Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
بيد أنه وإن كان اقتراح المحالفة قد ذهب أدراج الرياح، فقد كان لمقترحات الباشا الأخرى، والتي تضمنتها رسالة «آني» السالفة الذكر ، وفحواها تنمية التجارة، صدى لدى حكومة الهند، فبعثت هذه ب «جون بلزوني» إلى القاهرة، وعهدت إليه بمهمة «فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة، عبر مصر، ودعم هذا الطريق، بإنشاء تبادل تجاري» يعم نفعه الجميع.
وتحت إشراف القنصل «بريجز» دارت المفاوضات بين الباشا و«بلزوني»، وعلى نقيض ما فعله محمد علي قبل ذلك، أثناء مفاوضته «السرية» مع مندوبي «الجنرال فريزر»، عندما عرض أن يضع نفسه تحت حماية الإنجليز، رفض الباشا الآن «كل شرط يبدو أنه يضعه تحت حماية الإنجليز»، فقد تغير الحال الآن عما كان عليه في عام 1807، بالنسبة لمركز حكومته الداخلي، فقد قطع شوطا كبيرا في تحصين الإسكندرية منذ جلاء الإنجليز عنها، وقضى على العناصر المشاغبة في جيشه، وأقصى المشايخ عن شئون الحكم، ومكنه الانفراد بالسلطة من الاستقلال بتدبير الوسائل التي تكفل له الحصول على المال، وجنى ربحا وفيرا من تجارة الغلال، ومن احتكاره التجارة عموما، عدا ما بدأت تدره عليه احتكاراته الداخلية الأخرى، ونجح في إضعاف البكوات المماليك، وأنفذ الجيوش التي سوف تنتصر عليهم في اللاهون والبهنسا بعد قليل، ومع أنه كان لا يثق بنوايا الباب العالي نحوه، وشاب الكدر علاقاته به؛ لمماطلته في الخروج ضد الوهابيين في الحجاز، ولاتجاره مع الإنجليز، وتصديره الغلال إليهم بالرغم من أوامر الباب العالي المشددة لمنع تصدير الحبوب إطلاقا إلى أوروبا، وعدم إرساله الغلال إلى القسطنطينية إلا بالقدر الضئيل والذي لا يسد حاجة هذه منها، فقد صار تكدير العلاقات بينه وبين صاحب السيادة الشرعية عليه لا يقض مضجعه كثيرا، بعد الانقلابات التي وقعت في الدولة والتي أطاحت بعرش سليم الثالث (29 مايو 1807)، ثم بخليفته مصطفى، وأفضت إلى اعتلاء محمود الثاني عرش السلطنة (28 يوليو 1808) فأنهكت قواها، ثم تزايد ضعفها بسبب ثورات الوهابيين في بلاد العرب، وباشوان أوغلو
في بلغاريا، وريجاز
Rhigas
في اليونان، وعلي باشا في يانينا، وقره جورج (أو جورج الأسود) في بلاد السرب، ناهيك عن استمرار الحرب بين الدولة وروسيا، واحتلال جيوش الأخيرة للولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، وكان هذا الضعف الذي أصاب الدولة، إلى جانب عدم اطمئنانه إلى نواياها نحوه، حافزا لمحمد علي على التمسك بمشروع «استقلاله»، ذلك المشروع الذي أراد الاستعانة بمؤازرة الإنجليز له على تنفيذه، ولم يكن - وهذا «الاستقلال» هدفه - ليرضى بأن يفرض هؤلاء حمايتهم عليه، بل كان كل ما يبغيه منهم أن يؤازروه فحسب على تحقيقه.
وأيا ما كان الأمر، فقد كان «بلزوني» وكيل الشركة، مكلفا بعقد اتفاق يكفل تنمية التجارة بين الهند وإنجلترة، ويفتح الطريق البري عبر مصر للمواصلات بينهما، وقد أسفرت المفاوضة بينه وبين محمد علي عن عقد معاهدة تجارية في القاهرة في 28 مايو 1810، حصل الإنجليز بفضلها على مزايا كثيرة لتجارة الهند، كما مهد أحد شروطها لإمكان إدراك تلك المحالفة التي أرادها محمد علي، لو أن الحكومة الإنجليزية صدقت على المعاهدة؛ فقد أعلن الاتفاق اعتماد الامتيازات التي تضمنتها معاهدات الباب العالي أساسا للمعاملات أو التبادل التجاري مع الهند، وتعهد الباشا في حالة وقوع الحرب بين إنجلترة وتركيا، بعدم التعرض بشيء وبأي عذر كان للرعايا البريطانيين ولأموالهم، بل يمدهم بكل معاونة، ويضفي عليهم حمايته، ثم وافق الباشا على إرجاع كل من يغادر السفن الإنجليزية في موانيه، من نوتيتها وغيرهم هربا من الخدمة بها إلى هذه السفن، حتى ولو كان هؤلاء الهاربون قد اعتنقوا الدين الإسلامي، فأجاز أمرا أصر العثمانيون دائما على رفضه، ونصت شروط هذه المعاهدة على السماح للمسافرين باستخدام الطريق البري، دون تحصيل أية ضرائب منهم أو على أمتعتهم، وأما البضائع التي تنقل عبر هذا الطريق من السويس وإليها، فيدفع عن حمولة كل جمل مستخدم في حملها ثلاثة ريالات إسبانية، بينما تدفع عنها رسوم جمركية بواقع 3٪ من قيمتها.
وكتب «صمويل بريجز» إلى «السير آرثر ولزلي» في 30 مايو 1810، ينبئه بعقد هذه المعاهدة التي يرجو تصديق حكومته عليها، ويذكر الأسباب المسوغة في نظره لإبرامها، فقال: «يشرفني أن أذكر لكم، لما كانت حكومة الهند قد بعثت بالكابتن «ردلاند» في مهمة إلى مخا و«جون بلزوني» مساعده من أجل فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة عبر مصر، ودعمه بإنشاء تبادل تجاري ذي نفع عام، فقد بدأت مفاوضات في القاهرة تحت إشرافي، بين السيد «بلزوني» والباشا، وانتهت بنجاح إلى عقد معاهدة مؤقتة، أرجو أن تنال التصديق اللازم، فإن «محمد علي» باشا، ولو أنه لا يزال يدين بولاء اسمي للباب العالي، فقد صار من زمن طويل يتمتع واقعيا باستقلال من درجة ذلك الذي كان للمماليك قبل الغزو الفرنسي.»
ومع أن فريقا من الكتاب تعذر عليهم معرفة ما حدث بهذه المعاهدة، فالثابت أن الحكومة الإنجليزية رفضت التصديق عليها لعدم تسويء علاقاتها مع الباب العالي، وللأسباب التي ذكرناها، ولأن الإنجليز كان يقلقهم نشاط محمد علي في بناء أسطوله التجاري والحربي، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز، والذي كان يبغي استخدامه في البحر الأحمر.
ولكن الباشا، بالرغم من رفض الحكومة الإنجليزية التصديق على المعاهدة، لم ييئس من الظفر بالمحالفة معها، تلك المحالفة التي رجا منها إقبال الإنجليز على تأييد مشروع استقلاله، ومع أنه كان متحذرا دائما من ناحيتهم، حتى لا يفاجئ هؤلاء البلاد بغزو جديد، كما كان متحذرا كذلك من ناحية الفرنسيين للسبب نفسه، فقد استمرت علاقاته التجارية معهم، بل وتزايدت - كما رأينا - وينهض دليلا على إيثار الباشا لصداقتهم، ما حدث فيما يتعلق ببيع البضائع والسلع التي كان يصادرها الفرنسيون أو الإنجليز عند استيلاء أحد الفرنسيين على سفن الفريق الآخر في عرض البحر، ويأتون بها إلى المواني «العثمانية» أو غيرها، لبيعها، وقد استطاع «دروفتي» أثناء حملة «فريزر» في عام 1807، أن ينال موافقة محمد علي على مصادرة المتاجر الإنجليزية التي تأتي بها السفن إلى المواني المصرية، والإسكندرية خصوصا، متسترة تحت بعض الأعلام غير البريطانية، ولكن الفرنسيين عجزوا في عام 1811 عن بيع البضائع التي غنمتها إحدى سفنهم في البحر وأتت بها إلى الإسكندرية لتصريفها، كما عجزوا عن بيع سفينة إنجليزية غنموها كذلك، وهذا بفضل تدخل الوكلاء الإنجليز لدى الباشا الذي وافق على إرجاء الفصل في المسألة حتى يستطيع هؤلاء الحصول من الباب العالي على أوامر تمنع الفريقين المتقاتلين (إنجلترة وفرنسا) من بيع البضائع أو السفن المصادرة في المواني العثمانية.
وواقع الأمر أن مسلك محمد علي، سواء من حيث توثيق صلاته التجارية بالإنجليز، أو محاباتهم في موضوع الغنائم، قد جعل «سانت مارسيل» يكتب إلى حكومته منذ 13 يوليو 1811 - أي بعد إخفاق مشروع المعاهدة التجارية بعام تقريبا - «أن للباشا علاقات وثيقة مع الإنجليز، سواء بسبب تجارة القمح معهم التي تدر عليه ربحا طائلا، أو لرغبته في تأييدهم ل «مشروع» استقلاله الذي ينشده، أو لأنه يريد أن يصبح أقل تقيدا بأوامر الباب العالي الذي يخشى دائما أساليبه السياسية الماكرة، أو لأنه - أخيرا - يخشى من «اعتداء» دولة «أجنبية» عليه، ويعتزم زيادة جيشه لأربعين ألف مقاتل، يعتقد أنه العدد الذي لا يقهره به أحد.»
Unknown page