239

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

فاتفق حينئذ مع الخديو على تسيير سفينتين تسبران غور المسير كطليعتي الأسطول المزمع أن يجتاز الترعة في الصباح؛ وسيرا مركبا فرنساوية وفرقاطة مصرية.

أما المركب الفرنساوية - وكان ربانها حاذقا - فمخرت بسلام وأمان ، وأدت مأموريتها على أحسن ما يرام، وأما الفرقاطة المصرية، فأصابها سوء في سيرها، وجنحت في وسط القناة؛ فانغرس مقدمها في الضفاف، وسد جسمها سطح الترعة، على بعد ثلاثين كيلو مترا من بورسعيد.

فلما نما خبر ذلك إلى الخديو والمسيو دي لسبس، أسرعا ليريا الواقع ويتدبرا أمره، وكان (إسماعيل) قد سافر إلى الإسماعيلية، ليجهز معدات استقبال المتوجين والعواهل الآخرين وباقي ضيوفه، فقفل راجعا، الساعة الثالثة صباحا، يوم 17 نوفمبر عينه! واجتمع بدي لسبس أمام تلك السفينة الحربية الجانحة، واجتهد كلاهما في رفعها وتعويمها؛ فلم يفلحا - ولم يكن في الاستطاعة ولا في الرغبة تأجيل موعد الافتتاح، اتقاء للأقاويل وشرها!

فذهب (إسماعيل) إلى بورسعيد، تحت جناح الليل؛ وعاد بألف بحار من الأسطول المصري الراسي بها، ودفع بهم إلى العمل على تنظيف الترعة من تلك الفرقاطة، فقال دي لسبس: «إن لدينا أسلوبين للبلوغ إلى المقصود: إما المجيء بالسفينة الجانحة إلى وسط القناة؛ أي: تعويمها، وهو الأفضل؛ وإما المجيء بجزئها الشاغل الماء إلى الضفاف، بحيث يجعل طولها موازيا لطول القناة، ويلصق بالساحل، فإن لم يفلح كلاهما ...

فقطع (إسماعيل) عليه كلامه، وقال: «إن لم يفلحا، ننسف المركب نسفا!»

فترامى دي لسبس عليه، وعانقه، وهو يكاد يبكي فرحا، وقال: «نعم! ننسفها! وإني لم أجسر على إبداء هذا الرأي لسموك، لما في نسفها من الضرر المادي على البحرية المصرية!» على أنهما لم يحتاجا إلى نسفها، وتمكن العمال والجنود من جلب جزئها الشاغل الماء إلى الضفاف، وإلصاقه به، بحيث خلا المجرى للسفن لتمخر فيه، ولم ينبئ الخديو أو دي لسبس أحدا من المدعوين بالعقبات التي أزالاها في تلك الليلة الخطيرة، فلم يقلق فكر أحد منهم، وبات الجميع في هناء وحبور، وفي انتظار فجر اليوم التالي، اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر!

وكان يوما مشهودا.

فما بزغت شمسه، وتناول الأقوام طعام الفطور، إلا وسار «الإجل» (النسر) بالإمبراطورة، من بورسعيد، وولج القناة بخيلاء ملكية؛ وتقدم، فخما، يشق تلك المياه المعجبة به، حتى إذا لم يعد بينه وبين المكان الذي جنحت فيه، بالأمس ، الفرقاطة المصرية، سوى مسير خمس دقائق، ورد نبأ على الخديو ودي لسبس من الأميرال المصري القائم بعمل رصف تلك السفينة الجانحة، أن العمل قد تم، وأن القناة أصبحت مسلوكة لا عائق فيها.

فطرب (إسماعيل) جذلا، وتنهد دي لسبس تنهدا عميقا؛ ثم رفع عينيه ويديه نحو السماء وشكر الله من صميم فؤاده، وقد قال، بعد ذلك، لأحد أخصائه: «لم أشعر في حياتي، مطلقا، مثلما شعرت في تلك الليلة، أن الخيبة تداني النجاح هكذا؛ وأن السقوط على مثل ذلك القرب من الفوز!»

فلما مرت باخرة الإمبراطورة، عند القنطرة، بتلك الفرقاطة، وأطلقت هذه - وكان اسمها «اللطيف» - مدافعها، ترحيبا بها، ظنت أوچيني وظن كل من معها، وكل من كان لاحقا بها، أن تلك السفينة الحربية إنما وضعت، هنالك، خصيصا لتحيتها؛ فأعجبت بالفكرة الجميلة والاعتناء اللطيف وشكرت (لإسماعيل) بديع ذوقه. كذلك كان الأمر مع باقي أصحاب التيجان والأمراء، وهكذا حولت العناية الإلهية الساهرة على مجريات الأمور العقبة المخيفة إلى وسيلة من الوسائل العديدة التي جادت بها، ليكون فخار الترعة العالمية وبهجتها تامين!

Unknown page