173

Al-ittijāh al-siyāsī li-Maṣr fī ʿahd Muḥammad ʿAlī: Muʾassis Miṣr al-ḥadītha

الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة

Genres

فلقد استطاع دون أن تكون له مزية رفعة الحسب أو الثروة المدخرة أن يشق طريقه إلى السلطان والشهرة العالمية لا معتمدا إلا على عزيمته التي لا تقل وقوة مثابرته وفرط ذكائه «ومع أن محمد علي كان يخفي أعمال القسوة بين آن وآخر فإنه لم يكن قاسيا بطبعه، وكان يحب الشهرة والسلطان حبا عظيما، وفيما عدا ذلك لم يحفل بالمال إلا باعتباره وسيلة لتحقيق الأماني العظيمة.» وكثيرا ما سمع القنصل العام أكثر من واحد يتمنى في خلال مرض محمد علي الأخير «أن لو اقتطع الله جل وعلا عشر سنوات من عمره عن طيب خاطر إلى عمر الباشا الكبير.» ولما هبط إلى حلب أو دمشق أو أي من المدن التي كانت تحت نير السلطان مباشرة، حيث لم يكن الفرد المسيحي مطمئنا على نفسه من الأذى أو الإهانة أصدر محمد علي أمره بأن يسمح لأي مسيحي أو أوروبي بأن يسير في شوارع القاهرة بلا سلاح وبدون أن يتعرض لأي خطر كما كان يفعل لو كان في لندن، وقد ختم القنصل العام ورسالته باعتذار لا لزوم له عن تحمسه لمحمد علي، فقال: «وأغلب الظن أنني لم أستطع أن أقاوم كلية ما كان للباشا من التأثير في نفوس الذين كانوا على اتصال به بفضل تربيته السامية وأخلاقه الجذابة.»

ثم ماذا يكون حقه في ذكرنا إياه؟! ... لقد كتبت على الصفحة الأولى من هذا الكتاب كلمة من كلمات محمد علي قارن فيها بين ما عمله في مصر وبين ما عمله مواطنو الهند. وعندي أن وجه المقارنة غير تام، ولكن هذه الكلمة تنطوي برغم ذلك على جزء من الحقيقة أكبر بكثير مما يود الإنسان التسليم به بادئ ذي بدء، ولكن ثمة وجوه كثيرة للشبه بينه وبين رجال الإدارة الإنجليز الذين أسسوا تلك الشركة في الهند، وقد رأى نفسه مثلا كما رأى أنفسهم يحكم ولايات تابعة لإمبراطورية بائدة تعيش في ظلال مجد قد انقضى العهد الذي يبرر وجوده، اللهم ما عدا ذكريات العظمة البالية، ثم إنه كمثلهم كان يضيق ذرعا بخرق الرأي المبني على الرشوة السائدة في البلاط الإمبراطوري الذي يصر على ألا يرى إلى أبعد من الظروف الحالية المحيطة به، وقد سعى كما سعينا في نيل الاستقلال إرضاء لمطامع شخصية بلا جدال، ورغبة منه في أن يبقى اسمه تردده الأجيال المقبلة جيلا بعد جيل، ولكن أهم باعث على السعي لنيل هذا الاستقلال هو كرهه للفوضى والرشوة وفساد الحكم.

وقد طمح الباشا كما طمح رجال الإدارة في الهند إلى أن يتمتع بالحرية ليتسنى له إيجاد نظام جديد للإدارة خير من النظام السابق، ولكن ما كان عليه وهو يسعى لتحقيق هذا أن يواجه كثيرا من المصاعب التي تعترض طريقه، وهي مصاعب تختلف كل الاختلاف عما كان يواجه حكام الأقاليم في الهند؛ لأن ما كان على الآخرين أن يواجهوه لم تزد عن المعارضة التي كانت تأتي من ناحية هيئات ضعيفة في داخل حدود الهند نفسها أو من ناحية منافسين أوروبيين لم يكن في استطاعتهم اختراق نطاق المراقبة البحرية القوية المبثوثة في المياه الشرقية.

ولكن سياسة محمد علي كانت تسير في اتجاه مضاد لرغبات الدول العظمى التي كانت نار الحسد مشتعلة بين بعضها وبعض، بحيث لا يمكنها الاتفاق أو جمع كلمتها على هدم الإمبراطورية العثمانية لا على أيدي إحدى هاته الدول ولا على يدي دولة أخرى عداها، ثم إن الفرصة الوحيدة التي كان يمكن حقا أن تحقق للباشا الحصول على حريته، وهي فرصة وجود حرب أوروبية عامة لم تسنح مطلقا؛ فإذا كان محمد علي قد أخفق في إنشاء إمبراطورية عظيمة كما فعلت شركة الهند الشرقية فليس ذلك مرجعه عدم مهارة الباشا ولا عدم مثابرته. كلا؛ لأن الحظ والقوة اللذين كانا من نصيب الشركة قد أخطآه، فلم يكن له سبيل إلى الفرار من الضغط الهائل الذي وضعته الدول الأوروبية العظمى.

على أن وجه المقارنة في هذه المسألة - أي مسألة السياسة الخارجية - ليس مما يلفت النظر كما هو الحال في شئون الإدارة الداخلية والخارجية؛ فإن المهمة التي اضطلع بها الباشا كانت تشبه من وجوه متعددة المهمة التي اضطلعت بها الشركة؛ فإن حكومة مصر كحكومة البنغال أو حكومة الكارناتك لم يعد في استطاعتها أن تزعم أنها تعمل للصالح العام؛ ذلك لأن الحكام والأعوان لم تعد لهم مهمة إلا اقتناص المصالح الشخصية، ونظرا لأن الرعية لم تكن منتظمة التنظيم الكافي فإنها كانت تقاوم مطالب الحكام مقاومة صامتة متفرقة وعلى غير طائل، وقد أصبحت العدالة مجرد صدفة من الصدف السعيدة، وتلاشت الحماية ولم يك ثمة ما يراقب حركة الشاهدين. وبديهي أن إنشاء إدارة على أساس عفن ومتداع كهذا الأساس كان من أشد المهام السياسية، على أن هذا الإنشاء لم يتم إلا بعد ارتكاب عدة غلطات.

يضاف إلى كل هذا أن أنواع ما قام من النظام الإداري في مصر أو في الهند كانت متشابهة وقريبة بعضها من بعض؛ فلقد كان النظام في كلا البلدين نظاما أوتوقراطيا مستندا إلى الحكم الفردي المطلق المحدود فقط بما يتحلى به الحاكم المفرد من المبادئ الأدبية، بمعنى أنه كان كما يشاء السيد المطاع والمالك لزمام كافة الأراضي والتاجر الأكبر، وعليه كانت المسائل الأساسية التي واجهت محمد علي وموظفي الشركة الأولين، وهي إلى أي حد يتفق مع العدل وخير البلاد يمكن تحديد هذه السلطة الواسعة وإلى أي مدى يمكن تطبيق دروس التجارب الغربية على الأحوال السائدة في الشرق، والتي تختلف كل الاختلاف عن أحوال الغرب. ولعمري لقد كان البت في بعض هذه المسائل - لا فيها كلها - أسهل على الباشا منه على الشركة الهندية، هذا بينما كان يعتبر سكانها من جنس واحد تقريبا إذا قيسوا بالأجناس المختلفة في الهند، ثم إن نظامها الاجتماعي كان بعيدا عن التعقيدات الناشئة عن الأنظمة الطائفية الهندية. وفوق هذا كله لم يكن سكان مصر منقسمين إلى مذهبين دينيين متنافسين كما هي الحال في الهند، ولكن يذكر في مقابل هذه المزايا الكبيرة التي تتمتع بها مصر نقص كبير؛ وهو عدم وجود معين لا ينضب من الرجال يعتمد عليهم في تنفيذ ما يصدر إليهم من الأوامر. وفي الواقع أن نظام الإدارة في عهد الباشا كان يختلف عن نظام الشركة في الهند بعدم وجود هيئة الخدمة المدنية كما هي الحال في الهند، وأحسب أنه لا يمكن عدلا تشبيه مصر في عهده بالهند في عهد بتنك، ولكن قد يمكن المقارنة بينهما في أوائل عهد الشركة بحكم الهند، أي الوقت الذي لم يكن تطورت فيه مزايا موظفي الشركة في البنغال مثلا أثناء حكم «كليف» أو «هاستنجز».

هذه الحقيقة وحدها كانت كافية في إيجاد الفوارق بين نظام إدارة إيراد الأراضي لدى حكومة الباشا ولدى الشركة الهندية؛ فإن محمد علي لم يخطر له طبعا أن يعمل على وضع تسوية دائمة للموضوع، ولكن سياسة كورنواليس الخاصة بالإيرادات لم تكن أكثر من مجرد سياسة محلية مشوشة لم تلبث أن طرحت ظهريا في جميع الجهات ما عدا الجهة التي نشأت فيها تلك السياسة، وإذا ما استثنينا تعيينه المحاصيل التي ينبغي زرعها في بعض الجهات ؛ فإن أساليبه كانت كثيرة الشبه بما كان متبعا في مقاطعة مدراس مثلا؛ فتحديد ضرائب فادحة موضوعة على نسبة ما يمكن دفعه في السنوات التي تكثر فيها غلة الأراضي لا في السنوات العادية، وعجز المزارعين عن دفع الضرائب المختلفة عليهم، واستعمال الكرباج لحمل المزارعين على الدفع؛ كل هذه الأساليب كانت مستعملة في بعض المقاطعات الهندية لا قبل بداية الحكم البريطاني فقط، بل وفي أوائله أيضا، لا بل إن المبدأ القاتل بملكية الأراضي للدولة نادت به الشركة وطبقته منذ زمن بعيد قبل ظهور الحكم البريطاني.

نعم؛ لم يكن في وسع الهند البريطانية أن تقدم ما يشبه نظام التجنيد الذي سنه محمد علي في مصر، ولكن هذا التجنيد لم يكن ما يقتضيه في الهند، وهذا فضلا عن أن أحدا لم يسعه أن يتصوره أو يدركه، أولا أنه لم يكن ضروريا؛ لأن عددا كبيرا لهذا كان يحمل السلاح مكرها، وثانيا كان غير مفهوم؛ لأن العادة والنظام الاجتماعي كانا يحتمان ألا يحمل السلاح إلا طبقات معينة فقط من الأهالي، ولعل الفائدة لم تكن كلها إلى جانب الهند في مسألة كهذه.

ومسألة أخرى هي أن موقف الباشا كان أشد أوتوقراطيا في الظاهر من الحكام الذين كانوا يعملون باسم الشركة الهندية، بمعنى أنه لم يكن يتردد في تنفيذ إرادته ولو بأقسى الوسائل إذا اقتضى الأمر ذلك، ومن جهة أخرى لم تكن تفرق بينه وبين شعبه تلك الفوارق الدينية أو الثقافية التي كانت تفرق حكام الشركة عن أمراء الهند، ولم يكن يقتصر على إرغام رجاله على الانخراط في سلك جيشه فحسب، بل كان يحملهم أيضا على زراعة القطن وقصب السكر وشجر التوت وأن يبعثوا بأولادهم إلى المدارس، وأن يقوموا بكل ما يظنه صالحا لخير الدولة وليس يسع أحد أن يوجه إليه شيئا من اللوم في ذلك؛ إذ لم يكن ثمة سبيل للقيام بالإصلاحات التي كان ينشدها.

ثم إنه كثير الحذر والتأني، ولعل ذلك كان من أهم مزاياه في طبع النظام الإداري بالطابع الغربي؛ لأن المزايا المادية متى أدركت مرة فليس يسع الإنسان إلا التسليم بها.

Unknown page