المعين على تفهم الأربعين
تأليف
العلامة الفقيه المحدث أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن
(٧٢٣ هـ - ٨٠٤ هـ)
دراسة وتحقيق
الدكتور دغش بن شبيب العجمي
مكتبة أهل الأثر
Unknown page
المُعيْنُ عَلى تَفَهُّمِ الأرْبَعِيْنَ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
مكتبة أهل الْأَثر للنشر والتوزيع
الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى
تلفاكس: ٢٢٦٥٦٤٤٠ / الْخط الساخن: ٦٦٥٥٤٣٦٩
E - mail: aahel - [email protected]
الموزعون المعتمدون
السعودية
* دَار التدمرية - الرياض
ت: ٤٩٢٤٧٠٦ - فاكس: ٤٩٣٧١٣٠
الإمارات
* دَار البشير - الشارقة
ت: ٦٥٦٢٩٨٠ - فاكس: ٦٥٦٢٩٨٦
عمان
* مكتبة الْهِدَايَة - صلالة
ت: ٢٣٢٩٨٨٨٧ - فاكس: ٢٣٢٩٨٨٨٦
قطر
* دَار الإِمَام البُخَارِيّ - الدوحة
ت: ٤٦٨٤٨٤٨ - فاكس: ٤٦٨٥٥٨٨
مصر
* دَار الْآثَار - الْقَاهِرَة
ت: ٢٦٤٢٢٣٢٣ - فاكس: ٢٦٣٦٣٧٨٦
* المكتبة العصرية - الْإسْكَنْدَريَّة
ت: ٣٤٩٧٠٣٧٠ - فاكس: ٣٣٩٠٧٣٠٥
الجزائر
* دَار الإِمَام مَالك - بَاب الْوَادي
ت: ٧٠٣٦١٠٥٧ فاكس: ٢٥٣٩١٣١٨
الْمغرب
* دَار الجيل - الدَّار الْبَيْضَاء
ت: ٢٢٤٥١٠٨٢ - فاكس: ٢٢٤٥٠٩٣٥
الْيمن
* دَار الْآثَار - صنعاء
ت: ٦٣٣٧١٧ - فاكس: ٦٠٣٢٥٦
الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها المكتبة تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي شَرَحَ صُدُورَ أَهْلِ الإسلام للسُّنَّةِ فانْقَادَتْ لاتِّبَاعِهَا وارْتَاحَتْ لِسَمَاعِها، وأَمَاتَ نُفُوسَ أَهْلِ الطُّغيان بِالبِدْعَةِ بَعْدَ أنْ تَمَادَتْ في نِزَاعِهَا فَغَالَتْ في ابتداعِها، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، العالم بانقياد الأفئِدَةِ وامْتِنَاعِهَا، المُطَّلِعُ على ضمائر القلوب في حالَتَيْ افتِرَاقِها واجتماعِها.
وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، الذي انخفضت بحقِّهِ كلمة الباطل بعد ارتفاعها، واتَّصلت بإرساله أنوار الهدى وظهرت حجتها بعد انقطاعها، ﷺ ما دامت السَّماءُ والأرض هذه في سُمُوِّها وهذه في اتساعها، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المردة وفتحوا حصون قلاعها، وهجروا في محبة داعيهم إلى الله الأوطار والأوطان ولم يعاودوها بعد ودَاعِها، وحفظوا على أتباعهم أقواله وأفعاله وأحواله حتى أَمِنت به السنن الشريفة مِن ضَياعها (١)، أما بعد:
"فإن أَوْلى مَا صُرِفَتْ فيه نَفَائِسُ الأيام، وأغلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام، الاشتغالُ بالعلوم الشَّرْعية المتلقاة من خير البريَّة، ولا يرتابُ عاقِلٌ في أَنَّ مَدَارَها على كتابِ الله المُقْتَفَى، وسنة نبيه المصطفى، وأن باقي العلوم إِمَّا آلاتٌ لِفَهْمِهَا وهي الضَّالَّةُ المطلوبة، أو أجنبية عنها وهي الضارة المغلوبة.
_________
(١) مقدمة الحافظ ابن حجر العسقلاني في "هدي الساري" (٥).
1 / 5
والرسولُ ﷺ أشرفُ الخَلقِ كلِّهم أجمعينَ، وقد أُوتِيَ جوامع الكلم، وسواطِعَ الحِكَم، من عند رب العالمين، فكلامه أشرفُ الكَلِم وأفضلُها، وأجمعُ الحِكَم وأكملُها، كما قيل: "كلامُ المُلُوك مُلُوكُ الكَلامِ" وهو تِلوَ كلام الله العلَّام، وثاني أدلةِ الأَحكام؛ فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقَّة بحذافيرها، تتوقف على بيانه ﷺ، فإنها ما لم تُوزَن بهذا القِسْطَاس المستقيم، ولم تُضْرَب على ذلك المعيار القويم، لا يُعْتَمَدُ عليها، ولا يُصَار إليها فهذا العِلم المَنصوص، والبِنَاء المرصوص، بمنزِلَةِ الصَّرَّاف لجواهِرِ العلوم عَقْلِيها ونَقْلِيِّها، وكالنقاد لنقود كل الفنون: أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله ﷾ ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار.
وما كان زيفًا غَيْرَ جَيِّدٍ عند ذاك النّقاد فهو القمين (١) بالرَّدِّ والطَّرْدِ والإنكار، فَكُلُّ قول يصِّدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن، فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان.
فهي مصابيح الدُّجَى، ومَعَالِمُ الهُدَى، وبمنْزِلَةِ البَدْرِ المنير، مَنِ انقَادَ لها فقد رَشَدَ واهتَدَى وأُوتي الخيرَ الكثير، ومَنْ أَعْرَضَ عنها وتَوَلَّى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلَّا التخسير، والعلم في الحقيقةِ هو عِلْمُ السُّنَّةِ والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب" (٢).
_________
(١) أي: الحريُّ.
(٢) "الحطة في ذكر الصحاح الستة" لصديق حسن خان (٦٥ - ٦٦) باختصار وتصرف.
1 / 6
وقد اعتنى علماء الملة المحمدية بجمع أحاديث خير البرية، فصنَّفوا المُصنَّفات في الأحكام والعقائد والسلوك وغيرها مشتملة على الأحاديث النبوية، ثم اختصروها إلى أربعينيات فكتبوا في: الأربعين في صفات رب العالمين، والأربعين في الزهد، والأربعين في الأحكام. . . إلخ، ومن تلكم المؤلفات ما جَمَعهُ الفقيهُ الشَّافعي شرف الدِّين النَّووي (ت: ٦٦٧ هـ) في رسالته "الأربعون" والتي عُرِفَت فيما بعد بـ"الأربعين النووية"، والتي كانت في الأصل أحاديث جمعها الفقيه الشافعي أبو عمرو عثمان بن موسى الشَّهْرَزوري المعروف بـ"ابن الصَّلاح" (ت: ٦٤٣ هـ) وكانت (٢٦) حديثًا، فزاد عليها النووي إلى أن بلَّغها (٤٢) حديثًا.
ولمَّا كتبَ الله لهذه الأربعين القبول والانتشار بين طلاب العلم وأهله، قام العلماء بشرحها ليعم نفعها الجميع، إذ هي مشتملة على أربعين حديثًا في العقائد والأحكام والأصول والزهد وغيرها، ومَن حَفِظَها وعَلِمَ معانيها فقد حصَّل خيرًا كثيرًا كما سيأتي في هذه الرسالة.
ومِن تلكُم المؤلفات التي اعتنت بهذه الأربعين هذا الكتاب الذي بين أيدينا "المعين على تفهم الأربعين" للعلامة الفقيه عمر بن علي الأنصاري الأندلسي الأصل المصري الشهير بـ"ابن الملقن" الشافعي (ت: ٨٠٤ هـ) والذي عُرِف بكثرة التصانيف وجودتها، وكتابه الذي بين أيدينا تحفةٌ مِن تُحَفِهِ التي سارت بها الركبان، فهو كتاب فذ لا يكاد يوجد له نظير بين شروح الأربعين، فهو مليء بالفوائد، سهل العبارة، مرتَّب الأفكار، مشتمل على أقوال أهل العلم، يحتوي على أحاديث كثيرة وآثار وأشعار وغير ذلك، وهو مكثر من النقل عمن سبقه مع تحرير وزيادة ونقص حسب
1 / 7
ما يرى من الحاجة، والحقيقةُ التي أَدرَكتُها خلال معايشتي لهذا الكتاب لسنوات عديدة، ومن خلال قراءتي لعامَّة الكتب التي شرحت "الأربعين" هي: أنَّ مَن أتى بعده من شُرَّاح الأربعين لا يقاربون شرحه، وكثير منهم عالة عليه، بل لا أُبالغ إن قلتُ إن شرحه يعدُّ أفضل الشُّروح المطبوعة مع شرح الإمام ابن رجب الحنبلي (ت: ٧٩٥ هـ) "جامع العلوم والحكم".
وقد كنتُ بدأتُ بتحقيق هذا الكتاب على نسخة فريدة فيها سقم وتحريف وسقط في عام (١٤٢٦ هـ) تقريبًا، ثم صرفني عنها صوارف علمية أُخرى ليس لي تأخيرها لعظم الحاجة إليها، فأجَّلتُ العمل عليه وانقطعتُ عنه فترات طويلة ثم عاودت العمل وأنا عاقِدُ العزم على طبعه ونشره بين أهل العلم وطلابه؛ لأنه كتاب فردٌ في معناه، ولأني قد بَذَلْتُ جُهدي وطاقتي في تحقيق النصِّ، وتصحيح النُّسخةِ الخطيَّةِ، وتوثيق الرسالة وخِدْمَتِها بما يليق، وقد عانيتُ كثيرًا في قراءة وفهم وتقويم النص، وهذا فيما أَرى هو عَمَلُ المُحقِّق حقًّا، وهو مع كونهِ من الأعمال المُتعِبة والتي تأكُلُ الجُهدَ والوقتَ إلَّا أنه مُمتِعٌ لكلِّ طالبِ عِلم، ولذلك لم آلُ جهدًا في تصويبِ كلمةٍ، أو تصحيح تَصْحيفٍ، أو تقويم عبارةٍ، أو فقرةٍ مُشكلة أتبيَّنُ مغزَاها، وأتأمل في مَبْناها، فيتبيَّنُ لي أن ثمَّةَ سقطًا أو تحريفًا، أو انتقال نظر ناسخ، وأحيانًا أقف ساعة أو ساعتين أو يومًا أو يومين في مثل هذه الأمور، حتى إن العبارة تراودني في حلي وتَرحالي، وأراجع لأجلها الأمهات الكبار، والرسائل الصغار، كلُّ ذلك حتى يخرج هذا الكتاب بهيئةٍ عِلميَّةٍ -فيما أحسب وأظن- تُؤدِّي الغرض، ورأيتُ أنه مهما عرض لي من عارض فإني عاقد العزم على إخراج هذا الكتاب بحلة تليق به، طال الزمان أو قصر، بما أني اجتهدت فيه
1 / 8
فلا يمكن أن تذهب تلك الأيام والليالي هباءً منثورًا، وذلك رجاء الأجر والمثوبة ببقاء هذا العلم بين الأجيال الكثيرة، وهو من الأجر الذي لا ينقطع.
هذا وقد قدَّمتُ بين يدي الرسالة بمقدمة والتمهيد، والتمهيد تكلمتُ فيه على عدة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالمؤلف.
المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن.
المطلب الثالث: تاريخ تأليف هذا الكتاب وأهميته.
المطلب الرابع: النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب.
المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب.
المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب.
هذا والله أسأل أن ينفع به قارئه، اللهم اجعل عملي صوابًا، واجعله لك خالصًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
دَغَش بن شبيب بن فنيس العَجْمي
دولة الكويت
1 / 9
التمهيد
وتحته ستة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالمؤلف.
المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن.
المطلب الثالث: تاريخ تأليف هذا الكتاب وأهميته.
المطلب الرابع: النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب.
المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب.
المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب.
1 / 11
المطلب الأول: التعريف بالمؤلف
هو: عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله السراج أبو حفص ابن أبي الحسن الأنصاري الوادي آشي الأندلسي التكروري الأصل المصري الشافعي، يُعرف بابن الملقن، وابن النحوي.
ولد في ربيع الأول سنة (٧٢٣ هـ) بالقاهرة، وكان أصل أبيه أندلسيًّا فتحول منها إلى التكرور وأقرأ أهلها القرآن وتميز في العربية وحصل مالًا ثم قدم القاهرة فأخذ عنه الإسنوي وغيره ثم مات، ولصاحب الترجمة سنة، فأوصى به إلى الشيخ عيسى المغربي، وهو رجل صالح كان يُلَقِّن القرآن بجامع ابن طولون، فتزوج بأُمِّهِ، ولذا عُرِفَ الشيخ به حيث قيل له: "ابن المُلَقِّن".
قال السَّخاوي: "وكان فيما بلغني يغضبُ منها بحيث لم يكتبها بخطِّهِ، إنما كان يكتب غالبًا: ابن النحوي، وبها اشتهر في بلاد اليمن.
نشأ في كفالة زوج أمه ووصيه فحفظ القرآن والعمدة وشغله مالكيًّا، ثم أشار عليه ابن جماعة -أحد أصحاب أبيه- أن يقرئه "المنهاج" فحفِظهُ، وذكر أنه حصل له منه خير كبير وأنشأ له ريعًا فكان يكتفي بأجرته وتوفر له بقية ماله للكتب وغيرها، بحيث قال شيخنا [ابن حجر] أنه بلغه أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب بعض المحدثين فكان الوصي لا يبيع إلَّا بالنقد الحاضر، قال [ابن الملقن]: فتوجَّهتُ إلى منزلي فأخذت كيسًا من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته، فصرت لا أزيد في كتاب شيئًا إلَّا قال: بع له، فكان فيما اشتريتُهُ "مسند الإمام أحمد" بثلاثين درهمًا! " (١).
_________
(١) "الضوء اللامع" (٦/ ١٠٠).
1 / 13
شيوخه:
شيوخ ابن الملقن كثير، ولعل من أبرزهم:
برهان الدين إبراهيم بن لاجين الرشيدي -أخذ عنه القراءات - (ت: ٧٤٩ هـ).
أبو حيان محمد بن يوسف -أخذ عنه العربية- (ت: ٧٤٥ هـ).
وتقي الدين السبكي علي بن عبد الكافي -أخذ عنه الفقه- (ت: ٧٥٦ هـ).
والكمال النشائي أحمد بن عمر (ت: ٧٥٧ هـ).
والجمال بن هشام عبد الله بن يوسف (ت: ٧٦١ هـ).
وخليل بن كيكلدي العلائي الشافعي أخذ عنه الفقه (ت: ٧٦١ هـ).
وعبد العزيز بن محمد بن إبراهيم عز الدين أبو عمر الكناني الشافعي المعروف بابن جماعة (ت: ٧٦٧ هـ).
والجمال الإسنائي أو الإسنوي عبد الرحيم بن الحسن (ت: ٧٧٢ هـ).
مؤلفاته (١):
كان ابن الملقن من المكثرين من التَّصنيف، ويطول المقال بنا إذا ذكرناها جميعها، ولكن لعل من أبرزها وأكثرها شهرة في زماننا:
"المقنع في علوم الحديث"، طبع في مجلدين.
و"البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير" طبع عن دار الهجرة بالسعودية في (١٠) مجلدات.
_________
(١) توسع محققو "البدر المنير" في ذكر مؤلفاته فانظرها هناك (١/ ١٠١ - ١٦٤).
1 / 14
و"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" طبع على نفقة وزارة الأوقاف القطرية -وفقهم الله لكل خير- في (٣٦) مجلدًا.
و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" طبع بتحقيق د. عبد العزيز المشيقح في (١١) مجلدًا عن دار العاصمة بالرياض.
ثناءُ العلماءِ عليه:
قال ابن حجر: "كان مديد القامة، حسن الصورة، يُحِبُّ المزاح والمداعبة مع ملازمة الاشتغال والكتابة، وكان حسن المحاضرة، جميل الأخلاق، كثير الإنصاف، شديد القيام مع أصحابه.
واشتهر بكثرة التصانيف حتى كان يقال أنها بلغت ثلاثمائة مجلد ما بين صغير وكبير.
وعنده من الكتب ما لا يَدخُل تحتَ الحَصْر، منها ما هو ملكه ومنها ما هو من أوقاف المدارس لا سيما الفاضلية، ثم إنها احترقت مع أكثر مسوداته في أواخر عمره وفُقِدَ أكثرها وتغير حاله بعدها فحجبه ولده إلى أن مات" (١).
وأنشده الحافظ ابن حجر بعد هذه الحادثة مخاطبًا له (٢):
لا يُزعِجَنَّكَ يا سراج الدِّين أنْ ... لعبَت بكُتبِكَ أَلسنُ النِّيرانِ
للهِ قد قَرَّبتَها فَتُقُبِّلتْ ... والنارُ مسرعةٌ إلى القُربانِ
قال المقريزي: "قد وصفهُ الأئمة بالحفظ قديمًا، فشُوهِدَ بخطِّ حافظ العصر زين الدين العراقي في طبقة [سماع] في آخر "فوائد تمام": وسَمِعَ
_________
(١) "إنباء الغمر" تأليفه (٢/ ٢١٨ - ٢١٩).
(٢) "الضوء اللامع" للسخاوي (٦/ ١٠٥).
1 / 15
الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين. . فذكره.
وبخط الحافظ العلامة صلاح الدين العلائي على "جامع التحصيل في رواة المراسيل" بالنعت: قرأ عليَّ هذا الكتاب الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدِّث الحافظ الكبير سراج الدين شرف الفقهاء والمحدِّثين. . . فذكره".
وقال المقريزي -أيضًا-: "كان من أعذب الناس ألفاظًا، وأحسنهم خُلُقًا، وأفكههم محاضرةً، صَحِبتُهُ عِدَّةَ سنين، وأخذتُ عنه كثيرًا من مَرْوياته ومُصَنَّفاته" (١).
وقال ابن حجر: "وهؤلاء الثلاثة العراقي والبلقيني وابن الملقن كانوا أعجوبة هذا العصر على رأس القرن: الأول في معرفة الحديث وفنونه، والثاني في التوسع في معرفة مذهب الشافعي، والثالث في كثرة التصانيف، وقُدِّرَ أنَّ كُلَّ واحدٍ من الثلاثة وُلدَ قبلَ الآخر بسنة ومات قبله بسنة، فأولهم ابن الملقن ثم البلقيني ثم العراقي" (٢).
وفاته:
توفاه الله في ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانمائة (٨٠٤) وتأسَّف الناس على فقده (٣).
_________
(١) "درر العقود الفريدة" تأليفه (٢/ ٤٣١).
(٢) "المعجم المؤسس" (١/ ٣٠٩)، ونقله السخاوي في "الضوء اللامع" (٦/ ١٠٥).
(٣) انظر في ترجمته: "الدليل الشافي على المنهل الصافي" لابن تغري بردي (١/ ٥٠٢)، و"إنباء الغمر" لابن حجر (٢/ ٢١٦ - ٢١٩)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (٤/ ٤٣ - ٤٧)، و"الضوء اللامع" للسخاوي (٦/ ١٠٠ - ١٠٥)، و"الذيل التام" له (١/ ٤٢٢)، و"درر العقود الفريدة" للمقريزي (٢/ ٤٢٩ - ٤٣١)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (٧/ ٤٤ - ٤٥)، و"البدر الطالع" للشوكاني (٥٠٩ - ٥١١).
1 / 16
المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن:
اسم الكتاب كما جاء على النسخة الخطية ومقدمة المؤلف هو: "المعين على تَفَهم الأربعين".
أما ثبوت هذا الكتاب لابن الملقن، فإنا إذا نظرنا في الكتاب وجدنا أنه يدل بنفسه على أن مؤلفه هو الإمام ابن الملقن، هذا عدا من ذكره من العلماء ونسبه له، وإليكم الأدلة:
١ - ذَكَرَ ابن الملقن جُملةً من كُتُبهِ وأحال إليها في أثناءِ كتابه هذا فمنها:
أ - كتابه شرح عمدة الأحكام المسمى بـ"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" انظر ص (٧٥، ٨٠، ٨٧، ٨٨، ٩٠) من هذه الطبعة من "المعين".
ب - وذكر: تخريج أحاديث الرافعي الكبير، المسمى بـ "البدر المنير" ص (٦٩).
ج - وأحال إلى كتابه: "شرح صحيح البخاري" المسمى بـ "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" ص (١٠٣، ١٤٦، ١٥٢، ١٧٢، ١٧٨، ٢٢٣).
د - وإلى كتابه: "المقنع في علوم الحديث" ص (٢٣٨). وقارن بـ"المقنع" (١/ ٨٩ - ٩٧).
هـ - و"رجالُ العُمْدَة" يعني: عمدة الأحكام ص (٢٤٩).
و- وكتابه: "الأشباه والنظائر" ص (١٨١).
ز - وكتابه: "غاية السول في خصائص الرسول ﷺ" ص (١٥٢).
1 / 17
ح - وكتابه "لغات المنهاج" ص (٢٢١)، وهذه كلها كُتُبه، أحال إليها في (١٧) موضِعًا، مِمَّا يَدلُّ على أن هذا الكتاب له قطعًا.
٢ - أنه ذكر كتابه "المعين" في بعض كتبه، فقد ذكره في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" انظر: (٣/ ١٩٥)، (٢٩/ ٤٠٤)، (٣٠/ ١٢٧) وغيرها.
٣ - ثم المطابقة التامة بين كثير من كلام المؤلف هنا وما في بعض كتبه.
مثاله: شرح حديث عمر ﵁: "إنما الأعمال بالنيات"، وقد ذكرتُ في التحقيق المطابقة التامة بين الشرحين هنا، وفي "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام".
وحديث النعمان ﵁: "إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن" وهو الحديث (٦) من "الأربعين"، قارنه بما في "التوضيح" (٣/ ١٩٥ - ٢٠١).
وحديث تميم الداري ﵁: "الدين النصيحة" انظر: "التوضيح" (٣/ ٢٤١ - ٢٤٤).
وحديث ابن عمر ﵁: "أمرتُ أن أقاتل الناس" انظر: "التوضيح" (٢/ ٦٠٧ - ٦١٥).
٤ - إن اسم المؤلف ظاهر على الورقة الأولى من النسخة الخطية وفي خاتمتها.
٥ - إن الكتاب ذكره جماعة من العلماء، فمنهم:
أ - السخاوي في "الضوء اللامع" (١/ ١٠٢)، (٦/ ١٠٢)، وفي "المنهل العذب الروي في ترجمة النووي" (٩٢).
1 / 18
ب- وابن فهد في "لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ" (١٩٩).
ج- والمباركفوري في كتابه "تحفة الأحوذي" (١/ ١٠٩).
د- وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (١/ ٦٠).
هـ- وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين" (١/ ٧٩١) وغيرهم.
فهذه خمسة أدلة تدل على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو لابن الملقن.
وبالله التوفيق.
1 / 19
المطلب الثالث: تاريخ تأليفه:
ذكر ابن الملقن في آخر كتابه "المعين" تاريخ التأليف فقال الناسخ: "قال شيخنا مُؤلِّفه -فسح الله في مُدَّتهِ، ونفع الله الإسلام بعلومه وبركته-: وقد كنتُ فرغتُ مِن تسويدها يوم الجمعة سابع عشر رمضان المعَظَّم، من سنةِ تسع وخمسين وسبعمائة، واتَّفق تبييضه يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأجزتُ رِوَايَتَهُ لِمَنْ أدركَ حَيَاتي من المسلمين".
فكانت البداية عام (٧٥٩ هـ) وفرغ منه في عام (٧٨٨ هـ)، أي أنه اشتغل في تأليفه خلال (٢٩) سنة من البحث والتنقيب والتحقيق والتدقيق!
هذا عدا الفترة التي استغرقها في تسويد الكتاب والتي تُعتبر المرحلة الأولى من التأليف والتي سبقت عام (٧٥٩ هـ) فتكون المدة في أقل تقدير ثلاثين سنة!
وللفائدة فإنه انتهى منه بعد الفراغ من جملة من كتبه، أو في عبارة أدق انتهى من تسويد أكثرها، حيث ذكرها في "المعين" فمنها: "الإعلام"، و"البدر المنير" و"المقنع"، و"التوضيح"، و"الأشباه والنظائر" وغيرها، وقد تقدم ذكرها قريبًا ص (١٤ - ١٥).
1 / 20
المطلب الرابع: وصف النسخة الخطية:
لم يتيسر لي -بعد البحث والسؤال- الوقوف إلَّا على نسخة خطية يتيمة لهذا الكتاب، وإليك وصفها:
المخطوطة تقع في (١٠٩) ورقة ذات وجهين، يعني (٢١٨) صفحة، كل صفحة فيها من (٢٣) إلى (٢٥) سطرًا.
كل سطر فيه (٩) إلى (١٢) كلمة.
تاريخ النسخ كان في عام (٩١٣ هـ)، والناسخ هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار بن أبي بكر بن حسين الشعبي.
والناسخ يُصحِّح ويقابل نسخته، ولا ينقط أكثر الكلمات، ولذلك تبقى بعضها محتملة لوجهين فأجتهد في استخراج الصواب، والله الموفق.
النسخة منسوخة من أصل سقيم كثيرة التحريف والسقط، وقد سقطت منه ورقة ذات وجه واحد من أواخر حديث (٣٥) إلى أوائل حديث (٣٦) كما سيأتي في موضعه، ولما كانت النسخة على ما وصفنا احتاج ذلك إلى جُهدٍ مضاعفٍ، فهي نسخة واحدة وكثيرة التحريف دفعني ذلك كله وغيره إلى مراجعة الكتب الكثيرة من شروح الأربعين التي سبقت ابن الملقن، كشرح الطوفي "التعيين في شرح الأربعين" وقد أكثر من النقل عنه، والفاكهاني في شرحه "المنهج المبين في شرح الأربعين" وقد طبع مؤخرًا، أو حتى التي أتت بعده، كالهيتمي وشرحه "الفتح المبين بشرح الأربعين".
1 / 21
وكذلك شروح الصحاح والسنن والمسانيد والموطأ كشروح "صحيح مسلم": للقاضي عياض، والنووي، والمازري، والقرطبي -وابن الملقن يُكثر من النقل عن الأخير؛ لأنه من أنفع وأقوى هذه الشروح-.
وينقل عن ابن عبد البر في "التمهيد"، وابن هبيرة في كتابه "الإفصاح" وغيرهم؛ لأن المؤلف كان كثير النقل بعزو وبغير عزو كما هي عادته!
هذا الأمر جعلني أستظهر كثيرًا من الكلمات، ويسر لي تكميل النقص والسقط والتحريف، وراجعت كذلك كتبه كـ"شرح البخاري"، و"الإعلام" وغيرها. وصدق يحيى بن أبي كثير القائل: "لا يُستَطَاعُ العِلمُ برَاحةِ الجِسْمِ" (١).
أما مصدرها: فهي من المكتبة المحمودية بمكتبة الملك عبد العزيز العامة بالمدينة النبوية برقم (٦٠٨/ ٢٣٢).
ولها صورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ووزارة الأوقاف الكويتية.
وقد صورتها من مركز المخطوطات بوزارة الأوقاف في الكويت شكر الله للإخوة القائمين عليه ووفقهم لكل خير، وما فيه خدمة طلاب العلم.
_________
(١) رواه مسلم (١/ ٤٢٨ رقم ١٧٥).
1 / 22
المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عامة الكتب تحتاج إلى نقد وتمييز" (١).
"ولولا الخطأ ما أشرق نور الصواب" (٢).
والمؤلف وقعت له أخطاء وأوهام وزلَّات، وقد علَّقتُ على ما رأيتُ أنه لا يسعني في ديني السكوت عنه، ونبَّهتُ على ما أخطأ فيه، والحق أكبر وأحب إلينا من كل أحد.
وتتلخص أخطاء المؤلف فيما يلي:
مخالفة عقيدة أهل السنة في بعض الصفات التي تأولها على طريقة الأشاعرة، والتي علقتُ عليها في مواضعها كما سيأتي.
خالف الصواب في مسألة الاسم والمسمى.
نقل كلام العلماء من غير عزو! بل والإكثار من ذلك.
أحالَ ونصح بالرجوع إلى كتب لا ينبغي لصاحب السُّنة أن يقرأها إلَّا على سبيل الحذر والتحذير منها ككتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي.
ولم أذكر مواضعها وصفحاتها هنا لحاجة في نفسي لا تخفى على أهل السنة والبصيرة.
_________
(١) "الرد على البكري" (١/ ٧٧).
(٢) "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (٢/ ٨).
1 / 23