Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
وبينما القواد المصريون في هذا الاختلاف وهذه المنازعة كان النجاشي يتقدم نحو الجيش المنكود الحظ المسلمة أزمته إليهم بخطى الثعالب وعزم الأسود، حتى أصبح على بعد بضع ساعات من (قياخور)، و(عدى راسو). ولما علم راتب بذلك زادت مخاوفه، فبادر إلى عقد مجلس حربي سري، أبعد عنه كل الضباط الغربيين للمداولة في الأمر، فلم يقر ذلك المجلس على رأي، وكان العدو الزاحف باستمرار في تلك الأثناء قد أضحى على بعد ثلاث ساعات من (قياخور).
والنجاشي، والربوع حوله كلها عيون وآذان ترى وتسمع وتحيطه علما بماجريات الأمور عند أعدائه، قد تمكن من الوقوف على تشتت فرق المصريين، ما بين (بعرزه) و(عدى راسو) و(قياخور) و(قرع)، فعزم على الانقضاض بغتة على قوتهم الكبرى في (قرع) وسحقها؛ لتبيت باقي الفرق تحت رحمته، فإما أنها تسلم، وإما أنه يبيدها، وليس لها من بين يديه مفر، وما صمم على ذلك إلا وشرع في تنفيذه.
فكان من الواجب، والحالة هذه، على قائد الجيش المصري أن يترك في حصن (قرع) قوة كافية للدفاع عنه دفاعا مؤقتا، ويزحف بمعظم قوته إلى (قياخور)، فينضم إلى الفرق المقيمة فيها، ويخرج بجيشه كله لمقابلة الملك، فيقضي الله ما يشاء بينهما.
بذلك أشار الضباط الأمريكيون، ولكن رشيد بك وعثمان باشا رفقي قاوما رأيهم وعاكساه، وهما، لجهلهما الأصول الحربية، لا يشعران بالضرر الذي يسببانه، وما أبى راتب عمله أقدم النجاشي عليه، فإنه بعث يستدعي إليه كل القوات التي كانت قد انفصلت عنه لمهمات كلفت بالقيام بها، واجتهد في حمل المصريين على الاعتقاد بأن مهاجمته لهم ستكون يوم 6 مارس؛ ليغرر بهم ويمنعهم عن الافتكار في حشد جموعهم كلها في صعيد واحد بسبب ضيق الوقت. ونجح في خداعه لدرجة أن لورنج نفسه، في الليلة ما بين الخامس والسادس من شهر مارس، أبى أن يقلع ملابسه، ونام بها على سرج حصانه، وما بزغ الفجر إلا واحتذى جزمة القتال وأخذ له أهبته، وتقدم الدچاش، والراس (ولدا ميخائيل) إلى السردار بالإذن لهما في الخروج إلى مقاتلة الملك، فأبى راتب أن يسمح لهما؛ إما لقلة وثوق منه بهما، وإما احتقارا منه لشأنهما الحربي، فانسحبا.
وكان المصريون حينما أنشأوا الحصن في (قرع)، قد أقاموا أمامه بضعة استحكامات غير محكمة، تحول دون مرمى المدافع، وتقصر حتما من مداها، فطالب لورنج (راتبا) مرارا بإزالتها، وذهبت مطالبته دائما سدى؛ لاعتقاد السردار الفائدة كلها في تلك الاستحكامات؛ لما فيها من الوقاية للجنود، كذلك كانوا قد وضعوا مخازن المهمات في تلك الاستحكامات؛ اتقاء لشر قد يقع بسببها في الحصن عينه، فيصيب من فيه من كبار الضباط والأمير نفسه، لا سمح الله! فما فتئ لورنج يحض السردار على نقلها إلى داخل الحصن لتكون المحافظة عليها أنجع، والاستفادة منها أضمن، وما فتئ السردار يمهل ويهمل لغاية اليوم الرابع من مارس؛ إذ ظهرت جليا مضار إبقائها، بحيث لو استولى الأحباش على الاستحكامات الخارجية، لاضطرت القوة المصرية كلها إلى التسليم، فأمر بنقلها، وأضيع في نفاذ ذلك الأمر وقت كان يمكن الاستفادة منه في عمل مفيد من الأعمال التي يحتم دنو ساعة القتال القيام بها.
ولما أن انقضت الساعات الأولى من النهار السادس من مارس دون أن تظهر للعدو طلائع (بقرع)، أسرع القواد إلى عقد مجلس حربي جمع إليه كل الضباط الكبار من شرقيين وغربيين، ما عدا الميچر درهلز، فكان فيه راتب باشا، والجنرال لورنج، وعثمان رفقي باشا، وعثمان بك، والأميرالاي دريك، وداي، فتداولوا معا في الأمر وفي الواجب عمله، فذهب الأمريكيون مرة أخرى إلى لزوم الخروج من الحصن (بقرع)، وحشد الجيش إلى الأمام، فالانضمام إلى القوات المعسكرة في (قياخور)، فتغطية هذا الممر، والزحف بكل الجيش المصري المتجمع على ذلك المنوال ، إلى مصادمة الملك والإيقاع به، وبذلوا أقصى جهودهم لإقناع زملائهم الشرقيين بصوابية رأيهم هذا، ولكن السردار والقواد الشرقيين أبوا الموافقة على ذلك، لا سيما أن الوقت أصبح ضيقا، والحركات العسكرية باتت عرضة لمقاطعة الأعداء إياها في أثناء تطورها، وفضلوا بقاء كل قوة في موقفها تدافع عنه بنفسها، ولو أن في ذلك البقاء المنفرد تعريضا للفرق إلى أن تسحق كل منها بعد الأخرى بالتتابع، بدون أن تتمكن الواحدة من إنجاد الثانية. وانفض المجلس وكل من الفريقين متشبث برأيه، وانقضى اليوم على غير جدوى وبدون استطلاع.
فلما كان صباح النهار التالي، ولم يظهر شيء يدل على رغبة الحبوش في القتال، اعتقد المصريون أن المعركة أجلت من جديد، ولم يتخذوا أهبتهم لها، ولكنه ما وافت الساعة العاشرة إلا وظهر العدو آتيا من ناحية دنجل وأمهور، من الجنوب والشمال والغرب معا، وسمعت أصوات طبوله وزموره مالئة الفضاء.
فخرج الجيش المصري من الحصن بتسرع بعد أن أبقى السردار فيه 2500 جندي للدفاع عنه، ومائتي ناقة، واجتهد قائد كل جماعة وفرقة في اختيار الموقف الموافق له، فاشتبك الخصمان معا، وأحدهما - وهو الحبشي - يحاول الإحداق بالثاني من كل جانب، والثاني - وهو المصري - قلما يدري كيف يوفق بين جهود جماعاته، فصعد صبري أفندي بالبطارية التي كانت تحت قيادته إلى قمة تل يحمي جانب الجيش الأيمن، وأصلى الأحباش المتسلقين ذلك التل، للتدفق من أعلاه على المصريين، نارا حامية، وأسرع داي بأورطة كاملة إلى تعضيده، فصرت ترى صفوف الأحباش تتسلق الأكمة متدافعة كأمواج البحر الزاخر، فما تبلغ إلى مرمى نيران البطارية إلا وتحصدها تلك النيران حصدا، حتى لقد رؤي ساروخ واحد يقلب صفا بأكمله. وصعد الأميرالاي محمد بك جابر بآلايه إلى القمة عينها، ولكن من جانبها الآخر، وقاتل هناك قتال الأبطال صادا الأمواج الحبشية المرتطمة عليها حوله، ولو أرسل راتب باشا قوة كافية لحماية مؤخرة هذا الآلاي وتلك الأورطة، لقضى على الأحباش قضاء مبرما، ولكنه كان حاصرا كل انتباهه فيما كان يعتقد أنها مسئوليته الكبرى، وأعني بها المحافظة على سلامة الأمير ؛ لذلك، حينما رأى صفوف الأحباش تتكاتف بالرغم من النيران المصرية التي كانت تحصدها، وتتقدم تقدما خطرا، على بطئه، أشار على الأمير حسن باشا بالتوجه إلى الحصن والاعتصام فيه، ريثما تتجلى المعركة عن نتيجة واضحة، وحتم عليه الانصياع إلى إشارته، متسلحا لإلزامه بطاعته بأوامر الخديو أبيه الموجبة المحافظة عليه، فما وسع الأمير إلا الإذعان، فحول رأس جواده وجهة الحصن، وانطلق يعدو نحوه، فما كان من جانب عظيم من العسكر إلا وتبعه؛ لظنهم أن الأوامر تقضي بذلك. واتفق في الوقت نفسه أن الصفوف الحبشية المهاجمة جانبي التل من الوراء تمكنت من تسلقها خلف الآلاي والأورطة المدافعين عنه في طرفيه الآخرين، فبات صبري أفندي ومحمد بك جابر بين عدوين يفوقانهما عددا بما لا يحصى، فدافعا عن مركزيهما دفاع الأبطال، بل دفاع الليوث الكاسرة، ولكن الكثرة تغلب الشجاعة، فإن الأحباش تدفقوا من كل صوب عليهما بصياح وصلصلة سلاح مزعجين، وأطبقوا عليهما إطباقا، فقتل محمد بك جابر، وبادت أورطة داي بأسرها، ووقع الميچر صبري أفندي في أيدي الأعداء أسيرا.
ولما بات جانب الجيش الأيمن لا شيء يحميه، نزل الأحباش من الأعالي عليه بصيحات عظيمة، ونفخ غير منقطع في الأصوار. وكان مصريو ذلك الجناح يقاتلون الأعداء المواجهين لهم، فلما رأوا الأعالي تلقي عليهم بسحب أعداء آخرين، ذعروا وسقطوا في أيديهم، وطفقوا يجرون بسرعة وراء الذين اتبعوا الأمير، عساهم ينجون معهم بالاعتصام في الحصن، ولكن القائد العام كان - لسوء حظهم - قد جعل في سيره إلى قتال العدو واديا بين ذلك الحصن وبينهم، فلما أرادوا اجتيازه ازدحمت أقدامهم فيه ازدحاما مروعا، مكن الأحباش المقتفين أثرهم، بسيوف ورماح تقطر دما، من الفتك بجموعهم فتكا ذريعا، حتى غطوا بجثث قتلاهم أرض ذلك الوادي المشئوم وسدوه بها.
على أن الذعر لم يتمكن من جمهور الجيش برمته، فإن فرقا منه ما لبثت تقاتل في مكانها، ملتفة حول غير الهيابين من قوادها، ولم تتبدد إلا بعد أن أردى الموت أولئك القواد، وكان أحسنها بلاء فرقة رشيد باشا؛ فإن هذا الضابط، النافخة في جسمه روح الشراكسة الأقدمين، شراكسة العصور الوسطى البطلية، لم يتزحزح من مكانه قيد خطوة، وما انفك سيفه عاملا في أجسام الأحباش الملتفين حوله، حتى اتحذ صاحبه من جثثهم المكومة متراسا تترس به هو ومراسلته، ولولا أن السهام تناولتهما من بعيد، وألقتهما قتيلين فوق ذلك الكوم، لاستمر حساماهما يرديان الأعداء إلى المنتهى، ومما يذكر بالعار لأولئك الأحباش أن فروسية رشيد باشا لم تثر فيهم شعور الإعجاب والاحترام، فما سقط الرجل مضرجا بدمائه إلا وانقض عليه أولئك الهمجيون، وجردوه من ثيابه، واقتسموها بينهم، ثم خصوه وذهبوا للفتك بغيره.
Unknown page