Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Genres
الشام ودار الملك أيام بني أمية وثم قصورهم وآثارهم، بنيانهم خشب وطين، وعليها حصن - أحدث وأنا به - من طين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن، وهو بلد قد خرقته الأنهار، وأحدقت به الأشجار، وكثرت به الثمار، مع رخص أسعار، وثلج وأضداد، لا ترى أحسن من حماماتها، ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها. الذي عرفته من دروبها باب الجابية، باب الصغير، باب الكبير، باب الشرقي، باب توما، باب النهر، باب المحامليين. وهي طيبة جدا، غير أن في هوائها يبوسة وأهلها غاغة، وثمارها تفهة، ولحومها عاسية، ومنازلها ضيقة، وأزقتها غامة، وأخبازها ردية، والمعايش بها ضيقة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى.»
ثم يردف المقدسي كلامه بوصف الجامع الأموي الشهير «المعدود كإحدى عجائب الدنيا»، ووصفه أقدم ما ورد إلينا في ذلك البناء العظيم، ولولا طوله لأثبتناه هنا، وهو يعرفنا بمحاسن ذلك العمل الجليل ورونقه البهي، قبل أن يصاب ثلاثا بمصاب الحريق، ونحن نكتفي بذكر رواية نقلها المؤلف عن نفسه حيث قال (ص159): «قلت يوما لعمي: يا عم، لم يحسن الوليد
7
حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورم الحصون لكان أصوب وأفضل. قال: لا تغفل بني أن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلد النصارى ورأى لهم فيها بيعا حسنة، قد أفتن زخارفها وانتشر ذكرها، كالقمامة، وبيعة لد والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدا أشغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين، فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»
وهو قول جليل يدل على ما بلغه فن البناء والهندسة في بلاد الشام بين أهل الذمة.
أما المدن الساحلية فإنها على ما يظهر كانت قليلة الشأن بالنسبة إلى حمص ودمشق، فإن المقدسي لا يكاد يزيد على ذكر أسمائها، حيث قال (ص160): «صيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان، وكذلك طرابلس إلا أنها أجل.» بخلاف بانياس فإنها كانت في ذلك العهد مدينة عامرة واسعة الثروة بما يأتيها من غلال كورة الحولة، التي يدعوها المؤلف «معدن الأقطان» قال (ص160): «ومدينة بانياس على طرف الحولة وحد الجبل أرخى وأرفق من دمشق، وإليها انتقل أكثر أهل الثغور لما أخذت طرسوس، وزادوا فيها وهي كل يوم في زيادة، لهم نهر شديد البرودة يخرج من تحت جبل الثلج، وينبع وسط المدينة، وهي خزانة دمشق رفقة بأهلها بين رساتيق جليلة، غير أن ماءها ردي.»
ومن المدن التي أفاض المؤلف في وصفها طبرية، وكانت إذ ذاك أعظم خطرا منها اليوم. مع انطباق وصفها إجمالا مع وضعها الحالي، قال (ص161): «طبرية قصبة الأردن وبلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل والبحيرة، وهي ضيقة كربة في الصيف مؤذية، طولها نحو من فرسخ بلا عرض، وسوقها من الدرب إلى الدرب، والمقابر على الجبل، بها ثمانية حمامات بلا وقيد ومياض عدة حارة الماء، والجامع في السوق كبير حسن، قد فرش أرضه بالحصى على أساطين حجارة موصولة، ويقال: «أهل طبرية شهرين يرقصون، وشهرين يقمقمون، وشهرين يثاقفون، وشهرين عراة، وشهرين يزمرون، وشهرين يخوضون.» يعني يرقصون من كثرة البراغيث، ويلوكون النبق، ويطردون الزنابير عن اللحم والفواكه بالمذاب، وعراة من شدة الحر، ويمصون قصب السكر، ويخوضون الوحل. وأسفل البحيرة جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم منها، عليها بما يدور قرى نخيل، والسفن فيها تذهب وتجيء، وماء الحمامات والدواميس إليها، لا يستطيبها الغرباء، كثيرة الأسماك، خفيفة الماء، والجبل مطل على البلد شاهق.»
والجسر الذي يذكره الكاتب ليس هو على ما نظن جسر المجامع الذي يرى اليوم جنوبا، بل يريد جسرا آخر خربا ترى بقاياه عند مخرج الأردن من بحيرة طبرية، وكان أكبر من جسر المجامع وأقرب من طبرية، ويتضح من وصفه أيضا أن الطريق من دمشق إلى طبرية كانت تقطع ذلك الجسر مارة بأفيق سواء، وبينهما بريد واحد (ص190)، وهكذا كانت تسهل المواصلات مع طبرية دون عطفة جسر المجامع، وهذا ما يحملنا على مخالفة رأي المسيو دي غوي الذي ارتأى أن الجسر المذكور هو جسر المجامع (ص161، في الحاشية
h )، ويؤخذ أيضا من كلام المقدسي أن ملاحة بحيرة طبرية كانت ذات بال، وأن الكورة كانت في نمو وعمران، أما اليوم فلا تكاد ترى على بحيرة طبرية سوى قوارب قليلة، والأمل معقود بأن سكة الحديد الحميدية سوف تعيد قريبا إلى هذه المحال حركتها السابقة وتقدمها.
ثم أتبع المؤلف وصفه بذكر بلاد فلسطين، وقد قدمنا فويق هذا تعريف عكا وميناها الخطير، المشابه بحسنه مينا صور الذي وصفه بما يلي (ص163): «وصور مدينة حصينة على البحر، بل فيه، يدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض، تدخل فيه المراكب كل ليلة ثم تجر السلسلة التي ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الإكراه، ولهم ماء يدخل في قناة معلقة، وهي مدينة جليلة نفيسة، بها صنائع ولهم خصائص، وبين عكا وصور شبه خليج؛ ولذلك يقال: «عكا حذاء صور إلا أنك تدور.» يعني حول الماء.»
Unknown page