Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
فعلى الرغم من اشتباكه في حروب عظمى - اضطر إلى الدخول فيها إما لحفظ الأمن في البلاد؛ وإما امتثالا لأوامر سلطان تركيا؛ أو لرغبة في التوسع وفي إحياء شأن الأمة العربية - أقبل على إنشاء وسائل ري، يعتبرها التاريخ أسطع ماسة في تاج مجده، وخير وسام على ثوب فخره. أهمها: ترعتا المحمودية والخطاطبة في البحيرة؛ ومد ترعة الجعفرية؛ وترعتا مسد الخضراء، والبقيدي في الغربية؛ والنعناعية، والسرساوية، والباجورية في المنوفية؛ والبوهية، والمنصورية، وترعة دوده، والشرقاوية في الدقهلية - وقد أنشأ هذه الترعة الأخيرة، لأن مزارعي الأطيان التي على الفرع الدمياطي، على الرغم من سد الفرعونية، لم يفتروا يشتكون من قلة المياه وعدم كفايتها لمقاومة دخول البحر الملح في النيل بالقرب من المنصورة، وأنشأهما في جهة أعلى بكثير من النقطة التي يصل عندها امتزاج الماء العذب بالماء الملح: فجعل مزارع الأرز ضامنة الحصول على الماء الجيد طوال العام - ومصرف بلبيس، وترعة الوادي في الشرقية؛ والزعفرانية، والباسوسية، والشرقاوة في القليوبية؛ وبضع جداول أخرى في الصعيد، لا نأتي على ذكرها؛ لأن الوجه القبلي ما فتئ قليل الري وغير منتظمه لغاية أيام (إسماعيل).
ولم يقتصر (محمد علي) على إنشاء هذه الترع؛ ولكنه أقام على معظمها قناطر حاجزة، مسهلة للري: لأنها بحفظها المياه في مستوى موافق من العلو تمكن من تسريبها إلى الأرض بمجرد قطع يعمل في هذه؛ أو من توصيلها إليها بواسطة آلات رافعة كالسواقي والتوابيت والشواديف، وقد أنشأ (محمد علي) منها في القطر عامة ما يزيد على خمسين ألفا، وبعض تلك القناطر على جانب عظيم من الأهمية.
وتوج كل ما عمله في هذا الباب المفيد بشروعه في إنشاء القناطر الخيرية الجليلة، الشاسعة الأطراف، البديعة الصنعة الهندسية، على فرعي النيل، في الموضع الذي أشار نابليون الأول في مذكراته بوجوب إقامتها عنده.
ولم يهمل في الوقت عينه، توسيع نطاق المواصلات؛ لعلمه أنه إذا تعذر نقل حاصلات الزراعة إلى حيث يسهل بيعها بأثمان موافقة، فإنها لا تلبث أن تتلف أو تباع بأثمان بخسة: فلا يعود الاشتغال في إنمائها يجدي؛ وتبور الفلاحة مع تمادي الأيام، ولو بلغت وسائل الري درجة الكمال، واتسع نطاقه إلى أقصى ما يتصوره الفكر؛ اللهم إلا إذا كانت تلك الوسائل طرق مواصلات أيضا.
فاجتهد أولا في جعل معظم ترع القطر الكبرى صالحة للملاحة كالنيل بتطهير مجراها بين حين وحين، ثم زاد عدد المراكب الماخرة فيها زيادة مطردة: فبينما كان الموجود منها على النيل، في أيام الاحتلال الفرنساوي، سبعمائة من أسوان إلى القاهرة؛ وتسعمائة من القاهرة إلى البحر الأبيض المتوسط، أصبح في سنة 1839 ثلاثة آلاف وثلاثمائة؛ منها ثمانمائة للحكومة خاصة، وذلك غير مراكب الصيد التي كانت تمخر في بحيرات البرلس والمنزلة وإدكو ومريوط.
ولما انتشر اختراع فلتن الأمريكي، وبنيت السفن البخارية أسرع (محمد علي) وبنى لنفسه واحدة منها كلها من حديد؛ ظنها الأهالي، أول ما رأوها، حيوانا بحريا ضخما ولد في مياه النيل حديثا، ولكنه لم يستطع تعميم استعمال ذلك الاختراع في النيل لعدم وجود مناجم فحم حجري في القطر.
ولم يكن، قبله، طرق في البلاد، بالرغم من أن جسور الترع كانت تصلح لهذا الغرض، لو خصت بشيء من العناية، ولكن حكام مصر الذين سبقوه على سدتها، كانوا، كلهم، من رأي ذلك التركي القائل بضرر إنشاء الطرق السلطانية؛ ووجوب تعطيل الموجود منها؛ لأنها بتسهيلها نقل المدافع من مكان إلى مكان، تمكن الأجانب من غزو البلاد، وأما عدمها، فيحول دون توغل أي جيش فاتح فيها.
4
فجعل (محمد علي) جسر ترعة المحمودية التي أنشأها، طريقا للمرور، واختط عدة طرق سلطانية أخرى، أهمها السكة التي بين مصر وقصره في شبرا، وهي من أجمل ما يكون، تظلل الأشجار الباسقة جانبيها، وفائدتها، لنقل حاصلات الأطيان المجاورة لها إلى العاصمة، لا تنكر.
على أن أهم طريق للمواصلات أوجدت في أيام الباشا العظيم، هي الطريق التي أنشأها الملازم الإنجليزي (واجهورن) ما بين الغرب والشرق الأقصى، وعرفت باسم «ذي أوڨر لاندروت»؛ وكانت، ما بين السويس والقاهرة والإسكندرية، ذات محطات ونظام وأدوات جعلتها مصلحة تامة المعنى، أطلق عليها اسم مصلحة «الترانزيت »، وكانت في بادئ أمرها إنجليزية محضة، وكل عمالها من الإنجليز، ولكن (محمد علي) تربص حتى تذرع بغلطة ارتكبها مديرها: فدفع تعويضات كافية لعمالها، وصرفهم، وأحل محلهم عمالا من لدنه، فصير المصلحة مصرية سنة 1845.
Unknown page