Mithl Dhib Yacwi Taht Qamar
مثل ذئب يعوي تحت القمر: نصوص شعرية فلسفية
Genres
التأجيل بالنسبة لي يعني التشبث بالحياة، رفض الحقيقة. أعتقد أنه من رحمة القدير بنا أنه منحنا هذه النعمة: التيه، القدرة على النسيان، التأجيل الدائم لمواجهة الحقيقة.
هكذا أمضي تحت المطر الخفيف في الشارع الطويل الذي يفصل الثانوية عن المنزل، من هنا إلى هناك تزدحم الأفكار في ذهني، كما لو أن رأسي يشبه محطة لا تتوقف عن الحركة. تؤلمني الوجوه العابرة في سطحية الحياة، في الضمور اللاإنساني لمعنى الحياة المعاصرة. ما هو مؤسف هو أن اللامبالاة أصبح لها طابع قومي. البلادة الألفية هذه هي أولى علامات الانحطاط البشري الأخير. هذا هو زمن الكينونة الحرجة.
في المساء عندما أكون في المزرعة، أندس في بركة الحزن، في العمق الباطني للأشياء، كل الأشياء لها ما تقوله لو تمكنت فعلا من الكلام. الكلب الذي يتعقبني، ما الذي كان سيقوله لو عبر عن وجوده؟ القط الغارق في تأملاته، أشجار التين المنتصبة هناك بكل بهاء. يظهر لي أن كل شيء في هذا العالم يتكلم لغة خاصة به. الطبيعة كلها محرومة من التعبير، لكنها ليست محرومة من اللغة. واللغة هي البئر المدهشة التي تخرج منها المعاني، إنها عطاء السماء في هذا العالم. السعادة بالنسبة لي تتمثل في جرعات الإحساس، كلما توقفت عن التفكير وانغمست في بواطني أكون قريبا من ذاتي، قريبا من تلك الأفكار التي ليس مصدرها الفكر، بل مصدرها الشعور. أجلس لساعات تحت شجرة التين في صمت كلي حتى بيني وبين نفسي. أريد أن أترك الأشياء تأخذ فرصتها في الكلام، أن تفصح هذه الشجرة عن شعرها الخاص، أن أستبطن التأملات العميقة لهذا القط الممدد في بهو المنزل، أن أترك العصافير تنشد فلسفتها الخاصة، فلسفة بدون «أنا» مفكرة، بدون مفاهيم أو حجج منطقية.
لو كانت حياتي ستئول برمتها إلى الزوال لما كانت هناك أية مشكلة، لكنني مع ذلك هنا، تحت هذا المطر الخفيف الذي يداعب وجهي. هدوء الصباح اللامعبر عنه، النعومة التي لا يمكن نقلها إلى كلمات. يبدو لي أن أعظم فلسفة لن تظهر أبدا إلى الوجود، وأجمل قصيدة لن يتمكن أي شاعر من كتابتها. سيظل دائما هناك معنى غائب، جمال غير معبر عنه، لن تطلع عليه أية امرأة من البشر. الحقيقة النهائية هي أنني لن أصل أبدا إلى الحقيقة.
الفصل الخامس
الصدفة والضرورة
كيف يمكنني أن أفكر في مصادفات الحياة، فيما هو غير قابل للتفكير، لا يمكننا أن نفكر في الصدفة بالضبط؛ لأنها صدفة، شيء غير متوقع. حياتي برمتها سلسلة لا نهائية من الصدف بدءا من ذلك الحيوان المنوي الذي كنته، والذي استطاع أن يركب القطار السريع إلى هناك حيث كانت الحياة تنتظرني، إلى الصدفة التي جعلتني أعبر كل تلك البرك الداكنة لطفولتي، المليئة بالفقر والملح ويرقانات الوحدة.
وأخيرا صدفة قطار آخر جمعني بزوجتي، ماذا لو لم أركب ذلك المساء؟ ماذا لو كنت قد تأخرت وفوت الموعد؟ هل كان سيحلق هذان العصفوران فوق رأسي؟
يقال إن الصدفة إذا تكررت أصبحت ضرورة، لكن الشيء الوحيد الذي يتكرر في حياتي هو السهاد والأرق، حياتي نشيد من أناشيد عمق الليل، أعيش في انتظار صدفة أخرى، ورقة يانصيب قد أجدها بين الكتب، أو بين الأصدقاء، أو بين الحيوانات والدواجن التي تكبر في مزرعتي.
أو ربما قطار آخر، أزرق هذه المرة، الصدفة التي لا بد منها، الضرورة التي لا يريد أحد الاعتراف بها، النفق المظلم نحو الأبدية.
Unknown page