Mucdilat Madina Haditha
معضلات المدنية الحديثة
Genres
ثم يقول:
إن النقد الذي وجه إلى بضع صور استحالت إليها فكرة الارتقاء وإلى بضعة براهين أقيمت لتأييدها؛ لا يصح أن يتخذ دليلا ينفي صحة الفكرة، غير أني أذكر ملاحظتين: فإن الشكوك التي نثرها مستر «بلفور» حول فكرة الارتقاء منذ ثلاثين سنة مضين في خطاب فلسفي ألقاه في «جلاسكو» لا تزال قائمة بكل ما كان لها من قوة، ولم ينقضها أحد من الباحثين. كما أنه يغلب أن كثيرا من الذين خيل إليهم منذ ست سنوات مضين - كتب هذا سنة 1920 - أن المدنية الغربية ستأخذ في دور الفساد والانحلال السريع، لا بتأثير القوات العنصرية بل بتأثير بلوغها حد النماء الممكن لها، ويعتقدون الآن بأن ما خيل إليهم كان وهما؛ ليشعرون اليوم بأنهم أقل ثقة بالمستقبل مما كانوا من قبل، على الرغم من أن الأمم العظمى قد كونت عصبة لتحول دون الحرب، تلك العصبة التي يقول دعاة الارتقاء وأنصاره إنها أكبر الخطوات التي خطاها الإنسان نحو المثل الأوتوبي.
لكل حركة فكرية كما لكل حادث من حوادث الطبيعة أثران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ولا يقتضي هذا النظام أن يكون الإيجاب خيرا وأن يكون السلب شرا على تتالي الحوادث وتوالي خطوب الزمان، فقد يتفق أن يكون عكس هذا صحيحا، وقد يتفق أن يكون أثر السلب خيرا وأثر الإيجاب شرا، تستبين ذلك إذا ما نظرت في فكرة التفاؤل في مستقبل الجماعات الإنسانية من جهة تأثيرها على الأخلاق، فإن هذه الفكرة بقدر ما جرت جماعات الإنسان في مدنيته الحديثة إلى معارك ممضة معنتة تحت تأثير فكرة أن الرقي المنشود معقود على ارتقاء الإنتاجية الصناعية والتناحر الميكانيكي، فأفسدت أوجه الارتقاء الحقيقي وقذفت بالإنسانية إلى أوعر المزالق؛ قد غيرت من قانون الأخلاق تغييرا كبيرا. وفي ذلك يقول الأستاذ «بيري» في كتابه الذي مر ذكره:
تحت تأثير فكرة الارتقاء تحور قانون الأخلاق في الغرب خلال العصور الحديثة خضوعا لمبدأ ذي مكانة عظمى، يمت إلى هذه الفكرة بآصرة ونسب، فإن «إيزوقراط» عندما وضع حكمته المعروفة «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك» لم يفكر هنيهة في تطبيق حكمته هذه على الهمج والعبيد، بيد أن الرواقيين والمسيحيين طبقوها على كل الإنسانية، ولكن هذه القاعدة قد بلغت في العصور الحديثة مدى قصيا لم تبلغه من قبل، بأن وسع تطبيقها أجيال المستقبل التي لم تتمخض عنها الأيام، فإن مبدأ الواجب نحو الأعقاب والخلائف ليس إلا تاجا توج به المحدثون فكرة الارتقاء، فكثيرا ما علت الصيحة خلال الحرب العالمية بمبدأ التضحية في سبيل القرون المقبلة، مستمدا من تلك الفكرة. فإذا قابلت هذا بالحروب الصليبية، وهي أخص الحروب التي قام بها أسلاف أهل الغرب في القرون الوسطى؛ وجدت أن فكرة النهاية الإنسانية والغايات الأخروية، وكانت آخذة بزمام العقول، قد دفعتهم إلى مزالق أمضتهم فيها المشاق، وابتلعتهم من فوقها لجة الموت في جوفها العميق.
وما من شك يدور بخلدنا في أن صيحة التضحية في سبيل الأجيال المستقبلة صيحة مثالية فيها كثير من طلاوة الفضيلة وروعة الأخلاق العالية. ولكن ألا يجوز أن هذه الصيحة لم تكن إلا صيحة اليأس الذي يهيج في الأنفس كوامنها فتلجأ إلى المثاليات السقراطية كلما أعوزتها الانفعالات في سبيل الوصول إلى غرض ما، فإن الخوف واليأس - كما يقول «ليكي» - أبلغ من الحب في النفس أثرا؟ وأليس من الجائز أن هذه الصرخة لم تصدر إلا عن قلوب لا تعي من معناها إلا بقدر ما تعي الألسن التي تحركت بها، والأقلام التي خطتها على الورق؟ على أن في هذا المبدأ، مبدأ التضحية في سبيل الأجيال المقبلة، لقسطا عظيما من غموض الغيبيات وإبهام ما بعد الطبيعة، فمن أين أتى للذين يضحون بأنفسهم على شفار السيوف بأن الأجيال المقبلة جديرة بأن تضحي في سبيلها الأنفس، مبيعة بيع السماح في ميادين حروب لا نعرف بدورها إن كانت سعودا أو نحوسا على ما سوف يخلق من أجيال الإنسانية؟ إن في ذلك لكثيرا من مواطن الشك، على أننا نأمل أن يكون شكنا قائما على غير أساس، وعسى أن يجد في حالات الاجتماع خطب يوقظ الجماعات من رقدتها، ويفيقها من سباتها العميق. (2) الفساد والتجدد (2-1) في الاجتماع
يمثل الدكتور أوستن فريمان تلك المدرسة الحديثة التي تفكر في الحالات التي قامت بعد الحرب العظمى، وانبعثت في التأمل من حالات اجتماعية على اعتبار أن هذه الحرب قد وضعت حدا فاصلا بين عهدين، ثبت الناس في العهد الأول منهما على فكرات نقضها العهد الثاني، وذهب بأثرها من عالم الفكر كنظريات يمكن تطبيقها على الحالات الاجتماعية، أو مبادئ يستطاع على الأقل أن تتخذ قواعد لوضع نظريات حديثة في المدنية الإنسانية، وأي مظهر من مظاهر المدنية الحديثة يسترعي انتباه الباحث أكثر من استبداد الآلات الميكانيكية بالنوع الإنساني تستعبده استعبادا وتمضي مؤثرة في بيئته الطبيعية التي خلقتها حاجاته منذ أبعد العصور؟ لهذا ترى أن الأستاذ فريمان لم يدر في كتابه حول محور آخر، بل أخذ يدور في دائرة من البحث، مركزها تحكم الآلات الميكانيكية في حياة الإنسان وما تحدثه حياة الإنتاجية الميكانيكية في البيئة التي تحوط جماعات المدنية الحديثة من الآثار السوأى، فإن نصيب العضلات والقوة الحيوية من التأثير في الإنتاج الصناعي أخذ يقل بنسبة سريعة خلال القرن الفارط، في حين أن العمدة في الإنتاج منذ مائة عام لم تكن لترتكز على شيء سوى النشاط الإنساني والجهود العضلية التي كان يبذلها الأفراد في سبيل الإنتاج، أما اليوم فإنك تجد أن الآلات المركبة قد أخذت تجد مكانا حتى في أقل الصناعات احتياجا لجهود الإنسان، وكذلك الحال في النقل فإن السياحة والانتقال من مكان إلى آخر وحمل الأثقال لم يكن يعتمد فيها إلا على السير على الأقدام أو على ظهور الدواب الداجنة، وكان أجدادنا الأقربون لا يفكرون هنيهة في سياحة يبلغ مداها ثلاثين ميلا إلا كما نفكر نحن في الانتقال مستقلين وسيلة من وسائل النقل الحديثة ميلا أو ميلين داخل مدينة مهدت فيها الطرق وسلكت فيها السبل ذللا، بل إننا نفضل أن نمتطي عربة أو سيارة، على أن نمشي بضع مئات من الأمتار، هذا على الرغم من أنه من الذائع المعروف الآن في العلم الطبيعي أن إغفال الخاصيات وإهمالها ينتج فقدان الخاصيات ذاتها، بل ويمضي بالأعضاء في سبيل الضمور والزوال.
إذا استطعت أن تحضر من مرابض أفريقيا القصية رجلا همجيا لم يستشم من ريح المدنية شيئا، وأخذت بيده إلى ملعب من ملاعب الرياضة ورأى إخوانه أبناء المدنية الحديثة يقفزون فوق قطع الخشب، وآخرين يتسابقون، وغيرهم يحملون الأثقال وقطع الحديد ليمرنوا عضلاتهم على نسق خاص وليوقظوا فيها خصائصها الطبيعية؛ لما كان أشد عجبا من شيء يراه في مدنيتنا الحديثة من منظر هؤلاء المتريضين؛ لأن ما يفعله هؤلاء بحكم مدنيتهم يفعله هو بحكم طبعه مختارا وفي أي وقت يريد.
أترك هذا إلى الأيدي العاملة في معامل الصناعة، فإن هؤلاء العمال لضحايا تقدم قربانا على مذبح الآلات الميكانيكية، فما منهم إلا المريض المعتل الضعيف التكوين المضمحل البنية المنحل التركيب، والأكثر فيهم عجاف الأجسام صغار الأحلام، أخذ منهم الهزال والضعف مأخذا كبيرا، وقد فسدت أسنانهم فما تجد منهم إلا مصابا بمرض في الأمعاء أو اضطراب في الجهاز الهضمي، أما نسبة الوفيات بينهم فأزيد كثيرا مما هي بين قطان الأقاليم الزراعية وأهل الريف. نضيف إلى ما يقرره هنا الدكتور فريمان أن الإحصاءات الحديثة الموثوق بها قد أثبتت بما لا سبيل إلى إدحاضه أنه على الرغم من تقدم العلوم الطبيعية ووسائل العلاج في العصر الحديث ، فإن الأمل في ازدياد متوسط عمر الإنسان لأكثر من ستين عاما بين كل طبقات المجتمع على الإطلاق قد ضعف عما كان منذ نصف قرن فرط من الزمان، وذلك دليل قاطع على أن جماعات المدنية الحديثة لا تعيش عيشا توافرت فيه الشروط الصحية كما يخيل إلى بعض الناس، وعلى هذا ترى أن المدنية الحديثة، وهي مدنية المدن المحشودة بالسكان، لم تكن إلا فشلا عظيما أصاب الإنسان إذا أنت نظرت فيها من الوجهة الصحية الصرفة. •••
ينتقل دكتور فريمان بعد هذا إلى النظر في حالات التقدم الإنساني، فيرى جليا، ويرى بحق أن للتقدم البشري مظهرين: فهو إما راجع إلى تغايرات تنتاب البيئة بما فيها ما استخزنته الطبيعة الإنسانية من تجاريب الماضي والمران المتوارث على مدى الأزمان، وإما إلى تلك التغايرات التي انتابت تكوين الإنسان وكان من شأنها أن تذهب به متنقلة في درجات متتابعة من التهذيب والارتقاء. وهو يعتقد فوق هذا أن هذين الوجهين يسيران متساندين ويمضيان متكافئين تأثيرا في الجماعات.
فالتطورات الداخلية التي انتابت الإنسان وغيرت من صفاته الكامنة، وعلى الجملة ضروب التهذيب الارتقائي التي طرأت عليه تكوينيا ومورفولوجيا، كانت في معتقد دكتور فريمان كبيرة بالغة الأثر، وجائز في رأيه أن تكون قد تعاقبت عليه سراعا وانتابته دراكا عندما بدأ شوط الخروج من عالم الحيوانية إلى عالم الإنسانية الفطرية الأولى. أما صور التهذيب والتكافؤ الخلقي التي كانت ذات أثر واضح وطبيعة حاسمة في تكوين الطبيعة الإنسانية، فترجع إلى حدوث تغايرات ثبتت في تضاعيف الفطرة البشرية، وكان من طبيعتها أن ترفع مستوى الإنسان إلى منزلة بدأ يدرك عندما بلغها كيف يستطيع أن يخضع العناصر الطبيعية لقوة إدراكه. غير أنك إذا رجعت النظر كرة في الماضي البعيد، أي إلى ذلك الماضي الذي يعود بك إلى عهد يفوق هذا العهد الذي وصفناه ضربا في أحشاء الدهور ويبزه عراقة في القدم؛ رأيت أن أوجه الارتقاء الإنساني كانت ترجع إلى تأثير البيئة وفعل الوسط الذي أحاط بالجماعات الإنسانية في حياتها الوحشية الأولى. أما التغايرات التي وقعت على تلك الصلات التي ربطت الإنسان بما أحاط به من ظروف البيئة ومؤثراتها، فإن التأمل فيها باعث على أشد العجب، مثير لأبلغ حالات الحيرة.
Unknown page