Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ثم تأكد لدى القاهريين عزم الباب العالي على نقله عندما ورد قاصد من طرف قبودان (أو قبطان) باشا إلى بولاق في 4 يوليو هو سعيد أغا كتخدا البوابين لمقابلة محمد علي، فمكث بالقاهرة أياما ثلاثة تشوق القاهريون أثناءها لمعرفة ما أسفرت عنه هذه المقابلة، ولكن أولي الشأن تكتموا أمرها، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه لم يظهر ما دار بين محمد علي ورسول القبطان باشا، ولم يكن في صالح محمد علي في دور الأزمة هذا أن يذاع شيء عن موقفه منها، وهو الذي لم تكمل استعداداته لمواجهتها من ناحية، وكان لا يزال يجهل مقدار القوة التي لدى القبطان باشا من ناحية أخرى، ولا يعرف ما إذا كان القبطان باشا مصمما على استخدام ما لديه من قوات على كل حال في إرغامه على إطاعة أوامر الباب العالي إذا هو أظهر عصيانه لها من ناحية ثالثة، وأما قابجي أو رسول القبطان باشا فقد حمل إلى محمد علي الأمر بالذهاب إلى الإسكندرية حيث قد أعد له بها مركب لنقله إلى سالونيك مقر ولايته الجديدة، ولم يسع الباشا في ظروفه الراهنة إلا إظهار القبول، فأجاب أنه مستعد لطاعة أوامر السلطان صاحب الحق عليه شرعا وقانونا والإذعان لإرادته، وليس أحب إليه من مغادرة بلاد كمصر تسود بها الفوضى، وأنه كان قد تهيأ فعلا قبل ذلك لمغادرتها وأنجز كل استعداداته للذهاب، ولكنه لما كان محط أنظار الجميع، ويرى الأهلون والجند كل حركة يأتي بها، فهو لا يستطيع الإفلات أو الانسلال من العاصمة، ولا ندحة له عن البقاء بها ما دام لا يدفع العشرين ألف كيس قيمة المرتبات المتأخرة التي يطالب بها الجند، ثم أشهد رسول القبطان باشا نفسه على ذلك الحجر المضروب على حريته بسبب ملازمة الحرس له والذي لم يكن في وسع القابجي أن ينفي وجوده، وغادر القابجي القاهرة ومعه رسول من قبل الباشا، سليم أغا قابجي كتخدا المعروف بقبي لركخسي في 7 يوليو، واستأنف محمد علي نشاطه في التو والساعة لإكمال ما يجب من استعدادات قبل أن يعلن رفضه صراحة لأمر النقل من مصر، كما صح عليه عزمه.» وقال «دروفتي» - رسالة 15 يوليو - إن الباشا أكد في جوابه خضوعه التام لرغبات الباب العالي، ولكنه يجب عليه قبل الإذعان لأوامره أن يدفع العشرين ألف كيس المستحقة للجند وإلا قتله هؤلاء، وعرضوا القاهرة لكوارث ونكبات مروعة، ثم استمر يقول: «والباشا لا يزال يمون القلعة، وقد طلب من حسن باشا والرؤساء الأرنئود الذين بالصعيد الحضور إلى القاهرة للعمل معه، كما أصدر أوامره للجند المبعثرين في الوجه البحري للاحتشاد وتغطية رشيد ودمنهور، ووصلت حديثا نجدة من الشام ألف فارس من الدلاة، وقد قرر الباشا الدخول بنفسه في المعركة إذا لزم الأمر على أن يعهد بالإشراف على القلعة والقاهرة إلى أحد أقربائه، ويتخذ العدة لمنازلة الألفي.»
وذاع في القاهرة أن الألفي أرسل هدايا كثيرة إلى القبطان باشا وفيها ثلاثون حصانا منها عشرة برخوتها ومن الغنم أربعة آلاف رأس وجملة أبقار وجواميس ومائة جمل محملة بالذخيرة وغير ذلك من النقود والثياب برسمه ورسم كبار أتباعه، ومنذ أول يوليو كتب «دروفتي» أن أمين بك الألفي وصل إلى الإسكندرية ومعه هدايا للقبطان من عشرين حصانا ومائة جمل وحبوب وأغذية ومبلغ كبير من المال، ثم عاد يقول في 10 يوليو: «إن المال الذي أهدى به الألفي القبطان باشا على يد أمين بك قدره مليون قرش، ثم دفع أمين بك إلى نائب القنصل الإنجليزي بالإسكندرية وتاجرها السيد «بريجز»
Briggs
مبلغ 700000 قرش يقال: إن الألفي مدين بها للحكومة الإنجليزية، كما وعد الألفي أن يعطي بمجرد دخوله القاهرة حق التزام السنا والنطرون إلى بيت «لي»
Lee
التجاري في لندن، وكان من الأنباء المزعجة التي ذكرها «دروفتي» أن إبراهيم بك قد أوفد كتخداه (وكيله) من الصعيد بهدايا إلى القبطان باشا.» وفضلا عن ذلك فقد أكد «دروفتي» أن كل شيء يدل على أن القبطان باشا موال تماما للإنجليز.
وعلى ذلك فقد وجب على الباشا أن ينشط بسرعة لدرء هذه الأخطار، وانحصرت خطته في إنجاز وسائل الدفاع عن القلعة والقاهرة، والوثوق من تأييد كبار الجند ورؤسائهم له في موقف المعارضة الذي وطد العزم على اتخاذه ورفض قرار النقل إلى سالونيك، وإشراك المشايخ والعلماء معه في هذا الموقف، حتى يتخذ من مناصرتهم له حجة يستند عليها في تسويغ مقاومته لأوامر الباب العالي، ولإعطاء الفرصة للباب العالي نفسه استنادا كذلك على هذا المسوغ للإذعان للأمر الواقع إذا لم يعد هناك بد من التسليم به، وتهدئة القاهريين وجمعهم حوله والاطمئنان إلى التزامهم السكون والانصراف إلى شئونهم أثناء هذه الأزمة، ثم بذل مساعيه ليس مع القبطان باشا وبطانته فحسب، بل ومع رجال الديوان العثماني بالقسطنطينية كذلك، بالطرق التي قال إنه يعرفها (أي رشوتهم) ثم تعزيز قواته العسكرية، وأخيرا ملاحقة الألفي ومطاردته والعمل في الوقت نفسه على تهدئة وتسكين بكوات الصعيد بأي ثمن.
وكان بسبب ما أظهره محمد علي من نشاط في تحصين القلعة والقاهرة، حيث شرع في عمل آلات حرب وجلل، وجمع الحدادين بالقلعة، وأصعد بنبات كثيرة واحتياجات ومهمات إلى القلعة أن صار واضحا للقاهريين أنه يعتزم المقاومة الجدية، ورأى الشيخ الجبرتي فيما فعله علامات العصيان وعدم الامتثال، ثم استقدم ألفا من فرسان الدلاة من الشام لنجدته، على أن أهم ما فعله من ناحية التهيؤ للمقاومة العسكرية إذا لزم الأمر، كان الحصول على تأكيد رؤساء الجند الأرنئود ولاءهم له، فجمع كل الرؤساء الموجودين منهم بالقاهرة وحواليها وكانوا سبعين زعيما أو رئيسا، وعرض عليهم الأمر، فقال: «لقد طلب الباب العالي نفيي، وعزمي هو الامتثال لأمره، ومع ذلك فالظاهر أن الشعب يعارض في رحيلي وذهابي، فبماذا تشيرون علي أنتم الذين وافقت حتى الآن من أجلكم جميعا على تحمل أعباء الحكم الثقيلة؟» فكان جوابهم أنهم يريدون بقاءه، وتظاهر محمد علي في هدوء وسكون بأنه مصر على عزمه، وعندئذ شرع الرؤساء الأرنئود يلحون عليه في البقاء ويحاولون إقناعه بأنه إذا لبى أوامر الباب العالي فقدت البلاد هدوءها وسكينتها، وضحيت مصالح الجيش بأسرها، وهو الذي أظهر في كل المناسبات إخلاصا لا حد له لشخصه، ووضح أن الخوف من البقاء تحت رحمة الأتراك والمماليك قد بدأ يحدث أثره في نفوس الرؤساء الأرنئود، وعندئذ نبذ محمد علي هدوءه وسكونه، وتحدث إليهم بلهجة حازمة، فسألهم عما إذا كانوا يريدون حقا أن يدوسوا بأقدامهم أوامر السلطان، وهل هم أقوياء بالدرجة التي تمكنهم من مقاومة الباب العالي إذا هاجمتهم جنوده؟ وهم قد يستطيعون ذلك بكل مشقة إذا تسنى لهم ترويض أجنادهم على الطاعة بينما لا يعرف هؤلاء النظام ويعيشون من نهب الأهالي وسلبهم، ويرهقونه (أي محمد علي) ويزعجونه دائما بمطالبتهم بمرتباتهم، ثم قال: «وهل في مقدوركم الادعاء بأن في وسعكم القتال ضد قوات الألفي بك والقبطان باشا والانتصار عليها أو إلزام جندكم بتأدية واجبهم؟ وهل تفضلون حقا تعب الحرب ونصبها على ملذات حياة الدعة والراحة ومسراتها؟ لقد تركتموني وحدي ومن زمن طويل أتحمل عبء الحكم وتصريف الشئون وما يتبع ذلك من صعوبات ومشتقات بينما تتمتعون أنتم في سلام بثرواتكم التي جمعتموها، وما نوع الثقة التي تريدونها أن تكون لي في وعودكم، وأية رابطة قوية تلك التي يمكن أن تربط مصالحكم بمصالحي إذا حدث من باب الافتراض أني وافقت على استنزال غضب السلطان علي وعرضت نفسي لانتقامه مني والتضحية من جديد براحتي ومستقبلي من أجلكم، فإن كنتم تريدون بقائي معكم ولا زلتم كما كان العهد بكم في الماضي، الرفقاء الصادقين فلتقسموا إذن على القرآن الكريم أنكم لن تتخلوا عني حتى نموت سويا إذا لزم الأمر في سبيل قضية يجب أن نكون جميعا مشتركين فيها.»
هذا الخطاب الذي تضمن تأنيبا ظاهرا لهؤلاء الرؤساء الأرنئود، وأظهر الباشا بمظهر من لا يهتم بنفعه الذاتي ويحرص بدلا من ذلك على مصالحهم هم أنفسهم، لم يلبث أن أحدث الأثر المطلوب، فطغت على المجتمعين موجة من الحماس، جعلتهم يحلفون اليمين التي طلبها الباشا منهم، ثم إنهم عمدوا لإظهار ولائهم له باللجوء إلى إحياء عادة قديمة في بلادهم هي أن يمسك اثنان هما أكبر الموجودين سنا، بطرفي حسام يخطو من فوقه كل واحد من الحاضرين عند المناداة باسمه وسط سكون عميق، ومعنى ذلك أن رباطا لا تنفصم عراه أبدا قد صار يربط كل المشتركين في هذه العملية، وأن من يخرج على هذا العهد لحق به العار والشنار وصارت فضيحته عظيمة بين قومه.
وكان في غمرة هذا الحماس أن بسط محمد علي لهؤلاء الرؤساء ما يلاقيه من متاعب بسبب خلو الخزانة من المال، فاتفق هؤلاء على استنزال مرتبات خمسة شهور مما كان مطلوبا للجند عن ستة أشهر، وقد سبق ذكر شيء عن نظام جعل كل زعيم أو رئيس مسئولا مباشرا عن دفعها للجند، وينالها هؤلاء بواسطته وعلى يده، وعلاوة على ذلك فقد تبرع الحاضرون كل على قدر طاقته بمبلغ من المال من جيبه الخاص، فاجتمع لدى الباشا بفضل ذلك ألفا كيس، خصصها لرشوة الديوان العثماني، وذاع خبر تأييد رؤساء الأرنئود لمحمد علي، وزاد ذلك من انطباع تصميم الباشا على المقاومة وعصيان أوامر السلطان، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه جمع إليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم، فوافقوه على ذلك؛ لأنه ما من أحد منهم إلا وصار له عدة بيوت وزوجات والتزام بلاد وسيادة لم يتخيلها، ولم تخطر بذهنه ولا بفكره، ولا يسهل به الانسلاخ عنها والخروج منها ولو خرجت روحه.» وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 15 يوليو: «إن محمد علي صرح في الاجتماع الذي عقده مع رؤساء الجند على أن القرار الذي اتخذه الباب العالي لطردهم من مصر ولتأسيس سيطرة المماليك بها إنما كان بسبب مؤامرات الإنجليز والرشاوى التي قدموها للديوان العثماني؛ حيث دفعوا لهذه الغاية 2400 كيس، فجعلهم الخوف من أن يتركهم في المركز الحرج الذي شعروا بأنهم صاروا موجودين فيه الآن يقدمون على التضحيات والتبرعات التي ذكرناها.»
Unknown page