Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
ولما غربت الشمس وهبطت حرارة النهار، وانسدلت ظلال الغسق خرج البادشاه من سراي رأس التين، في أفخر عربات القصر المكشوفة، تجرها أربعة جياد مطهمة ناصعة البياض، ويتقدمها ثمانية عداءون بملابسهم المزركشة بالذهب، ونفر يسير من الحراس المرتدين ملابسهم الحمراء الساطعة؛ واجتاز - و(إسماعيل) على يساره، والعربات المقلة أمراء البيتين العثماني والعلوي تتلو عربته الفاخرة - شارع رأس التين، فشارع الميدان، فشارع نوبار، فالمنشية وباب رشيد، وقد اكتظت كلها بالمتفرجين وقوفا على جانبي الطريق، وتزينت بالرايات والأعلام الخفاقة، وازدانت بالأنوار المتألقة.
أما في الشوارع الآهلة بالسكان الوطنيين، فإن الرعايا كانوا واقفين على حافات حوانيتهم، المزينة بالبيارق، وقفة الخاشعين، يهتفون بملء أصواتهم «بادشا همز چوق يشا» وإذا ما دنا منهم الموكب يكادون يسجدون عبادة أمام جلالة الخليفة الفائت بينما أناس منهم ينثرون الورد والزهور في طريق الموكب، أو ينشرون في الهواء دخان البخور العطر ويحرقون العود والند، وجوقات موسيقية واقفة على بعد مائة متر الواحدة من الأخرى، تصدح بأطرب الأنغام فتشنف الأسماع وتشجي القلوب.
ولم يكن من نساء ولا أولاد إلا في نوافذ البيوت وعلى أسطحة المنازل، حيث كانت تزدحم الرءوس البيضاء والرءوس السوداء وتدوي الزغاريد والتهاليل.
وأما في الشوارع الآهلة بالأجانب، ولا سيما المنشية، فإن القبعات كانت تلوح في الهواء؛ وصيحات الابتهاج تملأ الفضاء؛ ويقتدي الأهالي بالغربيين فيصيحون معهم ويفوقونهم بأصواتهم، ويجتهدون في أن يظهروا لسلطانهم بحركاتهم وأنظارهم، مقدار الحب والإخلاص اللذين تكنهما قلوبهم له؛ بينما السيدات ينثرن من النوافذ باقات الزهور والرياحين أو يرفرفن بمناديلهن في الفضاء، وكانت الزينات يأخذ سناها بالأبصار، وعلى الأخص الزينة التي أقامها الكونت زيزينيا عند مدخل المنشية.
فلما فرغ السلطان من المرور عاد إلى سراي رأس التين من الطريق التي أتى منها بين مظاهر الإجلال والتعظيم.
وما استقر في قاعة جلوسه إلا وتألق حوله البر والبحر بالأنوار المختلفة الألوان البهية الأشكال؛ ودوت في الآفاق الألعاب النارية المتنوعة الأوضاع، وأخذت تتساقط، أمام نوافذه، بأشكال أهلة وبدور ونجوم، يأخذ سناها بالأبصار؛ واستمرت الحال كذلك حتى بعد منتصف الليل.
فلما كان اليوم التالي (يوم الأربعاء ثامن أبريل) حوالي الساعة العاشرة صباحا، استقبل السلطان، وبجانبه (إسماعيل باشا) وفؤاد باشا، قناصل الدول العامة القادمين للتهنئة بسلامة الوصول؛ وألقى عليهم خطبة جميلة، أعرب لهم فيها عن سروره بما رآه من أسباب العمران في القطر المصري الذي هو إحدى ممالكه الشاهانية؛ وعن نياته الطيبة، البارة برعاياه التي يرجو الله أن يمكنه من تحقيقها.
فترجم فؤاد باشا الخطبة لهم، فشكروا السلطان على ما تفضل به من مقابلتهم وخرجوا وألسنتهم تلهج بالثناء على مقاصده ونياته.
ولما كانت ساعات العصر، خرج عبد العزيز و(إسماعيل) وأمراء البيتين العثماني والعلوي وجميع رجال حاشيتهما للتفرج على قسم المدينة الغربي ، وساروا بعد ذلك بجانب ترعة المحمودية، وبعد أن استراح السلطان في بستان البرنس حليم (وهو الذي عرف، في أيامنا، بسراي نمرة 3 التي كانت مخصصة لسكنى الغازي أحمد مختار باشا قبل سنة 1914؛ إذ كان مندوبا ساميا للدولة العثمانية بالقطر المصري) ولقي من احتفاء البرنس حليم بجلالته ما استوجب محظوظيته منه ثم عاد إلى سراي رأس التين؛ وقضى ليلته في راحة وهناء كما قضى الليلة السابقة، والمدينة كلها حوله أنوار وأفراح وتهاليل وزغاريد.
وفي يوم الخميس (تاسع أبريل) اجتاز، بمركبته المفتوحة، المدينة مرة أخرى، فقابلته بما قابلته به المرة الأولى، وتوجه إلى المحطة، حيث كان في انتظاره القطار المعد لركوبه، ليقله إلى مصر عاصمة الديار، ولم يكن قد رأى قبل ذلك قطارا، فاستوقفت أنظاره آلاته وعدته؛ وأهاجت فيه عواطف حب الاستطلاع - وكانت قوية في قلبه.
Unknown page