Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
Alexander Ball » حاكم مالطة أن في وسع حكومته الانتفاع بالألفي كأداة للديبلوماسية الإنجليزية، واقترح لذلك تركه يذهب إلى لندن يونيو سنة 1803، ووافق اللورد نلسن وأصدر أمره بذلك في 10 يوليو، ووصل الألفي أخيرا إلى ميناء بورتثموت بعد رحلة بطيئة في 3 أكتوبر سنة 1803، تنقله سفينة حربية إنجليزية.
وأطلقت المدافع عند وصوله تكريما له ورحبت به السلطات في بورتثموت ترحيبا كبيرا، وفي اليوم التالي استأنف الرحلة إلى لندن، فبلغها في 7 أكتوبر ومعه اللورد «بلانتاير» والكولونيل «بيرسفورد
Beresford » وأعلنت الصحف وصوله في مهمة ديبلوماسية، ونشرت المقالات الطوال عن أوصافه وعاداته، ونضاله مع الفرنسيين وعدم مسالمتهم أبدا، ولكنه بدلا من أن يحظى الألفي بمقابلة الملك جورج الثالث، كما كان يرجو ، ظلت هذه المقابلة تتأجل من يوم إلى آخر، والسبب في ذلك ما أظهره الباب العالي من قلق وانزعاج كبيرين عندما علم بسفر الألفي، حتى إن «دراموند
Drummond » القائم بأعمال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية لم يلبث أن نقل صدى هذا القلق البالغ إلى لندن، وكتب إلى حكومته في 11 يوليو سنة 1803 أن الجماعة الفرنسية في القسطنطينية عملت على الاستفادة من حادث هذه الرحلة، فصور «برون» السفير الفرنسي الألفي سفيرا قوبل لدى البلاط الإنجليزي بهذه الصفة، وذاعت الفكرة في القسطنطينية أن غرض هذه السفارة إنما هو اقتسام مصر بين الإنجليز وبين المماليك.
ولما كانت الحكومة الإنجليزية لا تزال متحذرة من إثارة مخاوف الباب العالي وشكوكه في نواياها ولا تريد تعكير صفو علاقاتها مع تركيا، وبخاصة وقد قامت الحرب بينها وبين فرنسا، فقد بادرت بتهدئة الأتراك حلفائها وتسكين خواطرهم، وطلبت إلى «دراموند» في 18 أكتوبر أن يبلغ الباب العالي «أن الرئيس المملوكي قد وصل إلى إنجلترا دون علم الحكومة الإنجليزية ومن غير موافقتها على ذلك، وأن رغبة الملك الأكيدة والتي لا تتغير هي عدم سماع أي اقتراح من جانب هذا الرئيس من شانه التأثير على مصالح وحقوق الباب العالي في مصر»، ثم وزعت الحكومة مذكرة على الصحف (18 أكتوبر) لإخبار الجمهور بأنه لا يمكن تقديم الألفي لدى البلاط؛ «لأن العرف والتقاليد يمنعان استقبال الملك رسميا وزيرا لدولة غير معترف بها وفي ثورة علنية ضد السلطة التي تعتبرها بريطانيا العظمى السلطة الشرعية الوحيدة في مصر.»
وعلى ذلك، فقد امتنعت الحكومة الإنجليزية عن الدخول في أية أحاديث أو مفاوضات مع الألفي، وعبثا حاول هذا أن يلفت نظرها إلى النتائج التي يجب توقعها من تعيين علي باشا الجزائرلي لباشوية القاهرة، ومن مكائد هذا الأخير التي قال الألفي إنها سوف تربك المماليك وتساعد على تعزيز النفوذ الفرنسي، وأمام هذا البرود من جانب الحكومة الإنجليزية لم يسع الألفي سوى تمضية وقته في الزيارات خصوصا لبلانتاير «ياور الجنرال ستيوارت» والجنرال هتشنسون ، وحضور الحفلات، واستمر الحال على ذلك حتى بداية شهر نوفمبر، عندما وصلت لندن الأخبار منبئة بالانقلابات والاضطرابات التي وقعت حديثا في مصر، فقد قتل الإنكشارية طاهر باشا في مايو، واستدعى الأرنئود المماليك مع الصعيد لمعاونتهم في نضالهم مع الإنكشارية ودخل هؤلاء القاهرة بالطبول، ثم استطاعوا الاستيلاء على دمياط التي كان خسرو متحصنا بها في أول يوليو، ووقع الكابتن «هايز» - وكان مع خسرو - في قبضتهم، وقد توفي «هايز» بعد أن أطلق سراحه وذهب إلى رشيد حتى يلحق بمسيت في الإسكندرية فأصيب بالحمى وكانت وفاته في 26 يوليو، وحوالي هذا التاريخ استولى المماليك على رشيد منذ 3 يوليو فصارت مصر بأسرها في قبضتهم، ولم يبق في يد الأتراك سوى مركز واحد هو الإسكندرية، وكان أهم هذه الأخبار - ولا شك - استعادة المماليك للقاهرة الحكومة الثلاثية: محمد علي، البرديسي، إبراهيم، وصار من الواضح أن الباب العالي بعد توالي هذه النكبات، سوف يشعر بضرورة الاتفاق مع البكوات على أساس الشروط التي ظل يرفضها طيلة السنوات الثلاث الماضية، بل إن «دراموند» ما لبث أن كتب إلى حكومته في 7 نوفمبر سنة 1803 يبلغها قرار الباب العالي الذي بعث به إلى علي باشا الجزائرلي الوالي الجديد في مصر لتنفيذه، ولكن الحكومة الإنجليزية كانت قد قررت العمل قبل أن يبلغها ذلك.
ذلك أن الألفي سرعان ما رأى في الحوادث التي وقعت أخيرا في مصر فرصة مواتية للقيام بمحاولة أخيرة مع الحكومة الإنجليزية، فطلب من الكولونيل مور
Moore - وكان من ضباط الجيش الإنجليزي في مصر وألحق بمعية الألفي الآن كترجمان له؛ أن يعد مذكرة لتقديمها إلى الحكومة في نوفمبر، وفي هذه المذكرة بسط الألفي مسألته وقضية البكوات المماليك الذين قال إنه يتكلم باسمهم وكممثل لهم، فأجمل الخدمات التي قام بها المماليك ومعاونتهم للإنجليز في طرد الفرنسيين من مصر، كما بين ما أصابهم من أضرار ولحق بهم من أذى - غدر أو خيانة - على يد الأتراك الذين يرفضون الاتفاق معهم ويعتزمون قتالهم إلى النهاية وحتى يتمكنوا من إفنائهم.
على أن أهم ما ذكره الألفي في هذه المذكرة - وكان يدل في نظر بعض المؤرخين على تمتعه بقسط وافر من نضج التفكير السياسي - قوله: إنه لم يحضر إلى لندن حتى يعرض على حكومتها مشروعا أو يقترح عليها مبادئ من شأنها إدخال عامل الاضطراب فيما بين الحكومة الإنجليزية والدول الأجنبية الأخرى من علاقات أو أن تسبب لها صعوبات جديدة، وإنما هو قد حضر حتى يدفع عن نفسه وعن زملائه التهمة التي ألصقت بهم، تهمة الثورة على السلطان «العثماني» صاحب السيادة الشرعية عليهم، كما أنه حضر حتى يبسط للحكومة الإنجليزية الأسباب العادلة التي دفعته هو وزملاؤه إلى المطالبة بحماية الحكومة الإنجليزية ومساعدتها لهم، واختتم الألفي مذكرته ببيان مدى الاحترام الذي قابل به المماليك نصائح الجنرال ستيوارت حتى يلزموا جانب الاعتدال وقت انتصارهم على الأتراك في المعارك التي اشتبكوا فيها معهم، ثم طالب الحكومة الإنجليزية بتأييد الوعود التي أعطاها لهم الجنرال هتشنسون بإعادة حقوقهم السابقة إليهم، ولم تكن هذه وعودا شفوية، بل وعودا مكتوبة - كما قال الألفي - ومصاغة في قالب رسمي، كما طلب من الحكومة الإنجليزية أن تبين - بوضوح وجلاء - مدى المساعدة التي ترى أن في وسعها إعطاءها للبكوات.
وفي 15 ديسمبر سنة 1803 قررت الحكومة الإنجليزية أن ترد على مذكرة الألفي، وكان معنى ذلك أنها انتوت أن تفيد نهائيا من وجود الألفي في لندن لتتخذ منه أداة لديبلوماسيتها، «كالحلقة الأولى من سلسلة ذلك النفوذ «الإنجليزي» الذي يمكن تعهده بالرعاية وتعزيزه» على نحو ما أشار به ستيوارت نفسه على حكومته منذ 20 يناير سنة 1803، وأما السياسة التي انتوت الحكومة الإنجليزية اتباعها وقتئذ فقد رسمت معالمها في ردها على مذكرة الألفي، ثم في تعليماتها إلى «دراموند» بالقسطنطينية، فقالت في كتابها إلى الألفي في 15 ديسمبر «إنه لمما يسرها كثيرا أن تؤكد له اقتناعها التام بالمسلك السليم الذي سلكه البكوات والخدمات التي أسدوها بإخلاص عند اتحادهم في العمل مع القوات البريطانية في مصر، وإن جلالة الملك سوف يقوم فورا بالسعي لدى الباب العالي واستخدام نفوذه عن طريق سفيره بالقسطنطينية حتى يصل إلى صلح بين البكوات وبين صاحب السيادة الشرعي عليهم سلطانهم «العثماني» حليف «إنجلترا» الصادق الأمين، وأن يبذل «جلالة الملك» قصارى جهده لإعادة تأسيس مصالح البكوات في مصر، على أساس يكفل لهم وضعا لا يقل في مزاياه عن الوضع الذي كان لهم وقت غزو الفرنسيين للبلاد.»
Unknown page