها؛ لأن اختلاط الأطفال يجعلهم يشبون على عدم الفوارق، وتربطهم الصداقة البريئة ومن كثرة تعود بعضهم على بعض يصبحون كأنهم إخوة.
وأؤكد أن كثيرا من الفتيات اللاتي تآخين منذ الصغر مع زملائهن من الفتيان؛ كن أقل علما بكثير من الأمور التي عرفها أترابهن ممن تعارفن في سن كبيرة، فما من شك في أن الفوارق والنزعات في هذه الأعمار تكون ظاهرة ومحسوسة ... أما الاختلاط منذ الصغر وبين أولاد من طبقة متساوية تربوا على أساس من الحشمة والاحترام، فهو قليل الشوائب والأخطاء.
الفصل السادس
كنت أحب أخي حبا متناهيا رغم غيرتي منه، وكان يزيد من عطفي عليه ضعف صحته، ويزيد من حبي له أنه سيحيي اسم والدي الحبيب، ويرفعه بما كان يتحلى به من صفات حميدة.
ولقد ضاعف من تعلقي بأخي ذلك الحادث الذي وقع ذات يوم، وتجلى فيه فرط حبه لوالده؛ ذلك إننا كنا نلعب ذات يوم في شرفة الطابق العلوي، ولم يكن معنا أحد، فذكرت له أننا على موعد مع أولاد ثابت باشا، وأن هذا الموعد قد أزف، وعلينا أن نستبدل ملابسنا استعدادا للزيارة، وبخاصة أن والدهم يريد أن يرانا. وعندئذ نظر إلي أخي بحزن وسألني: لماذا ليس لنا أب مثلهم؟ ولماذا لم يعد والدنا من سياحته الطويلة كما تقول لي مربيتي كلما سألتها عنه؟ ألا يشعر بالشوق إلينا مثل ثابت باشا؟ قلت له: ألا تعرف السبب؟ قال: لا. فهل تعرفينه أنت؟ قلت: نعم، ولكن إذا أطلعتك عليه فهل تعدني بأن تحتفظ بهذا السر دون أن تبوح به لأحد؟ قال: نعم ... تعدني بذلك، قلت له: إنهم يكذبون علينا ... إن والدنا لن يعود إلينا أبدا ... فقال في دهشة واستغراب: لماذا؟ قلت: لأنه قد مات! ...
وكم ندمت على خروج هذه الكلمة من فمي؛ لأنه كاد يصعق من هول المفاجأة، وارتمى على الأرض يبكي وينتحب ويصرخ صراخا عاليا، وانحنيت عليه باكية أحاول أن أهدئ من روعه وأكفكف عبراته ... ولكن حناني لم يهون عليه شيئا، بل ظل على هذه الحالة إلى أن سمعته والدتي، فهرولت نحونا صارخة: ما لك يا خطاب؟
وعندئذ تواريت خلف الباب وأنا أرتعد خوفا وفزعا، مخافة أن يطلعها أخي على ما قلته له، فتحقد علي، ومالت عليه والدتي ورفعته عن الأرض وضمته إلى صدرها وهو ما زال يبكي دون أن يجيب عن أسئلتها ... فظنت أني ضربته، فالتفتت إلي غاضبة وسألتني: هل ضربته؟ فرد عليها وهو يشهق قائلا: لا ... أبلة لم تفعل لي شيئا! ...
وتعجبت والدتي من أمره، وظلت تحاول تهدئته إلى أن نام في حضنها، وأمضينا ليلة سوداء؛ لأن ذلك الانفعال أثر في صحته الضعيفة، فقضى يومين أو أكثر دون أن يقوى على مغادرة فراشه، واجتهدت والدتي أن تعرف منه السبب، فلم يعترف لها بشيء. ولما كان لا يعرف الكذب، فإنه لم يستطع أن يهدئ خاطرها.
وهكذا بر أخي الصغير بوعده، وشب على هذه الفضيلة، ولم يعد يسأل بعد ذلك عن أبيه؛ لأنه عرف مكانه، ومنذ ذلك اليوم زاد تقديري لأخي، وتضاعفت محبتي له، وشعرت أنه يغمرني بحبه أكثر من ذي قبل ويسر إلي بخفايا نفسه، وقد ظل الحب بيننا متبادلا وكبيرا حتى فرق بيننا القدر، وكانت وفاته أقسى صدمة واجهتني في حياتي.
Unknown page