Mucdilat Madina Haditha
معضلات المدنية الحديثة
Genres
كان من الواجب على الدكتور فريمان وهو يقرر هذه الآراء أن لا يغفل عن أن العصر الذي نعيش فيه إنما هو عصر انقلاب وثورة لم تبلغ بعد منتهاها، ولم تنكشف بعد غمرتها، فإن انتقال الإنسان من وداعة القرون الوسطى إلى تناحر العصر الحاضر، لأمر يجعل حكمنا على الأشياء الإنسانية كما هي كائنة، نسبيا لا مطلقا.
في مستطاعنا أن نحكم حكما قاطعا في حادثات فرغ من تكوينها الزمان، في مستطاعنا أن نحكم على عصر الإصلاح البروتستانتي وأن ندلي فيه برأي حاسم، وفي مكنتنا أن ننظر في أثر الحروب القديمة أو في نابليون بونابرت أو في الثورة الفرنسوية، وأن نقضي في كل من هذه الأشياء برأي نقنع به. أما في ثورة انقلاب لا يزال شررها يتطاير من حولنا، ولا يزال غبارها يظلل رءوسنا؛ فمن المتعذر أن نحكم فيها حكما نقطع بصحته، ونكون في الوقت ذاته قد أرضينا نزعة العلم ولم ننضب معين الفلسفة. خذ لذلك مثلا: فإنك إذا أردت أن تتخذ من الحوادث التي وقعت في ثلاثة أرباع قرن فرط من الزمان حادثة كنقطة ارتكاز تبدأ منها نظرك في تاريخ تضعه في تطور الفكر خلالها؛ لما وقعت على حادث واحد يصح أن يكون نقطة ابتداء تبدأ منها، وفي هذا دليل ثابت على أن ثورة الانقلاب من حياة العصور الوسطى إلى حياة المدنية الحديثة لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها. ولقد عجز العلامة «تيودور مرتز»، أشهر من أرخ في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، عن أن يعثر على نقطة ابتداء يبدأ منها نظره القصي في تاريخ عهد هو أحفل العهود بالحوادث الاجتماعية، وأنضجها ثمرة، وأبينها للفكر صورة، قال:
خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، فتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها، إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين أو تثبيت فكرة بعينها، وإما أن نلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر.
والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة، منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى التي أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تكثفت فيه عن أفق المدنية سلطة البابوات، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.
فإذا عدنا إلى دراسة الفكر في مثل هذه العصور، لما أعوزنا البحث عن مرتكز نرتكز عليه أو نقطة ابتداء نبدأ منها؛ لأن من الهين أن نعثر على سيارها الذريري الذي يحرك بحركته كل القوى الكائنة، ويبعث العبقرية من مكمنها، ويوقظ الكفايات والمواهب العقلية من رقدتها. ففي عصر كعصر الإصلاح البروتستانتي مثلا يمكننا أن نتكلم في السياسات الخاصة به، وصور الدين التي أنبتها، والفلسفة والأدب والفن، وكل المنتجات العقلية التي أنتجها، وأن نمضي في بحثنا موقنين بأننا لا بد من أن نقع على كل وجه من وجوه التقدم العام، وعلى كل الخطى الارتقائية التي خطاها العصر، وأن نقف على كل الفكرات التي ذاعت فيه، سواء أأرضت معتقدنا أم ناقضته. وإنه لمن الظاهر الجلي أن العصر الذي أؤرخ فيه - القرن التاسع عشر - لا يتضمن حادثا من تلك الحوادث التي تمتص القوى وتبسط سلطانها المطلق على عالم الفكر.
إليك ما ذكره هذا العلامة الكبير بعد أن عدد كثيرا من حوادث القرن التاسع عشر، مظهرا أنها ليست من الحوادث التي يلتئم من حولها الفكر لتغير من عناصره أو لتؤثر في الاجتماع:
ولقد نرجع في النهاية إلى ما أنتج أكبر عقل جاد به القرن التاسع عشر؛ لنستمد منه نقطة ابتداء نرتكز عليها، قد نرجع إلى كتاب «فوست» الذي أخرجه نابغة النوابغ «جوته»، قد نرجع إليه لنتخذه مثالا لأعمق ما جاء به القرن التاسع عشر من صور الفكر بما فيها من الشكوك والآمال، إذ يتنقل بك كاتبه من تيه الفلسفة الموحش إلى ميدان العلم الفائض بالنور المحفوف بالإيناس والطمأنينة، أو ليأخذ بيدك إلى أقصى أغوار الحياة الفردية المستورة وراء ظواهر هذا العالم، ليقذف بك في مطمأن المعتقد الديني والإيمان، بما فيهما من الأسرار الخفية المحيطة بطبيعة الخطيئات والرجوع عنها إلى التوبة والاستغفار.
ثم يقول:
على أننا من أية من تلك النقط نبدأ سفرنا الطويل، وعلى أية من بؤرات الارتكاز تقع أبصارنا لدى أول نظرة نلقيها على ما بين يدينا من ذلك الميدان الفسيح الذي نريد أن نستكشف نواحيه؛ نجد أن هنالك مظهرا واحدا يتحيز في عقولنا منذ البدء، سرعان ما يلقي في روعك أن ذلك الميدان الفسيح ليس بالجنة التي تطمح فيها بالسكينة والهدوء، وليس هو المكان الذي تؤمل أن تزود فيه بمهيئات العمل الهادئ الذي تبذر بذره وتجمع حصاده بدعة ولين، وليس هو منبت التعاون واقتسام العمل الذي تظفر فيه بالسلام البعيد عن خشونة الصراع والجلاد، إنه لميدان أشبه ما يكون بأرض تناولتها القوات العنصرية بالتخريب، وانتابتها الزلازل العتية بعواصف التدمير؛ فتركتها شوهاء لا تفرق بين صعيدها والأخدود، وإنك لتعثر فوق ذلك على بضعة أناس أخذوا على عواتقهم أن يسدوا منه فجوات أحدثها الماضي ونقائص خلفها السلف، وآخرين آخذين في تشييد أسس جديدة على قواعد جديدة، وتقع على غير أولاء وهؤلاء، فتجدهم متنابذين متصارعين على حيازة الملك أو اقتسام التراث، حتى أولئك العمال الوادعون في مصانعهم لا تتركهم طبيعة المجتمع الحاف بهم آمنين، بل تدعوهم الظروف إلى الاشتراك في تلك المعارك، أو تهزهم شكاوى الذين يجاورونهم من مظالم أهل السطوة والجاه، فيهبون من مراقدهم عطشى صرعى، ويرتدون كلمى هزيمة وانكسار.
وإليك بعد ذلك رأيه في طبيعة القوات التي وحدت بين النزعات التي فشت في القرن التاسع عشر، عصر الانقلابين الفكري والإنتاجي، قال:
Unknown page