Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
وكان حي الأزبكية في أثناء ذلك قد تغيرت معالمه مرتين: فبرهان بك حاطه، أولا، بسد كان من شأنه أن الأرض داخله تتحول كلها إلى بحيرة عظيمة تمخر فيها المراكب، أيام الفيضان؛ وتصير، في باقي السنة، إلى حقل، بساطه السندسي من البرسيم العطر، والأشجار المغروسة فيه مظال خضراء كمظال الجنان، تغرد على أويكاتها الطيور ويهدل الحمام، وحفر، خارج ذلك السد، ترعة عرضها عشرون قدما تجري في طوله وتتصل - بفتحات - بالبحيرة، فتوصل إليها الماء اللازم لري أرضها أيام جفاف فرشها؛ وتفصل السد عن الشارع الدائر حول ذلك الحي - هو شارع كان عرضه مائة قدم تحف به من خارجه البيوت، ومن داخله صفوف من شجر اللبخ الزكي الشذا - فكنت، وأنت مستظل بها، تمتع نظرك بماء البحيرة وزمرد أوراق الشجر، أو بالبساط السندسي السابق ذكره، وتلذذ سمعك بخرير مياه الترعة. أما الوجه الحسن فلا تعدمكه الصدف في ساعات النهار، وقد كان يحيط بحي الأزبكية، من جهاته الثلاث، قصور فخمة مشيدة على النسق الشرقي، ووقف التاريخ في بعضها، مفكرا أنى يجري مجاريه، فمنها القصر الذي شاده محمد بك الألفي بعد هدم ثلاثة غيره لم تقم طبقا لذوقه، فلما أتم بناءه وجاء وفق مرامه، داهمت الحملة الفرنساوية الحكم المملوكي وبددت شمله شذر مذر، فذهب الألفي بك، بعد كسرة إمبابة، يهيم على وجهه خلف مراد بك زعيمه، وحلت قدما بونابرت، رجل الأقدار، في ذلك القصر: فكان كأنه بني له، ومنها القصر الذي اتخذه كليبير مقرا لأركان حربه؛ فوافاه في البستان المحيط به سليمان الحلبي وقتله - وكان والي دمشق قد وعد ذلك اليافع المتحمس دينيا، بإطلاق سبيل أبيه من السجن الذي كان قد زجه فيه، إذا هو أقدم على الفتك بقاهر الصدر الأعظم يوسف باشا، في ساحة وغى هليوبوليس، فبر سليمان بوعده غير أن أباه لم يفز بالنجاة وخوزق؛
15
وجعل (محمد علي) في ذلك القصر عينه ديوان معارفه العمومية، ولكنه ألحق بستانه - حيث ذهبت المأساة المفجعة، بطالع فرنسا في مصر - بالسراي الفاخرة التي كانت لابنته زهرة هانم، زوجة الدفتردار الشهير بقسوته الطبيعية المتناهية؛ ومنها القصر الذي كان لخسرو باشا، عدو (محمد علي) اللدود، والذي أراد اغتياله، مرة، تحت ستار الليل البهيم، ولم يفلح؛ والقصر الذي كان (لمحمد علي) عينه، يوم كان لا يزال يرتقي درجات سلم طالعه العجيب، وحمل فيه زعماء جنده على أن يقسموا على حسامه بطاعته طاعة عمياء في كل ما يأمرهم به، وألا يتخلوا عنه ما دام حيا، كيفما دارت حوادث الزمان؛ وأما الجهة الرابعة، فكان يشغلها صف بيوت خشبية عالية مظلمة وغريبة الشكل يملكها ويسكن فيها جماعة من الأقباط.
ثم تمادت الأيام وأساء بعض سكان تلك القصور، لا سيما القناصل الأجانب، استعمال الترعة ذات العشرة الأمتار عرضا، وحولوا مجراها - في أيام التحاريق - إلى إسطبلات لدوابهم وزرائب لطيورهم ودجاجهم؛ ثم لم يلبثوا، لكيلا تضيع منهم هذه المزية، أن طلبوا ردمها زاعمين أن حميات خبيثة تنبعث منها.
فردمت؛ وفقدت الأزبكية بذلك خير جزء من أسباب بهجتها؛ فأهملت؛ وما مضى إلا زمن يسير حتى تحولت إلى دمنة؛ ثم باتت مكانا ترتكب فيه أعمال عربدة وسكر، في القهوات والحانات المنتشرة في جنباتها، وأعمال سرقة وتهتك تحت ظل أشجارها، حملت أقدام الكرام على هجرها والابتعاد عنها، بعد أن كانت تؤمها كوكبات الفرسان الفاخري الملابس للتنزه فيها، وسياسهم في ركابهم يحملون لهم شبكاتهم.
ومع أن القاهرة واقعة على مقربة من النيل، فإن الاستقاء كان متعذرا فيها لبعد النهر في الحقيقة عنها، وعدم صلاحية مياه الخليج للشرب معظم أيام السنة، ولم يخف هذا العيب الأساسي في موقع المدينة العظيمة، على الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، سيد جوهر الصقلي بانيها؛ فيروى أنه قال له ؛ إذ قدم إليها من المهدية في المغرب: «لقد بنيتها، يا جوهر، في بقعة لا هي على قمة الجبل، فتتحصن بها، ولا هي على شاطئ النهر فتنتفع به.» ولذلك فكر هو وخلفاؤه من بعده في تحصينها من جهة الصحراء الشرقية، وفي جلب مياه النيل إليها من الجهة الغربية، فاحتفر المعز، الخندق الذي قاتل القرامطة عنده، شرقيها؛ ووفق حفيده، الحاكم بأمر الله، إلى احتفار الخليج المصري، الذي عرف مدة باسم الخليج الحاكمي، والذي بات يروي عطش القاهرة دهرا، ولكنه لم يكن وافيا بالغرض، لا سيما بعد أن تراخت المحافظة على نظافته، في عهد الحكم العثماني، وبات مستودع أقذار ومصرفها، وعاد الأهالي إلى الاستقاء رأسا من النيل على أيدي سقائين.
فوجه (محمد علي) اهتمامه بنوع خاص إلى هذه المسألة الحيوية، مسألة تموين القاهرة بماء للشرب، وفكر، في بادئ الأمر، في تعميق فرش الخليج المصري ذاته، بحيث يصبح ترعة صيفية تستمد مياهها لري الأطيان الواقعة شمالي العاصمة، فوق انتفاع أهل القاهرة بها لشربهم.
ولكن عقبات كثيرة حالت دون ذلك، أهمها أن أساسات جدران معظم المباني القائمة على ضفة ذلك الخليج أقل غورا في الأرض من العمق المنوي إبلاغ قاعه إليه، فلو عمق الخليج لتداعت.
ففكر، إذا ، في طرق أخرى كإيجاد آلات رافعة عند فم الخليج، أو إنشاء مصرف جامع في وسطه؛ أو احتفار ترعة يكون فمها على بعد كاف، فوق القاهرة، بحيث إن مياهها، إذا انصبت في الخليج، كفته ماءه طول السنة؛ وفكر في تسيير تلك الترعة بين أكوام الفسطاط، أو من وراء القلعة، والذهاب بمصبها في الخليج إلى شمالي مصر.
ولكن المصاعب التي قامت دون تحقيق كل ذلك أدت إلى الإحجام عن المشروع بتاتا.
Unknown page