في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت
البصائر عنده.
فإذا علمت عَجْزَ الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟
لكنا نذكر بعضها تَطَفلآَ على من سبق، فإن كنتُ لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعَدّ من فرسانهم لعَمْرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف
بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن كانت بعض الأوجه لا تعد عن إعجازه
فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك.
فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه في دار كرامته بخلق سَمْع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم، فإنه منعه في هذه الحياة الدنيوية لذيذَ المناجاة له بسبب ذنوبه، مصداقه قوله تعالى: (سأصْرِف عَنْ آياتِي الّذِينَ يتَكَبَّرونَ فِي الْأرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) .
وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى ﵇ أنه كان يسد أذنيه لئلا
يسمع كلام الخلق، إذ صار عنده أشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة، حتى لم يكن يستطيع سماعه بِحِدْثان ما ذاق من اللذات التي لا يحاطنها ولا
تكيَّف عند سماع كلام من ليس كمثله شيء جل وعلا.
ولولا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن
أن يأنس إلى شيء من المخلوقات أبدًا، ولما انتفع به أحد، فسبحانه من لطيف، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله!
ومن أعجب الأمر في هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدمًا
محضًا عند اطلاعها من ذي الجلال عما اطلعت عليه، لولا أنه أثبتها وأمسكها، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر - وإن من الأبدال - أنه رأى مرة في نومه حوراء كلمته فبقي نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلامًا إلا تقيأه.
فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذي هو
من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام
1 / 11