منهج الاعتدال

Adnan Al-Arur d. Unknown

منهج الاعتدال

منهج الاعتدال

Publisher

دار التابعين بالرياض

Publisher Location

٢٠٠٢

Genres

منهج الاعتدال لفضيلة الشيخ: عدنان بن محمد العرعور

1 / 1

بسم الله الرحمن الرحيم مختصر تقريظ فضيلة الشيخ محمد عيد العباسي حفظه الله لكتاب (المنهج الاعتدال) بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لله كثيرًا طيبًا، وصلاةً وسلامًا على نبيه وآله وصحبه تامين كاملين. أما بعد: فمازلت منذ ثلاثين سنة أعرف أخي العزيز الشيخ عدنان أبا حازم حفظه الله سباقًا إلى طلب العلم وتحصيله، منذ التحق بركب الدعوة السلفية، وشارك في الأخذ عن أستاذنا العلامة محمد ناصر الدين الألباني شفاه الله، منذ أكثر من ثلاثين سنة. ولقد كان لأخي عدنان منزلة خاصة عند أستاذنا، فكان يلقي دروسه في بيته ويبات فيه، حتى رغب شيخنا في مصاهرته. ثم طلب العلم على كثير من كبار العلماء، وبخاصة سماحة الإمام الجليل عبد العزيز بن باز ﵀، حتى إذا شعر أنه اشتد عوده، وصلبت قناته، نفر إلى الدعوة إلى الله، وسارع إلى نشر العلم الصحيح بين المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، فلا تكاد تراه إلا متنقلًا من بلد إلى بلد، ومسافرًا من مؤتمر إلى ندوة، إلى مناظرة لأهل البدع والأهواء بهمة عالية، وقد تميز بأسلوب مشوق أخاذ، ومهارة في الحوار والجدال، فنجح في خدمة دعوة التوحيد والسنة أيما نجاح. وقد اطلعت على ما أثاره بعضهم على منهجه من شبهات، فوجدته لا يعد إلا محض افتراءات، وتشكيك في النيات، وقد أتى أصحابه بالطامات، حسدًا وبغيًا، فالله حسيبهم.

1 / 2

وهذا الابتلاء بالكذب والحسد، والرد على أمثال هؤلاء؛ هو طريق الأنبياء والمصلحين وسنتهم، كما يتبدّى من حوارهم وقصصهم في كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، وأخبارهم، فكانوا يردون على كل شبهة، أو افتراء، أو تلبيس، وذلك ليقيموا الحجة على الناس. وقد دفع هذا الأخ أبا حازم ليكتب رسالة يبين فيه منهج أهل السنة والجماعة الذي يدين الله به، ويوضح فيها باختصار مفردات دعوته، كي يقطع السبيل على كل متقول. وقد طالعت بيان الأخ الفاضل الشيخ أبى حازم الذي سمَّاه «منهج الاعتدال» بتأمل وإمعان، فوجدته موافقًا لما عندي، ومطابقًا لما تعلمناه من أستاذنا الألباني، وغيره من شيوخ الدعوة في هذه البلاد المباركة، ولم أجد فيه ما يحتاج إلى تعديل إلا بعض مسائل ثانوية، فجاء هذا البيان على اختصاره ممثلًا لما ندين الله تعالى به في هذه المسائل الكبار، وأرجو أن يزيل الله به ما علق في بعض الأذهان، من مخالفات لمنهج أهل السنة، والحمد الله رب العالمين. وكتبه محمد عيد العباسي في ١٠ ربيع الآخر ١٤٢٠ هـ ... الموافق ل ٢٣/تموز ١٩٩٩ م

1 / 3

المقدمة الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله غيره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ. أما بعد: فلا يخفى على بصير ما تقاسيه أمتنا من واقع مؤلم، وما تعانيه الصحوة من اضطراب شديد، وبات من الضروري وضع النقاط على الحروف في المسائل المنهجية المختلف فيها. وبيانًا لمنهج الحق، وأداء للواجب، ونصيحة للأمة، وإرشادًا إلى سبيل الاعتدال، الذي عليه أهل السنة والجماعة، كتبت هذا الكتاب. وكذلك براءة للذمة، وإقامة للحجة على المتطرفين من الغلاة والمقصرين، ونصيحة للغافلين، وتوضيحًا للحائرين، وردًا على المخاصمين من المفترين، لعل الله ﷿ يهدي به التائهين، وينير به بصائر المخالفين، ويكون سببًا لتوحيد شمل أهل السنة المتبعين، فكفانا خصامًا، وكفانا تفرقًا، وكفانا نكسات. وسميته: «منهج الاعتدال» ومعظم ما فيه مقتطف من كتبي ومحاضراتي ورسائلي، فأعتذر إلى القراء الأكارم عن التكرار. وأحببت أن يكون الكتاب تأصيلًا عامًا، وتقعيدًا شاملًا، لا يخص زمانًا ولا مكانًا ولا عينًا، فمن وقع عليه الوصف فذاك شأنه، ولا يلومنّ إلا نفسه. ولم أفصل في كثير من المسائل، ولم أسرد الأدلة، واعدًا بذلك في الطبعة القادمة، إن كانت هنالك حاجة لذلك إن شاء الله تعالى. فإن أصبت فيه، فبحمد الله وحده وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله العظيم المنان. ولا يفوتني أن أقدم جزيل شكري، وعظيم امتناني، إلى الأخ الكريم، والصديق الوفي، ورفيق الدعوة منذ خمس وثلاثين سنة، بل شيخي المفضال: محمد عيد العباسي حفظه الله ورعاه،

1 / 4

على ما بذل من جهد في مراجعتها ثلاث مرات، وذلك دال على سماحة خلقه، وسعة صدره، وحبه للخير. وكذلك أشكر فضيلة الشيخ الداعية المجاهد في أوربة أحمد سلام حفظه الله، وغيرهم من الأخوة والشيوخ، الذين راجعوا ونصحوا. هذا وقد تم تأليف معظم أبواب الكتاب قبل وفاة الإمام عبد العزيز بن باز ﵀، وتم الانتهاء منه في يوم وفاة الإمام محمد ناصر الدين الألباني ﵀، وكنت قد عزمت على تقديمه لهما لمراجعته، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا (١). فانظر فيه -يا أخي- بإنصاف، ودع عنك التعصب والإجحاف، وتقليد الشيوخ، والاحتجاج بالرجال، وتصديقهم بالطعن دون تثبت، فكم من صالح روى من غير تثبت، وكم من شيخ ظن من غير دليل، وحسد وبغي بغير حق، وقد قيل: "ما رأينا مثل الكذب على ألسنة الصالحين" ولقد رأينا بعض من يسميهم أتباعهم علامة بل إمام ينقل الكذب، ويتهم بالظنون. فانظر الحق بنفسك، فإن التقليد والتعصب والتصديق بلا تثبت في اتهام الخلق، يعمون البصر، ويضلون البشر، ويضرون حين المحشر، حين لا ينفع الندم، قال تعالى: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا﴾ واقبل الحق من كل من قال به، قال شيخ الإسلام [٥/ ١٠١]: "ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه، الذي رواه أبو داود في سننه: "اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا -أو قال فاجرًا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا:

(١) ثم صحح وعدل وأضيفت له بعض الأبواب بعد وفاة الشيخ رحمه الله تعالى.

1 / 5

كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق: قال: إن على الحق نورًا، أو قال كلامًا هذا معناه". (١) وكن -كما أمر الله- ناصحًا لا فاضحًا، ومبلغًا لا متعنتًا، ورفيقًا بإخوانك لا فظًا غليظًا، ومعينًا لهم على هدايتهم لا معينًا للشيطان عليهم. وكن -كما أمر الله ورسوله ﷺ مجتنبًا للظن، قابلًا للعذر، لا طاعنًا بهم جارحًا، فقد قال رسولنا الكريم ﷺ لمن لعن شارب الخمر: «لا تكن عونًا للشيطان على أخيك». والله أسال أن يُحق الحق، ويهدي السبيل، ويوحد الأمة، ويعجّل فرجها، ويقرب نصرها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه عدنان محمد آل عرعور ٢٢/ ٦/ ١٤٢٠ هـ

(١) قلت: ذكره شيخ الإسلام بمعناه، وأصله في أبي داود (رقم ٤٦١١) والحاكم ٤/ ٥١٣) والطبراني في الكبير (٢٠/ ١١٥) والحلية (١/ ٢٣٢) بألفاظ متفاوتة.

1 / 6

بين يدي الكتاب واقعنا العام المؤلم: ففي الوقت الذي تئن فيه أمتنا من الجراح، وهي أحوج ما تحتاج إلى ساعة كفاح؟ كفاحٍ لرفع الجهل الذي ران على معظم هذه الأمة، فأسقطها في الشركيات والبدع وعبادة الدنيا، كفاحٍ في تحرير هذه الأمة من تبعية التقليد، تقليد الآباء، تقليد الشيوخ، تقليد العادات، كفاح يفك عنق هذه الأمة من رِبقة التشبه والتبعية للكفار. وفي الوقت الذي تحتاج فيه أمتنا لرد إلى دينها الحق، وتوحيدها الصحيح، وإلى رفع درجة إيمانها، واستنهاض عزائمها، لرفع هذا الذل الذي ساد معظم بلادها، ولدفع هذا الظلم الذي غشي أغلب أفرادها، فما إن تنتهي من مصيبة إلا وتقع فيما هو أكبر منها، مؤامرات عظيمة تدبر، خطط خطيرة بخبث تنفذ، نساء تُرمَّل، أطفال تُيتَّم، فتيات تُنتهك أعراضهن، شباب تُذبح كالنعاج، رجال تشرد كالقطعان، دموع تفجر كالبراكين، دماء تجري كالأنهار، وا أسفاه على أمة هذه حالها، بل وا نكبتاه. أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ... تجده كالطير مقصوصًا جناحاه إلا من رحم الله في بعض الديار الإسلامية. تيارات عارمة، سيول جارفة، همجية قادمة، تحمل أفكارًا بائدة، أو علمانية فاسدة، أو شهوانية ماجنة، تهدد واقعنا، باسم الإسلام المجدد تارة، وباسم الإصلاح أو المصلحة تارة أخرى. تحرير المرأة، إصلاح المجتمع، تصحيح الأوضاع السياسية، رفع المستوى الاقتصادي، تثقيف الناس، التعددية الحزبية السياسية، مقاومة التطرف، الحرية الشعبية (الديمقراطية) والوطنية والقومية، وأخيرًا العولمة ومقاصدها، من التذويب والخلط، والتمييع والدمج والانفتاح، وتبعاتها من منظمة التجارة العالمية، التي وراءها ما وراءها، من المكائد والتخطيط،

1 / 7

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم: ٢٣]. وواقعنا الداخلي لا يقوى على النهوض فضلًا عن المواجهة. فالمسلمون: أحزاب متفرقة، وجماعات متناحرة، ومناهج دعوية متناقضة، وأشياخ كسالى، وباحثون متقوقعون، وأفراد فوضويون، (١) إلا من رحم الله من الصالحين، حتى إذا ما خلت الساحة من الدعوة -إلا قليلًا ممن يدعو إلى الله على صراطه المستقيم- استغل هذا الفراغ دعاة الشر، وتعاون أهل البغي، فانتشر بذلك الفساد، وكثر الابتداع والانحراف، حتى عاش معظم أفراد أمتنا في جهل عضوض، وغفلة مهلكة، وهوى متبع، ودنيا للعوام مفسدة، وللملتزمين مغرقة، وللدعاة مشغلة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورعاة، وما أدراك ما الرعاة، كثير منهم غافلون، وعن الذكر معرضون، بل منهم من للإسلام والمسلمين محاربون، إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم هذا حالنا الضعيف لا يخفى عليك، وهذا أمرنا المضطرب بين يديك. اللهم لا تكلنا لأحد إلا إليك، نستغفرك اللهم ونتوب إليك. في هذه الظروف العصيبة، التي تمر بها أمتنا، والتي أحوج ما نكون فيها إلى وحدة الصف التي لا تتحقق إلا بوحدة العقيدة، ووحدة المنهج، والعمل على الطريق المستقيم، طريق الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة. وفي هذه الظروف العصيبة، التي أحوج ما نكون فيها إلى إحياء الأخوة والمحبة، والتناصح والألفة، ترانا نتتبع عثرات إخواننا، يتقصَّد بعضنا تحطيم بعض، نتعمَّد فضح دعاتنا، نترصد أخطاء علمائنا، نستبدل النصيحة بالفضيحة، والوفاق بالشقاق، والأخوة والمحبة بالبغضاء والحسد والحقد! . ردود على ردود، افتراءات على افتراءات، اتهامات تلو الاتهامات، فقدنا طرق الاستدلال، ضيعنا حقيقة الدليل، هجرنا أسباب التثبت، دليلنا حظوظ أنفسنا، نقبل الأخبار حبًا

(١) ليس المقصود كل شيخ، أو كل باحث أو فرد، وإنما هو وصف لأحوال، وذكر لوقائع.

1 / 8

بالمخبر، أو ترصدًا بالمخبر عنه، نرد الأنباء كراهية للمُنبئ، يستعين بعضنا على بعض بذي السلطان، ثم نلوم غيرنا، ثم بعد هذا كله نسأل الله نصرنا. تالله إن هذا لفعل المخادعين، ووالله إنه لتفكير الساذجين. فنعوذ بالله من الحَورِ بعد الكَورِ. أمتنا أمة البقاء والنصر: ومع هذا الذي تعانيه أمتنا كله، فلا خوف عليها، ولا هي هالكة، فأمتنا أمة الصمود والثبات، وأمتنا أمة التمكين والعلياء، وأمتنا أمة العز والبقاء، ولقد مرّ بأمتنا من المحن والصعاب ما ظن ضعاف الإيمان، وأعداء الإسلام أن لا قيام لها، ويأبى الله إلا أن تبقى، وستبقى، فهو وَعْدُ الله الذي لا يخلف الميعاد، ووعد الله هذا استجابة لدعاء رسوله ﷺ: «... وسألته أن لا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فأعطانيها ...» [رواه الترمذي (٢١٧٥) عن خبّاب بن الأرت وصححه الألباني في صحيح الترمذي (١٧٦٧)]. وفي شطر حديث قدسي، قال تعالى -إجابة لدعاء النبي ﷺ: «ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها» [رواه مسلم (٢٨٨٩) عن ثوبان]. فهي إذن أمة النصر، وهي أمة البقاء، ولو دارت عليها الدائرة يومًا، ولو عضها الدهر وقتًا، فالنصر قادم والله دون استثناء ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: (٢١٤)]. وسيعلم الذين ظلموا -إذا ما أتى نصر الله- أي منقلب ينقلبون. وليعلم الجميع: أن الله ﷿ لا يحب تأخير النصر والتمكين عنا، ولكنه سبحانه ينظر ما نحن عاملون، فإن رأى سبحانه أنّا نستحق النصر عجّله ولم يؤخره ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: (٩)]. فإن وعد الله لهذه الأمة ما يزال قائمًا، ونصره ما يزال قريبًا، قال تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: (٦٠)].

1 / 9

وقال ﷺ: «بشر هذه الأمة بالسناء، والرفعة، والدين، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب» [رواه أحمد (٥/ ١٣٤) والحاكم (٤/ ٣١١) وصححه ووافقه الذهبي والألباني]. ولكن ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: (٧)]. وإن تؤمنوا، وتعملوا الصالحات يستخلفكم ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...﴾ [النور: (٥٥)]. فأبشروا فوالله ما ذلك على الله بعزيز. فهذه بشائر العودة إلى الله في كل مكان، وهذه طلائع الصحوة تبشر بزوال الكفر والطغيان، وقيام راية الإسلام وانتصار أمة الإيمان. ولذا باتت أمتنا بحاجة ماسة إلى بيان طريق الإسلام المستقيم، ومنهج التغيير المعتدل، لتسير عليه، لتحقق شروط الله والوفاء به، فإنه لا يخلف الميعاد ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: (٤٠)]. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وبين يديك أخي الكريم موضوعات مهمة، وقضايا كبيرة، قد تكلم فيها كثير من الناس بين معتدل وجائر، وقد قدمت فيها جهد المقل في بيان منهج الاعتدال، منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والتغيير، والمواجهة والجهاد، والمجتمعات والحكام، وما شابه هذه القضايا التي هي حديث اليوم. والله أسأل التوفيق والسداد، والقبول والغفران، إنه أهل ذلك ووليه. واقعنا الخاص المفجع: لقد كان المسلمون يتطلعون إلى شباب هذه الصحوة، ويؤملون -بعد الله- بهم أن يحملوا عبء هذه الأمة، ولكن ... ولكن العالم الراسخ، والداعية الواقعي، بل المسلم الواعي، يرى أن شباب الصحوة حملوا الأمة فوق حملها أعباءهم، وذلك بما وقعوا فيه من فخاخ وضعت لهم، وأخطاء كبيرة وقعوا فيها، وفتن مظلمة، سقطوا فيها، كادت أن تهلكهم، فركب كثير منهم -عن حسن نية-

1 / 10

رؤوسهم، فوقعوا في شراك نصبت لهم، فارتد ذلك آثارًا سلبية عليهم، وعلى الدعوة، وعلى أمتهم. وقد وقعوا في ذلك؛ نظرًا للأعداد الغفيرة العائدة إلى الله، وندرة العلماء الراسخين، وغياب المربين، وقلة الأقوياء الأمناء من الموجهين، فضلًا عما يبيته العدو من مكر شديد، وخبث كبير. وباتت الدعوة إلى الاعتدال من أولى الأولويات، والاعتدال: هو اتباع الشرع دون إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تمييع، ومن جهل بأمر أو موقف فعليه بالراسخين من أهله، وليعلم المسلم أنه لا اعتدال إلا بالشرع، ومن خرج عن الشرع فقد تطرف (١)، ومن صور التطرف الخروج عن الراسخين. ولقد وقع في التطرف كثير من الناس، غلوًا أو تقصيرًا، في الأحكام والأفعال، وقلما ترى ذاك الوسط المعتدل. ظهور التكفير والإرجاء: فظهر التكفير بأبشع صوره، وبلغ به الحد تكفير أئمة الإسلام، والخروج على عامة المسلمين يكفرونهم ويذبحون أطفالهم وشيوخهم، وينتهكون أعراض نسائهم. وقابل هذا: إرجاء بأسخف صوره، بلغ حدًا، أن جعل أعداء الإسلام الملحدين مؤمنين، وأئمة الكفر من الشيوعيين واللادينيين، ولاة أمر كثير من المسلمين، يجب طاعتهم، وتحرم معصيتهم، حتى منعوا الخروج على المستعمرين، وسوغوا لهم الحكم بما شرعت الشياطين.

(١) التطرف يشمل الذين يتطرفون عن الحق غلوًا في الدين، أو تقصيرًا فيه، أو تحريفًا لأحكامه. وقد خصت اللفظة في الآونة الأخيرة من قبل خصوم الإسلام بالغلاة، وبكل من يتمسك بهذا الدين، ويجاهد لإعلاء كلمته ولو كان على سبيل الاعتدال.

1 / 11

وبلغ الغلو مبلغًا: أن حرم بعضهم الاستفادة من العلماء الذين وقعوا في بعض البدع والأخطاء، وحرقوا كتبهم، بل بدّعوا من استغفر لهم. وذهب غلاة آخرون، إلى تحريم الاستعانة بالوسائل العصرية، في الدعوة والحياة الدنيوية، وإن كان ذلك دون مخالفة شرعية، وعدّوا ذلك من الابتداع والضلال. وقابلهم آخرون، بالتساهل في الدين، بل بالتقصير والمداهنة لعوام المسلمين، وأتوا بعلوم غريبة، وفتاوى عجيبة، فأباحوا ما حرم الله في الكتاب والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، فأباحوا الربا، والدخول في جيوش الكفار، والإقامة بين أظهرهم دون اضطرار، وقالوا: إن اليهود والنصارى إخواننا، وأباحوا الموسيقى والتصوير، وما شابه ذلك من الباطل والتزوير. ونشأت فرقة في زماننا يمكن تسميتها «فتنة التبديع والتخريب المبدّعة» مبدؤها: تبديع الناس وتضليلهم، بل قذفهم وتخبيثهم، لوقوعهم -في ظنهم- في بدعة، أو فيما حكموا هم عليه بأنه بدعة، بل بدعوهم لأنهم لم يبدعوا من بدعوهم، وقد يكون الأمر كله من باب الاجتهاد، والخلاف المعتبر، وساروا على قاعدة أحدثوها، لم يسبقهم إليها أحد من الإنس والجن، «من لم يبدّع المبتدع، فهو مبتدع، يجب هجره وفضحه و...» والمبتدع -عندهم- هو الذي يرونه هم أنه مبتدع، ولو خالفوا الأولين والآخرين. ولا يفرقون بين بدعة وبدعة، ولا بين من وقع في بدعة وبين من كان في أصوله البدعة، أو يدعو إلى بدعة، يفرق ويفارق عليها، وبين من كان مخالفًا في بدعته الكتاب والسنة باتفاق، وبين من كان مجتهدًا متأولًا، فبدّعوا من أهل العلم من لا يستحق ذلك، وغمزوا بهم، وأمروا بهجرهم، وهجر من لا يبدعهم وإلا هجروهم. ومن تلك الفتن: التعلق بالحزبيات والجماعات على مختلف صورها، وتنوع مشاربها. ومن ذلك: التعلق بالأعيان شيوخًا أو زعماء، وتقليدهم بأبشع صور التقليد، وإذا كان يمكن إعذار مقلدي المذاهب الأربعة لجهلهم، ولعلو مكانة الأئمة ﵏، علمًا وفضلًا، فقهًا ودينًا، فإنك لا تجد لهؤلاء عذرًا، إلا الجهل وقلة الفهم، والتنطع وسوء الخلق.

1 / 12

ولقد وقع بذلك مفاسد كبيرة، وفتن عظيمة، وضياع أوقات ثمينة، وتفرق كبير من أجل الأعيان، وأصبحت علامة المهتدي عندهم موافقة شيخهم، وآية الضال الحزبي المبتدع -على تعبيرهم- مخالفة شيخهم، وحصل من جراء ذلك كذب واتهامات، ووشاية وافتراءات، انتقامًا وحسدًا. وكلها مبنية على ظنون كاذبة، وتحميل الكلام ما لا يحتمل، وتفسيره على ما يُشتهى، وإلزامات لا تلزم، بنوا عليها أحكامًا وأفعالًا، وغالب الذين يفعلون هذا لا يُعرفون بعلم ولا دعوة، وإنما عُرفوا بتتبع عورات الناس، والتنقيب عن عيوب ألفاظهم، فإن لم يجدوا لهم عورة، ألزموهم إلزامات من عندهم، ثم دخلوا في نياتهم، فانظر إلى أول كتاب ألفوه، وإلى أكبر شغل اشتغلوه! هل هو في العلم؟ أم في العمل؟ أم في الدعوة وأساليبها؟ أم في تتبع العورات، والنبش في الألفاظ، وإلصاق الاتهمات (١)؟ !

(١) وقد أصابني من غبارهم كما أصاب الذين من قبلي. كما هي سنة الله في خلقه في الابتلاء، وكان سر ذلك نصحي لبعضهم: بعدم مواجهتهم بعض الحكام لانتفاء الشروط، وتحقق الموانع .. ولنصيحتنا للأفغان بالسعي لتحقيق شروط النصر، وإلا ستكون النتائج وخيمة، والعاقبة أليمة، ثم تبيّن للجميع بعد ذلك صحة قولنا، وسداد نصيحتنا، وكثير منهم أعلن تراجعه، واعترف بأخطائه، ولكن الغبار ما يزال على بعض عيون الناس، مما قذفونا به، بغير حق من مكان بعيد، ظلمًا وزورًا، والله شهيد على ما يفعلون. وآخرون قذفوا بالتهم، لاستشهادنا بقول من وقع في بدعة، أو لاستعمالنا ألفاظًا ورد أكثرها في القرآن الكريم كالطاغوت والجاهلية والصحوة .. مما لا يوافق منهج المداهنة. وآخرون افتروا حسدًا من عند أنفسهم، أو عصبية وعنصرية .. ولم يأت أحد منهم بأدلة شرعية، أو أخبار صحيحة، سوى تناقل القيل والقال، أو تحميل الكلام، أو الكتابة بأسلوب العاطفة الذي ينخدع به كثير من الناس. والحقيقة أن بعضهم قد أوتي أسلوبًا عظيمًا في الخداع، وطريقة ماكرة في التمويه، فظاهره الصدق، وحقيقته الكذب والخداع والتمويه، والتباكي على الحق، وعلى الأمة الإسلامية، وأخيرًا على الدعوة السلفية. ومن ذلك أن عمد أحد المجهولين إلى تحريف عبارات لي، أو قطعها من سياقها وسباقها. ثم عرضها على بعض الشيوخ .. فمنهم من أمسك فنجى، ومنهم من قدح بناء على المسائل المنسوبة لنا كذبًا فظلم، ومنهم من كان في نفسه عصبية وعنصرية ظهرت في كلامه، «مثل حرفي .. قطبي .. محترق» وما شابه هذه الألفاظ الممجوجة .. ثم عمد المجهول مع عصابته لنشر الشريط، على أن الشيوخ يحذرون من الكاتب، وما علم هذا المسكين، والذين اغتروا به، أن الإسلام دين علم ودليل، لا دين شيوخ وتهويل، فأما من أجاب عليها من المجيبين دون تعيين الاسم، فقد أدى ما عليه، ومن عين الاسم، فقد ظلم ظلمين؛ ظلم التهمة والقدح بغير حق سوى سماع من مجهولين، والظلم الآخر: القضاء من غير تثبت، ولا سماع من =

1 / 13

حاجتنا إلى الاعتدال: وكل هذه الصور تحكي ألم هذه الأمة، وتصور جراحها العميقة، لذلك باتت الصحوة الإسلامية بأمس الحاجة إلى بيان منهج الاعتدال، وتوضيح مبادئ الإنصاف، والدعوة إلى سبيل الوسط، كي تتلمس هذه الصحوة هُداها، لتحقيق وعد الله بعودة هذه الأمة إلى عزها وسؤددها، وهي موحدة الصف، منيعة الجانب، تسير هي وأولياؤها على منهج النبوة الأول. واعلم -رعاك الله- أن معظم الفتن من الهوى وعدم التثبت، وهذه مصيبة من أعظم المصائب التي أصيب بها أفراد الأمة، لما فيها من الظلم، وفساد ذات البين، والندم في الدنيا والآخرة. ومعظم الناس يظنون الأراجيف حقائق، ويقعون في الفتن رغم حسن قصدهم، وذلك لثلاثة: - عدم التثبت وعدم إدراك معناه وطريقه. - عدم القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين الاجتهاد والضلال. - فقدان القدرة على التفريق بين الدليل والتزيين، فلا يفرق بين الحجة القطعية، والأسلوب العاطفي الذي يتلاعب بالألفاظ، فينساق وراء المتباكي، ويكون مع أول شاكي. وغالبًا ما يصدّق هذه الأراجيف من لا يتورع في حفظ سمعه ولسانه ناسيًا قوله ﷿: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: (٣٦)].

= الطرف الآخر. وبهذا بطلت إجابتهم جملة وتفصيلًا، وقد فصلنا الإجابة عن ذلك في ملحق مستقل، ونحن سائرون في دعوتنا، ولينعق الناعقون ما شاؤوا، وعلى المجيبين أن يتنبهوا، ألا تصيبهم غفلة الصالحين، وعلى المنصفين طالبي الحق أن يتخذوا موقفًا صارمًا من أمثال هؤلاء المزورين، الذين يفترون على عباد الله الكذب، ويوقعون الفتن بينهم.

1 / 14

ثم يغرر بها بعض الصادقين، ويلتبس الأمر على آخرين، حيث يصدر ممن يُحسبون من الصادقين. (١) عقيدة وشهادة: الحمد لله تعالى، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له رب العالمين، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولا ندًا ولا شريكًا في ملكه ولا حكمه، ليس له مثيل في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. تفرَّد بالربوبية، وتوحَّد بالألوهية، آمنت بكل صفة وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله ﷺ، من غير تشبيه ولا تحريف، ولا تعطيل ولا تمثيل، فكلها صفات كمال تليق به سبحانه، لا ندرك كنهها، ولا نرد شيئًا منها.

(١) ولم أكن يوما ما -ورب السماء والأرض- عاجزًا عن الإجابة برد يكشف عورتهم، وأن أُمطرهم بوابل من الحقائق، يفضح كذبهم، ولكني آثرت طوال هذه السنين مواجهة ذلك كله - بعون الله تعالى- بصمت صابرًا محتسبًا، إلا قليلًا قليلا .. مما لابد منه، وآثرت ذلك: - كراهية إشغال أنفسنا بالردود، لما لها من آثار سلبية على الناشئة، من فساد القلوب، وتنافر النفوس، والصد عن التعاون، والانشغال عن العلم والعمل والدعوة، وضياع الأوقات. - خشية الدخول فيما نهى الله عنه ورسوله ﷺ من القيل والقال. - اتقاء شماتة الأعداء من اللادينيين والباطنيين و.. والخصوم، فإنهم لا ينفكون بكل ما أوتوا من كيد وخبث في إشغال المسلمين ببعضهم، وتحويل جهدهم إلى مهاترات، ومخاصمات يشغلون بها المسلمين عن دينهم وعدوهم. هذا وقد أربأت نفسي عن الرد بالمثل من الاتهامات، والألفاظ القبيحة التي لا تخرج إلا ممن قل حياؤهم، وجفت ألسنتهم عن الكلام الطيب، والنصيحة بالتي هي أحسن. وادخرت هذا اليوم أحوج ما أكون لمثل هذا، والله من وراء القصد. ورحم الله القائل: يخاطبني السفيه بكل قبح ... فأكره أن أكون له مجيبًا يزيد سفاهة وأزيد حلمًا ... كعودٍ زاده الإحراق طيبًا

1 / 15

قد استوى على عرشه، وبان من خلقه، وهو معهم، أينما كانوا، بسمعه وبصره، وعلمه وقدرته، جلَّ أن يحيط به علم، أو يُدرك حقيقة صفاته عقلٌ. وأن الله سبحانه يتكلم، كيف شاء، ومتى شاء، ومع من شاء، وأن القرآن كلام الله لفظًا ومعنى غير مخلوق، وأن أمره إذا قال للشيء كن فيكون. فبهذا الرب أؤمن، وإياه أعبد وأقصد، وله أَنْسُك وأسجد، وبه أستعين وأسأل، وعليه أعتمد وأتوكل. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، خاتم النبيين، وسيد المرسلين، أرسله بالهدى ودين الحق -دين الإسلام- ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. وقد أتم الله هذا الدين، وجعله دينًا شاملًا لكافة شؤون الحياة، إلى يوم قيام الساعة. وأشهد أن خيرة خلقه بعد أنبيائه، صحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان، في العقيدة والمنهج، والشريعة والأخلاق والسلوك، وأنهم هم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، التي أمر الله باتباعها، ومن تبعهم كان منهم، ومن خالفهم كان ضالًا بقدر مخالفته لهم. وأشهد أن الساعة حقّ، وأن الله يبعث من في القبور، فإما إلى نعيم مُقيم، وإما إلى سواء الجحيم. وأشهد أن ثمة عذابًا في القبر وسؤالًا، وحسابًا يوم الدين وكتابًا، وميزانًا وصراطًا، ورؤية لله للمؤمنين عيانًا. وأن مصادر التشريع الأساس: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ، وإجماع المسلمين، والاجتهاد، ومن أهم طرقه الاستدلال والقياس، وغيره من القواعد الأصولية التي اتفق عليها المسلمون، والاجتهاد لأهله وبشروطه ماض إلى يوم القيامة.

1 / 16

الإسلام دين الحق، والعدل والسلام: لقد كان الإسلام وما يزال دين الحق والوئام، ودين العدل والسلام. وذلك من وجوه كثيرة أهمها ثلاثة: الوجه الأول: أنه من لدن عليم خبير، حكيم قدير. فمن كان عليمًا خبيرًا، وضع دينًا عظيمًا دقيقًا، ومن كان قديرًا حكيمًا، وضع تشريعًا قويمًا حكيمًا يناسب كل زمان، ويوافق طبيعة كل إنسان، وينشر العدل والإحسان، في كل صعيد وكل مكان ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ٢]. أفلا يعلم العليم الخبير بأحوال العباد الذين خلقهم، ما يصلحهم وما يفسدهم؟ ! قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: (٦٧)]. أفلا يضع القدير الحكيم، دينًا قيمًا، وتشريعًا حكيمًا، يصلح أحوالهم، ويناسب حياتهم ومعاشهم؟ ! ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النحل: ٦٠]. فحري حينئذ بمن عمل بتشريع الحكيم العليم أن يوفق للحياة الطيبة ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧]. ولهذا توافقت شريعة الإسلام، وسنن الله الكونية، وفطرة الإنسان الخلقية، توافقًا عجيبًا، وانسجمت انسجامًا بديعًا ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: (٥٤)]. فمن خلق فهو أحق بوضع تشريع لخلقه يناسبهم، وإنزال أوامر لعباده تصلحهم، كيف لا؟ ! وهو ﷿ الذي فطرهم، وخلق سنن الكون، وهو الذي يعلم ما يوافقهم وينافرهم، ويعلم سرهم وحوائجهم، ونياتهم وأحوالهم. وقال تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ [الفرقان: (٢٥)]. الوجه الثاني:

1 / 17

ما يظهر للعقلاء من حقيقة تعليماته، وإشراقة أحكامه، وسر عباداته. فإن من تأمل الإسلام بعقل وفطنة، يجد في عقيدته الوضوح والصفاء، ويلفي في توحيده المتانة والشفاء كل الشفاء، لما يختلج في الصدور، وتتساءل عنه العقول. ومن فكّر بوعي في العبادات، وجد في الصلاة والصوم والصدقات، وفي حفظ الأعراض وتحريم المحرمات، سرًا عظيمًا، وهدفًا ساميًا في تزكية النفوس، وصلاحًا قويًا للأبدان، واستقامة عظيمة للأعمال. ومن تأمل قواعد التوارث في الإسلام -على سبيل المثال- يذهل لعظمتها، ودقتها وتفصيل توزيعها، وموافقتها للطبيعة البشرية التي فطر الله الناس عليها، على مر العصور، في شأن القرابة، وفي شأن حب المال، فالوالدان والأولاد هم أعز القرابة، لذلك كان لهم حظ وافر، وأنصبة موزونة، وانظر بتفكر كيف ينقص حظ الأب والأم والزوجة حين يكون للميت أولاد، ونقصان حظهم من المال مقبول منهم بكل رضى، لأنه سيعود على الأولاد الذين يحبونهم، لا على غيرهم، والأولاد أحوج إليه منهم في الغالب، فسبحان الله ما أعلمه وما أحكمه! كما تتجلى عظمة الإسلام، فيما أمر به من التعاون والتكافل، والتسامح وصلة الأرحام، وصنع المعروف، ومعالجة القضايا الاجتماعية، ومبادئ الحياة الزوجية، وقد أعطى الإسلام نصيبًا وافرًا للاهتمام بحسن الأخلاق، لما له من تأثير بالغ في تعاضد المجتمع وقوته، وحسبنا حديث رسول الله ﷺ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [رواه أحمد (٢/ ٣٩٨) والبخاري في الأدب المفرد (٢٧٣) وصححه شيخنا الألباني]. وتظهر متانة الإسلام، في بناء مجتمع يسوده العدل والأمان، وتتضح وضوحًا جليًا في أوامره وأحكامه بالعدل بين بني الإنسان، فلا فرق بين ذكر وأنثى، ولا عربي وأعجمي، ولا أبيض ولا أسود، ولا غني ولا فقير، ولا وجيه ولا صعلوك في المعاملات.

1 / 18

وأما عند الله: فميزانهم التقوى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: (١٣)]. وقال ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم: (٤/ ١٩٨٦)، وأحمد: (٢/ ٤٨٤)، وابن ماجه (٤١٤٣)]. وجعل من يدخل في دينه كلهم أمة واحدة، لا شعوبية بينهم تشتتها، ولا حزبية تفرقها، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: (٥٢)]. الوجه الثالث: من أكبر الأدلة على عدل هذا الدين ونشره للسلام، ذلك الواقع الذي يعيشه المسلمون حين يعملون بهذا الدين على علم وصدق، إذ ينعمون بالأمن والسلام، والتعاون والتكافل. فيعدل فيهم راعيهم، وهم يطيعونه ولو قصر فيهم، ويُعين قويُّهم ضعيفهم، ويكفي غنيهم فقيرهم. ومن أكبر البراهين على هذا: الواقع الطيب الذي عاشه الذين عملوا بالإسلام قلبًا وقالبًا، في العصور الأولى أيام الفتوح، فما نزل الفاتحون بلدًا إلا وسادها الأمان، ولا حل مصرًا إلا وعلاها العدل، ولا أدل على ذلك من دخول الناس -وقتئذ- في دين الله أفواجًا، واستمرارهم على هذا الدين، وقيامهم بعد مئات السنين -في أفغانستان، وفي الشيشان وفي غيرها- بنصرة هذا الدين، والمطالبة به، في الوقت الذي تتهاوى فيه عروش الشيوعية، وتذوب دعوة الصليب، ويخرج المستعمر الصليبي مقهورًا ملعونًا من كل البلاد التي استعمرها، ولم يستطع أن يُنّصر مسلمًا واحدًا. كل ذلك دليل على أصالة هذا الدين، وما فيه من تعليمات سامية. اقرأ إن شئت سورة الحجرات، وتدبر ما فيها من الآيات العظيمات ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ثم تدبر كذلك قوله ﷺ: «وكونوا عباد الله إخواننا» [البخاري: (٦٠٧٦) في الأدب، ومسلم: (٢٥٥٩)، في البر والصلة، عن أنس].

1 / 19

والعاملون بالإسلام يجب أن يكونوا أمة واحدة، إذا اشتكى منها عضو تداعى لها سائر الجسد بالسهر والحمى (١). قال ﷺ: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» [البخاري: (٢٤٤٦) مسلم: (٢٥٨٥) عن أبي موسى الأشعري]. ولقد تحقق ذلك بما كان عليه صحابة رسول الله ﷺ، حين أخلصوا النية، وأحسنوا الاتباع في العمل، فبدا فيهم الإسلام نورًا يستضاء بهديهم، ومثلًا يضرب للناس من بعدهم، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: (٩٧)]. واعلم -رحمك الله- أن الإسلام كلَّه حق وعدل، بأصوله وفروعه، وشُعَبِه كلها، دقِّها وجلها، من قوله ﷺ: «لا إله إلا الله ... إلى: إماطة الأذى ...» ليس فيها قشور ولا تافه، ولا تعقيد ولا حرج، بل كلها يسر ونفع، خير وبركة، سعادة وطمأنينة، ومن اعتقد بما يخالف هذا استتيب. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجر: (٧٨)]. وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: (١٨٥)]. وشُعب الإيمان مراتب، وبينها فوارق في الرتبة والأجر، والحكم والأثر، والعمل فيها حسب الاستطاعة، والدعوة فيها بالتدرج من المهم إلى الأهم، من التوحيد إلى العبادات، إلى الأخلاق، ولا يمنع ذلك الاشتراك أحيانًا. ولا يمنع هذا التدرج من اشتراكهم في الدعوة أحيانًا، ولا يمنع كذلك أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، حسب الشروط الشرعية. ولذلك كان هذا الإسلام دين الحق والعدل والسلام، وصالحًا لكل زمان ومكان، ولكل أمة وإنسان.

(١) نحن نتكلم عما أمر به الإسلام، لا ما عليه المسلمون الآن.

1 / 20