Mucdilat Madina Haditha
معضلات المدنية الحديثة
Genres
لقد اتبع شكسبير هذه الطريقة المثلى، طريقة تعليل الماضي بالحاضر، في كتابة دراماته الكبرى التي نال بها ذلك النجاح الباهر، وبلغ بها ذروة من الشهرة وبعد الصيت لم يبلغها بعد إنسان غيره. فكان إذا أراد أن يبرز لنا صورة من الصور التي قامت في العصر الروماني مثلا، عمد إلى «بلوطرخوس» وغيره من مؤرخي ذلك العصر يستمد منهم الحقائق التاريخية الكبرى، ويستوعب منهم شكل الحكومة وقوام الدين وتوزيع القوة والسلطة في بناء الهيئة الاجتماعية، ويأخذ من مجموع هذه الأشياء هيكله الأولي الذي يبعث فيه الحياة والنشاط! ويخرجه من خيال الماضي ليكون حقيقة واقعة. أما الطريقة التي اتبعها فانحصرت في أنه كان يدرس طبيعة العصر الذي عاش فيه، ويلاحظ تأثير النظامات والمعاهد الاجتماعية التي قامت من حوله وأثرت في عقول الناس وفي عقليته على الأخص؛ مما يفسح لتفكيره مجال الاستيثاق من مقدار الفروق التي تقوم بين عادات عصره وأسلوب الحياة فيه والصور السياسية والدينية التي يصطبغ بها، وبين ما يناظرها في الأزمان الأولى، فتكون النتيجة أن يخرج بدراما أو عدة درامات أكثر قربا من الحقيقة وأشد حيوية، بل أكثر صدقا وأقرب تصديقا، بل يفوز بخلق صورة من الحياة الرومانية أعظم وأمتع من كل تلك السخافات الممضة التي زودنا بها المؤرخون. والحقيقة أن شكسبير قد عمد إلى أمثل الطرق وأدرك من الحياة مبدأ لم يدركه غيره، أدرك من التاريخ، وهو رواية الحياة الإنسانية، ما لم يدركه غيره من المؤرخين وأصحاب الرواية، فبدلا من أن يتخذ التاريخ هاديا ينير لنا سبيل «الحاضر»، عمد إلى مبدأ أن «الحاضر» هو النبراس الوحيد الذي يمكننا، إذا اهتدينا بنوره، من أن نحيي عظام الماضي الرميمة، وفي هذا وحده تنحصر عظمة شكسبير.
2
هنالك عدد من الأحكام العامة يخيل إلى الناس أنها من الحقائق التاريخية أو بالأحرى أنها نتاج للبحث التاريخي العميق، ولقد أصبح لهذه التعميمات سلطة سحرية غريبة تستغوي الناس، بعيدة جهد البعد عما لهذه التعميمات من قيمة حقيقية. من هذه التعاليم التاريخية، كما يتطرف البعض في القول، ذلك الزعم الفاسد الذي يوحي إلينا بأن الانغماس في الترف هو السبب في انحلال الدول، وأن الإفراط في الديمقراطية ينتهي بقيام الحكومات المستبدة، وأن أول نفس يستشمه الناس من الحرية يزيد الامتعاض والتبرم بدلا من أن يطفئ أوارهما. ومهما يكن من أمر هذه التعميمات وما فيها من صواب أو خطأ، فالواقع أن ليس فيها من تعاليم التاريخ أي أثر؛ فإننا إنما نعتقد أن الترف هو مقدمة الانحلال والفساد، لا لأن التاريخ يؤيد هذه النتيجة بل لأننا نرى «اليوم» أن الترف يؤدي إلى الأنانية وحب التسلط لذاته وإلى التخنث، وأن هذه الأشياء تحل عروة العقدة الاجتماعية التي لا يمكن تكون أمة بغيرها. ونرى أن التطرف في الديمقراطية إنما يؤدي إلى الاستبداد، لا لأن عددا من الوقائع التاريخية يؤيد هذه الحقيقة، بل لأننا نرى أن التطرف ينتج الفوضى وعدم النظام، وأن من عدم النظام لا ينتج نظام إلا بيد قوية قاهرة تنحصر في شخص معين وتتركز فيه.
وليس في مستطاعنا بطبيعة الحال أن نأتي على ملاحظات عديدة على قدر ما نرغب، نبين بها أوجه العلاقة بين سقوط الدول وبين مقدمات السقوط السياسية، فليس في طبيعة الأشياء الإنسانية أن تسقط أمامنا كل يوم إمبراطورية كبيرة أو دولة عظمى وتتحطم إلى الحضيض؛ لتكون بمثابة مختبر عملي نستخدمه لاستخلاص استقراءاتنا السياسية، لهذا نضطر إلى أن نعود إلى الماضي لنستخلص منه أمثال هذه النتائج التاريخية، فتحل لدينا محل المشاهدة المباشرة، وتقوم لدينا المثل المادي، وتقوى فينا متجهاتنا وميولنا السياسية، وفي هذا الموضع فقط يفيدنا التاريخ، فليس من شأن التاريخ أن يعلمنا شيئا جديدا لم نكن نعرفه، ولكن شأنه الحقيقي ينحصر في أنه يقوي فينا النزعات التي نكون قد كوناها بالفعل من ملاحظاتنا واختباراتنا التي نستمدها من «الحاضر»، أن يزودنا بأمثال نؤيدها منتزعة من الماضي البعيد، إنه يعطينا نفس ذلك الضرب من التحقيق الذي يزودنا به استكشافنا لوقوع كسوف قديم للشمس نعثر عليه بين دفتي كتاب قديم متروك، بعد أن نكون قد عرفنا أن زمان وقوع ذلك الكسوف قد حسبه فلكيو العصر الحاضر على وجه التحقيق. إنما يفعل التاريخ للنوع البشري ما تفعل تجاريب العقول الأخرى للفرد، فإن أكبر جزء من معرفتنا إنما نكتسبه ب «اللقاح» لا بالاختبار المباشر.
إن أكبر قسط مما نعرف إنما ينتقل إلينا من إخباريات موثوق بها يرويها معاصرونا، أو من الكتب التي نقرؤها، أو من شاهدي عيان نؤمن برواياتهم ونصدق مروياتهم. ومع كل هذا فإننا نؤمن بما ينقل إلينا، ونمضي عاملين على مقتضى ما يوحي إلينا به ذلك المنقول، لا لأن السند الذي نتلقى عنه هذه المنقولات معصوم عن الخطأ مبرأ عن الزلل، بل لأن ما ينقل إلينا يتفق مع بقية معتقداتنا الأخرى، أو على الأقل لا ينتهكها ولا يناقضها؛ فإن في مستطاعي أن أعتقد بوقوع حوادث لم أشاهدها، وبارتكاب جرائم لم أرتكبها، لا لأن برهانها لا ينقض، ولا لأن راويها لا يزل ولا يخطئ، ولكن لأنها نتيجة لنزعات وميول أشعر بمثلها قائما بين جوانحي مستمكنا من قرارة نفسي، بل وأراها قائمة فيما يحف بي من ظروف الدنيا وحالاتها، فإني أستطيع مثلا أن أعتقد أن شخصا قد قتل جاره في فورة من فورات الانفعال ولو لم أشاهد مثل هذا الفعل طول حياتي؛ لأني أقدر أن أعرف إلى أي حد يذهب تأثير الانفعال النفساني إذا هو تمادى غير مصدود باعتبارات نفسية أخرى أرقى منه طبيعة وأنبل ماهية، كذلك الحال في التاريخ، فهو يزود العصر الحاضر بتجاريب القرون الأولى، وبذلك يجعلنا نتحقق من أن النتائج التي وقعت بالفعل هي نفس النتائج التي يجب علينا أن ننتظر وقوعها استتباعا لنزعات نراها قائمة في عصرنا الحاضر. غير أن الاستنتاجات التي نستمدها من تلك التجاريب يجب أن توافق آراءنا ومعتقداتنا، وبالجملة تكون مصدقة لدينا، وإلا فإننا ولا شك نرفضها ولو نزل بها من السماء رسول مبين. وعلى هذا نرى أن ذلك الجزء الدنيء الذي نقتطعه من الأبد السحيق وندعوه «الآن» يوازن كل مرويات التاريخ على عظمتها واتساعها، كما توازن قطرة من الماء، إذا أحكم وضعها، مياه الخضم المتلاطم الأمواج، على سعة رحابه.
3
أما القول بأن «التاريخ» إنما يستمد الثقة به من الحاضر، فلا تظهر صحته بأكثر مما تظهر من ترك الناس في الزمان الحاضر لما كانوا يعتقدون به من المعجزات في الأزمان الماضية؛ فإن الروايات التاريخية التي كانت تؤيد الاعتقاد بوقوع المعجزات بالفعل لا تزال قائمة حتى اليوم كما كانت في العصور الوسطى، وهي فوق ذلك معتبرة من «الحقائق» التاريخية الثابتة، فلماذا لا يعتقد الناس بصحتها كما كانوا يعتقدون بها من قبل؟ السبب في ذلك أن التاريخ إنما يستمد كل ما فيه من قوة الكشف عن الحقائق من وقائع العصر الحاضر، وليس من الثقة بأشخاص ينقلون روايات ما مهما كان مبلغ الإيمان بصدقهم، ففي تلك الأيام التي آمن الناس فيها بصحة المعجزات، وبالأحرى في الأيام التي آمن الناس فيها بتدخل قوى الغيب في تصريف حالات هذه الدنيا، كان من الممكن أن يتقبل العقل الإنساني التصديق بوقوع المعجزات تسليما ولأول وهلة، أما اليوم فالمعتقد على أنه ليس لقوى الغيب أن تتدخل في حالات الاجتماع الإنساني، أو غيرها من حالات هذا العالم، وعلى هذا أصبحت الروايات التي كانت تروى عن وقوع المعجزات، مهما بلغت منزلة الذين يروونها من التبجيل والاحترام، مما لا يمكن تصديقه بمقتضى الحالات القائمة اليوم. أما ذيوع الاعتقاد بأن قوى الغيب كانت تتدخل في تصريف حالات هذا العالم في الأزمان السالفة، فراجع لدى الواقع إلى أن كثيرا من الحوادث التي كانت تحدث في كل وقت وآن لم يكن في المستطاع تعليلها تعليلا طبيعيا يقبله العقل الإنساني، وخضوعا لذلك الناموس المؤصل في تضاعيف الفطرة البشرية نسب الناس وقوع هذه الحوادث إلى إرادات مشابهة لإرادتهم كلما أعوزتهم الحاجة إلى أسباب طبيعية ينسبونها إليها. أما السبب في أننا لا نؤمن اليوم في تدخل قوى الغيب في حالات هذه الدنيا، فراجع إلى الاعتقاد بأن كل الحوادث الكونية مهما كانت صفاتها وضروبها من الممكن أن يتتبع أصلها إلى أسباب طبيعية.
والحال في السحر هي بعينها الحال في المعجزات، فإن البراهين التي كانت تقام في تأييد وجود السحر كانت قوية، حتى إن رجالا ممن اتصفوا بأنهم من زهرة رجال الإنسانية مثل باكون وماتيوهال وسير توماس برون، قد اعتقدوا بصحة السحر اعتقادا جازما. وهؤلاء وغيرهم كثيرون، على الرغم من نفوذ بصائرهم وعلو كعبهم في العلوم والفلسفة، قد رأوا أن البراهين التي تقام لتأييد السحر كافية للاعتقاد بصحته، ولا سبب لهذا إلا أنهم بدءوا يفكرون في موضوع السحر وعقولهم مشحونة شحنا تاما بما يجعلهم أكثر استعدادا لقبول البراهين والتفسيرات التي يذهب إليها المؤمنون بهذه الظاهرة الخرافية، ولقد رأوا وقائع تقع وحوادث تحدث من حولهم كل يوم من غير أن يستطيعوا أن يعللوها إلا بأن يفرضوا وجود ذوات غير مرئية لها إرادة مشابهة لإرادتهم، وهذا في الواقع راجع إلى أن البراهين التي رأوا أنها كافية لأن يقيموا عليها معتقدهم في الماضي لم تصبح كافية لأن تقنعنا اليوم بما اقتنعوا به من قبل.
ولا حاجة بنا لأن نمضي في ضرب الأمثال، فإننا إذا احتجنا إلى دليل آخر يثبت لنا أن التاريخ ليس إلا تذييلا للحاضر وتبريرا له، بل يجب أن يخضع له الخضوع كله؛ فإنا نقع عليه في تلك الحقيقة الفذة، حقيقة أن المعرفة بفروعها إنما يحكم فيها من وجهة نظر الحاضر وليس من وجهة «الماضي»، فلسنا نحكم اليوم على المذنبات بتلك الوجهة من النظر التي كانت تحمل الناس على الاعتقاد بأن هذه النجوم الضالة إنما ترسل من أذنابها «الوباء والخراب» في كرة الأرض، بل نحكم على آثارها «الماضية» بما نعرف من طبيعتها في «الحاضر»، كذلك لا نعتقد اليوم أن الرعد ناتج عن سوط إسرافيل إذ يسوق السحاب، ولا أن الصواعق نذير من نذر الله. وعلى الجملة نقول بأن كل التفسيرات «الماضية» التي عللت بها حوادث الكون والاجتماع يجب أن تخلي الطريق لما يوحي به «الحاضر»، وبالأحرى نقول بأن «الماضي» يجب أن يترك وينسى ليحل محله «الحاضر». ومن غريب الأمر أن «العلم» في حين أنه يقضي على «الماضي» ويحيي «الحاضر» فإن مقرراته لن يفصل فيها إلا «المستقبل».
4
Unknown page