Misr Khadiwi Ismacil

Ilyas Ayyubi d. 1346 AH
170

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

فيحكى عن عبد الرحمن بك مدير الدقهلية في أيام (محمد علي) الأخيرة أنه صادر رجلا من المنصورة كان له في عاصمة الديار قريب يدلي بمحسوبية إلى (عباس باشا الأول) - وكان، في تلك الأيام، والي القاهرة - واغتصب منه أملاكه، فذهب الرجل إلى قريبه، واشتكى له من تصرفات المدير؛ فبلغ قريبه شكواه إلى (عباس باشا)، فكتب حفيد الباشا العظيم خطابا إلى عبد الرحمن بك، شديد اللهجة، هدده فيه بالعزل، وما هو أوعر منه؛ وأمره برد ممتلكات الرجل إليه؛ ثم بعث بذلك الكتاب إلى المدير مع نفس المشتكي، فما كان من عبد الرحمن بك، حينما استلمه وقرأه، إلا أنه استدعى الجلاد في الحال، وأمره بضرب عنق الرجل؛ ففعل، ولم ينتطح في أمره عنزان، ثم مضت أيام، واتفق لعباس باشا أنه زار مدينة المنصورة، فاغتنم أهل المقتول فرصة وجوده بين ظهرانيهم، وأعلموه بواسطة محسوبه بما كان من أمر اعتناء المدير بخطابه، واحترامه لمضمونه، فاحتدم (عباس) غيظا، واستدعى عبد الرحمن بك، وانهال عليه شتما وسبا، وأوشك أن يأمر بقتله، لولا أن عبد الرحمن بك تدارك الأمر، وألقى تبعة قتل الرجل على الجلاد؛ وبعث وراء هذا وأحضره، وباغته زجرا وإهانة لكيلا يدع له سبيلا إلى الكلام، وزعم «أنه قتل ذلك المسكين من تلقاء نفسه، لظنه أنه بذلك يرضيه، مع أنه لم يكلف إلا بتوصيله إلى الباشكاتب ليرد أملاكه إليه»، وقبل أن يفيق الجلاد إلى نفسه، ويفهم من المقصود بالكلام، أمر عبد الرحمن به فضربت رقبته بين يديه، فهدأ غضب (عباس)، وذهب دم الرجلين هدرا.

10

ويحكى عن أحد نظار الأقسام في الوجه البحري، أنه شدد على فلاح في إحدى القرى، في دفع أموال عليه، تبلغ قيمتها ستين قرشا، ولما لم يتمكن الفلاح من دفعها، ضبط الناظر بقرته الوحيدة، وعرضها للبيع، نظير المبلغ المطلوب، فلم يقدم أحد من القرويين على مشتراها، لعدم وجود مبلغ الستين قرشا عند أحد منهم، فأحضر الناظر جزار الناحية وأمره بجزر البقرة، وتقطيعها إربا إربا، ستين عدا؛ ففعل، فأجبر الناظر القرويين على أن يشتري كل واحد منهم قطعة بقرش، وأعطى الجزار رأس البقرة، مقابل تعبه، فرفع الفلاح تظلمه من عمل الناظر إلى أحمد الدفتردار بك، المخيف، زوج زهرة هانم بنت (محمد علي) - وكان، في تلك الأيام، مفتش الوجه البحري - فأحضر الدفتردار الناظر، وأنبه بعنف، لا على جزره البقرة فقط، بل على بيعه إياها بستين قرشا، في حال أنها كانت تساوي مائة وعشرين قرشا، كما دلت الاستعلامات التي أخذها في ذلك الشأن، ثم أحضر القروبين، وزجرهم بشدة على كونهم اشتروا القطعة بقرش، بينما هم يعلمون أنها تساوي قرشين، وأحضر أخيرا الجزار، ووبخه على جزره بقرة ذلك الفلاح التعيس، مع أنها كانت كل ما يمتلكه من الحطام الدنيوي، فقال الجزار: «إني، يا مولاي، عبد مأمور، ولم أفعل سوى ما أمرت به»، فقطب الدفتردار حاجبيه وقال: «أولو أمرتك بأن تفعل، في هذا الناظر، ما فعلت بالبقرة، أتفعل؟» فأجاب الجزار: «قد قلت لمولاي إني عبد مأمور، أطيع الأوامر التي تصدر إلي!» فقال الدفتردار: «هلم، إذا، واجزر هذا الناظر كما جزرت البقرة!» ففعل، فقال له الدفتردار، وقد جمد الدم في عروق جميع الحاضرين : «والآن، قطعه ستين قطعة، ما عدا الرأس!» ففعل، فأمر الدفتردار، حينئذ، القرويين المجتمعين بأن يشتري كل واحد منهم قطعة من تلك القطع الفظيعة، بقرشين، فتكون لديه مبلغ قدره مائة وعشرون قرشا سلمه إلى الفلاح، قائلا: «خذ، هذا ثمن بقرتك، فاذهب واشتر غيرها!» ثم التفت إلى الجزار، وقال له: «كما أنك أخذت رأس البقرة جزاء لك على تعبك، خذ بالمثل، رأس الناظر جزاء لك على تعبك في جزره وتقطيعه!» وضحك ضحكا فظيعا، وانصرف.

ويروى عن ضابط القاهرة - وكان بمثابة حكمدارها ومحافظها معا - في أيام (عباس) الحكاية المزعجة الآتية: اقترن تركي، من أعيان الدرب الأحمر، بفتاة يقال لها: خديجة، كانت من أجمل النساء رواء، وأكملهن قواما، وأبدعهن محاسن، فجن فيها إلى درجة، هجر معها، كل نسائه الأخريات وسراريه، وسكن إلى خديجة، وحدها، يعبدها ويتمتع بها، ولما كان الرجل على غنى مفرط، ومشهورا بالطيبة، وكرم الأخلاق، علاوة على أنه لم يكن دميم الخلقة، فما وجدت في الحي امرأة إلا وحسدت خديجة على حسن بختها، وصعود حظها؛ كما أنه لم يوجد في الحي رجل، إلا وغبط ذلك التركي على النعم الجمة التي من الله عليه بها، وكان الكل يعتقد أن عيش الزوجين هنيء رغيد؛ وأن كليهما ممتع بقرينه تمتعا تقر به العين، ويرتاح إليه الفؤاد.

فاتفق، ذات ليلة، أن ضابط القاهرة، في تلك الأيام، خرج يتعسس تحت أجنحة الدجى، متدججا بسلاحه، ومصطحبا معه قواصين من رجال الشرطة، مسلحين أيضا، والجلاد وسيفه معه، فجاس بهم خلال الحارات والأزقة، يستطلع أحوال الأمن، ويجس نبضه، فوجد المدينة نائمة، هادئة، لا يقلق جسمها عارض مطلقا.

فعن له أن يجوس، أيضا، خلال الخرائب والأطلال القائمة على أنقاض الماضي، بين ميدان الرميلة والإمامين؛ وبين القلعة والسيدة نفيسة؛ لعلمه أنها الملجأ الذي يؤمه، عادة، قطاع الطرق، ومرتكبو الجرائم، فرادها، الواحدة بعد الأخرى، ولم يجد فيها ما يستوقف الانتباه، وبينما هو يستعد للرجوع، إذا ببصيص نور في أبعد تلك الخرائب موقعا، يتسرب من فتحة صغيرة إلى الظلام الحالك الخارجي، فاستوقف نظره، فسار الضابط نحو منبعثه، ودخل الخربة، بقدم ثابتة صامتة، ومعه الجلاد فقط، وأما القواصان، فأوقفهما خارجا، وما لبث أن أصبح على مقربة من الحجرة المنبعث منها النور، وإذا بعبد أسود يتكلم بصوت مسموع مع فلاحين، تفرس الجلاد في أحدهما، فعرف أنه أخوه، وتفرس الضابط في العبد، فعرف أنه عبد السري التركي في الدرب الأحمر، المتحدثة الألسن بسعادته وحبه لزوجته، وحب زوجته له.

فأصغى إلى المحادثة الدائرة بينهم؛ وإذا بالعبد، وقد اتضح أنه مرسل من قبل سيدته، يتفق مع الفلاحين على أنهما، مقابل مبلغ من النقود، عينه لهما، يقصدان في الليلة التالية، منزل ذلك السرى، إذ يكون، هو (العبد) في انتظارهما، عند باب البستان المحيط بالمنزل؛ فيفتحه لهما، ويدخلهما منه؛ فينقض الثلاثة على التركي، وهو يتناول طعام العشاء مع زوجته، في كشك في البستان؛ فيقتلونه بمساعدة الزوجة، الراغبة في التخلص منه، لكراهتها إياه، وغرامها بشاب من الجيرة، يدعى سليم أغا، كانت ترغب الاقتران به واتفقت معه على أن يحضر قبلهما، ويشترك معهم في ارتكاب الجريمة.

فأول ما بدا للضابط، لدى سماعه تلك المحادثة، أن ينقض على أولئك المجرمين، ويقبض عليهم، ويحاكمهم، ويعدمهم في الحال، بمساعدة قواصيه والجلاد، ولكن ترويه المعتاد عاد إليه، وحمله على تعديل ذلك الفكر، ورسم خطة للسير تضمن القبض على جميع المجرمين، وهم على وشك ارتكابهم الجريمة، حتى يقتنع نفس الزوج باشتراك زوجته معهم فيها، فخرج بسكوت تام، وعاد إلى الضابطة، وشرع يتأهب للعمل الذي نوى عليه.

وكان قد آنس من الجلاد انفعالا غريبا، ورآه يتفرس في أحد الفلاحين؛ فأدرك، من حينه، أنه لا بد يعرفه، بل قد تكون بينهما قرابة، فكلف أحد رجال الضابطة بمراقبته، بدقة، طوال تلك الليلة، وطوال النهار التالي لها، فراقبه القواص، وإذا بالجلاد قد شرع، منذ أن بزغت أنوار الفجر، يفتش على أخيه في جميع الأماكن التي يظن تردده عليها ممكنا؛ وفي كل مخابئ الخرائب القائمة حول البلد، فأحاط القواص الضابط علما بذلك؛ فتيقن الضابط أن حدسه قد أصاب؛ وأخذ يتصور الليلة محفوفة بحوادث مفجعة أكثر مما تصوره في بادئ الأمر.

فلما غربت الشمس، أخذ عشرة قواصة والجلاد، وسار بهم، وكمن في جوار منزل التركي؛ ثم تقدم نحو باب البستان المقابل للباب الذي اتفق العبد مع الفلاحين على إدخالهما منه، ولما كان معه من آلات فتح الأبواب ما لا يستغني عنه رئيس شرطة مطلقا، فتحه بهدوء وأدخل رجاله، وهم كأنهم أشباح، وأقامهم في ظل الأشجار يتربصون.

Unknown page