قال: أما والله ما تزوجت أُمه حتى أتت على سبعون سنة، وتزوجتها ستيرة عفيفة إن رضيت رأيت ما تقربه عيني، وإن تأتَّت لي حتى أرضى، وإن ابني هذا تزوج امرأة فاحشة بذيَّة، إن رأى ما تقرّ به عينه تعرضت له حتى يسخط وإن سخط تلغَّبته حتى يهلك.
ثم قال شرية: وأحلف لا يبنز ثوبي واحد ولا اثنان، وإني بالثلاثة معذور.
قال أبو روق: حدثنا الرياشي قال، حدثنا الأصمعي قال، مرَ رجل بقوم يدفنون ميتا ورجل يقول:
احثوا على ديسم من برد الثَّرى ... قدما أَتى ربَّكَ إلاَّ ما ترى
قال: فقلت له، من هؤلاء؟. فقال: هذا ابني، وهذا بنوه.
قالوا: وعاش عبيد بن شرابة الجرهمي ثلاثمائة سنة، وقال بعضهم، مائتين وعشرين سنة، إلا أَنا نظن أنه عاشها في الجاهلية، وأدرك الإسلام، فأسلم؛ وقدم عل معاوية بن أبي سفيان.
فبلغنا أن معاوية قال له: أخبرني، كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة.
قال: ومن أين علمت؟ قال: من كتاب الله.
قال: ومن أي كتاب الله؟ قال: من قول الله ﵎ (وجعلنا اللّيل والنَّهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النَّهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم) فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوما في أثر يوم، وليلة في أثر ليلة متشابها كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكذبون، وما يبيد عنهم ولالا يعتبرون بما مضى منهم، حيُّهم يتلف، وملودهم يخلف، في دهر قد تصرف أيامه، تقلَّب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوة في الرَّخاء إذا صار في البلاد، وبينا هو الزيادة إذ أدركه النُّقصان، وبينا هو حرّ إذا أصبح فيئا لا يدوم على حال، ولا تدوم له حال، بين مسرور بمولود ومحزون بمفقود، فلولا أن الحيّ يتلف لم يسعهم بلد، ولولا المولود يخلف لم يبق أحد.
قال معاوية: يا عبيد، أخبرني عن المال، أية أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني، وانفعه غناء، وأقلُّه عناء، وأبعده من الآفة، وأجداه على العامة عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أَدَّت، وإن استحلبتها درَّت فأفعمت، تعُولُ ولا تُعال.
قال معاوية: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها قد ارتبطت منها فرسا.
قال معاوية: فأي النَّعم أحب إليك؟ قال: النَّعم لغيرك يا أمير المؤمنين.
قال: فلمن؟ قال: لمن فلاها بيده وباشرها بنفسه.
قال معاوية: حدثَّني عن الذهب والفضة.
قال: حجران إن أخرجتهما نفذا، وإن خزنتهما لم يزد.
قال معاوية: فأخبرني عن قيامك وقعودك، وأكلك وشربك، ونومك، وشهوتك للباءة.
قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب؛ وأما أكلي وشربي إن جعت كلبت، وإن شبعت بهرت؛ وأما نومي فإن حضرت مجلسا حالفني، وإن خلوت أَطلبه فارقني؛ فإن بذلت لي عجزت وإن مُنعت غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب سيئ رأيته.
قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة، يقال له، حُريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انتبذت جانبا عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت شعرا كنت رويته قبل ذلك:
يا قلب إِنَّك في أسماء مغرور ... اذكر، وهل ينفعك اليوم تذكيرا؟
قد بحت بالحب ما تخفيه ... حتَّى جرت بك إطلاقا محاضير
تبغي أمورا فما تدرس أَعاجلها ... خير لنفسك أَم ما فيه تأخيرُ
فاستقدِرِ الله خيرا، وارضينَّ به ... فينما العسر إِذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مُغتبطا ... إِذ صار في الرَّمس تعفوه الأعاصير
حتَّى كأَن لم يكن إلاَّ تذكرُّه ... والدَّهرُ أيَّة ما حالٍ دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحِّ مسرور
وذاك آخر عهد من أَخيك إِذا ... ما المرء ضمنَّه اللحد الخناسير
الخنسير والجمع الخناسير، ويقال الخناسرة، وهم الذي شيعوا الجنازة.
فقال رجل إلى جانبي يسمه ما أقول: يا عبد الله، من قال هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به، ما أدري أني قد رويتها منذ زمان.
1 / 16