Mucawiya Ibn Abi Sufyan
معاوية بن أبي سفيان
Genres
ولما امتنع طلب البيعة لغير معاوية بويع معاوية وحده، أو بقي معارضوه متفرقين لا يلوذ فريق منهم برئيس يرشح نفسه لخلافة أو ينهض لها بحجة، فترك هؤلاء المتفرقين في العراق يضرب بعضهم بعضا، أو في الحجاز لا يعملون شيئا غير الترقب والانتظار.
ولا شك أن معاوية قد استفاد في إمارته - منذ اللحظة الأولى - من كل نظام مفيد في حكومة الشام، فأبقى ما لا غنى عنه من نظم الإدارة، وتوسع فيه وزاد عليه، وأبطل ما لا هابد أن يبطل مع الدولة المتبدلة والدين الجديد.
وقد وكل الإدارة المالية إلى القائمين بها في أيام الدولة البيزنطية، وعلى رأسهم سرجون بن منصور، ثم ابنه منصور بن سرجون، ووكل الإدارة الكتابية إلى عبد الله بن أوس الغساني من وجوه الغساسنة أصحاب الملك القديم في الشام، ونظم البريد وتوسع فيه؛ للاطلاع على أخبار الأقاليم وإبلاغ الأخبار إليها على انتظام وترتيب، وأنشأ ديوان الخاتم لمراجعة الحساب بين العاصمة والولايات، وعزز بناء الأسطول بتجديد مصانع السفن في عكا، واستجلب من فارس كل عامل نافع في مسائل الخراج والإحصاء، وعني بتسجيل المواليد والوفيات لتقسيم الأعطية والأرزاق، وجعل للجند عملا يصرفهم عن البطالة والشقاق، فداول بينهم وبين مواعيد الصوائف والشواتي وهي مواعيد الحراسة والغزو في بلاد الروم من تخوم الشام إلى أرباض
3
القسطنطينية، وكان يحرك الأساطيل من حين إلى حين لتهديد القسطنطينية، وسواحل الدولة البيزنطية؛ ليشغلها بالدفاع عن التفكير في الهجوم.
وبرزت حزامة معاوية في تدبير شئون ملكه مع ما اشتهر به ساسة العصر - في إقبال الدولة والدنيا - من الكلف بمناعم العيش والتهافت على المتع والملذات، بل مع اشتهار معاوية نفسه بمثل هذا الكلف في بيته وفيما يشهده الناس من أبهته وزينته، فكان عظيم العناية بأطايب الخوان، كثير الزهو بالثياب الفاخرة، والحلية الغالية، وكان يأكل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجواهر، ويأنس للسماع واللهو ولا يكتم طربه بين خاصة صحبه «لأن الكريم طروب». •••
إلا أنه كان على هذا كله لا يضيع عملا في سبيل لذة، ولا ينكص عن مشقة تواجهه من أجل متعة تغريه، وربما أمر بإيقاظه ساعات من الليل لمراجعة الرسائل والشكايات من أطراف الدولة القاصية، وربما جلس للمظالم نهارا فاستمع إلى الجليل والدقيق منها، ونظر في بعضها، وأحال بعضها إلى من يناط بها ويحاسبه على النظر فيها، وكانت له قدرة على ضبط هواه حين يريد، وقدرة على تصريف وقته كما يشاء.
ولما برزت منه هذه القدرة للشاهد والغائب أتيحت له حجة لطلب الخلافة أغنته عن اللجاجة بمظلمة عثمان، فكان يخطب فيقول: «إنني إن لم أكن خيركم فأنا أنفعكم لأنفسكم.» وكان يقول للحسن ولغيره: «إنه لو علم أن أحدا أضبط لشئون الملك منه وأقدر على جمع الرعية حوله؛ لما نازعه هذه الأمانة الثقيلة على عاتقه.»
وإذا كان الأمر أمر قدرة وعجز، فلا جدال في وصف معاوية بالقدرة ونفي العجز عنه؛ لأنه من الصفات التي ترد على بال عارفيه أو خصومه.
بيد أن القدرة - كما قلنا في الصفحات الأولى من هذه الرسالة - هي أحوج الصفات إلى التقدير؛ لأنها لا تعرف إلا بمقدارها، ولا تدل على شيء إن لم تكن قدرة على هذا الشيء أو ذاك.
Unknown page