كذلك قال: دعوه، هو من طبقتي في النحو، أنا أناظره. قال: ثم سألنا صاعد فقال: ما معنى قول امرئ القيس١: من الطويل
كأن دماء الهاديات بنحرهِ ... عصارة حِنَّاءٍ بشيب مُرجَّلِ٢..؟
فقلنا: هذا واضح، وإنما وصف فرسًا أشهب عُقرت عليه الوحش فتطاير دمها على صدره فجاء هكذا. فقال صاعد: سبحان الله! أنسيتم قوله قبل هذا٣:
كُمَيْتٌ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حال مَتْنِهِ ... كما زلَّتِ الصفواءُ بالمُتنزّلِ٤؟
قال: فبُهتنا٥ كأنا لم نقرأ هذا البيت قط، واضطُررنا إلى سؤاله عنه، فقال: إنما عنى أحد وجهين: إما أنه تغشى صدره بالعرق، وعرق الخيل أبيض، فجاء مع الدم كالشيب؛ وإما شيء كانت العرب تصنعه، وهو أنها كانت تَسِمُ٦ باللبن الحار في صدور الخيل فيتمعَّط ذلك الشَّعر وينبت مكانه شعر أبيض؛ فأيما عنى من أحد هذين الوجهين فالوصف مستقيم.
قال أبو عبد الله: وحدثنا أبو محمد علي بن أحمد قال: حدثني أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مُفلت٧ الفقيه، أن أبا العلاء صاعدًا سأل جماعة من أهل الأدب في مجلس المنصور أبي عامر عن قول الشَّمَّاخ بن ضِرار٨: من البسيط
دار الفتاة التي كنا نقول لها: ... يا ظبيةً عُطُلًا حُسَّانةَ الجِيدِ٩
_________
١- هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي: أمير الشعراء في الجاهلية. توفي نحو سنة ٨٠ ق. هـ/ نحو ٥٤٥م. "الشعر والشعراء، ابن قتيبة: ٥٠/١".
٢- ديوان امرئ القيس: ٣٥. الهاديات: المتقدمات الأوائل، وسمي المتقدم هاديًا؛ لأن هادي القوم يتقدمهم. عصارة الشيء: ما خرج منه عند عصره. المرجل: المُسرَّح.
٣ ديوان امرئ القيس: ٣٢.
٤- الكميت من الخيل: ما كان لونه بين الأسود والأحمر، وهو تصغير أكمت، والجمع: كُمْت.
اللبد: كل شعر أو صوف متلبد، وقيل: ما يوضع تحت السرْج. الصفواء والصفوان والصفا: الحجر الصلب. المتنزل: المطر، وقيل: الطائر، وقيل: الإنسان.
٥- بُهتنا: يقال: بُهت الرجل: دُهش مأخوذًا بالحجة.
٦- وسم الشيء: كواه فأثَّر فيه بعلامة.
٧- هو فقيه، عالم، زاهد، يميل إلى الاختيار، والقول بالظاهر. "بغية الملتمس، الضبي: ٤٦٧".
٨- هو معقل بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني: شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة ٢٢هـ/ ٦٤٣م. "طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي: ١٣٢/١".
٩- العطل: المرأة ليس عليها حلي. الحسانة: الشديدة الحسن.
1 / 35