وكانت العادة المتبعة قديما في استقبال الملوك، أن القوم الذين يحظون بمقابلة ملك من الملوك ينبغي لهم أن يركعوا له سجدا ويقبلوا الأرض بين يديه، ولقد اندثرت هذه العادة الآن، فلا يبلغ حب الملوك وإظهار الطاعة لهم حد السجود والركوع بين أيديهم.
لما دخل فرعون انحنى الجميع أمامه باحترام لا مثيل له، ورفعوا أيديهم كما لو كانوا في صلاة دينية «للرب الطيب»، وانتظروا صامتين متهيبين حتى يبدأ الملك بالكلام.
وصوب فرعون نظره إلى الجمع المحتشد أمامه، ونقل بصره من واحد إلى آخر، حتى استقر على قائد قوات طيبة، فسأله عن مقدار استعداد جيشه.
هنا تقدم الجندي باحترام، وانحنى بتهيب وإجلال، ولكنه لم يتفوه بكلمة في الموضوع؛ لأنه لم تكن العادة أن يتكلم مباشرة، وراح يلقي قطعة مديح محفوظة تشيد بعظمة الملك وشجاعته وإقدامه في الحروب، قائلا إنه حيث تجري جياده تفر أمامها جموع الأعداء، ثم أجاب بعد ذلك على سؤال الملك. وعلى هذا المنوال تقدم القواد والنبلاء والمستشارون ليجيبوا على الأسئلة الموجهة إليهم، وليبدوا آراءهم فيما يبسط أمامهم من أمور الدولة.
ولما انتهى الاجتماع، أصدر الملك أوامره بإعداد عربة ليحضر حفلة المعبد الدينية، وخرج كما دخل بين صفوف ساجدة بين يديه مستغرقة في عبادتها.
بعد ذلك رأينا الباب الحصين يفتح على مصراعيه، وخرجت ثلة من الجنود رافعة الرماح، ثم وقفت على مسافة قصيرة من باب القصر، وعلى أثرهم خرج الحرس السرداني مثقلا بالأسلحة، وعلى رءوسهم الخوذ اللامعة، وبأيديهم الدروع المتينة والسيوف الطويلة المسلولة، وقد اصطفوا على جانبي الطريق، ووقفوا كالتماثيل مترقبين ظهور فرعون.
وسمعنا أصوات عجلات، وظهرت أمامنا عربة فرعون وهي تسير به شطر طريق المعبد. وقد سارت الجنود الرافعة الرماح في المقدمة، أما السردانيون فقد جروا بحذاء عربة الملك على كل من جانبيها، ولم يتأخروا عنها قيد شعرة رغم تثقلهم بالأسلحة.
وما إن رأت الجموع المزدحمة عربة الملك، ووقعت أبصارهم على فرعون، حتى سجدوا على الأرض، ومسوا التراب بجباههم، وفرعون ينظر أمامه لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وكان واقفا منتصبا لا يتمايل - ولو قليلا - رغم اهتزاز العربة الشديد، وكان ممسكا بيده عصا معقوفة وسوطا، وهما الرمز الملكي المصري، وعلى رأسه خوذة الحرب، وفي الجهة الأمامية من هذه الخوذة أفعى مكونة قمة عالية بعدة لفات حول نفسها. وكان شكلها مخيفا كأنها تهدد أعداء مصر. وكان يزين طلعته الجميلة بلحية مستعارة، ويغطي جسمه القوي الجميل بثوب من الكتان الأبيض، وحول وسطه نطاق ذهبي تصل أهدابه إلى ركبتيه، وفي طرفيه حيتان مزخرفتان، ويجري بجانب العربة حاملوا المراوح من ريش النعام، يحركونها في أثناء جريهم دون أن يضطربوا لذلك، ومهارتهم تدعو للإعجاب والدهشة! ويتبع عربة الملك عربات الحاشية، وهي - على العموم - أقل فخامة وعظمة من عربة الملك. وقد جلست في العربة الأولى الملكة، وبيدها زهرة اللوتس الجميلة يتضوع شذاها.
أما الذين في العربات الأخرى فجلهم أمراء يجري في عروقهم الدم الفرعوني، وقد شاهدنا بينهم الأمير الساحر خامواس، وكان أعظم ساحر في مصر، ومن معجزاته قدرته على استحضار الأموات من القبور! وكان الناس يجفلون أمام بصره الحاد، ويتهامسون فيما بينهم وبين أنفسهم، بأن درج البردي الذي يضمه إلى صدره كان قد أخذه من قبر ساحر من ساحري الأيام القديمة.
وفي دقائق معدودة مر الموكب بعد أن بهر الأنظار بفخامته، وبالأشعات المنعكسة على أسلحته وجنوده والجواهر التي على أفراده العظام، وجرت خلفه الجموع الغفيرة نحو معبد الكرنك.
Unknown page