Miṣr fī maṭlaʿ al-qarn al-tāsiʿ ʿashar 1801–1811 m (al-juzʾ al-awwal)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ثم انقضى شهر يوليو والنصف الأول من شهر أغسطس، دون أن يفي البكوات بعهودهم، فهم لم يدفعوا المطلوب منهم عن السنة التي تم الاتفاق عليها، وقاربت السنة التالية الانتهاء كذلك دون أن يبدو منهم ما يدل على رغبتهم في الدفع؛ ولذلك فقد قرر الباشا مناجزتهم، وكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 21 أغسطس أن المفاوضات بين محمد علي والبكوات لم تثمر الثمرة المنشودة، ويعتزم الباشا الآن إرسال جيش للاستيلاء على القرى والمدن الواقعة على ضفتي النيل، ولا يرى «دروفتي» في هذه العملية أية صعوبة؛ نظرا لارتفاع مياه النهر الذي يحرم المماليك من استخدام فرسانهم، ويستعد كذلك البكوات للذهاب إلى القرى المجاورة للصحراء، وسوف يكون وقت اشتباك القوتين عند انخفاض مياه النهر وانحسارها عن الأراضي القريبة منه.
والواقع أن عديدين وقت إبرام الاتفاق اعتقدوا أن البكوات لن يوفوا بالتزاماتهم بالرغم من الاعتدال الذي أظهره الباشا وعدم تعنته معهم، فقد كتب «دروفتي» نفسه من القاهرة في 9 أبريل: «إن هذا الاتفاق المبرم بين الباشا والبكوات شأنه - كما سبق أن أوضح ذلك في تقرير لحكومته بتاريخ 10 يناير 1809 - شأن كل ترتيب مثالي لا يستند على أساس أو نظام معين، ولا يوجد أي ضمان لتنفيذه، وصفوة القول هو مثال لذلك الفشل الذريع الذي لا مناص من ترتبه على كل مفاوضات لا تقوم على شيء من المنطق والواقع؛ ولذلك فإن البكوات عند كتابة هذا التقرير قد خرقوا المعاهدة ولم يوفوا بأي عهد من عهودهم بدعاوى لا يرى من المفيد ذكرها.»
ولقد استطرد «دروفتي» وقتئذ فقال: «إن مفاوضات جديدة قد بدأت، وانتهت منذ شهر إلى تقرير هدنة مدتها شهر واحد، ويعتقد الباشا في احتمال الوصول إلى تفاهم مع البكوات، ومركزه يوجب عليه الرغبة في الوصول إلى هذا التفاهم، والباشا يرجو أن يقبل البكوات مقترحاته الأخيرة.» وسرد «دروفتي» تفاصيل هذه المقترحات فيما لا يختلف عما ذكرناه عنها، ثم أنشأ يقول: «وما طلبه الباشا من البكوات كان معقولا وفي حدود الاعتدال تماما، ولكن البكوات إذا قبلوا هذه التضحية الصغيرة فعلا، فإنهم يكونون قد فعلوا ذلك بأسى وألم بالغ؛ لأن هذا الاتفاق يضعهم موضع الخاضعين لسلطان الباشا، في الظاهر على الأقل، وزيادة على ذلك فإنهم لن يقبلوا هذا الاتفاق إلا بتحفظ ذهني دائما؛ أي مع التصميم على انتهاز أول فرصة سانحة لنبذه ظهريا والتحلل منه، ولكن أعداد المماليك - لسوء حظهم - لا تزال تقل وتنقص باضطراد يوما بعد آخر، وليس لديهم زعماء في قدرتهم اتخاذ قرارات من النوع الحاسم الخطير، ويفقد إبراهيم بك باستمرار منزلته عند أتباعه وصغار البكوات بسبب شيخوخته، ويقل اعتباره في أعينهم بدرجة تقدمه في السن، وبيت مراد والبرديسي منقسم إلى أحزاب بدرجة عدد صناجقه - وهؤلاء الأخيرون كثيرون - حتى إن الواحد منهم لا يتجاوز عدد مماليكه الستة، وبمعسكر شاهين بك الألفي، خليفة الألفي الكبير حوالي الاثني عشر من البكوات، زد على ذلك ما يشاع من أن المماليك في هذه الظروف يستمعون لنصح أشخاص يهمهم في واقع الأمر أن تشل حركتهم.»
ولقد أخطأ البكوات بعدم الوفاء بعهودهم خطأ كبيرا، ليس فقط لأنهم كانوا بسبب انقساماتهم وخلافاتهم ضعافا، ولا قدرة لهم في ظروفهم التي ذكرها «دروفتي» على مقاومة محمد علي، بل ولأن الباشا في أبريل 1809 والشهور القليلة التالية، كان قد بسط سلطانه تماما على القاهرة، وعلى الوجه البحري بأجمعه، حتى إن ما حدث من ازدياد استقرار حكومته لم يلبث أن ظهر أثره في إنعامه بسلطته الخاصة على ولديه إبراهيم وطوسون برتبة الباشوية، وخصص لكل منهما عددا من الجند والحرس يتناسب مع مركزه، واستقدم سائر أفراد أسرته من «قولة» وأسرات أعوانه - مما سبق تفصيله كله - الأمر الذي دل على اطمئنان محمد علي لنفوذه وسلطانه في باشويته من جهة ، وحرصه على اتخاذ الوسائل التي تكفل تأكيد هذا النفوذ والسلطان من جهة أخرى، لما تنطوي عليه هذه الخطوات من إظهار أن أسرته صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، وتعويد الأهلين على انتظار استقرار حكومته في مصر، وحتى يقتنع البكوات المماليك أنفسهم بأن الحكم باق في يده.
وفضلا عن ذلك، فقد فرغ الباب العالي أخيرا من وضع الخطة اللازمة لمحاربة الوهابيين، وقد شاهدنا كيف أبلغ محمد علي في 6 مايو 1809 نبأ تعيين يوسف ضيا نهائيا قائدا عاما لعسكر الحجاز، على أن يتحرك سليمان باشا والي بغداد من جهة الحسا والدرعية، وأن يتحرك محمد علي للهجوم على جدة وينبع، فيسرع يوسف ضيا بالزحف عند حركتهما، وأمام هذه التبليغات وخروج مشروع حملة الباب العالي ضد الوهابيين إلى حيز الوجود لم يعد هناك مناص من إرغام البكوات على الخضوع والوفاء بالتزاماتهم عندما توقع الباشا أنه سوف يضطر بدوره إلى إرسال جيشه إلى الحجاز عاجلا أو آجلا، وكان الباشا علاوة على ذلك يعتمد على استطاعته إذا تم الصلح مع البكوات أن يلحق فرسانهم بجيشه الخارج إلى الحجاز.
أضف إلى هذا أن محمد علي كان يتوقع انتهاء الحرب قريبا بين فرنسا والنمسا في صالح فرنسا (وقد وقعت النمسا - كما عرفنا - صلحا منفردا مع الإمبراطور نابليون في شونبرون
Schönbrünn - صلح فينا - في 14 أكتوبر 1809)، فكان من رأي محمد علي أن خروج النمسا من الميدان وترك إنجلترة تتحمل العبء الأكبر من النضال وحدها ضد فرنسا سوف يزيد من مكانة ونفوذ فرنسا في القسطنطينية ويمكنها من استمالة الباب العالي لإعلان الحرب على إنجلترة، ومع أن هذه ظلت تبذل جهدها للحيلولة دون ذلك ولعقد محالفة بين تركيا والنمسا وإنجلترة ضد فرنسا على النحو الذي سبق لنا توضيحه، فقد ظل محمد علي في شهري أغسطس وسبتمبر 1809 يتوقع فشل المفاوضات بين إنجلترة وتركيا لعقد المحالفة المنشودة بسبب انتصارات الإمبراطور في معركتي «إكموهل»
Echmühl
في 22 أبريل 1809، و«واجرام»
Wagram
Unknown page