83

Majallat al-Bayān

مجلة البيان

Genres

القضاء والقدر ومسئولية الإنسان
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله
الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ
الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: في هذه المقالة سنبحث في أمر مهم، يهم جميع المسلمين، ألا وهو: قضاء الله وقدره، الذي ما زال النزاع فيه بين الأمة قديمًا وحديثًا، فقد روي: أن
رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر
فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه إنما أهلك من كان قبلهم هذا الجدال.
ولكن فتح الله تعالى على عباده المؤمنين - السلف الصالح - الذين سلكوا
طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا، وذلك أن قضاء الله وقدره هو من مقتضى
ربوبيته ﵎ التي هي أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم ألا
وهى:
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
وتوحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته.
فالإيمان بالقدر من مقتضى ربوبية الله ﷿، ولهذا قال الإمام أحمد:
القدر قدرة الله، لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضًا سر الله تعالى
المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وبحمده؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في
الكتاب المكنون الذي لا يطلع عليه أحد، ونحن لا نعلم بما قدره الله تعالى لنا أو
علينا، أو بما قدره في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه.
إن فرق الأمة - هذه الأمة الإسلامية - انقسموا في القدر إلى ثلاثة أقسام:
فقسم غالوا في إثباته وسلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إن العبد ليس له قدرة ولا اختيار، إنما هو مسير لا مخير، ولا فرق بين فعل العبد الواقع
باختياره، وبين فعله الواقع بغير اختياره، ولا شك أن هؤلاء ضالون، لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين فعل الاختيار وبين فعل الإجبار.
قسم آخر غالوا في إثبات قدرة العبد واختياره، حتى نفوا أن يكون لله تعالى
مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد، وزعموا أن العبد مستقل بعمله، حتى
غلا طائفة منهم وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم
وهؤلاء أيضًا غلوا وتطرفوا تطرفًا عظيمًا في إثبات قدرة العبد واختياره، فهدى الله
الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وسلك القسم الثالث أهل السنة والجماعة في
ذلك مسلكًا وسطًا قائمًا على الدليل الشرعي والدليل العقلي، وقالوا: إن الأفعال التي
يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
ما يجريه الله ﵎ من فعله في مخلوقاته لهذا لا اختيار لأحد فيه،
كإنزال المطر وإنبات الزرع وكالإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من
الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله، فإن هذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار
وليس لأحد فيها مشيئة، وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار.
والقسم الثاني:
ما يفعله الناس بل ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فإن هذه - أعني
هذه الأفعال - تكون باختيار فاعليها وإرادتهم؛ لأن الله ﵎ جعل ذلك
إليهم، قال الله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ] وقال تعالى: [مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] . والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختيار،
وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار، الإنسان ينزل من السطح في السلم نزولًا
اختياريًا يعرف أنه مختار، ولكنه يسقط هاويًا من السطح ويعرف أنه ليس مختارًا
لذلك، ويعرف الفرق بين الفعلين، وأن الثاني إجبار والأول اختيار، وكل إنسان
يعرف ذلك، كذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فكان البول
يخرج منه بغير اختيار، وإذا كان سليمًا من هذا المرض فإن البول يخرج منه
باختياره، ويعرف الفرق بين هذا وبين هذا،، ولا أحد ينكر الفرق بينهما، وهكذا
جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختياريًا وبين ما يقع اضطرارًا
وإجبارًا، بل إن من رحمة الله ﷿ أن من الأفعال ما هو من جنس ما يقع
باختيار العبد ولكنه يكتب بغير اختياره، أي أنه لا يلحقه منه شيء كما في فعل
الناسي والنائم، يقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: [ونُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ
وذَاتَ الشِّمَالِ] وهم الذين يتقلبون ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه؛ لأن النائم لا
فعل له ولا اختيار له، فنسب فعله إلى الله ﷿، ويقول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله ...
وسقاه)، فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله ﷿؛ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره.
كلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره، وما يجده من
خفة في نفسه أحيانًا بغير اختياره، ولا يدري ما سببه، وبين أن يكون الألم هذا
ناشئًا من فعل هو الذي اكتسبه أو هذا الفرح ناشئًا من فعل هو الذي اكتسبه، وهذا
الأمر ولله الحمد أمر واضح لا غبار عليه.
إننا لو قلنا بقول الفريق الأول - الذين غالوا في اثبات القدر - لبطلت
الشريعة من أصلها، لأنه في الحقيقة إذا قلنا: إن فعل العبد ليس فيه اختيار صار
لا يحمد على فعل محمود، ولا يلام على فعل مذموم؛ لأنه في الحقيقة بغير اختياره
وبغير إرادة منه، وعلى هذا فالنتيجة إذًا أن الله ﵎ يكون ظالمًا لمن
عصاه إذا عاقبه وعذبه على معصيته؛ لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا
إرادة، وهذا بلا شك مخالف للقرآن صريحًا. يقول الله ﵎: [وقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
مُّرِيبٍ (٢٥) الَذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ
رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ولَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وقَدْ قَدَّمْتُ
إلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ومَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ]، فيبين سبحانه أن
هذا العقاب منه ليس ظلمًا بل هو كمال العدل؛ لأنه قدم إليهم بالوعيد، وبين لهم
الطرق، فبين لهم الحق وبين لهم الباطل، ولكنهم اختاروا لأنفسهم أن يسلكوا
طريق الباطل، فلم يبق لهم حجة عند الله ﷿. لو قلنا بهذا القول الباطل
لبطل قول الله تعالى. [رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ]، فإن الله ﵎ نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل،
لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك، ولو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية
حتى بعد بعث الرسل؛ لأن قدر الله لم يزل ولا يزال موجودًا قبل إرسال الرسل
وبعد إرسال الرسل: إذن فهذا القول تبطله النصوص ويبطله الواقع، كما فصلنا
في الأمثلة السابقة.
أما من غالوا في إثبات فعل العبد وأنه مستقل به فإن هؤلاء أيضًا ترد عليهم
النصوص والواقع، ذلك لأن النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة
الله ﷿ [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (٢٨) ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
العَالَمِينَ (٢٩)]، [ورَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ]، [واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ
السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]، والذين يقولون بهذا القول هم في
الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية، وهم أيضًا مدعون بأن في ملك الله
تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه، والله ﵎ شاء لكل شيء، خالق لكل شيء،
مقدر لكل شيء، وهم أيضًا مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله
﷿، ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة وبين الذات، ولا بين المعنى وبين
الجسد، إذن فالكل لله ﷿، ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريده تبارك
وتعالى، ولكن يبقى علينا إذا كان الأمر راجعًا إلى مشيئة الله ﵎ وأن
الأمر كله بيده. فما طريق الإنسان إذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر
عليه أن يضل ولايهتدي؟ نقول - الجواب عن ذلك -: إن الله ﵎ إنما
يهدي من كان أهلًا للهداية، ويضل من كان أهلًا للضلالة؛ يقول الله ﵎: [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ]، ويقول تعالى: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] .
فبين الله ﵎ أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد
نفسه، والعبد كما أسلفنا قريبًا لا يدري ما قدر الله له؛ لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد
وقوع المقدور فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالًا، أم أن يكون مهتديًا، فما
باله يسلك طريق الضلال، ثم يحتج بأن الله قدر له ذلك، أفلا يجدر به أن يسلك
طريق الهداية ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم، أيحق له أو
أيجدر به أن يكون جبريًا عند الضلالة، وأن يكون قدريًا عند الطاعة؟ ! كلا لا
يليق بالإنسان أن يكون جبريًا عند الضلالة والمعصية، فإذا ضل أو عصى الله قال: هذا أمر كتب عليّ، وقدر عليّ، ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله وقدر، وإذا
كان في جانب الطاعة ووفقه الله تعالى للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه، ثم منَّ به
على الله وقال: أنا أتيت به من عند نفسي فيكون قدريًا في جانب الطاعة ويكون
جبريًا في جانب المعصية. هذا لا يمكن أبدًا؛ فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله
اختيار، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وبأخفى من أبواب طلب العلم،
والإنسان نحن نعرف جميعًا أنه قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى
بأسباب الرزق، يسعى بها في بلده وخارج بلده ويمينًا وشمالًا، ليس يجلس في بيته
ويقول: إن قدر لي رزق فإنه يأتيني، تجده يسعى بأسباب الرزق مع أن الرزق
نفسه مقرون بالعمل، كما ثبت عن النبيّ ﷺ من حديث ابن
مسعود ﵁: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين
يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد) .
هذا الرزق أيضًا مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب، فكذلك
الرزق فما بالك أنت تذهب يمينًا وشمالًا وتجوب الأرض والفيافي لطلب الرزق ولا
تعمل عملًا صالحًا لطلب رزق الآخرة بدار النعيم، إن البابين واحد وليس بينهما
فرق، فكما أنك تسعى لرزقك، وتسعى لحياتك وامتداد أجلك، إذا مرضت بمرض
ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الذي يداوي مرضك ومع ذلك فإن لك ما قدر
من الأجل لا يزيد ولا ينقص، لست تصمت على هذا وتقول: سأبقى في بيتي
مريضًا طريحًا، وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد، نجدك تسعى بكل ما تستطيع
من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس إلى أن يقدر الله
الشفاء على يديه، إذًا لماذا لا يكون طريقك في عمل الآخرة وفي العمل الصالح
كطريقك فيما تعمل للدنيا، وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم
عنه، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى الفوز والسلامة، وطريق
يؤدي بك إلى الهلاك والعطب، وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من
يمنعك من هذا الطريق اليمين، ولا من هذا الطريق الشمال، وإذا شئت ذهبت إلى
هذا، وإذا شئت ذهبت إلى هذا، فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول: إنه قد
قدر عليّ، أفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول: إنه قد قدّر لي، لو أنك
أردت السفر إلى الرياض، وكان أمامك طريقان، أحدهما معبد قصير، والثاني
غير معبد وطويل لوجدنا أنك تختار المعبد القصير المستقيم، ولا تذهب إلى
الطريق الذي ليس بمعبد وليس بمستقيم، هذا الطريق الحسي إذن، فالطريق
المعنوي موازن له ولا يختلف عنه أبدًا، ولكن النفوس وأهواءها هي التي تتحكم
في العقل وتغلب على العقل، والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالبًا على هواه، وهو
إذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه
ويسره.
بعد هذه المقدمة التي تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيرًا
اختياريًا ليس إجباريًا ولا اضطراريًا، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيرًا اختياريًا،
وهو إن شاء جعل هذه السلعة تجارته أو السلعة الأخرى أو الثالثة أو الرابعة،
فكذلك أيضًا هو في سيره إلى الآخرة يسير سيرًا اختياريًا، بل إن طريق الآخرة
أبين بكثير من طريق الدنيا، لأن الذي بيّن طريق الآخرة هو الله تعالى في كتابه
وعلى لسان رسوله ﷺ، فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر
بيانًا وأجلى وضوحًا من طرق الدنيا، ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا
التي ليس ضامنًا لنتائجها.. ويدع طريق الآخرة التي نتائجها مضمونة؛ لأنها ثابتة
بوعد الله، والله ﵎ لا يخلف الميعاد.
بعد هذه المقدمة نقول:
إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوه عقيدتهم ومذهبهم. إن الإنسان
يفعل باختيار وإنه يسير كما يريد، ولكن إرادته واختياره تابعة لإرادة الله ومشيئته،
ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئته تعالى تابعة لحكمته، وأنه ﷾
ليست مشيئته مشيئة مطلقة مجردة، ولكنها مشيئة تابعة لحكمته؛ لأن من أسماء الله
تعالى: [الحكيم]، والحكيم هو: الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كونًا وشرعًا
ويحكمها عملًا وصنعًا، والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها، لمن يعلم
﷾ أنه يريد الحق وأن قلبه يريد الاستقامة، ويقدر الضلالة لمن لم يكن
كذلك، لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء، فإن
حكمة الله ﵎ تأبى أن يكون هذا من المهتدين، إلا أن يجدد الله له عزمًا
ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى، فالله تعالى على كل شيء قدير، ولكن حكمة الله
تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها.
يقول أهل السنة والجماعة: إن قضاء الله وقدره أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة العلم:
وهى أن يؤمن الإنسان إيمانًا جازمًا بأن الله ﵎ بكل شيء عليم،
وأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض جملة وتفصيلًا، سواء كان ذلك من فعله
أو من فعل المخلوقات، وأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
وأما المرتبة الثانية: فهي مرتبة الكتابة:
وهي أن الله ﵎ كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء،
وقد جمع الله بين هاتين المرتبتين في قوله: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] . فبدًا بالعلم وقال: إن ذلك في
كتاب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء في الحديث عن رسول الله -
ﷺ: (إن أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: ربي،
ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم
القيامة) . ولهذا سئل النبي ﷺ: عما نعمله، أشيء مستقبل أم
شيء قد قضي وفرغ منه. فقال: (إنه قد قضي) قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع
العمل ونتكل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . فقال لهم الرسول - صلى
الله عليه وسلم -: (اعملوا) . فأنت يا أخي اعمل؛ فأنت ميسر لما خلقت له. ثم
تلا قوله تعالى. [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (٥) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى (٧) وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى (٨) وكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى] .
هاتان المرتبتان: العلم والكتابة.
أما المرتبة الثالثة: فهى مرتبة المشيئة:
بمعنى: أن الله ﵎ شاء لكل موجود أو معدوم في السموات أو في
الأرض، فما وجد موجود إلا بمشيئة الله، ولا عدم معدوم إلا بمشيئة الله، وهذا
ظاهر في القرآن الكريم، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله، ومشيئته في فعل
العباد؛ فقال الله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (٢٨) ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] . وقال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ] [ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
فَعَلُوهُ] أية أخرى، وقال تعالى: [ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ]، فبين تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته، وأما فعله تعالى فتعليقه بالمشيئة كثير، قال الله تعالى: [ولَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا]، [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً] . إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله ﵎، فإذن لا
يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة وشاملة لكل موجود أو معدوم فما
من معدوم إلا وقد شاء الله عدمه، وما من موجود إلا قد شاء الله تعالى وجوده ولا
يمكن أن يقع شيء في السموات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق:
أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السموات
والارض إلا الله خلقه، حتى الموت يخلقه الله ﵎، وإن كان هو عدم
الحياة، يقول تعالى: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا]، فكل
شيء في السموات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه، ولا خالق إلا الله، وكلنا
يعلم أن ما يقع من فعله تعالى فإنه مخلوق له، فالسموات والأرض والجبال والأنهار
والشمس والقمر والنجوم والرياح كلها نعرف أنها مخلوقة من مخلوقات الله، وكذلك
ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات، أحوال كلها مخلوقة لله ﷿،
ولكن قد يشكل على المرء كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري: إنه
مخلوق لله ﷿، نقول: نعم، يصح أن نقول ذلك؛ لأن فعلنا وقولنا ناتج عن
أمرين، أحدهما: القدرة، والثاني: الإرادة، فإذا كان فعل العبد ناتجًا عن إرادته
وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة، وجعل قلب الإنسان قابلًا لهذه الإرادة هو الله
﷿، وكذلك أيضًا الذي خلق فيه القدرة هو الله ﷿، ويخلق السبب التام
الذي يتولد عنه المسبب، نقول: إن خالق السبب التام خالق للمسبب. أي أن خالق
المؤثر خالق للأثر، خالق السبب خالق للمسبب، فوجه كونه تعالى خالقًا لفعل العبد
نقول: إن فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما: الإرادة، والقدرة؛ لولا الإرادة لم
يفعل، ولولا القدرة لم يفعل؛ لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل، وإذا كان قادرًا ولم
يرد لم يكن الفعل، فإذا كان الفعل ناتجًا عن إرادة جازمة وقدرة كاملة، فالذي خلق
الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله، وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول:
إن الله تعالى خالق لفعل العبد، وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر،
وهو المصلي، وهو الصائم، وهو المزكي، وهو الحاج، وهو المعتمر، وهو
العاصي، وهو المطيع، ولكن هذه الأفعال كلها كانت وجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين
لله ﷿، وبهذا علم كيف يكون الإنسان، وكيف يكون فعل الإنسان مخلوقًا لله
﷿. والأمر - ولله الحمد - واضح، ولولا أن التساؤلات كثرت، ولولا أن
الأمر اشتبه على كثير من الناس لكنا نقول: إن الخوض في هذا، نوع من فضول
القول، ولكن نظرًا إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت، وصار الفاسق يريد أن يبرر
فسقه بشيء يقدره في ذهنه، ولو تدبر الأمر لوجد أنه على خلاف ما قدره في ذهنه، لولا هذا ما تكلمنا في هذا الأمر.
إذن القدر والإيمان بالقدر يكون له مراتب أربع، المرتبة الأولى: العلم،
والثانية: الكتابة، والثالثة: المشيئة، والرابعة: الخلق، كل هذا يجب أن يثبت لله
﷿، وهذا لا ينافى أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوي الإرادة، كما أننا
نقول: النار تحرق، والذي خلق الإحراق فيها هو الله بلا شك، ليست محرقة
بطبيعتها، بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة، ولهذا النار التي أُلقي فيها
إبراهيم لم تكن محرقة؛ لأن الله تعالى قال لها: [كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ]، فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، فالنار لذاتها لا تحرق، ولكن لأن الله خلق
فيها قوة الإحراق، قوة الإحراق هي مقابل فعل العبد، كإرادة العبد وقدرته،
فبالإرادة والقدرة يكون الفعل، وبالمادة المحرقة في النار يكون الإحراق فلا فرق
بين هذا وهذا، ولكن العبد لما كان له إرادة وشعور واختيار وعقل صار الفعل
ينسب إليه حقيقة وحكمًا، وصار مؤاخذًا بالمخالفة، معاقبًا عليها؛ لأنه يفعل
باختيار ويدع باختيار، وأخيرًا نقول: إن على المؤمن أن يرضى بالله تعالى ربًا،
ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضائه وقدره، ويعلم أنه لا فرق في هذا بين
الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها، وبين الآجال التي يدافعها، الكل
بابه سواء، والكل مكتوب، والكل مقدر، والإنسان ميسر لما خلق له..
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأن
يكتب لنا ولكم الصلاح في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

5 / 14