Mucawiya Ibn Abi Sufyan
معاوية بن أبي سفيان
Genres
وهذا السؤدد ليس بالغريب من سمات رجل ورث السيادة من أبويه، وناط بها حقه وحق عشيرته في الرئاسة، ودارت مساعيهم وظواهرهم وبواطنهم كلها على هذا السؤدد، وعلى الغيرة عليه جيلا بعد جيل. •••
وقدمنا أن هندا كانت تعاف الزنى أنفة ولا تعافه ورعا ونزاهة، ولا نخطئ إذا فهمنا من بعض كلام أبي سفيان أنه كان يتورع عن الكذب بين من يعلم كذبه؛ لأنه يأبى لمروءته أن يصغره أحد لكذبه، وإن لم يعلن ذلك بلسانه، وهكذا قال حين سئل في بلاد الروم عن النبي - عليه السلام - فإنه سمع سائله يحذره من الكذب، فأنف أن يكذب على مسمع من شهود سكوت!
ومدار الطموح كله في نفس معاوية على هذه الخصلة التي جعلت تراث القوم كله رهينا بمزاياهم الاجتماعية، وجعلت هذه المزايا كلها رهينة بمظاهر الرئاسة والسيادة.
ونحن نعرف ما تعلمه في صغره مما كان يعلمه في كبره؛ إذ لم تجر عادة الرواة والمؤرخين في الجاهلية بالتحدث عن الأطفال الصغار، إلا ما جاء عرضا في أثناء الكلام عن آبائهم وكبارهم، ولا استثناء في ذلك لأبناء الأسر والبيوتات، ومن ترشحهم أحسابهم لمكان الرئاسة بعد بلوغهم مبلغ الرجال، ولعله لم يكن إهمالا من الرواة والمؤرخين واستصغارا لأمر أولئك الأطفال، وإنما كان سكوتا منهم عن أمر معلوم على وجه التعميم يشترك فيه الناشئة من أبناء البيوتات جميعا، ولا ينفرد فيه أحد منهم بتعليم خاص لوظيفة خاصة.
وقد تعلم معاوية القراءة والكتابة والحساب، وتتفق الأخبار على كتابته للنبي - عليه السلام - ولا تتفق على كتابته للوحي، ولا على حفظه لآيات من القرآن تلقاها من النبي، كما كان كتاب الوحي يتلقون الآيات لساعتها، والأرجح أنه لم يكن معروفا بحفظ شيء من كتابة الوحي في أيام جمع القرآن الكريم، ولو علم عثمان - وهو من ذوي قرابته - أن عنده مرجعا من المراجع يثوب إليه؛ لرجع إليه كما رجع إلى غيره. •••
وتعليم معاوية فيما عدا ذلك من سماع أشعار العرب وأمثالهم، والإلمام بأخبار أيامهم، كتعليم غيره من علية قومه، إلا أنه كان على شغف خاص بالاستماع إلى سير الملوك، ووقائع الأمم وأطوال الدول الغابرة، وربما قرئت له هذه السير من كتب يونانية أو فارسية يقرؤها له من يعرف لغاتها، وقد سمع بعبيد بن شرية الجرهمي، وعلم أنه يعي تواريخ التبابعة والأكاسرة، فأرسل يستقدمه من صنعاء، وأمره بكتابة ما وعاه من تلك التواريخ، فألف له كتاب «الملوك وأخبار الماضين» ... وهو أول كتاب يحدث عن فحواه. •••
وبلاغة معاوية في كلامه بلاغة سوية لا تعلو، ولا تسف عن بلاغة أمثاله ونظرائه: يبين عما يقصد، ويحتفل بالقول، فينقاد له طبعه الميسر للعربي الفصيح من أبناء عصره، ومن رسائله المحفوظة رسالة إلى زياد بن أبيه يتوعده فيها، ويدعوه إلى الطاعة وأخذ البيعة ممن يليه، ويقول منها: «... إنك عبد كفرت النعمة واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر، وإن الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، لا أم لك، بل لا أب لك، قد هلكت وأهلكت وظننت أنك تخرج من قبضتي ولا ينالك سلطاني، هيهات! ... ما كل ذي لب يصيب رأيه، ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته، أمس عبد واليوم أمير ... خطة ما ارتقاها مثلك يا بن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا. فخذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الإجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش، ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسما مبرورا ألا أوتى بك إلا في زمارة
14
تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام، حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه، والسلام ...»
ومن ردوده المحفوظة رده على الإمام علي حين دعاه إلى البيعة يقول فيه: «... لعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل العراق؛ لأن أهل العراق أطاعوك ولم يطعك أهل الشام ... وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله
Unknown page