236

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

الفصل الأول

سياسة محمد علي

تمهيد

تضافرت عدة عوامل في السنوات القليلة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية على زيادة اقتناع محمد علي بضرورة العمل من أجل دعم أركان ولايته، كان أولها - ولا شك - تصميمه على الاحتفاظ بباشويته في وجه كل ما قد يتهددها من أخطار، سواء أكان مبعث هذه تغير الباب العالي عليه ورغبته في إقصائه عن الولاية، أم منازعة البكوات المماليك لسلطانه، أم تجدد الغزو الأجنبي على البلاد. ولم تكن هذه جميعا أخطارا جديدة، بل هي في جوهرها نفس الأخطار التي هددت بزوال الملك من يده في الأعوام الثلاثة السابقة، والتي استطاع التغلب عليها بعد تجارب قاسية مريرة وضعت باشويته في يد القدر، ومرت من جرائها بهذه الأزمات التي كادت تقضي عليها. (1) البرنامج الداخلي

وعلى ذلك، فقد رفض محمد علي - وقد تخطى العاصفة، وجلا الإنجليز عن البلاد - أن يمر بتجربة أخرى شبيهة بهذه التجربة، فرفض أن يظل هدفا يصوب إليه الباب العالي سهامه كلما تراءى له ذلك، أو لقمة سائغة قد يطمع البكوات المماليك في ازدرادها بسهولة إذا استطاعوا، وهم باقون على مناوأتهم له أن يفيدوا من فرصة غزو أجنبي آخر أو مؤامرة جديدة لعزله أو نقله تحاك خيوطها في القسطنطينية، كما رفض أن يظل مكتوف اليدين أمام جنده الذين تطلع بعض رؤسائهم إلى الولاية ذاتها، وعمدوا إلى تحريك الفتن بين الأجناد أنفسهم لإضعاف حكومته، أو شقوا عصا الطاعة علنا وتزعموا العصيان والفتنة، وأخيرا، فقد رفض محمد علي البقاء تحت رحمة نظام مالي منع عن خزانته قسما لا يستهان به من إيرادات حكومته في وقت عظمت فيه حاجته إلى المال، ولم يكن من المتيسر العثور على المال من غير اللجوء إلى كل طريق، وطرق كل باب، وابتكار كل وسيلة جديدة لسد مطالب الحكم والإدارة العادية من جهة، ولمعالجة الأدواء التي ترتبت على وضع البلاد كإحدى ولايات دولة متخاذلة ومستضعفة يسعى أعداؤها لتمزيق أوصالها، وتعجز هي عن تأسيس الحكم القوي في ولايتها.

ولم يكن هناك معدى عن أن يسلك محمد علي في سبيل الحصول على المال طريقا عده شاذا كثير من المعاصرين - مصريين وأجانب - عندما تعطلت مرافق البلاد بسبب الأزمات السياسية المتلاحقة، وكفاحه المستمر مع المماليك منذ وصوله إلى الحكم، فكسدت التجارة، وبطلت الصناعة - على ضآلتها - وأهملت الزراعة، وذلك في الأقاليم التي دخلت في حوزته من أقاليم باشويته، بينما استأثر البكوات دونه بمديريات الفيوم والصعيد الغنية بحاصلاتها الزراعية، ورفضوا دفع «الميري»، فكان وضعا شاذا تطلب لعلاجه وسائل شاذة، كان من بينها في نظر الأهلين مقاسمة الملتزمين «فائظ الالتزام»، وحرمان المشايخ من مسموحهم، وتحصيل الضريبة على فائض إيرادات الأملاك الموقوفة، وما إلى ذلك مما سوف يأتي ذكره جميعه.

ولما كان المشايخ قد توهموا أن من حقهم في هذه الأحوال الشاذة مطالبة الباشا بتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه عند وصوله إلى الحكم في عام 1805، وأن من حقهم - وهم الذين عاونوه على اجتياز بعض الأزمات الشديدة التي صادفها خلال العامين التاليين - أن يلزموه بطلب النصح والرأي منهم، واعتبر بعض الرؤساء القاهريين كالسيد عمر مكرم، أن الواجب يقتضي الباشا إشراكهم معه في ممارسة شئون الحكم، واعتبر سوادهم - وإن كانوا من غير المتصدرين وناشدي الزعامة كالشيخ عبد الرحمن الجبرتي - أن الظلم والطغيان هما شيمتا الحكم الذي أقامه الباشا، فقد استلزم العمل من أجل دعم أركان الباشوية أن يقضي محمد علي على عناصر هذه المقاومة التي لم يكن هناك بد من استفحال شرها إذا تركت وشأنها، أو مكن الباشا لحاملي لوائها من المعارضين من مقاسمته السلطة والحكم، سواء أكان هؤلاء من الذين يتحينون الفرص للجهر بنقدهم لأساليبه علانية، أم إنهم يؤثرون التذمر في صمت وسكون وإن اشتدت كراهيتهم لحكمه، فلم يكن انفراده بالسلطة إلا إقصاء لطائفة اقتصر دورهم في الأجيال السابقة على الوساطة والشفاعة بين الأهلين وحكامهم، وكان محمد علي وحده، بسبب الأزمات التي صادفها في السنوات القريبة، المسئول عن قيامهم بذلك الدور السياسي الذي استهدف «قلب نظام الحكم» في هذه الولاية، والذي وجب عليه الآن - وقد أراد التفرغ لتحقيق غايته الكبرى - أن يجرد هذه الفئة الدينية من كل سلاح قد يعمدون إلى استخدامه ضده، عامدين أو غير مقدرين لعواقبه، لتقويض عروش ولايته.

على أن العثور على المال، أو تطويع الجند، أو القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية، أو إقصاء المشايخ، كانت جميعها مسائل لم يلق محمد علي عنتا أو إرهاقا كبيرا في معالجتها، بل تضاءلت خطورتها في واقع الأمر إلى جانب نضاله مع البكوات المماليك؛ وذلك لأن ما وقع من حوادث خلال سني 1805 و1807 قد نهض دليلا على أن مبعث الخطر على باشويته من هؤلاء البكوات لم يكن قوتهم أو قدرتهم على مناوأته وقتاله، بقدر ما كان اعتمادهم على معاونة إحدى الدول الأجنبية لهم لتمكينهم من استرجاع نفوذهم وسلطانهم في حكم البلاد، أو احتمال مبادرة الباب العالي بتأييدهم من جديد. وقد شهد محمد علي عمارة القبطان صالح باشا تأتي إلى مياه الإسكندرية لتنصيب الألفي شيخا للبلد ولنقله هو إلى سالونيك، كما أنه شهد الإنجليز يأتون بحملتهم لاحتلال الإسكندرية، وينشط وكلاؤهم وقوادهم في استنهاض همة البكوات وحثهم على النزول من الصعيد والانضمام إليهم بفرسانهم، وكان بعد مشقة وجهد عظيمين أن نجح محمد علي في جعل البكوات يلزمون خطة الحياد في النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.

بيد أن هؤلاء البكوات، ما كانوا ليرضوا بالحياد، لو أنه كانت لهم زعامة نابهة ولم تفرقهم الخلافات، ولولا توسط الوكلاء الفرنسيين مع أقوى طوائفهم. وتلك أمور قد تتبدل، لو أن غزوة جديدة وقعت، وحزم البكوات أمرهم، وشاءوا وقتئذ درك ما فاتهم وتصحيح أخطائهم الماضية.

وكما كانت «حملة فريزر» أحد الإجراءات التي اقتضاها الموقف العسكري- السياسي في أوروبا، فقد يجد على هذا الموقف نفسه ما يدعو الإنجليز لإعادة كرتهم على مصر، أو ما يدعو الفرنسيين في هذه المرة إلى سبق غرمائهم في احتلال هذه البلاد، وكلا الاحتمالين ماثل، ما دامت مصائر هذه الولاية مرتبطة بتطور العلاقات بين تركيا وبين المعسكرين المتناضلين «إنجلترة وفرنسا»، ولا تتمتع الباشوية ب «وضع» يأذن لها بالوقوف موقف الحياد إذا رأت تركيا الانحياز إلى أي هذين المعسكرين، وكلا الاحتمالين ينطويان على أخطار محققة، لا من حيث تعريض هذه البلاد للغزو فحسب، وانغماسها لذلك في حرب يجهل المتفائلون والمتشائمون على السواء نتائجها، ولكن كذلك لتوقع قيام الحرب الأهلية في داخل البلاد ذاتها عند انضمام البكوات إلى الأعداء الغزاة. (2) البرنامج الخارجي

Unknown page