المقدمة
لماذا أنت حبيبتي يا مصر؟
نيلك يا مصر أجمل الأنهار
أرض مصر «تنباس»
أموت وتحيا مصر
مصر أرض الأديان
مصر أم المصريين أجمعين
ما أحلى شمسك يا مصر!
حمى الله شعب مصر العظيم
شدي حيلك يا مصر
مصر مئذنة مضيئة
أنت قبس ونور يا مصر
مصر الأمل
الحب بد وحب مصر بدان
مصر للمصريين وطن مكين
مصر العبور
مصر مع الجميع
مصر هي التاريخ
مصر الهرم
مصر العمل
مصر التي في خاطري
مصر قلب الشرق
مصر الخلود
مصر أرض العمالقة
قبرص الحقيرة الصغيرة ومصر العظيمة الكبيرة
مصر تحت المجهر
مصر جنة الولهان
مصر العجوز العذراء
مصر متحف العالم
الكل في حب مصر سواء
مصر لا تنام
مصر لا تعرف الخوف
مصر فوق النقد
مصر للسلام درع وسيف
بالإرادة سنبني مصر
مصر لن تموت
أنا ومصر كيان واحد
مصر .. مصر .. مصر
يا مصر، أنت حلوة عذبة
هواؤك يا مصر منى الأرواح
مصر الكرامة
من يبصر مصر فقد أبصر الدنيا كلها
لا حياة بغيرك يا مصر
مصر عروس الشرق
مصر الاشتراكية
مصر النضال
مصر الشهداء
مصر بدر البدور
مصر النور والأمل
حكايتي مع مصر
مصر البداية هي مصر النهاية
المقدمة
لماذا أنت حبيبتي يا مصر؟
نيلك يا مصر أجمل الأنهار
أرض مصر «تنباس»
أموت وتحيا مصر
مصر أرض الأديان
مصر أم المصريين أجمعين
ما أحلى شمسك يا مصر!
حمى الله شعب مصر العظيم
شدي حيلك يا مصر
مصر مئذنة مضيئة
أنت قبس ونور يا مصر
مصر الأمل
الحب بد وحب مصر بدان
مصر للمصريين وطن مكين
مصر العبور
مصر مع الجميع
مصر هي التاريخ
مصر الهرم
مصر العمل
مصر التي في خاطري
مصر قلب الشرق
مصر الخلود
مصر أرض العمالقة
قبرص الحقيرة الصغيرة ومصر العظيمة الكبيرة
مصر تحت المجهر
مصر جنة الولهان
مصر العجوز العذراء
مصر متحف العالم
الكل في حب مصر سواء
مصر لا تنام
مصر لا تعرف الخوف
مصر فوق النقد
مصر للسلام درع وسيف
بالإرادة سنبني مصر
مصر لن تموت
أنا ومصر كيان واحد
مصر .. مصر .. مصر
يا مصر، أنت حلوة عذبة
هواؤك يا مصر منى الأرواح
مصر الكرامة
من يبصر مصر فقد أبصر الدنيا كلها
لا حياة بغيرك يا مصر
مصر عروس الشرق
مصر الاشتراكية
مصر النضال
مصر الشهداء
مصر بدر البدور
مصر النور والأمل
حكايتي مع مصر
مصر البداية هي مصر النهاية
مصر التي في خاطري
مصر التي في خاطري
تأليف
أمين سلامة
المقدمة
حقا كل شيء مرهون بأوان .. عشت الدهر كله فما جال بخاطري أنني سأكتب - في يوم ما - هذا الكتاب الصغير .. غير أن فكرته راودتني فجأة .. كان حب مصر كامنا في باطني، متغلغلا في أحنائي، وجاريا مع دمائي .. كان في كل طرفة من طرفات عيني، وفي كل سكنة وكل حركة من حركاتي .. كان ماردا جبارا بالغ الضخامة، أخذ يؤرقني دون أن يحدثني .. ولكن أنا الذي تحدثت إليه فحدثني .. كلمته فكلمني، فكان الذي خرج منه هو الذي ستقرؤه في هذا الكتيب.
لا أظن أن مصريا واحدا لا يحس بأحاسيسي ولا يشعر بمشاعري، ولا يفهم صحة كل كلمة من كلماتي. فالكل مصريون مثلي، يهيمون بحب مصر مثلي، بل وأكثر مني، ولكني سبقتهم في التسجيل والتحبير، وفي نشر الكلمة الصريحة المعبرة عما يعتمل في باطني، وعما يخالج نفسي من مشاعر قوية عارمة بلغت ذروتها عندي، فخرجت لتجد طريقها إلى القرطاس لتسجل هذا الحب الجياش في كلمات من نور ونار، قوامها الصدق والحق والصراحة والوفاء نحو أعظم أم أرضعتني وغذتني وآوتني وحمتني وعلمتني وقومتني .. نحو مصر بلدي العظيم ووطني الغالي الذي عشت في أحضانه أحلى أيام طفولتي، وأجمل أيام شبابي، وأهدأ أيام شيخوختي إلى حين أن تأتي منيتي؛ وعندئذ لن أعدم منه مساحة.
مصر الحبيبة أغلى من كل حبيبة؛ لذا أخصها بأغلى كلام وأحلى عبارات، وأجمل الأوصاف وأعذب الألفاظ.
ومصر كأم رءوم، لا يكفيني في هذا الكتاب أن أقبلها وحدي، بل أريدك أن تقبلها معي وتلثم يديها وقدميها، وتسجد عندهما لتقدم فروض الشكر والعرفان والامتنان.
ومصر كوطن ولدت فيه وفيه أموت، هو عندي أغلى بقعة في الدنيا برمتها، بل هو عندي الدنيا بأركانها الأربعة، ببحارها ومحيطاتها ووديانها وجبالها .. وأمام وطني يهون كل شيء .. الدم والروح والمال والممتلكات .. أنا أمام وطني راكع خاشع وساجد عابد؛ أتعبد تماما كما يتعبد الناسك في محرابه، والشيخ في مسجده، والقس في كنيسته، والراهب في قلايته.
كتبت هذا الكتاب للشباب علهم يقرءونه فيستفيدون ويفيدهم .. ولعلهم يجدون فيه ضالتهم ويعلمون أن مصر فوق كل شيء .. فوق كل حب .. وفوق كل غادة حسناء فاتنة يشتهونها، وفوق كل وجبة دسمة يتناولونها، وكل جرعة شراب يشربونها.
من يجعل مصر قبلته، قبلة الله في فسيح جناته، ومن خاف أن يدنس أرض مصر، أغناه الله وأثراه وأغدق عليه وافر نعمه، ومن ذاد عن حمى مصر، حماه الله ووقاه من كل سوء، ووقاه شر ذلك اليوم ...
فيا قارئ هذا الكتاب، شيخا كنت أم فتى، إنني أناشدك أن تكون به رحيما كريما، محافظا عليه وحافظا له .. تعطيه ولدك من بعدك، أو تتركه لأخيك أو أختك فهو كتاب لا يموت؛ لأنه عن مصر الخالدة التي هي كنانة الله في أرضه، من مسها بسوء قصم الله ظهره .. وأي كلام عن مصر لا يمكن أن يموت أو يتطرق إليه الفناء فيبلى ويفوت .. هذا كلام سرمدي أبدي، كتاريخ مصر الضخم اللازب، الذي خلده الزمن وخلدته الأعمال الجسام التي قام بها شباب مصر وكهولها وشيوخها ونساؤها، قام بها فتيان مصر وفتياتها.
لم أضمن هذا الكتاب إحصائيات، ولم أذكر به أسماء إلا فيما ندر، فما هذا كتاب تاريخ أو تأريخ، بل جرعة من الأحاسيس الكريمة، اعتملت في باطني، فأخرجتها لأسجلها على الزمن كي تبقى على مر العصور .. عبرة لمن يعتبر وهداية لمن يهتدي، وقبسا لمن عاش في الضلال والظلام، ونسي في طياتهما جمال الزهر الباسم، وطلعة القمر المنير، ومشرق الشمس الأبلج، ومجرى النيل الطويل، وتاريخ مصر العريق الأصيل لهذا ولغيره من أهل مصر الأمجاد المباركين، أترك هذه السطور العارمة بحب مصر، والناطقة بمحاسن مصر، والمعبرة عن مفاتن مصر .. أتركها لهم ليستمتعوا بها ويرددوها في منامهم قبل صحوهم، وفي غفلتهم قبل سكرتهم لعلهم يهنئون ويهدءون ويستكينون ويلينون، ويغرقون في حبها مثلي، ويعشقونها أضعاف عشقي، ويموتون من أجلها كما مات غيرهم وغيري .. ولعلهم يفتقدونها وهم مسرورون مبتهجون جذلون، ويسهرون من أجلها كأي عاشق مفتون برح به الهوى.
هذا كتاب لكل مصري، يحب مصر ويعيش على أرض مصر، ويحلم بها كما أحلم بها أنا وأراها في منامي، ويذوب في حبها كما أذوب أنا .. ودعني أخيرا أقول معك: نموت وتحيا مصر ...
أول يناير 1979م
أمين سلامة
لماذا أنت حبيبتي يا مصر؟
إنها فعلا حبيبتي، ولا أجد غيرها حبيبي .. فهي أبي وأمي وأهلي وأرضي ومزرعتي وترعتي ومائي وهوائي وسمائي، وستكون في يوم ما لحدي وكفني، فكيف بالله عليك، لا أحبها؟
كيف تطلب مني - كمصري - ألا أحب بلدي الأصيل وليد الفراعين العظام .. مصر هي بحق أم الدنيا .. مصر الحبيبة.
فيا مصر، يا حبيبتي .. يا كل حبي، يا حياتي وروحي وقلبي وجناني .. يا عيني ورأسي .. ويا كبدي وأحشائي .. يا قلبي النابض وجناني الخفاق وأنفاسي المنطلقة، وروحي الطاهرة، ويدي العاملتين، وعيني الثاقبتين، وكبدي الحي المملوء عشقا لك .. كيف لا أكون لك محبا؟
يا مصر .. كيف تطلبين مني أن أعشق غيرك .. أو أحدا سواك أو قبلك؟ .. أنت أولا، وأنت قبل كل شيء .. فأنا لا أحبك مخدوعا لأنني أعرف جيدا ويعرف العالم كله من حولي، أنك أصدق أرض، وأطهر بقعة خلقها الله على ظهر البسيطة.
ما غابت شمسك يوما، ولا جفت أرضك يوما .. ولا نضب نيلك يوما .. وما اشتهاك أحد غيري إلا استضفته ولفظته كي تحضنيني أنا وحدي .. أنا صاحبك المصري، وحبيبك الأول الذي لم يحدث في تاريخك العريق أن تنكبت لي، أو أوليتني ظهرك طويلا .. فأنت صادقة وفية، وأمينة شريفة طاهرة، وخيرة مباركة، وودودة ولودة سمحاء جميلة، ورقيقة رفيقة محبة .. قوامك الدين والشرف وحسن المعاملة، ومن شيمك الحميدة: الصبر والجلد والصمود، والوفاء والشمم وعلو الهمة.
لذا كنت حبيبتي المفضلة، يا مصر .. أنام في أحضانك، وتنامين في أحضان أفكاري وفي خزائن قلبي وأغوار روحي، حيث أحتفظ لك بعرش من دمي النقي الذكي، يفديك ساعة الفداء، وينهمر من أجلك مدرارا؛ كي يرويك ويشفيك ويحميك من غوائل المعتدي الأثيم، الطامع فيك.
هذه هي علاقتي بك، يا مصر، يا حبيبتي، فيا لها من علاقة سامية عالية علو النجوم في قبة السماء.
نيلك يا مصر أجمل الأنهار
ما أكثر الأنهار التي رأيتها في رحلاتي وأسفاري إلى شتى بلاد العالم! .. كلها جميلة تحمل الماء جاريا، ولكنني - وايم الحق - لم أر أجمل من النيل، ولا أروع منه نهرا في هذا الوجود طرا .. النيل عظيم بجد .. فهو شامخ قوي عتيد عنيد فريد في طوله وعرضه .. شواطئه قوية متينة خضراء منبئة، تتكلم بجميع اللغات واللهجات والنبرات .. النيل عظيم القدر والمكانة والمهابة .. هو رجل بمعنى الكلمة، يحترم نفسه وكلمته .. في مشيته قوة وجبروت، كما أن فيها بركة وخيرا .. النيل دائم العطاء، يعطيك باستمرار، ولا يأخذ منك أبدا .. إنه يهبك الحياة والوجود والبقاء، ويسهر على ذلك بنفس راضية وقلب نقي وروح صافية وبجود حاتمي فذ .. إنه يسقي الظمآن، إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم أرضا، بطريقة تكاد تكون فريدة .. فمياهه حلوة عذبة مقبولة الرائحة، لا تشم فيها إلا رائحة الحياة والقوة. ومن أعظم سعادتي أنني ولدت على شاطئيك أيها النيل العظيم، وأن أول جرعة ماء ذقتها جاءوني بها في قدح مصري .. ملئوه من نبعك الفياض ومجراك السخي، وكنت وقتها تبتسم لهم ابتسامة حلوة تنم عن الرضا والحب العميم لي دون أن تعرفني، وكأنك كنت تعرف أنني من أرض مصر التي أنت مسئول عنها ليل نهار. مسئول عن كل حشرة تدب فوق أرضها وكل روح موجودة في ربوعها، تسقيها من مائك الرقراق الصافي بلا حساب ولا شح .. فكل ما في مصر من هوام وحشرات ونبات وحيوان وبشر، أنت لهم أب رحيم ووالد كريم وحاكم عادل، تهبهم مياهك بالقسطاس وبلا معيار ولا مكيال .. فيشرب من مائك من يريد وما يريد أن يشرب، ويعب من فيضك كل من يرغب وما يرغب في أن يعب .. المهم أنك تحس أخيرا بأن الجميع قد شربوا وارتووا واستراحوا وذاقوا حلاوتك. فسرت حلاوتك في حلاوة ألسنتهم وحلاوة معاملاتهم وحلاوة أعمالهم وحلاوة آمالهم وأهدافهم .. فيا نيل مصر، لقد شربت منك بحق أول جرعة ماء ففعلت بجسمي ما لم يفعله لبن ثدي أمي .. فإن أمي منعت لبنها عني يوما ما، أما أنت فلم تقطع .. يا نيل .. إن مصر التي أنت حبيبها هي أيضا حبيبة لك، وإنني لأحبها لأنك مثلي تحبها وهي تحبك. وإن ثلاثتنا - ولا شك - لفي عشق جميل هني.
أرض مصر «تنباس»
الأرض حينما تقوم وتتواجد، تجد لها حبيبا عاشقا مولعا بها، متيما بحبها ومغرما بترابها .. وقد يصل به فرط الحب إلى أنه يحبها أكثر من حبيبة القلب والعين معا .. كما أن الأرض تجد لها أيضا من يريد اغتصابها واقتناءها والاستحواذ عليها .. وأرض مصر دون سائر الأراضي جميعا هي الدرة الوحيدة البراقة والمتلألئة في تاج الدنيا بأسرها؛ لذا كانت طمع الطامعين ومحط أنظار الغاصبين؛ اشتهاها هواة السلب والنهب والجشع .. وتاريخ مصر حافل بأسماء هؤلاء الغازين الغاصبين الناهبين، وأنا لست بصدد ذكر أسمائهم، فليس هذا مقالا تاريخيا .. وإنما هو مجرد كلمة حب كتبتها من أجل مصر، قلب مصري يعشق أرض مصر؛ لأنه ترعرع في كنفها، وجرى فوق بساطها الأخضر السندسي، وعلى رمالها الصفراء الذهبية، وفوق طينها الذي أروته أحلى مياه جادت بها السماء وأعذب ماء موجود في الدنيا .. «ماء النيل» الطويل الجليل، البالغ الجبروت، والعذب السلسبيل.
وأرض مصر، يا سادة، أرض كثيرة العطاء، تعطيك بلا حساب وبلا توقف .. إنها جوادة سخية تعرف واجباتها والتزاماتها في مواعيدها وفي غير مواعيدها. وأنا لا أتذكر أنه حدث في تاريخ مصر القديم أو الحديث، أن أجدبت أرض مصر أو أصابها قحط، باستثناء قصة السنين السبع العجاف، وهي قصة قديمة قدم الزمان، ولم تتكرر مرة ثانية لعلة غير خافية .. لأن الله سبحانه وتعالى جعل أرض مصر، بعد هذه الحادثة، أرضا مشتهاة، مطلوبة ومرغوبة من دون سائر أراضي الدنيا قاطبة؛ لأنها أرض مباركة وزرعها وفير ممتاز، ولا ضريب لقطنها في كافة بلاد العالم، وقمحها أبيض ناصع البياض، وذرتها وأرزها وقصبها الحلو من أجود الأصناف وأرقاها. ثم إن الله جل وعلا قيض لهذه الأرض بالذات أمهر الفلاحين ذوي المجد العريق والجد والاجتهاد والصبر والجلد، المحبين لأرضهم والعاشقين لها والمهيمنين عليها، والعالمين ببواطنها وأسرارها وخفاياها، والسادة عليها بلا سيادة ولا تعليم ولا ثقافة، ولا تدريس ولا تلقين .. فلاح مصر فلاح فنان أصيل، يهندس بلا هندسة ولا آلات ولا عدد ولا ماكينات .. يهندس ويبدع ويفلح؛ لأن أرض مصر المباركة تخضع من تلقاء نفسها لمشيئته وإرادته، ويسرها أن ترضخ لسيطرته ولتوجيه يديه المباركتين الرفيقتين ... أرض مصر زوجة لهذا الفلاح تطيعه طاعة عمياء، تأتمر بأمره، وتسعد لسعادته وتهنأ لهنائه .. يهمها أمره، ويعنيها رخاؤه وراحته ونعمته؛ لذلك فهي تعطيه بسخاء وبأقل جهد ممكن؛ لأنها أروع زوجة في ميدان الوفاء والعطاء والإباء والطاعة والهمة والمعاملة والتعامل، والشرف والعزة والكرامة.
مباركة أنت يا أرض مصر، فدعيني أقبلك بفمي وقلبي قبلات المعترف بجميلك والشاكر لفضلك العالم بقدرك والهائم بحبك، الممتن، الممنون، حافظ الجميل العزيز .. ودعي الملايين الرابضين فوق صدرك يقبلونك معي، فهم أيضا يشعرون بمثل شعوري ويحسون بنفس أحاسيسي، ولعلهم مثلي تواقون إلى ما أتوق إليه أنا شخصيا، فأنت، يا أرض الفراعين، أهل لهذا، بل ولأكثر من هذا.
أنا فداك يا أرض مصر .. أنا لك .. أنا أهواك وأهوى ذرات ترابك وطينك الطري، ورمال صحاريك العسجدية .. إن فمي ليقبلك كما يقبل أجمل امرأة في الوجود. كما أنني أشتهي أن «أبوسك» فأطبع ألف «بوسة» على وجنتيك؛ حتى أحظى بأسمى شرف يمكن لمصري أن يحظى به.
أموت وتحيا مصر
ما من مصري يحجم عن الموت في سبيل الحبيبة مصر .. ما من مصري يضن بروحه وأنفاسه وأمواله من أجل العظيمة «مصر» .. ما من حنجرة في حلق مصري لا يسعدها أن تهتف وتقول: «نموت وتحيا مصر».
ليس هذا وطنية صادقة أصيلة فحسب، بل هو حق وإعزاز وشكر وامتنان، وإحساس حقيقي نحو الحبيبة الوافية المخلصة، التي لم تمسك يديها يوما عن بنيها وأهلها وعشيرتها .. فمصر بلد عجيب .. بلد ثابت الأركان وآية في الأمان ومفخرة للأوطان .. مصر لا تشرب دماء بنيها ثم تنكرهم أو تنساهم .. ما مات من أجلك مصري إلا وخلد ذكره، وأصبح اسمه قدوة للأجيال والأقوام.
وكم يسعدني أنني أعيش في زمن فيه الموت من أجل مصر أمنية كل شاب وشابة .. وكم يسعدني أيضا أنني خرجت من بيتي مرات كثيرة لأهتف باسم مصر، قائلا: «أموت وتحيا مصر». وكان قلبي يتوق إلى الموت فعلا وحقيقة، وليس مجرد نزوة عابرة، ولكنها كانت حقيقة واقعة، فالموت من أجل مصر ربح أي ريح. فالنفس رخيصة فداء لها، والروح مشتاقة إلى لقياها والارتماء في أحضانها .. كنا نتسابق إلى الموت من أجل مصر الغالية .. وكان إحساسا صادقا قويا صادرا من قلوب مؤمنة بزعامة مصر وخلود مصر وأصالة مصر وعظمة مصر عبر التاريخ والأجيال.
وكم من شاب يافع ممتلئ قوة وشبابا وحيوية، مات من أجل مصر معرضا صدره لرصاص الإنجليز، وكان وهو يلفظ آخر أنفاسه، يهتف بقوة يقول: «نحن فداك يا مصر .. أموت وتحيا مصر».
حقا، ما أحلى الموت! وما أعظم الاستشهاد من أجل هدف جليل! وما أجمل الموت من أجل تحرير الوطن العزيز! وما أسعد الذين ماتوا من أجل مصر .. فماتوا شهداء كأحلى ما يموت الشهداء!
فاسعدي يا مصر وقري عينا وثقي بأن المصريين جميعا مستعدون للموت من أجلك، كل بطريقته: فمنهم من هو مستعد للجود بالمال والممتلكات، ومنهم من يريد بذل النفس والنفيس وتقديم كل ما هو مرتخص وغال في سبيل حياة مصر وبقائها، وآخرون يقدمون على الموت الزؤام فداء لك .. فأنت تستحقين ذلك بجدارة؛ لأنك أهل لكي يضحي بنوك بدمائهم وأرواحهم من أجلك، بل وأنت أهل لأكثر من ذلك ولأضعاف ذلك، أيتها الأرض المباركة من دون سائر بلاد الدنيا والمعمورة.
مصر أرض الأديان
من نعم الله على هذه الأرض التي أنتمي إليها، أن خصها الله القدير - من دون سائر الأراضي - بشرف الرسالات السماوية .. كان أول رسول تكلم الله معه وإليه، هو سيدنا موسى عليه السلام .. كلمه هناك في طور سيناء؛ ليكون إيذانا ببداية عصر الرسل والأنبياء، ومهد الأديان والأخلاق والقيم السماوية الربانية.
وانتشرت اليهودية وشق موسى عليه السلام البحر الأحمر ليهرب من أعدائه .. وجاء ذكر مصر في التوراة بدل المرة مرات ومرات، على أنها أرض السلام والأمان والاطمئنان للرسل ولغيرهم من بني الإنسان.
وقامت المسيحية وانتشرت ديانتها، وتعرض المسيح عليه السلام للخطر، فجاء الأمر الإلهي لأمه بأن تفر به إلى أرض مصر للنجاة من اليهود الذين أزمعوا أن يقتلوه .. فقدمت السيدة العذراء مع ابنها إلى مصر لتحتمي بأرض الكنانة حيث دخلتها راكبة أتانا، فارتاحت هناك في ناحية المطرية تحت النخلة التي باركها الله فأثمرت لتطعم الوليد رطبا جنيا .. وللمرة الثانية يذكر الله سبحانه وتعالى اسم مصر عنوانا للراحة والأمان والسلامة من الشرور والأخطار .. وللمرة الثانية يختار الله أرض مصر؛ لتكون ملاذا لرسله من الأنبياء الصادقين؛ فموسى عليه السلام، أكل من تراب مصر، وشرب من نيل مصر .. وعيسى عليه السلام أكل من رطب مصر، وشرب من ماء النيل العذب .. فحلت عليهما البركة، وتمت لهما النجاة والسلامة لإتمام الرسالة.
وجاء الإسلام، ودخل مصر ليتربع على عرشها، ويستوي في قلبها، فيجعل له منها ركيزة متينة بين خير الأقوام وأكرم خلق الله وأتقاهم وأكثرهم أصالة وعراقة وأشرفهم منبتا ونجارا .. جاء الإسلام ليستظل بأرض مصر، ويجد في واديها السمح ملاذا ومأوى وبيتا ظليلا دافئا .. ومن مصر انطلق الإسلام وانتشر في ربوع العالم العربي كله، وأصبحت مصر للإسلام منارة مشرقة مشرفة ساطعة مبهرة بضياء الإيمان والطهارة .. ولم يعد يذكر الإسلام بدون ذكر مصر كمهد قوي تربى في كنفه وبين ربوعه، ونشأ وترعرع بين أهله، ونما وازدهر وانطلق كالمارد القوي السامي الخلق المزود بالتعاليم الدينية القويمة السمحاء الشماء، التي أكسبت مصر على مر الأعوام مناعة وحصانة وأصالة يتحدث بها الركبان، وتفخر بها البلدان والأوطان .. فإذا بأرض مصر تخرج الأبطال الشجعان والعلماء في الأديان وفي كل مشاكل الإنسان .. وإذا بالأديان الثلاثة تحيا في ربوع مصر بالأحضان، وفي حب ووئام وحنان ...
أيها العالم، إن أرض مصر هي حقيقة أرض الأديان، وهي أقوى من جميع البلدان في جمال الخلقة والكيان، وفي الرفعة وحسن المكان، الكل عندها سواء وسيان .. والعالم محب لها ولهان، مشتاق إلى شمسها المشرقة عطشان، بقدر ما هو إلى نيلها لهثان وظمآن.
مصر أم المصريين أجمعين
لكل فرد منا أم، وما أغلى الأم! فهي عزيزة على كل إنسان .. وأمي أعز ما عندي .. من أمي ولدت، ومن لبنها رضعت، وبفضلها كبرت وترعرعت .. ومن أجل أمي أعيش ما حييت .. ولكل واحد منا أمه .. وأمي غير أمك .. أمك بدينة وأمي نحيلة .. أمك حلوة القسمات، بينما أمي دميمة الخلقة .. هذه حال الدنيا .. أمهاتنا مختلفات متباينات .. ولكن صه يا خال .. لي ولك أم أخرى .. هي أمنا جميعا .. هي أم المصريين بحق .. الأم الكبرى التي أرضعت أمك وأمي قبل أن ترضعانا.
تلك الأم الكبرى هي أم المصريين جميعا .. إنها مصر .. البلد الأم .. أم الجميع .. الأم التي لا تكبر ولا تشيخ .. الأم الفتية القوية، والصالحة النقية السوية، العامرة الخيرة الآمنة ... المخلصة الوفية .. عندها من الوفاء بحور وأنهار، ومن الإخلاص بحار وبحار، والحمد لله أنها أمك وأمي .. تلك الأم التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تتشكل ولا تتنكر، ولا تتدثر إلا بلباس واحد، ولا تنتعل إلا فعلا واحدا .. لباسها أخضر جميل في لون الزروع السندسية الناضرة ... وخدودها حمراء في حمرة الورود المتفتحة .. شعرها فاحم طويل في سواد الليل الطويل الكحيل ... أمي وأمك جميلة فاتنة حسناء، وفتاكة فتانة، رشيقة مياسة، ذات قد خيزراني بديع، ملفوف يتثنى في خفر وحياء، ويتمايل كما تتمايل الأغصان في فصل الربيع إذا ما هب عليها نسيم الريح .. تلك الأغصان الحساسة المياسة، عروقها منتشية مملوءة صحة وعافية.
ومصر كأم لنا جميعا؛ تستحق منا كل فخر وإعجاب، وكل حب وإعزاز وتقدير، وكل تضحية وفداء .. فهي ترعانا ولا تنسانا، ترانا ولا تغفل عنا، تسهر علينا ولا تهملنا، تهوانا ولا تكرهنا، تعبدنا ولا تنبذنا .. إنها كأي أم رءوم .. تكن لنا جميعا حبا دونه كل حب، وتغمرنا بأفضالها العميمة ، وتتركنا نرتع في ربوعها، نحصد من زرعها ونعب من نيلها، ونستدفئ بشمسها، ونستنشق هواءها النقي العليل .. هي التي تكسونا بصوفها وقطنها وكتانها .. وهي التي تنعم علينا بحريرها وقزها .. هي أم ولا كل أم، إنها فوق جميع الأمهات .. فهي أم الدنيا التي كم تغنى بحبها الشعراء! والمصريون ينشدون معا: «يا مصر يا أم الدنيا حبك في القلب سكن، كلنا تحت أمرك وخدامين للوطن» .. نعم، هي بحق أم الدنيا؛ لأنها أحسن أم جاد بها الزمان على بني الإنسان.
عشت لي يا مصر، يا أمي وأم أخي وأختي، وأم عمي وعمتي، وخالي وخالتي، وصديقي وصديقتي، وأم جاري وجارتي .. وأم كل هاربة أو غير هاربة، وشاردة أو غير شاردة .. يا أم الملتاعين وغير الملتاعين .. يا أم الملايين، لك مني كل حب وتقدير وإخلاص مبين.
ما أحلى شمسك يا مصر!
ما أعظم نعم الله علينا! فهي لا تحصى ولا نألوها شكرانا، وتزداد علينا في كل يوم وكل ليلة تظاهرا .. ومن أجل هذه النعم أن جعل الشمس لنا علامة واضحة تنظم حياتنا، وترتب لنا أوقات عملنا وراحتنا .. وطالما هناك شمس فهناك صحة وعمل، وكد وكفاح ونضال هذا مدلول أول، لا ننعم به وحدنا، ولكن تنعم به معنا دول الأرض قاطبة.
ومن أفضل نعم الله التي تفضل بها على أرض مصر بالذات، أن حباها بشمس مشرقة، شمس ساطعة تنتشر ظاهرة فوق ربوعها في كل يوم من أيام السنة بلا استثناء، بينما هناك بلاد لا ترى الشمس إلا لماما، وتتوق وتتحرق شوقا إلى أن ترى شمس مصر ولو ساعة واحدة في كل عام؛ إذ لو طلعت شمسها لبدت ضعيفة واهنة مسكينة، كأنما هي لا ترغب في أن تظهر لهم لينعموا بدفئها ونورها وأشعتها الذهبية وقرصها الوهاج الملتهب ...
وهناك من البلاد ما تشتد فيها حرارة الشمس إلى درجة تجعلها كانونا ملتهبا، تهدد الصحة وتثبط الهمة، وتجلب الكسل والنعاس والوهن.
بيد أن مصر من دون بلاد الله جميعا، خصها سبحانه وتعالى بشمس من أجل الشموس.
تظهر فيها الشمس من غير عجب
كأنها في الأفق قرص من ذهب
لذلك اشتهرت مصر في جميع بلاد العالم بشمسها حتى أطلقوا عليها اسم «أرض الشمس المشرقة»، فقرص شمسها حنون بلا قيود، يدفئك شتاء وينير يومك ساطعا صيفا دون أن يوهن من عزمتك أو ينال من صحتك وقوتك، ولا يفتك بجسدك أو يقضي على حياتك ...
شمسك يا مصر من أعظم الشموس جلالا ورفعة ورواء، وقيمة ورونقا وبهاء .. إنها الشمس الوحيدة التي بوسعك أن تضع عينك فيها وتثبتها دون أن تصاب بأذى .. إنها شمس مشمسة خلقت علاجا للأبدان، وشفاء من الأمراض، وعنوانا لليقظة والعمل والكدح اللذيذ.
شمس مصر لا تغيب أبدا، فهي دائما هناك تبتسم لشعب مصر .. تدعوهم في الصباح إلى العمل الشريف، وتناديهم عند الليل إلى الراحة والاستجمام، وهي طوال النهار رحيمة شفيقة، لا تعرف القسوة الضارية، ولا تحارب إنسانا في رزقه، ولا تعوقه عن السعي الكريم وراء لقمة العيش الحلال.
شمس مصر تحب مصر كل الحب، وتحب أهل مصر من أجل مصر .. فهي لهم في الشتاء وطيس معتدل الحرارة، تقيهم لفحات البرد إن اشتدت وقست .. هي جنة فيحاء، إن لجأ إليها عاشقوها فزاروها في أسوان والأقصر، استقبلتهم هناك بدفء لا مثيل له في الوجود، كأنها تقول للعالم: إنني أجد متعة كبرى في أن أحيل صعيد مصر إلى مشتى عالمي وإلى مزار يؤمه الناس من كل الأجناس ومن جميع أنحاء المعمورة، لا ليروا الآثار فحسب، بل وليروا الشمس في ملكوتها السماوي الجبار، وفي أبهى صورها وأكرمها وأحسنها وأحبها إلى القلوب.
وجو مصر معتدل جميل دائم النور، رحيم الحرارة صيفا وشتاء:
لحرها وبردها مقدار
لم يكتنف حدهما الإكثار
نهارها من أجمل النهار
في غاية الإشراق والإبدار
ففي الصيف تنتقل الشمس إلى المصيف لتخلق لنا منه جنة أخرى لا يمكن أن ننعم بها لولا وجود الشمس وظهورها سافرة واضحة ساطعة، فهي خالقة هذا النعيم المقيم، وهذه الجنة المكنونة .. وهذا فضل عظيم من عند الله صاحب النعم والآلاء، أن جعل عين الشمس الأولى .. عين الصباح، ترتفع فوق ربوعك يا مصر، في حنان ودفء ووفاء وأمان يجعلنا من أسعد شعوب الأرض طرا. نحن سعداء فعلا بشمس مصر، وإن مصر لأرض الشمس الأولى في هذا الكون الفسيح .. وإننا لنعتز بهذه الشمس اعتزازنا بهذه الأرض الخيرة .. وما خيرها إلا بفضل شمسها الساطعة على مدار العام في كل عام.
حمى الله شعب مصر العظيم
على مر السنين، وبإجماع الغازين والغاصبين، قال القائلون: إن شعب مصر شعب كبير عظيم جليل القدر .. خطير في بساطته، قوي بتواضعه، ذكي بفطرته، قادر بفرعونيته، صامد صمود جرانيته وتربته .. فهو كالطود الشامخ لا تؤثر فيه الزلازل، ولا تنال منه الكوارث .. إنه شعب كبير جدا بصمته وإيمانه، وقوة احتماله وجلده، ووقوفه ثابتا أمام عوادي الدهر والنازلات والمصائب .. وهو في هديره شعب كبير أيضا .. إذا زأر أرهب، وإذا ثار حطم، وإذا غضب كشر عن أنيابه وثار كالليث الهصور:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
وإذا صرخ هذا الشعب العريق أزعج، وإذا تدفق فإنه لا يبقي ولا يذر.
أما في حربه، فهو شعب عتي مريد في جبروته لا يخاف الموت ولا يرهب ظلمة القبر، ويتلقى الضربة بصدر من حديد، ويذود عن حماه، ويدافع عن عرضه وشرفه إلى آخر نقطة من دمه الزكي.
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجى الفرار مثالبه
إنه في حربه كالحراب المسنونة، يقتل ولا يقتل، يفتك بالعدو ولا يفتك به .. يكر ولا يفر، يتقدم ولا يتأخر .. وليست حرب أكتوبر المجيدة ببعيدة؛ إذ كر المصريون البواسل كالصاعقة فحطموا الجبال وأزالوا الحصون، فلم يعرف العدو من أين تنزل كل هذه الضربات والجنود الذين في عداد الجراد، حتى نزلت رئيسة وزراء إسرائيل من عليائها، وجأرت بأعلى صوتها تستغيث بأمريكا من ضربات هذا الشعب الأصيل المجيد وانقضاضه على جنودها كالسيل الجارف من كل حدب وصوب ... وهذه شهادة من العدو بتفوق الجندي المصري على الجندي الذي قيل عنه إنه لا يقهر .. شعب مصر في الحرب شعب جبار مقدام شديد البأس، لا يعرف الخوف أو اليأس .. يشرب الموت بالطاس والكأس، ويصيح قائلا: لا بأس .. لا بأس .. هذا هو الجندي المصري من قديم الزمان وحديثه، وهذا هو شعب مصر العظيم العريق العتيد.
والشعب المصري كبير أيضا في سلامه، إذا سلم قال: «السلام عليكم» .. وإذا رد السلام رده بأحسن منه، فقال: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته»، وهو يدرك تماما أن رد التحية فرض واجب؛ عملا بالآية الكريمة:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها .. ويعلم أن من لا يرد التحية يكن مثل من يرفض حياة السلام والمحبة والوئام.
والشعب المصري مسالم بطبعه وطبيعته .. قد يتشاجر، ولكن الشجار ينتهي بالقبلات والأحضان، عاملا بقول بعضهم «لا محبة إلا بعد عداوة» .. فالمحبة غاية وهدف، وهي أمل منشود، يتبعه في حياته صغيرا وينشده كبيرا .. وهو لا يؤمن بالعداء ويؤثر عليه السلام والأخوة .. وأكبر دليل على صدق ذلك، مبادرة السلام العالمية التي تقدم بها الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، فهزت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وأثنت عليه من أجلها جميع دول الدنيا، وتحدثت عنها كافة صحف العالم، وعرفوا أن شعب مصر بحق شعب سلام ووئام، فحتى شعب العدو نفسه شهد بمحبتنا للسلام وقام يتظاهر ضد رئيس وزرائه، معترفا بأصالة شعب مصر المسالم الذي يعرف حق الجار والجوار، والذي يضع نصب عينيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى خيرا بسابع جار .. هذا ما يؤمن به المصريون جميعا «مسيحيين ومسلمين» .. حب الجار وحب الجوار وحب السلام بين الناس والأصدقاء، وبين الأقارب وبين أهل البيت الواحد وبين أبناء الوطن الواحد .. وهكذا نرى السلام والمحبة لدى المصريين دينا وعقيدة يؤمنون بهما، ويعملون على استمرارهما في صدق وإخلاص.
وشعب مصر شعب ممتاز، له طباع تميزه عن سائر شعوب الدنيا .. فهو يتصف بالشهامة والرجولة والمروءة، لا يعرف الخسة ولا النذالة ولا الجبن .. تزامله فتلقى منه كل ترحيب وترحاب، وتعامله فتجد منه أنبل معاملة، وتستشيره فيمنحك المشورة المجدية الصادقة، وتستنجد به فيسرع النهضة لنجدتك متطوعا ومضحيا لا يريد منك جزاء ولا شكورا .. وقد تطلب منه مالا فيعطيكه دون سؤال كثير .. إنه شعب بسيط على السليقة، سريع الغضب لكن في حلم وسريع البديهة، ولكن في دهاء ومكر .. شعب يحب الفكاهة والدعابة؛ لأنه شعب مرح بشوش، يلقاك بنكتة، ويودعك بأخرى .. هو شعب مؤمن بالقدر والستر والأجر والعمل والعقاب والثواب .. هو شعب يضع كل اتكاله على الله، فيعمل بغير خوف، ولا يفزعه المستقبل، ولا تخيفه الشيخوخة أو المرض؛ إذ يعلم أن كل شيء من عند الله:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .. كما يعلم أن الدواء والشفاء من عند الله أيضا .. إذن، فلا خوف عليك يا مصر، مع مثل هذا الشعب المؤمن ...
شدي حيلك يا مصر
لك الله يا مصر! يا حلوة ويا قرة العين .. يحميك ويحفظ من الحسد والعين .. يا مصر يا طيبة .. يا أميرة .. يا ملاذ الجميع ومأوى الفقير .. يا مهد الحضارة .. يا أمل الطغاة الطامعين والغزاة الغاصبين .. كوني على قدر المسئولية، وتنبهي وتيقظي وانفضي عنك غبار الخمول و«شدي حيلك» .. واعلمي أن أرضك مقدسة مباركة، لا يمكن أن تضام أو تجدب أو تنهب أو تسلب .. عليها أسود كواسر يحمونها، ورجال بواسل يدافعون عنها، ويذودون عن حياضها ويسهرون عليها ...
أيا مصر العزيزة .. أيتها السيدة الفاضلة .. يا صاحبة المهابة والجلالة .. يا ذات العرض الشريف والصيت العظيم والسمعة العطرة الطاهرة .. بأشبالك تنهضين، وبرجالك تصمدين، وبعقولك الراجحة تغلبين وتنتصرين وتهزمين ...
لا تهتزي يا مصر ولا تتذبذبي أو تترنحي، اثبتي وقاومي وقومي بدور الأسد الغضنفر .. ما زلت في مركز القوة وموقف السيادة بفضل أبنائك الأبطال المغاوير ورجالك البواسل الظافرين .. أنت صاحبة الكلمة، وصاحبة الأمر والنهي .. لا تهتمي بتلك الشرذمة التي أعمى الله قلوبها، وغشى على بصائرها فلم تعد تعرف الباطل من الحق، ولا أفش الرأي من صحة الحكم، واختلط لديها الجهل بالعلم، فلم تفرق بين الصالح والطالح، ولا بين الحسن والخبيث.
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
تاريخك زاخر بقصص الأبطال والصمود الباهر .. فكم من غاز خرج منك عاري الجسد، مدحورا مكسورا محسورا! وكم من عدو وصل إلى حدودك فعاد على أعقابه فاشلا مغلوبا، يجر أذيال الهزيمة، ويفر هاربا مهزوما! وكم من معتد جبار غره صلفه وغروره، وظن أنه سينال منك مقتلا، فخيب الله ظنه! إذ وقفت له بالمرصاد، وسقيته المر والحنظل، ولفظته لفظ النواة الشريرة حتى صار للعالم أجمع عبرة العبر!
هذا هو تاريخك يا مصر العظيمة .. شدي حيلك يا مصر، وقومي قومتك، وبرهني على وجودك، وأثبتي لكل طامع أنك لست نائمة، بل يقظى مفتوحة العينين .. عارفة بما يجري في الخفاء، ومدركة لما يدبر ضدك وما يحيكه للإيقاع بك قوم من الأقزام الصعاليك، باءوا بالفشل وانقسموا على أنفسهم، وتفرقوا أباديد وصاروا أضحوكة الدنيا، فما هم الذين عملوا فغنموا، ولا هم الذين سكتوا فسلموا .. قومي وانهضي .. وثبي وثبة الليوث والنمور، وانقضي على أعدائك المتربصين بك، وافتكي بهم، ومثلي بأجسادهم، واشربي من دمائهم، وتخلصي من أشلائهم النجسة .. بارك الله فيك يا مصر، وزودك بنصر من عنده .. والحمد لله رب العالمين.
مصر مئذنة مضيئة
لو كان بمصر مئذنة واحدة، لكانت أرضها مباركة، فما بالك وفيها ألف مئذنة ومئذنة، ومئات الكنائس المقدسة .. حقا، أنعم بها من بلد! وأنعم بها من أرض! وأنعم بها من وطن! هي وطن ولا كل الأوطان .. يقيم فيها الشيخ المسلم ويقيم معه فيها القس المسيحي، كلاهما يأكل من صحفة واحدة .. إنها أرض التسامح في أرقى صوره، وأنصع أشكاله وأجمل مناظره، وأزكى روائحه ونسائمه .. هي بلد للجميع؛ بلد يجذب إليه المسلم والمسيحي ليجدا لهما فيه مكانا .. المسلم تحت قبة المسجد، والمسيحي تحت قبة كل كنيسة .. هلال الإسلام يعانق فيها صليب المسيحية عناقا مباركا، قوامه المحبة والسلام والوئام وحسن التفاهم وتوحد الآراء والمشارب والأهداف.
كلمات الله في مصر واحدة، الكل يرددها وينطق بها .. فالمسيحي يقرأ القرآن، والمسلم يردد كلمات السيد المسيح وآيات الإنجيل .. الكل يؤمن بإله واحد، وتجد صورة العذراء مريم في كل بيت تحكي رواية السيد المسيح في صدق وإخلاص، وبحلاوة ما بعدها حلاوة .. تدل على الإيمان الصادق بالسيد المسيح، وعلى المحبة والتسامح على الأرض كلها .. قرآن واحد يحكم مصر العزيزة، قرآن في كتابين .. بل قل في سفرين عظيمين .. الكل ينهل منهما، والكل يؤذن بهما ولهما، والكل يجاهر بالحب لهما، فكلاهما حبيب إلى القلوب المصرية الزاخرة بالتسامح والحب والأمان.
أنت، يا مصر، مئذنة مضيئة للإسلام والمسيحية على حد سواء، في مصر وفي جميع الأقطار العربية وغير العربية المؤمنة مثلنا .. يكفيك يا مصر مآذن الأزهر الشريف وقباب الكاتدرائية المسيحية، كل منها معقل قوي يشع نورا قدسيا يملأ القلوب عمارا وسدادا وإيمانا ومحبة في الله ولله، ولا أحد سوى الله جل وعلا.
أنت قبس ونور يا مصر
مصر علم يقف على سارية شاهقة متينة .. مصر أشهر من نار على علم .. مصر قبس ونور .. مصر تعلم من لا يتعلم .. تعلمه الأخلاق والصبر والإيمان، والجلد والصمود، والقناعة والرضا والأمل.
مصر نور الشمس في وضح النهار .. مصر نور لا يخبو ضوءه، ومشعل لا تنطفئ جذوته، ومنارة دائمة الإضاءة إلى الأبد.
مصر قبس مشع يسطع نوره في كل مكان، يراه الأعمى قبل غيره من الناس.
مصر مهد الحضارة، وهي التي أنارت العالم بحضارتها العريقة وعلومها وعلمائها وسادتها الكرام.
مصر هي التي علمت العالم كل شيء في كل شيء .. هي مصدر الحكمة، وهي الملهمة والرائدة في كل فرع من فروع المعرفة.
مصر القبس هي مصر النور .. هي مصر الأمل .. هي مصر الضياء .. هي هكذا معا في كل حين وعلى الدوام، وإلى الأبد.
مصر لا ينطفئ نورها عن أحد، ولا يمكن لذبالة شموعها أن تنطفئ .. إذ كيف للمعقل أن يسام أو يضام؟ وكيف للرواد أن يكبلوا ويقيدوا ويصفدوا؟
مصر عقل مضيء براق لامع يدرك ويحس قبل أن يرى ويلمس .. مصر تعلم وتعلم ولا تتكبر أو تتجبر .. إنها تسود بلا سيادة، وتقود بلا قيادة، وتهدي من كان غفلا من الهداية، وترشد من ينقصه الرشاد والإرشاد .. أنا مصري وسأظل مع مصر حتى أموت وأدفن في ترابها العزيز، بل أنا مستعد لأن ألعق ثراها الحلو، وآكل طينها الطري اللذيذ، فهو أحلى من كل طعام .. فأنا من مصر وإلى مصر أعود، أنا محتاج إليها كما هي محتاجة إلي .. نور عقلي من نورها، ونور قلبي من أنوارها، ونور عيني من ضيائها، فماذا أبغي من مصر بعد ذلك؟ علمتني فأحسنت تعليمي، وقومتني فأجادت تقويمي، وأرشدتني فما أروع إرشادك لي يا مصر! شكرا لك يا وطني .. ويا قرة عيني ويا كبدي وفلذة كبدي، يا جذوة أستدفئ بها، ويا نارا أصطليها فتشتد حميتي ويشتد بها ساعدي، وأظل أعمل وأعمل حتى تنبت الأرض زرعها وتخرج غلتها، وينتج المصنع مصنوعاته ومنتجاته، وحتى تعلم المدرسة أولادها، ويعالج المستشفى مرضاه ويشفيهم، ويرعى الكل مرعاه الخصيب الوفير الخير.
أي مصر، كوني لي قبسا على الدوام، وكوني لي نبراسا على مر الزمان .. فلن أجد السعادة بعيدا عنك، ولن يهدأ بالي أو يغمض لي جفن إلا في أحضانك .. يكفيني أن أرى شمسك في كل صباح .. أراها حمراء شديدة في أول النهار، ثم أراها باسمة مودعة محببة في المساء، تقول لي: «إلى اللقاء ...» وهي دائمة صادقة فيما تقول.
مصر الأمل
يخطئ من يظن أن مصر ماتت أو تموت .. مصر يا سادة لن تموت .. مصر أزلية سرمدية، خالدة خلود الشمس والنجوم والكواكب، باقية ما بقي الدهر .. مصر أرض صلبة راسخة الأركان ثابتة المكان .. مصر جوادة فواحة، باطنها خير من ظاهرها، وجوهرها أفضل من مظهرها.
مصر بلد الأمل المتجدد .. شبابها هم أملها وهم سواعدها وقلبها الخفاق .. هم سورها الحديدي وجدارها الجرانيتي، وسدها المنيع.
يخطئ، يا كرام، من يعتقد أن أرض الكنانة قد سلمت الأعلام، أو رفعت الأيدي بالاستسلام، أو رضخت وركعت وخنعت .. مصر الأمل لا يمكن أن تفكر في ذلك ولا لحظة واحدة، ولا يمكن أن يمر بخاطرها هاتف مثل هذا الهاتف، أو خاطر مثل هذا الخاطر .. مصر العبور أدهشت العالم أجمع بلا استثناء، بقوتها وجبروتها .. هي شمس وغيرها كواكب «إذا طلعت لم يبد منهن كوكب» .. مصر الأمل أمة عملاقة، يرفع قبتها ثمانون مليون ساعد، ويدب فوق أرضها ثمانون مليون قدم.
أما أعناق مصر، فمنتصبة كقامتها، عالية مشرئبة كعنق نفرتيتتها بجبروتها وجبروت تاريخها وفرعونها العظيم، موحد الأديان الأول مذ عرفت البشرية حلاوة التوحيد وعراقته وأهميته للوجود والسعادة الإنسانية القصوى.
مصر الأمل ترى الآفاق البعيدة قريبة، وترى السموات العالية دانية، وترى الكواكب والنجوم في متناول أيديها .. مصر الأمل لا تعرف المستحيل ولا تعجز عن تحقيق المستحيل .. إنني لا أقول فندا، بل يشهد لها ما فعلته بإسرائيل في حرب أكتوبر الرمضانية العظيمة إذ قامت بالمعجزات، ولقنت العالم أجمع دروسا في كيفية البطش وتحقيق الآمال، على أيدي أبنائها البواسل الشجعان ذوي العقول الراجحة الواعية، والعيون الساهرة الدائمة اليقظة، والقلوب الخفاقة والأفئدة العاشقة الوالهة المدلهة بحب مصر ولا شيء غير مصر .. مصر أولا وآخرا، فهي الأمل المنشود والهدف الأسمى .. هي العلم الأخضر المرفوع عاليا يرفرف خفاقا فوق ربوع الأمة العربية بأسرها، بل والعالم أجمع .. يجد أبناؤها سعادة بالغة في رفع علمها عاليا دوما ودائما، يلاقون الموت بصدور رحبة في سبيل الذود عنه، وفي سبيل الاحتفاظ به منتصبا شامخا يظل هامة مصر الأمل .. مصر العمل .. مصر الحضارة.
الحب بد وحب مصر بدان
الحب بد .. هذا صحيح .. فالحب كالهواء والماء والطعام .. لا بد للنفس من أن تذوقه وأن تستمرئه .. الحب أساس البشرية والعمران .. بيد أن هناك حبا آخر لا مفر منه، ولا بد مما ليس منه بد .. هو حب له بد، بل قل له بدان .. هو حب الوطن والأوطان، وأنا لا أحب زوجتي فحسب، ولا أولادي فحسب .. فكل هؤلاء يموتون وإلى زوال وفناء، ولكن أحب مصر أيضا .. أحبها أعظم الحب وأصدق الحب .. وكما أن حبي لها لا يموت، فهي كذلك لا تموت؛ لذا لا أحبها حبا واحدا، بل أحبها حبين؛ حبا يخصها هي وحدها، وحبا آخر يتصل بأهلها وقومها وشعبها .. فإن أنا أحببت مصر، فلا يمكنني أن أكره أهلها وسكانها وشعبها .. غير أنني في حبي لمصر، ذلك الحب الصادق الأصيل المتغلغل في أعماق قلبي، أهبها هي كل الحب .. وأهب أهلها كل الحب أيضا .. فأنا معهم في السراء والضراء، أنا معهم في الحرب والسلم .. أنا معهم في كل أوان وفي كل مكان، أنا أتعاون معهم وأشاركهم وأحمل المعول معهم، وأبني وأشيد معهم وأرفع معهم الأحمال والأثقال .. أسعى سعيهم من أجل الحبيبة مصر .. هذا هو حبي لمصر .. إنه حب لا بد منه؛ لأنه حب شديد عنيف وعميق الأغوار يصل إلى باطن التربة الصالحة المنبتة، ويصل إلى أعماق قلوب بنيها الصابرين المؤمنين المنتمين إليها والمترعرعين فوق حقولها ونبتها وزروعها، والمرتوين بماء نيلها الطويل الجميل الجليل، والعذب السلسبيل .. فأنا مع هؤلاء كالعاشق الولهان، والحقيقة أنني مع طين مصر أكثر من عاشق .. أنا هيمان .. أنا سكران نشوان سهران .. عيناي لا تنامان عن حبيبتي مصر، ولا تسهوان أو تغفلان .. فإن كانت عيون العاشقين - كما قالوا - لا تنام، فإن عيني وقلبي وفؤادي، كلها لا تنام من فرط حبي العميق لأرض مصر المباركة صاحبة الأيادي البيضاء والجوادة بسنابلها الذهبية الصفراء، وثمارها اليانعة الخضراء .. حقا، إن حبي لك يا مصر ليس حبا عاديا، بل هو حب يصل إلى حد العبادة .. حبي لك يا مصر لا يمكن أن يقاس بحبي لزوجتي وابني وابنتي، ولا بحبي لأمي وأبي .. فحبك يا مصر هو مجموع حبي لكل هؤلاء مضروبا في عشرة .. فحبك لا يكال ولا يكيل، لا يعبأ ولا يصدر، كما أنه لا يباع ولا يشترى .. إنه شيء فوق كل هذا؛ لأنه حب ثمين وغال ثقيل .. قليله ثقيل، وكثيره أثقل وأثقل .. حبك يا مصر خفاق في القلوب، جوال في الصدور .. ربوعه أجسادنا وأكبادنا .. إنه في كل ذرة من ذرات دمائنا .. إنه في أنفاسنا الطاهرة، وأرواحنا الزكية السماوية .. هو بحق حب عجيب غريب، من لون جديد .. ندين به ويسري في عروقنا كما تسري الكهرباء في الأسلاك، فلا نراه .. إنه حب عات شديد عنيف، سره باتع، ومفعوله أكيد مريد .. إنه الحب الذي نكنه للعزيزة مصر، من دون كافة بلاد الدنيا .. فتحظى به مصر وحدها دون سائر أقطار العالم .. هو حب عظيم حقا .. يا بخت من يعرفه، ومن يذوقه!
مصر للمصريين وطن مكين
انتهى عصر الحصون والقلاع، والسيف والمقلاع، وما عاد الإنسان يفضل أرضا على أرض، ولا منطقة على منطقة .. فالعالم كله وطن واحد، يمكن للمرء أن يعيش في أية بقعة من بقاعه.
غير أن مصر كوطن يعتز به المصريون ولا يرضون عنه بديلا .. يجد المصريون، في مصر، معقلا فريدا في نوعه .. إنه معقل كريم، معقل للشرف والقيم والأخلاق الفاضلة والمثل العليا؛ لذا كانت مصر للمصريين وطنا حبيبا مكينا .. يعيش أهله في أمن أمين، وفي شرف عظيم ...
تجد كل شيء في مصر عزيزا .. تجد الكرامة والشهامة والرجولة .. تجد التضحية والاستشهاد والفداء، والجود والكرم والعطاء .. ما من أحد يستطيع أن يفهم مصر غير بنيها؛ ولا يمكن أن يرفع من شأنها وشأوها إلا عمالها وصناعها وعلماؤها وكبراؤها.
مصر وطن مكين؛ يعتز بمصريته وبالمصريين أجمعين .. يمثل كل مصري يمشي فوق أرض مصر سنبلة خرجت من باطن الأرض لتؤتي نفعا معينا، لا يمكن أن ينال منه أو يقلل من شأنه .. فأهل مصر سنابل تقبل الأرض وتناجي السماء وتشبع البطون الجائعة .. إنهم كل نبتة تقوم فوق كل حقل، وبجوار كل شط، سواء بيد إنسان أو بغير يده .. فأرض مصر تعطي بلا توقف، وتطعم من لا طعام له، وتروي كل ظمآن لا شراب عنده .. هي أرض عظيمة، وكل من عليها عظماء .. عظماء في مقرهم .. عظماء في غناهم وثرائهم .. عظماء بدينهم وعقيدتهم .. عظماء بتكاتفهم وتعاونهم .. وهم في هذا التكاتف يمثلون جبهة عريضة لا يمكن اختراقها أو النفاذ إليها .. وهم في تساندهم يخلقون ماردا جبارا يستحيل التغلب عليه أو المساس به .. وهم في ثباتهم ووقفتهم أسود كواسر يخشى بأسها، وترهب قوتها ويفزع العدو من زئيرها الذي يخاف من هول الإنس والجن ويفزع منه الجميع، جميع من على الأرض وما على الأرض.
إذن، فمن حق المصريين أن يتمسكوا بحب مصر، وأن يستميتوا في الذود عنها.
مصر بالنسبة للمصريين وطن مكين، وحصن حصين أمين، وطن عزيز منير، وطن جدير بأن ينتسب إليه الإنسان المصري العظيم الهمة، والكريم المحتد، والشريف النجار، الأبي النفس، والحيي الوجه.
مصر العبور
كل شيء يمكن أن ينسى إلا شيئا واحدا .. فقد ينسى المرء نفسه، وقد ينسى كل حدث يجري في حياته .. ولكنه لا يستطيع أن ينسى مصر العبور .. فمصر العبور أسطورة خرافية نسج خيوطها أبطال مصر المغاوير من جنودها وبحارتها وطياريها .. مصر العبور عمل خالد خلود الدهر .. وسد منيع يحمي سمعة مصر لقرون وقرون .. مصر العبور تيار جارف، لججه خليط من الشجاعة والبسالة والإقدام والجسارة، والشهامة والبراعة .. مصر العبور فوق كل عبور عرفه التاريخ قويا .. مصر العبور حدث ولا كل الأحداث، بل هو فوق كل الأحداث .. هو حدث جلل يذكر بالإعزاز والإجلال والإكبار والتهليل والتكبير .. مصر العبور هي مصر الأمل ومصر البلد ومصر البشر، مصر الزرع والنبت والمصنع والجامع والكنيسة والجامعة والمدرسة، والحقول والصحراء والنيل .. مصر العبور هي السماء والشمس والنجوم والليل والنهار والأرض والنهر والبحر والمحيط والجبال والتلال والآكام والغابات والرجال والأموال .. مصر العبور هي أحلى مصر على مر التاريخ، وأجمل امرأة رأتها عيون المصريين والإسرائيليين، بل والعالم أجمع في كل العصور .. مصر العبور هي أحن أم ولدتها البشرية جمعاء .. أم تذود عن عرضها وشرفها وكرامتها وهامتها وجسدها بشراسة الأسود ووحشية النمور وجبروت الأفيال وعنف وحيد القرن العاتي الشديد .. مصر العبور أب مارد منتصب القامة، رأسه في السماء وأقدامه في قاع النيل .. إن شرب نهل من أمطار السماء، وإن اغتسل فبمياه النيل الطويل .. يداه تمسكان بالنجوم، ورأسه يناطح الشمس كأنه لاعب يضرب الكرة برأسه فترتد عالية .. مصر العبور قوة مريدة فريدة، سهامها من الشهب، وزئيرها من قصف الرعد، وأنفاسها من لهب جهنم .. مصر العبور هي مصر الخير العميم، ومصر التي تعطي ولا تأخذ، تهب ولا تطلب، وتسعى ولا تستجدي، تقبل حانية، وتربت باكية، وتواسي معزية، وتهمس مشجعة، وتناجي دافعة، وتكسو كافية، وتلحف شافية .. مصر العبور هي مصر التي يراها العالم اليوم، ويتعامل معها الأشراف وحدهم، ويحترمها من هم أهل للاحترام والتبجيل والتوقير، وأهل لاحترامها هي بالذات.
مصر مع الجميع
مصر الكبيرة كبيرة في قلبها، كبيرة في حبها .. كفها تسع الجميع، ممدودة للجميع، تعانق الجميع .. مصر لا تفرق بين عدو أو صديق .. مصر لا تحابي ولا تمالق ولا تجانب، وإن جانبت فمع الحق البين .. مصر لا تكابر، وإن كابرت فمن أجل الحق والعدل السليم القويم .. مصر تناضل، وتاريخها كله حافل بالنضال؛ نضال الأبطال الشرفاء .. فمصر بحق أمة الأبطال، وأبطالها الصناديد قاموا بالمعجزات، وحققوا لها الآمال على مر القرون والأجيال.
مصر بلد مسالم، تسالم من يسالمها وتعانق من يعانقها، وتهادن من يهادنها، ولكنها لا تخنع ولا تحني رأسها .. لا تضام ولا تهان، كما أنها لا تضرب ولا تصفع ولا تركل .. حاراتها أسود، وشوارعها ضراغم، ونجوعها مقابر للمكابرين الظالمين المعتدين الشامتين.
مصر الزرع هي مصر الضرع، تطعم الجائع وتروي الظمآن .. هي مأوى للجميع، جميع القاصدين المحبين الصادقين المؤمنين الصالحين، الذين هم على عقيدة ودين.
إذن، فمصر للجميع ومع الجميع .. مع كافة الناس، مع الأقوام المحتشدين المتكتلين تحت لواء الدين والكرامة والصوت الشريف الأمين .. مصر مع الجميع وأم للجميع، ويسعدها أن تكون كذلك هي المسئولة عن الحق والصدق والعدل .. هي المسئولة عن القيم الروحية والأخلاق والمثل العليا السامية الهادية الراقية والداعية إلى الخير والنقاء والصفاء والتسامح والتآخي والمحبة الخالصة.
مصر تسعى إلى خير الجميع .. تناضل مع المناضلين، وتكافح مع المكافحين، لا تهن ولا تلين، لا تضعف ولا تستكين، لا تتقاعس ولا تنحاز إلى يسار أو يمين .. العالم كله في أحضانها، وهي في أحضان العالم كله.
مصر التي هي أم الجميع، تعامل الجميع كما لو كانوا أبناءها، وكما تعامل أية أم أولادها. فالجميع من طين، والكل إلى الطين يرجعون .. الكل عند مصر سيان، سواء أكان الطين أسود أو أحمر أو أصفر .. المهم أن تكون أما لكل مخلوق من طين، وآمن بالله واليوم الآخر والدين، واعترف بها أما لا تغفل ولا تهمل ولا تلين .. إنها أم صالحة تقية ورعة مباركة .. أرضها أرض الأديان، وشعبها يصلي ويصوم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي .. نيلها يجري فيسقي الظمآن والعطشان، وقطنها الأبيض يكسو العريان، وشمسها الرءوم تشفي العليل والمرضان، وتحت سمائها لا يقوم زور ولا إفك ولا بهتان ، ولا هراء ولا هذيان.
مصر هي التاريخ
الناس تاريخ، والدنيا تاريخ، والأمم تاريخ وتواريخ .. ومصر أم التاريخ .. هي التي ابتدعت التاريخ وأرست قواعده ووضعت مناهجه، هي التي علمت الدنيا فن التاريخ، بل وكيف يكتب التاريخ ويؤرخ ويخلد .. وكيف يمكن للأمم أن يكون لها تاريخ .. والتاريخ لا يرحم، فهو يسجل ويسطر ويكتب بلا تحريف ولا تنميق .. إنه جهاز تسجيل خطير، يكتب ما لك وما عليك، لا يجامل ولا يمالق .. التاريخ شيخ مهيب محترم وقور، لا يخاف إلا الحق والصدق .. وقد خرج هذا الشيخ من أرض مصر، وهو الذي سطر تاريخها وكتب سجل تاريخها، فكتب أنصع الصفحات، وخلد ذكرى أشجع الأبطال، وحكى كل ما يقال وما لا يقال .. فهو يعرف ما يقول وقيمة ما يقول .. فما قاله دروس وعبر، تعلم وترشد، وتنبه وتعظ .. جاء هيرودوت «أبو التاريخ» إلى مصر، فكتب أروع كتبه، وسجل ما رآه في مصر، فكان ما كتبه سر خلوده وقيامه وبقاء اسمه متداولا، ولولا زيارته لمصر لما فاز بلقب «أبي التاريخ».
ومصر التاريخ مجلدات لا تنتهي .. وتاريخ مصر الحديث يكتبه أربعون مليونا، كل واحد منهم في حد ذاته تاريخ .. منهم من أروى الصحراء بدمائه، ومن أروى الحقول بعرقه، ومنهم من غذى العقول والأذهان بأدبه وفكره وتعاليمه، ومنهم من ألهب الخيال بفنه ورسومه وتصاويره ولوحاته وتماثيله، ومنهم من حلق في المفاهيم السماوية والدينية، وآثر الآخرة على الدنيا، وضرب للزهد أبهى صوره وللإيمان أنصع اللوحات وأشرفها وأرقاها.
ومصر كتاريخ، لا بد أن يفخر بها التاريخ ويزهو ويتطاوس .. تاريخها منذ الأزل تاريخ حضارة وتقدم وفكر ورأي وهداية ورقي وسمو ورفعة .. كل تاريخها كفاح ونضال من أجل الحريات والديمقراطيات .. وما بقي عليها ظالم، ولا عاش فوقها غاز .. ما دخلها غريب إلا خرج مدحورا محسورا، ولا طمع فيها طامع إلا وغرق .. نيلها يبسم للتاريخ، بل ويرويه ليكتب سطورا عذبة تشفي الغليل والعليل وتثلج القلوب وتنير العقول وتلهب الأفئدة والأكباد.
حقا، أنت يا مصر أم التاريخ .. تاريخ كل الأمم .. من عندك بدأ التاريخ، وعندك سينتهي التاريخ .
مصر الهرم
قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو نادي
قال للأعاجيب الثلاث مقالة
من هاتف بمكانهن وشاد
لله أنت فما رأيت على الصفا
هذا الجلال ولا على الأوتاد (شوقي)
ما بنى إنسان بناء إلا وتداعى وفني بعد حين من الزمان، قصر أو طال ذلك الحين .. غير أن الإنسان المصري بنى الهرم فبنى شيئا غريبا في شكله، غريبا في تصميمه، غريبا في فنه، غريبا في عمره .. بنى بناء يتحدى الزمن .. بنى بناء لا يشيخ ولا يهرم؛ لأنه الهرم .. بنى الهرم يناطح السحاب والسماء معا من ناحية، ويناطح الزمان من ناحية أخرى. ولله در «شوقي» إذ قال:
كأن أهرام مصر حائط نهضت
به يد الدهر لا بنيان فانينا
إيوانه الفخم من عليا مقاصره
يفنى الملوك ولا يبقى الأواوينا
كأنها - تحت لألاء الضحى ذهبا -
كنوز فرعون غطين الموازينا
بنى المصري الأصيل الأهرام عبرة للناس في كل مكان .. بناها وكأنه كان يقول وهو يبني: أيها البشر في جميع أقطار الدنيا، ها هي أهرامي سوف تتحداكم وتتحدى الزمن معكم، فمن تعرض منكم للتحدي فليبن بناء مثله .. بيد أن أحدا لم يرفع صوته، ولا حتى تجرأ على أن يهمس لنفسه .. الهرم عنوان لأشياء كثيرة تفخر بها مصر من دون سائر بلاد العالم .. فني الدهر، وفنيت الأيام والسنون والقرون، والأهرام باقية .. انظروا إلى الهرم، أي هرم منها، تجدوه في شموخه يصور شموخ شعب مصر على مر القرون والأجيال .. انظروا إلى صخور الهرم، فإنها تمثل صلابة سواعد مصر وجبروت قلبها الجرانيتي الذي صمد أمام جميع النوائب والنوازل .. انظروا إلى قاعدة الهرم الفسيحة تريكم القاعدة العريضة التي تقف عليها أقدام مصر أم الدنيا بلا منازع ولا نزاع أو مناقشة .. انظروا إلى جوف الهرم تجدوه يمثل الرهبة والجلالة والمهابة في أروع صورها .. تمعنوا في ذلك الجوف، تجدوا الطهارة والخلود كامنين يتمثلان في الملك والمليكة الراقدين داخله ... كأن الهرم يقول للعالم: لن تجدوا في قلب مصر إلا مقبرة للغزاة، ولن تجدوا في جوف مصر إلا هدوءا كريما جليلا ينم عن الاحترام، ويدل على الرزانة والرصانة والاتزان.
انظروا إلى قمة الهرم، تجدوها مدببة كسن الرمح تطعن السحب، وتحيي السماء على الدوام في كل صباح وكل مساء .. هكذا أظافر المصريين مدببة وأسنانهم حادة، ولكنها إذا ما خدشت أو جرحت تتقي الله وتردد كلمة السماء العادلة .. كذلك بنى المصريون إلى جوار الأهرام بناء يشهد بتفوقهم .. بنوا أبا الهول الذي لن يقول فيه أحد بأحسن مما قال أمير الشعراء:
أبا الهول طال عليك العصر
وبلغت في الدهر أقصى العمر
أبا الهول ماذا وراء البقا
ء إذا ما تطاول غير الضجر
عجبت للقمان في حرصه
على لبد والنسور الأخر
وشكوى لبيد لطول الحيا
ة ولو لم تطل لتشكى القصر
أبا الهول ما أنت في المعضلا
ت لقد ضلت السبل فيك الفكر
أبا الهول ويحك لا يستقل
مع الدهر شيء ولا يحتقر
تهزأت دهرا بديك الصباح
فنقر عينيك فيما نقر
أسال البياض وسل السواد
وأوغل منقاره في الحفر
فعدت كأنك ذو المحبسين
قطيع القيام سليب البصر
كأن الرمال على جانبيك
وبين يديك ذنوب البشر
بنى المصريون أبا الهول، لا ليمثل الهول والهلع، ولا الذعر أو الفزع، ولكن ليكون شاهدا لما يحدث فوق أرض مصر، ولكي يسخر من غزاتها الأجانب، ومن الغاصبين الأعزاب، ومن الناهبين الأشرار .. يراهم وهم يدخلون إلى مقبرتهم الأزلية وإلى مصيدتهم القوية .. فيقف يعاينه ويشاهد، ويبصر ويرى، ويلمح ويصور، ولكنه لا يتكلم؛ لأنه واثق من نفسه، واثق من أصحابه، واثق من شعب مصر، ومن عظمة ذلك الشعب الذي بناه .. يقف صامتا لأنه يعلم أن المصريين لا بد سيزأرون ويجأرون ويقومون قومتهم المصرية الأصيلة .. إنه لا يصمت عن ضعف، بل عن قوة وجبروت، كأي أب يرى أولاده يعملون من أجله فلا يسعه إذن إلا أن يراقبهم في صمت الشاكرين.
بنى المصريون الأهرام، وبنوا إلى جانبها أبا الهول يحرسها ويحميها من اعتداء المعتدين، ومن طغيان الطغاة الآثمين، ومن غي الغواة الظالمين، وطمع الطامعين الجشعين .. يمثل أبو الهول على مر السنين رأس المصري الأبي الكريم، والقوي الأصيل واللازب السرمدي الهادئ التقي الرزين الأمين، والشديد المكين .. ورأس أبي الهول هذا هو نفس رأس ذلك المصري الأريب الذي بنى الأهرام بفنه وبراعته ومهارته، وهندسته الراقية الرفيعة الخارقة النادرة التي وقف الإنسان أمامها حائرا مبهوتا عاجزا عن الوصول إلى سرها أو معرفة كنهها والسر الكامن وراءها. كانت هندسة رائعة عظيمة قبل أن يعرف العالم كله معنى الهندسة .. هذه يا سادة قطرة في بحر أو قطرة من بحر، تمثل لشعوب العالم بأسرها عظمة مصر .. بل هي مصر نفسها، أو بالحري مصر الهرم.
مصر العمل
لولا العمل ما بقيت مصر .. ولن تبقى مصر إلا بالعمل .. فكلما عملنا أثبتت مصر وجودها الأزلي .. مصر العمل واضحة جلية أمام الجميع؛ لأنها شامخة ناطقة صارخة قوية؛ تحظى بإعجاب العالم كله وباحترامه وتوقيره.
مصر العمل لا تنام، بل قوامها السهر والكد والعرق والسعي وراء الرزق الحلال .. كل مصري في هذا البلد العزيز يعمل بسواعده المفتولة العضلات والقوية، وبرأسه الشامخ الذكي وجسده الصامد الفتي، وكذلك بقدميه النشيطتين .. فالعمل شرف، والعمل تاج يزين هامة الشرفاء وأبدانهم وأيديهم وأقدامهم.
مصر العمل هي مصر القوة والفتوة، هي مصر الشدة والحدة، هي مصر النهضة والعزة، هي مصر الحضارة والغضارة والنضارة، هي مصر السعادة والنماء والرخاء، مصر الدوام والبقاء.
مصر لا تعمل إلا الخير لبنيها ولبني البشر من حولها .. كل أعمال مصر طيبة خيرة حسنة مباركة؛ تزكيها وترفع من شأنها وشأوها بين الأمم وتكلل هامتها بتيجان العزة والفخار.
مصر ليست جعجاعة، وإنما تعمل في صمت، فمن صفات مصر أنها لا تتكلم كثيرا؛ إذ تعلم أن خير الكلام ما قل ودل، وأنه إذا كان الكلام من فضة كان السكوت من ذهب.
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
شعار مصر الأول هو «أبو الهول»، الذي هو رمز الصمت، صمت العاملين، والمتعبدين المؤمنين ...
تعمل مصر بسواعد بنيها، فتقيم الصروح وتبني الضروح، وتشيد العمائر والمساجد والمصانع والجسور والأنفاق.
ومصر بفلاحها تعمل عملا أخضر فتنبت الزرع الذي يأتي بكل الثمرات المتعددة الأنواع .. الثمار الطيبة الشهية، المفيدة المغذية للإنسان والحيوان معا .. يضرب الفلاح الأرض بفأسه فتخرج لنا من بين حبات ترابها كل ما فيه الغذاء والكساء والدواء.
ومصر بمصانعها تعمل على أصوات المحركات والآلات .. فتخرج مع كل لفة سلعة، وتسد مع كل دورة ثغرة .. صناعها مهنيون حرفيون عاملون قادرون متمكنون محترمون.
ومصر بنسائها وبناتها وفتياتها قوة أخرى .. قوة عاملة تفخر بها نهضة مصر النسائية؛ فمنهن من تمسك الفأس وتفلح الأرض، ومنهن من تمسك بالمغزل والمنول والخيط والإبرة والقلم ... في إباء وشمم، وعزة وكرامة .. وفي أمومة وطهارة، وعذرية وبكارة .. وفي إيمان وثقة .. تعمل نساء مصر جميعا من أجل خدمة الوطن ورخاء البلد .. ومن أجل إسعاد الجميع .. فالمرأة المصرية شريان مصر الكبير وقلبها الحنون الرحيم، ويدها الطولى الممتدة دائما لخدمة الرجل المصري المكافح .. فيا لها من امرأة عظيمة تعمل إلى جانب زوجها وأبيها وأخيها وعمها وخالها .. تعمل صامدة مرفوعة الرأس مؤمنة بجدوى العمل لبناء مصر العاملة، مصر القادرة، مصر العظيمة ببنيها وبناتها.
مصر العمل، هي مصر المقاتلة .. جيشها جرار في عداد الحصى .. رجاله أبطال يذودون عن أرضها ونيلها وزرعها ونبتها وزرعها وأبنائها ومبانيها ومصالحها .. جيشها جيش عامل .. يستخدم السلاح في وجه المعتدين الآثمين .. لمصر العمل جيش لجب هو مفخرة بين جيوش العالم .. لا يهزم ولا يقهر .. ولا يسام أو يضام .. والجندي المصري عندما يعمل، لا يعمل لنفسه، وإنما يعمل لعزة الوطن وكرامته وكرامة العاملين والعاملات، ودفاعا عن مصر العمل.
مصر التي في خاطري
مصر التي في خاطري حلوة جميلة يعزها الجميع، ويكرمها بنوها وغيرهم من محبيها العالمين بفضلها والعارفين بقدرها.
مصر التي في خاطري، هي مصر التي أخاطبها وتخاطبني، وأناجيها وتناجيني، وأسامرها وتسامرني.
مصر التي في خاطري، أراها في كل صباح مشرقة لامعة، بيضاء ناصعة .. جمالها في شمسها وضوئها ونورها وصباحها الطويل الجميل، وهوائها النقي العليل.
مصر التي في خاطري ذات ريف باسم جميل هو نزهة للنفوس والعيون، وخير للبلاد وأهلها .. أرضه خضراء ناضرة، وهواؤه نقي صحي .. هو ريف ولا كل الأرياف .. تغنى بجماله الشعراء والأدباء.
عشقوا الجمال الزائف المجلوبا
وعشقت فيك جمالك الموهوبا
كست الطبيعة وجه أرضك سندسا
وحبت نسيمك إذ تضوع طيبا
ريف مصر التي في خاطري يهب ساكنيه صحة وقوة ونشاطا طبيعيا دون حاجة إلى رياضة تزيل عنهم الخمول والكسل، فعملهم كله رياضة، وبساطتهم كلها شفاء وعلاج، وقوة وعافية.
سر في الحقول ترى الرياضة عندهم
فنا وخطا عندنا مكتوبا
ما ضر أهل الريف ألا يحفلوا
بالطب أو لا يعرفوا المكروبا
ضمنت سلامتهم سهولة عيشهم
وصفا هواؤهمو فكان طبيبا
مصر التي في خاطري فتاة أحبها من أعماق قلبي، بل ومن أعماق أعماق فؤادي، ومن جناني وكبدي .. أضمها إلى صدري ليل نهار، وأشتهيها ولا أشتهي غيرها، فهي دمي وروحي وعقلي وقلبي وكياني وكل مستقبلي.
مصر التي في خاطري ليست على خاطر أحد، ولا أحد يؤمن بها كإيماني بها، ولا يفديها كما أفديها أنا، ولا يحميها بمثل حمايتي لها، ولا يموت من أجلها كما أود أن أموت من أجلها.
مصر التي في خاطري سلاح أحمله وأعتز به .. لا أفرط فيه ولا أسلمه أو أتركه أو أدعه يفلت من يدي، فهو حماي ودرعي، وسندي وترسي .. هو قوتي في ضعفي واستكانتي.
مصر التي في خاطري هي بيتي الذي آوي إليه وأحتمي به، وأنام في هدأته، وأرتاح بين جدرانه بعد تعبي وكفاحي، وأود أن أموت فيه وأدفن داخله؛ لفرط حبي إياه، ومحبتي الصادقة له.
مصر التي في خاطري سفينة ضخمة من عابرات المحيطات، لا تنال منها الأمواج ولا تؤثر فيها الزوابع والعواصف والأعاصير .. لا تحطمها اللجج الهادرة والمتكالبة السادرة .. بل تسير في طريقها عالية الرأس مرفوعة الجبين تشق عباب اليم في ثقة وإيمان وتمضي إلى هدفها بعزيمة واطمئنان.
مصر التي في خاطري جبل شاهق وطود شامخ أحتمي في ظلاله، وآوي إلى كهوفه وأحنائه، وداخل التواءاته وانحناءاته .. في سفحه لفحات أشتهيها وأرتضيها وأنعم بها، وأرقى إلى ذؤاباته أتقرب فيها إلى الله وأتعبد في خالقي العظيم وخالق الكون والبرايا، وأقترب من عرشه المكين؛ لتهدأ نفسي وترتاح وتستكين .
مصر التي في خاطري قلعة حصينة أمينة على بنيها تحميهم من الأسود الضارية، والذئاب العاوية، والكلاب الطامعة، وتلقنهم الأخلاق والأدب والمثل العليا، وتثقفهم بالعلوم والآداب وثمار الفكر .. هي قلعة للدفاع عن الجسوم والأبدان، والعقول والأذهان ... وعن بغي الإنسان في كل مكان وفي كل عصر وأوان.
مصر قلب الشرق
كما يذهب الحجاج من كافة أنحاء العالم الإسلامي إلى مكة المكرمة في شبه جزيرة العرب ليزوروا بيت الله الحرام، كذلك يأتي الناس من جميع بقاع الدنيا، إلى مصر؛ ليزوروا نيلها ويروا آثارها ومعالمها، ويشاهدوا مبلغ حضارة قدامى ملوكها وفراعنها، ويستمتعوا بدفء شمسها وجوها النادر الجميل، ويقطفوا من زهورها وورودها الرائعة ويأكلوا من ثمارها الطيبة، وما أكثرها وأطيبها!
مصر بحق كعبة الشرق كله .. ومحط أنظار العالم بأسره .. يتمنى زيارتها كل فرد في أمريكا وأوروبا وجميع دول العالم يتوقون إلى مشاهدة كل ما قرءوا عنه في كتب التاريخ، ولم يستطيعوا تصوره .. يريدون أن يروا تلك العجائب رؤية العيان «وليس راء كمن سمع» .. فيهرعون إليها .. ولكنهم ما إن يصلون عندها حتى يفقدوا توازنهم أمام ما يشاهدون فيها من سحر وجمال وبريق أخاذ، ومن آثار عظيمة لها قيمتها الحضارية وتشهد ببراعة قدماء المصريين في كل فن، ومن معابد وكنائس ومساجد تذهل العقول وتسحر الألباب بعظمتها وعظمة تاريخها العريق.
ومصر ككعبة للناس جميعا، تقابلهم بالترحاب وتحسن معاملتهم وتلبي جميع طلباتهم وتكرم وفادتهم وتنزلهم منها منزلة كريمة، وتحنو عليهم وتسخو؛ فإذا ما طلبوا دفئا أعطتهم شمسها العظيمة الرحيمة، وإن طلبوا علما وثقافة، قدمت لهم أرفع الثقافات وأسماها، وأقصى ما وصل إليه العلم والتاريخ .. وإن طلبوا ترفيها وجدوه في مجالات متعددة وعلى رأسها رقصنا الشرقي الفريد الذي تجيده الفتاة المصرية بالذات من دون سائر فتيات الأرض.
ما أكثر ما كتب الشرق والغرب عن مصر! وما أكثر الصفات الحميدة التي خلعوها على مصر وأهل مصر! فمصر تارة «أم الدنيا»، وتارة أخرى «صاحبها حلواني» وطورا «عروس الشرق»، وحينا آخر «مهد الحضارات» .. ومهما تعددت الأسماء والصفات، فمصر هي كل هؤلاء معا، بل وأكثر من هؤلاء.
زرت بلادا كثيرا في الخارج، فلم أجد شعبا ودودا متسامحا، خدوما، قانعا راضيا بما أعطاه الله تعالى مهما قل، إلا شعب مصر العظيم .. فهي كعبة المؤمنين القانعين الشاكرين الحامدين لربهم.
ومصر كعروس للشرق يخطب ودها الكثيرون .. ويطمع الكثيرون في الاستيلاء عليها .. فمن وضع يده على مصر فاز بنصيب الأسد، ودان له الشرق كله .. فمصر هي قلب الشرق، وهي عينه الرقيبة الواعية المدركة.
مصر الخلود
يشهد تاريخ مصر بأنها خلقت للخلود .. ولم تخلق لتسترق أو لتستعبد .. ولدت حرة فلا بد أن تظل حرة إلى أبد الدهر .. فقد دخلها من دخلها، كما يحكي التاريخ .. وغزاها من غزاها، بل وأحرقها أهلها يوما، ومع ذلك بقيت مصر .. وما انهارت ولا انمحت أو حذفت من خريطة الدنيا .. بل بقيت لتمسك بيد الزمن، لا لتكون ألعوبة في يد الزمن.
مصر الخلود رمز للبقاء الإنساني الشريف العفيف .. ففي مصر توجد القيم والمثل، ومن مصر خرجت تعاليم الإنسان كلها .. فهي مهد الحضارات، ومنارة الثقافات، وجامعة الهندسة والمعمار والكيمياء .. ولا يرجع خلود مصر إلى خلود آثارها فحسب، بل إن خلود آثارها هو العنوان الواضح والدليل الدافع على أن مصر قد خلقت للخلود وليس لتحذف أو تنمحي من الوجود.
مهما يحاول الاستعمار حاليا القضاء على مصر وعلى أرض مصر، واستقلال مصر .. فلن يتمكن هذا الاستعمار، بأية حال من الأحوال، أن يقضي على روح مصر .. فروح مصر في بنيها وأهلها، وكلهم أسود أشداء يموتون فداء لمصر، ولكي تحيا مصر .. إنهم ساهرون متيقظون متحفزون ليكتبوا الخلود لمصر .. فهي بأولادها الشجعان باقية، كما تبقى قصص الأبطال، وتخلد أعمال الصناديد الشجعان .. مصر لا تهزها الأحداث مهما عظمت تلك الأحداث؛ لأنها تقف على قاعدة صلبة من ملايين الفدائيين، الذين لا يخافون الموت ولا يرهبون الردى، حتى ولو جاءهم من كل حدب وصوب.
لئن خلد الفراعنة مصر من قبل بآثارهم وأهراماتهم ومعابدهم وفراعينهم الجبارة، فاليوم يخلدها شعب جديد لا يقل روعة عن شعب مصر القديم .. شعب قد من حديد، بل من فولاذ .. شعب واع مدرك لا تخيفه الأخطار ولا تفزعه أبواق الحرب الضروس .. شعب جبل على التضحية والفداء .. شعب فطر على الجود والسخاء .. يجود بالروح والنفس والجسد والمال .. شعب يضع مصر فوق كل اعتبار .. لا يهمه أن يموت، ولكن يهمه أن تبقى مصر خالدة مرفوعة الرأس، منتصبة القامة، تمسك بأغصان الزيتون في يد وبالمدفع في اليد الأخرى، ولسان حالها يردد شعارها: «نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا» .. هذه يا سادة، هي مصر الخلود.
مصر أرض العمالقة
الشهيد عملاق بطل، هو رجل يموت فداء للوطن .. وما أكثر شهداء مصر في كل المجالات .. في الحرب والقتال، وفي الكفاح والصراع والنضال، وفي المقاومة ضد الاستعمار والاستغلال!
تضرب مصر العمالقة الرقم القياسي الأول بين دول العالم أجمع .. فهي وطن العمالقة الذين يجودون بالدم قبل المال، وبالروح قبل الجسد .. مصر بلد نادر في هذا المضمار، لا يبارى ولا ينافس بسهولة.
جادت مصر، من قديم الزمان، بالنفس والنفيس في سخاء نادر .. لها الصدارة، ودائما في المقدمة، في جميع المواقف تضحي بأثمن ما عندها .. تضحي بالروح الطاهرة، وبالنفس الغالية، بالسر الأعظم الذي لا يعرف كنهه إلا الله جل جلاله.
تقوم عظمة مصر العظيمة على الشهداء والعمالقة الذين بنوا أهراماتها الخالدة، ومعابدها الشاهقة التي أدهشت العالم كله بجمالها وروعتها وفنها النادر الفائق، وصمودها وخلودها.
تقوم عظمة مصر العظيمة على الشهداء والعمالقة الذين كافحوا من أجل قناة السويس التي تجري مياهها في قلب الأرض المصرية .. مات ألوف وألوف من المصريين استشهدوا في سبيل شق هذا الشريان الحيوي العتيد المفيد.
لا تنتهي حكايات مصر الشهداء، ولا يذكرها التاريخ إلا بكل فخر وإجلال وإعزاز، وحب وتقدير.
تجد الشهداء من أجل مصر في كل منحى من مناحي الحياة .. تجدهم من الفقراء كما تجدهم من الأغنياء الواسعي الثراء.
فهذا فلاح مصر، عملاق شهير صامد صامت، يعمل في صمت ويعيش في هدوء وسكون ...
نشر السكون على القرى أعلامه
فتكاد تسمع للقلوب وجيبا
يظل هذا الفلاح المثالي يفلح الأرض ويبذر الحب ويزرع النبت من أجل شعب مصر، ورفاهية شعب مصر وهنائه وسعادته، ومن أجل رخائه ورفعته .. يعمل فلاح مصر في هدوء لا يجعجع ولا يرفع عقيرته بالشكوى مما يعانيه، ولا سيما من الأمراض المستوطنة كالبلهارسيا والأنكلوستوما، وغير ذلك من الأمراض الفتاكة، ولكنه جبل على الصمت وألف الهدوء، فيظل يعمل في الأرض التي يعيش من أجلها ويموت في أحضانها بنفس راضية بقضاء الله، وروح قانعة باللقمة البسيطة.
ما أكثر شهداء الفقر والجوع وشظف العيش والمرض والجهل في مصر! ورغم هذا ما خفضت مصر رأسها ولا طأطأت هامتها لأحد، ولا انحنت أمام أحد .. لم يستطع أي غاز أو مغتصب أن يدوسها أو يركلها أو يستعبدها .. صمدت مصر وانتصرت على أعتى شعوب الأرض جبروتا وسلطانا وقوة غاشمة.
قبرص الحقيرة الصغيرة ومصر العظيمة الكبيرة
وقعت أحداث قبرص المشينة في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا الكتاب الصغير، أعبر فيه عن مشاعري نحو البلد الذي أدين له بكل شيء بكياني وحياتي ومكانتي وعزي ومالي.
أرادت قبرص الحقيرة؛ دويلة اللصوص والقراصنة، أن تلعب دور الذئب الغادر المفترس متخذة من مصر حملا وديعا يسهل عليها اغتصابه والنيل من عزته وكرامته.
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
أخيين كانا أرضعا بلبان
ولكن هيهات هيهات .. لقد حدث لقبرص ما لم تكن لتعرفه لو لم يلقنها شعب مصر ذلك الدرس الذي لن تنساه والذي جللها بالعار أمام شعوب العالم كله.
عدد بسيط من شعب مصر، لا يتجاوز السبعين نفرا من رجال الصاعقة المصرية، تصدوا لجيش عرمرم من القبارصة الأبالسة المدججة بشتى صنوف الأسلحة أشكالا وألوانا، والمحتمين داخل دباباتهم وخلف مدافعهم .. وقد ظن أولئك القراصنة السكعاء الرقعاء، أن الطعم سهل والصيد ضعيف وأن الخدعة أثمرت .. ولكن مصر العظيمة خيبت أملهم، فضربتهم ضربة قاصمة هزت كيانهم وزلزلت أركانهم وخلعت عليهم الخنوع والمذلة، وجعلت العار نصيبهم، وكشفت خستهم ودناءتهم ووضاعتهم، وأظهرتهم على حقيقتهم وسط دول العالم المتمدين المتحضر.
ماذا فعلت القلة المصرية أمام الكثرة القبرصية؟
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
صدق الله العظيم .. لقد صمدت القلة وقاومت وضربت وأبلت بلاء حسنا وعاد العدد الأكبر منها سليما، على وجوههم ابتسامة الرضا والقناعة بحسن الأداء وقوة البلاء وروعة الفداء.
ليس ما قام به رجال الصاعقة المصريون حدثا جديدا، أو أول حدث من نوعه في تاريخ مصر .. وليس أمرا حديثا عليها أو مستغربا أن يصدر عنها وينسب إلى أبنائها .. فما قام به رجال الصاعقة المصريون قام بعشرات أمثاله رجال القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر الطاحنة .. يوم أن دكوا حصون خط بارليف المنيع؛ الذي ظن الإسرائيليون والعالم كله أنه سيزهو على خط ماجينو وخط سيجفريد. ماذا فعل به جنود مصر البواسل الضراغيم؟ ركبوه كما يركب الفارس الماهر ظهر جواده المطيع:
فخر مضرجا بدم كأني
هدمت به بناء مشمخرا
وبذا دخل المصريون في أعماق الصحراء وأصلوا جيوش إسرائيل نارا حامية لم يعهدوها من قبل، ولم يسبق لهم أن رأوا مثلها أو فطنوا إلى وجود مثلها شراسة وقوة واقتدارا.
ألم يبلغك ما فعلته كفي
بكاظمة غداة لقيت عمرا؟
ليت هذه فقط هي مصر، بل إن مصر أكثر من ذلك .. وها هو التاريخ يشهد بروعة أعمال رمسيس وغيره.
من كرمسيس في الملوك حديثا
وكرمسيس المملوك فداء
والعالم أجمع يذكر ولا ينسى ما فعله أحمس الأول بالهكسوس.
نصحتك فالتمس يا ذئب غيري
طعاما إن لحمي كان مرا
وها هو الفلاح المصري وهو يضرب باطن الأرض بفأسه، ويشقه بمحراثه، لا يقل روعة عن ضربة الجندي، وهو يطلق رصاصاته القاتلة، وقنابله المدمرة .. فلاح مصر البسيط الجاهل، رجل عظيم بالغ العظمة يضرب الأرض ضربته فتدين له وتنبت له من كل الثمرات .. وإلى جانب الفلاح هناك الصانع المصري الماهر، يدير الآلات والدواليب في صمت ليحول القطن إلى خيوط ثم إلى منسوج وإلى ملابس .. وهكذا يقوم في هذا الميدان بعمل جليل من أجل صالح مصر.
كل هؤلاء، وغير هؤلاء، مهندسون تعتز بهم البلاد كلها .. فهم ممتلئون رجولة وشهامة ومروءة واستعدادا للفداء والتضحية بالنفس والروح والمال، والعرق في سبيل نهضة مصر، ورفع رأسها عاليا، بين الأمم فيلهج كل لسان بذكرها بالخير والجميل والعرفان.
كم أنت عظيمة يا مصر! عظيمة بسواعد أبنائك .. ولعل العمل الفدائي الذي قام به رجال الصاعقة هو خير شاهد على نوع التربة التي يتغذى من خيراتها بنوك، وعلى نوع الماء الذي ينهل منه شعبك .. مصر كنانة الله في أرضه .. والنيل هو ثاني أنهار الدنيا طولا .. ورجالك أشجع من خلق الله من الرجال على وجه البسيطة كلها، بلا نزاع ولا جدال .. فماذا نريد منك، أكثر من هذا يا مصر؟
مصر تحت المجهر
ليست مصر بحاجة إلى مجهر؛ لأنها ظاهرة للجميع .. يراها الكل ويبصرونها .. «ميت فل وفل».
مصر تحت المجهر، هي مصر بغير مجهر .. هي كبيرة عظيمة شجاعة، أم الحضارة، وأم الدنيا .. هي أم ليس بعدها أم، ولا قبلها أم .. هي خير أم في الوجود، بل وأروع أم في الدنيا، هي أم رءوم حنون، قلبها شفاف هفهاف رقراق وصاف كالبلور، لا تشوبه شائبة ولا تشوهه جارحة.
كم أنا فخور بأنني مصري! مصر بلدي .. هي وطني .. وهي سكني .. وهي مقبرتي .. وأنا مع مصر تحت المجهر .. والذين يرون مصر يرونني والذين يرونني يرون مصر في شخصي؛ لأننا متلازمان لا ننفصل .. كل منا ملتصق بالآخر، أنا منها ولها، وهي مني ولي .. أعطيها وهي تعطيني .. أموت فيها، وهي ولا شك تموت في .. إننا جسد واحد تحت المجهر .. كيان سليم لبنيان سليم .. محاسن مصر في .. فأنا مثلها قوي شجاع كريم معطاء متسلح مشرق، مؤمن طاهر الذيل نقي اليد، واسع الصيت والسمعة، حسن الأحدوثة .. قلبي أبيض، وعيني كبيرة لا تحرق، بل تدفئ وتنمي وترى وتراقب وتنشط وتقوي .. أما يداي وقدماي فتمثل نيلها بفروعه .. إن رفعت ساعدي إلى فوق بدتا في صورة دلتا تشبه دلتاه، أما قدماي فهما في منابع النيل راسختان ثابتتان، كأنهما جذور شجرة متغلغلة في أعماق التربة داخل باطن الأرض.
وأنا تحت المجهر أمثل مصر في صورة مصغرة .. ومصر هي أنا في صورة كبيرة .. أنا ظفر منها، وهي يدي ورأسي وجسدي .. هي الأصل وأنا فرع صغير خرج منها ولم ينفصل عنها.
ومصر تحت المجهر ، لا تخاف الحقائق ولا ترهب الواقع ولا يفزعها أي شيء، فالمجهر لا يظهر إلا ما هو كامن في هذه الأرض من كنوز ونفائس، وجواهر ومعادن ثمينة تزيد من قيمتها وقدرها.
وأنفس ما في مصر هم الأربعون مليون نسمة بعقولهم الجبارة المنيرة المتعلمة الواعية اللماحة الذكية، وسواعدهم الفتية القوية، وأرواحهم النبيلة الشريفة الكريمة الأصيلة .. أما عيونهم فدعجاء كحيلة مميزة واسعة.
مصر جنة الولهان
مع شمس مصر، ونيل مصر، وقمر مصر، وسماء مصر الصافية الأديم، لا يمكن إلا أن يقوم أحلى حب وأجمل عشق وأقوى هيام وأرقى انسجام.
لا توجد بقعة في الدنيا يمكن للحب أن ينمو فيها كما ينمو فوق أرض مصر .. لا يوجد مكان في الدنيا يحس فيه العاشقون بالطمأنينة والسعادة مثلما يحسون فوق أرض مصر .. مصر أرض العاشقين .. أرض المتيمين .. أرض الولهانين المؤمنين بحب الله وحب الوطن وحب البشر وحب الحياة وحب الحب نفسه.
مصر أرض لا تستهوي القتلة والسفاحين ولا تؤوي المردة المحاربين .. لا يعنيها السلاح الفتاك ولا أدوات الدمار والهلاك، ولا تبني القلاع أو خطوط الدفاع .. ولكنها بلاد تحب المسالمين الوادعين الذين امتلأت قلوبهم بالحب الطاهر الشريف .. الحب الذي يعشش ويأوي ويصون .. الحب الذي ينمو ويكبر، ويعلو ويشمخ، ويزدهر ويثمر، ويهيئ الرجال والأشبال لنيل مصر وجو مصر وأرض مصر وجنة مصر الفيحاء.
مصر جنة بزرعها ونباتها ونخيلها وأشجارها وثمارها المتعددة الألوان.
وترى النخيل غصونه فيروزج
يحملن من صافي العقيق حبوبا
أرأيت عملاقا عليه مظلة
أو ماردا ملء العيون مهيبا
بسط تظللها الغصون فأينما
يممت خلت سرادقا منصوبا
والغيد تغمس في الغدير جرارها
فيظل يضحك ملء فيه طروبا (محمود غنيم)
هناك تحت ظلال الأشجار تتناجى الأرواح، ويتطارح الغرام ونتبادل العواطف في انسجام لا يعدله أي انسجام وبانطلاق لا يساويه أي انطلاق غير انطلاق الطبيعة المحيطة:
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري
الأرض حولك والسماء اهتزتا
لروائع الأشجار والآثار
ولقد تمر على الغدير تخاله
والنبت مرآة زهت بإطار
حلو التسلسل موجه وخريره
كأنامل مرت على أوتار
ينساب في مخضلة مبتلة
منسوجة من سندس ونضار
وترى السماء ضحى وفي جنح الدجى
منشقة عن أنهر وبحار (أحمد شوقي)
حقا مصر جنة من الورود والزهور والطيور ينمو بينها حب لذيذ طبيعي غير محرم .. كما أن هناك بجوار هذا الحب الإلهي بمفهومه العميق الخطير، يجد الإنسان أحلى جو يمكن أن تستقر فيه عواطفه وتهدأ، وتتناجى وتهنأ، وتتسامر وتتهامس وترتوي وتطفئ الظمأ القلبي والحيواني؛ ليخرج لنا بعد ذلك نتاجا من الشباب القوي المثابر المفعم قلبه بحب الوطن وحب مصر، والمخلص الفدائي العظيم الهمة والحاد الذكاء الفطري، الشديد الإيمان بالله وبالوطن، ذي الفكر السوي والرأي السديد والتفكير الصحيح.
هذه هي مصر .. أم البلدان وطليعة الأوطان وملهمة الشعراء .. أرض العاشق الولهان.
مصر العجوز العذراء
تعتبر مصر بتاريخها العريق الطويل القديم، أم البلاد جميعا، وأكبرها سنا وعقلا وخبرة وحنكة وعلما .. ومصر كأم عجوز، تعرف ما لا يعرفه باقي البلاد والأمم .. فللسن قدرها وأفكارها ومكانتها وقيمتها، وهي إضافة إلى صاحبها ترفع قدره ومقامه ومكانته وتعلو به وتزيد من قيمته.
مصر عجوز من حيث السن، ولكنها تعيش كما تعيش العذارى البكارى من الشابات الصغيرات السن .. لمصر عقل الشيوخ ورجاحتهم وحكمتهم، ولها رويتهم وبعد نظرهم، وسمات الحكماء وأهل الرأي والفكر السديد .. ولكن عندما تبحث في طاقاتها تجدها كلها طاقات الشباب ذوي السواعد القوية الفتية، ولو درست قلبها لوجدته قلب غادة في العشرين من عمرها تبحث عن الحب النمير، تريد أن تعب منه وتهنأ به، وتنعم كما ينعم المحبون والعاشقون الذين في مثل هذه السن المتفتحة للحب الحنون المأمول.
ومصر كأمة، لها عقل مائة أمة من كبريات الأمم، ولها رأي راجح يفوق آراء مئات الأمم مجتمعة .. إنها في هذا الصدد عجوز مسنة مدركة لكل شيء .. ملمة بكل شيء .. عالمة بكل شيء .. فاهمة كل شيء.
ومصر، في الوقت نفسه، لا تشيخ ولا تهرم جسدا أو قوة أو عزيمة أو جهدا، فهي في جميع هذه المناحي لها جسد الشباب بعضلاته المفتولة .. وقوة الشباب اليافع .. وعزيمة الرجال الأشداء .. وجهد الجنود البواسل المثابرين الهادفين إلى الظفر والانتصار، والفوز والغلبة، مهما يقدموا من دماء وأرواح غالية!
هذه هي مصر الحديثة .. إنها امرأة عريقة المنبت، أصيلة المحتد، شريفة النجار، رفيعة القدر، مرفوعة الرأس، عالية الهمة تخاف على نفسها من الفتنة، وتعرف كيف تحافظ على نفسها من اعتداء المعتدين وشراسة المغتصبين؛ لأن لها قلبا كقلب الأسد، وأنيابا كأنياب الذئاب ضراوة، ومخالب كمخالب النمور .. ولها قرون كقرون الوعول .. كما لها صبر البعير وأناة الإبل وفراسة الجياد ودهاء الثعالب .. وهي مع ذلك جميلة جمال الطاووس، ووديعة وداعة الحمام، ومسالمة كاليمام؛ لأنها تدين بالإسلام والسلام.
مصر متحف العالم
يجد الإنسان في مصر كل شيء في هذه الدنيا .. فمصر من دون سائر بلاد العالم تجمع ما بين القديم والحديث.
مصر مهد الحضارات، تجد فيها آثارا لأشهر تاريخ في العالم أجمع وهو تاريخ الفراعنة، تاريخ أجدادنا العظام الأفذاذ .. ذلك التاريخ الذي يدرس في جميع بلاد العالم .. وإلى جوار الآثار تجد المعابد الهائلة والحفائر المذهلة فضلا عن الأهرامات المعجزة التي هي أعظم غرائب الدنيا المعدودة.
مصر من حيث الآثار، متحف فرعوني خطير لا مثيل له في الوجود كله.
وليت أرض مصر تقتصر على هذا النوع البارز من الآثار المصرية العتيقة، ولكن بها أيضا آثارا يونانية ورومانية نادرة .. وآثارا بطليموسية، وأخرى قبطية قلما تجد لها نظيرا في أية بقعة أخرى من بقاع العالم.
ومتاحف مصر في هذه الآثار تضارع كبرى متاحف العالم، وربما تفوقت عليها بمراحل.
أرض مصر تراث للعرب نادر المثال .. فهي أرض لكل عربي .. وموطن يأوي إليه كل عربي من كل وطن عربي.
ومصر متحف للملابس .. تجد بها كل ملبس يوجد في كل بقعة من بقاع الأرض .. ونظرة واحدة إلى صفوف المارين بشوارع القاهرة، مثلا، تقنعك بصحة هذا القول .. فهي متحف للأزياء لا ضريب له في الدنيا .. إذ يرتدي سكانها كل ملبس موجود في العالم.
أما المرأة المصرية فهي، في حد ذاتها، متحف نادر، لما تتمتع به من حرية ارتداء الملبس الذي يروقها، ويتمشى مع العصور، قديمها وحديثها .
تسمع في مصر جميع الألسنة واللهجات واللغات .. فهي من هذه الناحية بالذات متحف عظيم يجمع كل لغة في الدنيا قاطبة.
لا توجد سلعة على ظهر البسيطة كلها تعجز عن الحصول عليها في حوانيت مصر ومتاجرها .. فأحدث ما ينتجه العالم ويخرجه، موجود على أرض مصر .. يسهل بيعه وشراؤه.
أما عن التقاليد والعادات، فحدث عن كثرتها وتنوعها في مصر ولا حرج .. فهي من دون سائر بلاد العالم، تعتبر متحفا فريدا لا نظير له، بما يوجد فيها من عادات وتقاليد - وأحيانا تقاليع - قلما توجد مجتمعة في أي بلد آخر من بلاد الدنيا .. حقا، إن مصر متحف رائع .. بل هي متحف عالمي نادر.
الكل في حب مصر سواء
مصر كأي دولة في العالم بها الغني والفقير .. وقد يكون الغني عريض الغنى، واسع الثراء .. وقد يكون الفقير معدما شديد الفقر .. الأمر يتفاوت كثيرا .. ولكنك قد تعجب عندما تعيش في قلب مصر .. إذ تجد الكل يتفانون في حب مصر، على حد سواء .. لا فرق بين غني وفقير .. ولا بين كبير وصغير .. أو بين قادر وعاجز .. فالكل يعيش في حب وأمان، وفي راحة واطمئنان .. في خير مصر العميم الذي يشبع الفقير مثلما يشبع الغني .. وفي أحضان نهر النيل الذي يروي الجميع بمائه العذب السلسبيل.
لا تفرق مصر بين بنيها، بل تعاملهم جميعا معاملة واحدة .. وتعانقهم بروح واحدة وحب واحد خالص لا يفتر أبدا ولا يضعف ولا يموت.
يعيش كل الناس في مصر من أجل مصر، فهي بالنسبة لهم أم رءوم، يخصونها بحب أي حب! ويكنون لها بالحنان ويذودون عنها بالقلب والفؤاد والجنان؛ لكي تحيا في سلام وأمان وعز واطمئنان.
مصر كأم تحنو على بنيها بدرجة واحدة .. فتكسو العريان، وتشبع الجوعان، وتروي الظمآن، وتنعم على المجتهد والكسلان، الكل على حد سواء .. فهي كأم، تقبل جميع بنيها على علاتهم ونقائصهم، فلا تجور على واحد لكي تسخو على آخر من باب التفرقة والإيثار، ولكنها تحب الجميع لأنها أم الجميع .. وأولادها جميعا سواسية في عينيها وقلبها وروحها. وفي عقيدتها وإيمانها ودينها وديدنها.
الكل في حب مصر سواء .. فقيرها يخاف على رغيفها .. وغنيها يخاف على رغدها .. ويوم القتال إذا ما جد الجد، تجدهما في معمعان الوغى صفا واحدا، أمام العدو الطامع في أرضها والمعتدي على حياضها.
مصر أم الفقير وأم الغني، أم الضعيف وأم القوي، كلهم يحبون الأم بنفس القدر وبنفس المكيال .. وكلهم على استعداد تام للموت في سبيل الأرض المباركة، أرض مصر العظيمة، صاحبة الفضل على بنيها الأحباء .. مات شقيق السادات كما مات شقيق العتال في يوم القتال، يوم اندلعت حرب رمضان المباركة .. فأبناء مصر، أغنياء وفقراء يفتدونها بنفوس راضية واستعداد كامل .. كلهم إزاءها سواء .. كلهم في حبها أشداء أحباء.
مصر لا تنام
كيف لأمة عظيمة كمصر، أن تنام .. كلا، لن تنام مصر، ولا يمكن أن تنام ولو لحظة واحدة .. فمن مزايا مصر النادرة، أن تسهر على بنيها وأولادها ليل نهار، حتى وهم نيام .. فهي تسهر لتحرسهم وتقيهم وتصونهم وتحفظهم وتحميهم من شرور الليل وأذى الظلام وخطر المعتدين المتربصين لها آناء الليل وأطراف النهار.
شريان مصر نابض فتي، لا يعرف الجفاف ولا يعرف الجدب .. إنه النيل الذي، أقل ما يمكن أن يوصف به، أنه نهر أصيل جليل طويل، ماؤه عذب سلسبيل، يروي العطشان الغليل، ويشفي المريض العليل.
نيل مصر دائم الجريان، لا ينام أبدا، ولا يهدأ أو يتكاسل أو يفكر في الراحة أو الخمول .. إنه يعمل ليلا ونهارا .. حركته دائبة لازبة مستمرة .. تتدفق مياهه في صمت يتفق مع وقاره وعمره، وعراقته وأصالته ومنبته الأصيل القويم السوي.
كذلك أرض مصر لا تنام، فهي دائبة العمل، تنبت وتزهر وتثمر، والكل يهنأ ويأكل ويتمتع بأطيب ما تخرجه أرض مصر، التي لا تهدأ ولا تسترخي ولا تتراخى أو تتواكل أو تنضب أو تجف؛ لأنها متجددة النماء، قوية الازدهار، شديدة الخصوبة، غزيرة الإنتاج، وفيرة الثمار، كثيرة الخيرات .. لا تعرف لليل طعما حتى تنام فيه، ولا تهدأ في النهار ولا برهة، حتى يأكل الجميع ويشبعوا وقد يتخمون.
مصر لم تنم أبدا، ولا لحظة واحدة أو طرفة عين ، في تاريخها الطويل .. لم تغفل عينها عن عدو امتلكها، أو غاصب اغتصبها، أو متعجرف احتلها، أو معتد اعتدى على أرضها وزرعها ومائها وأهلها .. فهي كما نعلم، ويعلم العالم أجمع، مقبرة الغزاة .. أمهلتهم ولكنها لم تهملهم، بل قامت لهم وسامتهم العذاب وكالت لهم الصاع صاعين وأكثر وصبت عليهم نيرانها، وأعطتهم الويل والويلات، وطردتهم من بطنها كما تطرد النفايات والحثالات الضارة، وركلتهم في مؤخراتهم ركلات لن ينسوها .. لفظتهم لفظ النواة بعد أن ظلت ساهرة لهم بالمرصاد بعيون دونها عيون أرجوس فلم يهنأ لهم فيها عيش، ولم يطب لهم فيها مقام.
هذه هي مصر على الدوام .. إنها بلد لا ينام ولا يسام ولا يضام؛ لأن شعبها من أعرق الأقوام، وأقدم الفراعين الكرام.
مصر لا تعرف الخوف
تعيش مصر في هذه الأيام حقبة غريبة من حياتها التاريخية .. فكل من حولها تقريبا يناصبونها العداء ويتربصون لها، يريدون أن يجهزوا عليها ويفتكوا بها وبشعبها العريق. وما ذلك إلا لأن نار الغيرة تعصف بهم وتتأجج في قلوبهم، ومصر لا تبالي ولا تكترث لغيرتهم أو حسدهم:
فاصبر على كيد الحسو
د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
تسمع مصر في كل يوم تهديدا غريبا يأتيها من قطر عربي شقيق، أو بلد شيوعي معاد .. ومصر لا تهتز فيها شعرة ولا تعير هؤلاء الحساد اهتماما.
ويخرج من قلب مصر أفراد أعمى الله بصائرهم وطمس على قلوبهم وأظلم أفئدتهم؛ فقاموا يعادون مصر ويشهرون بمصر وهم محسوبون مصريين يأكلون زرعها ويشربون ماءها وينعمون بخيراتها .. قاموا يتمسحون بالشعب ويقولون نحن أهله وعشيرته وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء، إلا كما يكون الجهل من العلم والطيش من الحلم وأفن الرأي من صحة الحكم .. إنهم فئة مأجورة قامت تخرب ممتلكات الشعب وتنهب خيراته وأقواته .. ومع ذلك فمصر لا تكترث ولا تبالي.
ويتكاتف الأعداء ويحيكون المؤامرات، ويعقدون المؤتمرات، ويسلطون الأقلام المأجورة، وينشرون الإرهاب، ويعلنون الحروب النفسية القاتلة .. ومع ذلك فإن مصر لا تبالي.
مصر فوق الجميع .. مصر فوق أولئك الأقزام .. مصر عالية شامخة، رأسها في السماء، وجبينها يلتقي بجبين السماء العريض، وعنقها يخترق السحب، وقدماها في قاع النيل العميق .. مصر عملاق جبار، وطود ثابت الأركان، وصرح راسخ البنيان .. مصر لا تنال ولا تمال ولا تقيد بقيد، ولا تربط بالسلاسل والأغلال .. مصر عملاقة تعرف ما تريد، وتعمل لما تريد، لا تنال منها المهاترات، ولا تجيفها الخزعبلات، ولا ترهبها رصاصات طائشات .. الكل يعرف أن مصر قلعة العروبة، لها قلب من الفولاذ، وجسد قد من الصوان، لا يجرح ولا يخدش ولا يذوب أو يتآكل بأية حال من الأحوال.
حقا، ما أشجعك، يا مصر! الكل يخافك وأنت لا تخافين أحدا .. الكل يعمل لك ألف حساب، أما أنت فدائما مبتسمة هادئة هانئة صابرة، عارفة بالخير وتعملين للخير، ولا تخطئين أخطاء الغير .. فإن تجنوا لم تتجن هي، وإن اعتدوا ما اعتدت، وإن سخروا لم تسخر، وإن تمادوا في غيهم ما تمادت .. شأن من لا يخاف ولا يهلع، ولا يهاب ولا يفزع .. أنا مصري لا أعرف الخوف .. لأن بلدي لا يزرع الخوف كما لا يزرع الشوك .. أنا من نتاج مصر؛ لذا فإني شجاع حقا، قلبي من الخوف خلاء، وهذا من فضل ربي الذي ينفذ كل ما أراد وشاء.
مصر فوق النقد
هناك فرق كبير بين أن ينتقد المصريون بلدهم، وبين أن ينتقده غيرهم .. ونحن إذ ننتقد مصر، كمصريين، إنما نعالج أوضاعنا وننتقد ذاتنا من أجل صلاحنا وإصلاح بيتنا وترتيب ما يحتاج فيه إلى ترتيب.
ولكننا لا نقبل نقد الآخرين، فلهم أوطانهم ومن حقهم أن ينتقدوها ما طاب لهم أن ينتقدوا، فهذا ليس من شأننا، بل هو شأنهم وحدهم .. ولا دخل لنا في نقدهم أوطانهم طالما لا يتعرض لغيرهم.
ولكن الطامة الكبرى، والبلاء العظيم، أن تتصدر بعض البلاد العربية حملة خسيسة غادرة، كلها نقد لمصر وأهل مصر، وشعب مصر، وحكام مصر بنوع خاص .. ما رأيكم أيها الأخوة العرب، في أننا راضون تمام الرضا عن حكامنا، قانعون كل الاقتناع بنزاهتهم ونبل مقاصدهم، عالمون بمخططاتهم القويمة السليمة الهادفة إلى صلاحنا وصلاح أحوالنا وإلى رفعة شأننا وشأن وطننا .. فخلوا عنا وكفوا عن نقدنا، وضعوا ألسنتكم داخل أفواهكم وارتدعوا.
بقول الشاعر:
عليك نفسك فتش عن معايبها
وخل عن عثرات الناس للناس
وقول الآخر:
لا تقف زلات العباد تعدها
فلست على هذا الورى بمسيطر
أقول لكم اتركونا وشأننا، وإذا أردتم أن تتكلموا - بحكم العادة - فليكن كلامكم عن غير مصر من دون سائر بلاد الدنيا؛ فمصر هي أمكم، وهي عورتكم الكبرى، وشرفكم الأول .. ومن ذا الذي يستطيع أن يتطاول على شرف أمه، إلا كل نذل عديم المبدأ، خسيس الأصل والمنبت، مجرد من الشهامة والكرامة والرجولة، شحيح العزة والنبل والأرومة.
مصر، يا سادة، لا ينتقدها إلا بنوها وأولادها؛ فهم وحدهم الذين يعرفونها ويعرفون كل شيء فيها، وهم أولى بصلاحها وإصلاحها وتدارك أمورها، وأقدر على رتق الثقوب وسد الثغرات في كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والدولي .. مصر من قديم الزمان خير معلم وأكبر أستاذ مرشد، وأقوى ناقد ينتقد ذاته أولا، ولا يعاير أو يطاول، ولا ينظر إلى ما في عين أخيه من قذى، ناسيا أو متناسيا أعواد الخشب التي في عينيه.
مصر فوق النقد؛ لأنها ناقدة للذات من قديم الزمان، وفي كل نكثة من نكثاتها نقد لما يجري في باطنها من عيوب ومثالب؛ فنحن نرى أنفسنا بأنفسنا ولسنا في حاجة إلى من يرى لنا، ويقومنا ويقوم اعوجاجنا، لو كان فينا اعوجاج .. ومصر حين تنقد نفسها لا ترحم نفسها .. إنها تنكل وتضرب بيد من حديد على أيدي المفسدين والمبغضين والكارهين والمارقين المنقلبين عليها العاملين ضدها .. لقد أحرقت مصر بيد بنيها؛ لأنهم لم يكونوا راضين عن أوضاع فرضها عليهم قلة متآمرة حاكمة، استبد بهم الطغيان فحكموها بقلوب العميان .. هذه هي مصر الناقدة .. نقدها عنيف لاذع، وحارق مدمر .. وهو نقد نابع من داخلها وباطنها لا بوحي من غيرها ولا بإيحاء من جيران يغارون منها، ولا شعوب معادية لها.
مصر الناقدة لنفسها لا تنقد أوضاعا في بلاد أخرى؛ لأنها حين تنقد تعرف حدود النقد وتعرف أصول النقد وقواعده .. وهي في هذا السبيل تطبق قول سقراط «اعرف نفسك بنفسك».
هذا ما تفعله مصر منذ أن قامت على وجه الدنيا .. لم ينقدها ناقد وأفلح، ولكن نقدها يأتي من عندها .. فكفاكم هذيانا أيها الناقدون الحاقدون، فمصر فوق كل نقد؛ لأنها تعرف النقد ولا تنكره على نفسها، ولا تمنعه عن ذاتها لحظة واحدة.
مصر للسلام درع وسيف
يحمي مصر جنود بواسل، ولكن الله جل وعلا، هو حارسها الأعظم، هو خير درع وخير سيف وخير مدفع .. فسلاح الدين متوفر في مصر، قلما لا يحمله واحد من سكان مصر وأبناء مصر.
من أسلحة الدين التي يتسلح بها المصريون: القرآن الكريم، والإنجيل المقدس، والتوراة العظيمة .. وفي مصر يهود يحبونها أكثر مما يحبون أنفسهم، ولهم في القاهرة حارة كاملة تحمل اسمهم «حارة اليهود»، وهم يحبون هذا اللون من الحياة المنعزلة المتسمة بالتعاون الطائفي .. ولكنهم، إذا ما جد الجد، يدافعون عن حارتهم بنفس الطريقة والصورة التي يدافع بهما أي مصري عن حدود مصر.
أما المسلم والمسيحي فهما جسد واحد ذو روحين أو روح واحدة في جسدين .. القوتان تعملان من أجل هدف واحد من أجل مصر الأم العظمى؛ الأم الوالدة، الأم التي هي أمهما بلا نزاع ولا جدال.
فالمسلم والمسيحي درع واحدة، يحميان مصر من شر المعتدين .. والجيش المصري يضم المسلم كما يضم المسيحي بنفس الطمأنينة والثقة.
ولم يحدث قط أن سمعنا أن مسيحيا خان مصر، أو أنه ألقى الدرع الخاص بها وأولى ظهره للعدو موليا الأدبار، أو أنه سلم الأمانة ليد المغتصب أو المعتدي.
مصر قلعة السلام في العالم .. أي اعتداء على مصر اعتداء على سلام العالم .. وأي اعتداء على حدود مصر اعتداء على سلام البلاد العربية كلها، وعلى هناء بلاد العالم طرا.
مصر كأم تذود عن بنيها وأولادها وجيرانها، وتدافع عنهم، وتضحي بسخاء دونه أي سخاء .. إنها لا تتخلى عن الرسالة الكبرى .. رسالة السلام، وهي عندما تسلح بنيها وتدججهم بشتى أنواع الأسلحة، لا تعلن حربا ولا تبغي اعتداء، وإنما ذلك من أجل المحافظة على السلام الذي قد يفكر الآخرون في الاعتداء عليه والنيل منه، وطعنه طعنات نجلاء مميتة.
وإنني لمؤمن بأن مصر، السلام، خير درع وأمضى سيف، والعالم كله يؤمن معي بهذا الإيمان، والحمد لله.
بالإرادة سنبني مصر
ليس كل شيء في مصر الآن على خير ما يرام .. فقد أنهكتها الحروب، ونالت من ماليتها، وأعجزتها كثيرا .. ولكن مصر اليوم غنية ببنيها وشبابها وسواعد رجالها.
وأقوى ما تعتمد عليه مصر اليوم هو الإرادة .. فإرادة مصر إرادة فولاذية جرانيتية .. إرادة مصمتة وليست جوفاء أو خرقاء .. إرادة متينة كالصخر الجلمود .. وعلى هذه الإرادة، ستبني مصر نفسها من جديد .. ستقوم المعوج وتقاوم الأعطاب، وتقضي على الفوضى الضاربة أطنابها في بعض النواحي.
ومصر كأمة، لها إرادة قادرة بناءة، كامنة في باطنها وفي أرضها الصلبة، ونيلها القوي الشكيمة الهادر الأزلي، الممتد بلا حدود، وداخل حدود أكثر من قطر.
يروي تاريخ مصر القديم والحديث، عشرات المرات التي تمكنت فيها مصر بالإرادة من النهوض من كبواتها وعثراتها وأوقاتها العصيبة الرهيبة.
كم من غريب أجنبي سحقته مصر تحت قدميها، وكم من غاز صلف معتد، ركلته مصر وطردته شر طردة خارج أراضيها؛ فخرج يجر أذيال الخزي مدحورا محسورا.
إذن، فبالإرادة ستعمل مصر على إصلاح أحوالها، وتقضي على أخطاء الماضي التي ارتكبتها حفنة من أبنائها المارقين الفاقدي الضمير.
وبالإرادة ستزدهر مصر، وتنبع وتشرق من جديد؛ فيبدو كل شيء فيها جميلا جذابا .. ليس تخليص مصر من قاذوراتها وأدرانها بالأمر المستحيل .. خلق الله سواعد أبنائها قوية فولاذية لهذا الغرض .. لإزالة غبار الزمن وأتربة الماضي والحاضر .. وليس القضاء على مشاكل المواصلات والتليفونات بالقضايا المعجزة التي تقف مصر أمامها موقف العاجز المكتوف الذراعين .. ففي مصر عقول مفكرة، وشباب قوي قادر .. وبالتعاون الإرادي ستتخلص مصر من هذه المتاعب الصغيرة التي يجسمها لنا العدو شامتا فينا كي يفت في عضدنا ويوهن من عزيمتنا، ولكن بعون الله وبالإرادة سينصلح كل شيء ويعتدل كل شيء ويحلو ويروق .. بفضل الإرادة إرادة كل مصري محب لأرض مصر ويحلم بها عروسا لنفسه.
مصر لن تموت
كيف تموت مصر وفيها نيل طويل يجري متدفقا شامخا جبارا، يتهادى كما تتهادى العروس الحلوة التي يشتهيها الرجال أينما سارت وتحركت.
كيف تموت مصر وفيها ألف مئذنة منيرة كلها تزعق، وتقول: «الله أكبر .. الله أكبر».
كيف تموت مصر وفيها أكثر من خمسمائة كنيسة كلها ترتل وتسبح باسم الله العلي القدير.
كيف تموت مصر، وفيها أربعون مليون نسمة يمثلون قوة خارقة من النفوس العالية والهمم المتوثبة، والآمال المتدفقة.
كيف تموت مصر وفيها زرعها ونخيلها وأشجارها ونباتها وثمارها، وكلها من أجود الأصناف وأرقاها وأحلاها وأبهرها متعة للناظرين.
كست الطبيعة وجه أرضك سندسا
وحبت نسيمك إذ تضوع طيبا
بسط تظللها الغصون فأينما
يممت خلت سرادقا منصوبا
وترى النخيل غصونه فيروزج
يحملن من صافي العقيق حبوبا
كيف تموت مصر وفيها جامعات وآلاف المدارس التي يشرف عليها علماء وأدباء يهذبون ويعلمون ويرشدون وينصحون ويلقنون بإخلاص المتعبدين المتدينين الخائفين عقاب يوم الدين.
كيف تموت مصر وهي مهد الحضارات ومنبت العلوم والفنون ومصدر الخيرات والبركات، ومعلمة الأجيال، وهادية الأنام من المشرق والمغرب، وصاحبة التراث العريق الأصيل العظيم، الذي لم ينكره الأولون ولن ينكره القادمون.
ومصر كأمة لها تاريخ طويل فريد كله كفاح وصراع مع جيوش الشر وجحافل الطغيان والبغي .. بل كله تضحية من أجل الأرض، وبقاء الأرض طاهرة نقية غير ملوثة بأقدام المعتدين .. لا يمكن لمثل هذه الأمة العريقة التاريخ أن تموت أبدا.
مصر الأهرامات لا تموت كما لم تمت الأهرام ولم تتقوض أو تقع، ولم تسقط أو يعتورها الانهيار والدمار، لم تهرم ولم تتداع. إن مصر الأهرامات خالدة يستحيل أن تموت كما يموت النبت لو حرم الماء ...
كأن أهرام مصر حائط نهضت
به يد الدهر لا بنيان فانينا
إيوانه الفخم من عليا مقاصره
يفني الملوك ولا يبقي الأواوينا
كأنها - تحت لألاء الضحى ذهبا -
كنوز فرعون غطين الموازينا
ومصر المقطم هي مصر الجبل، هي مصر المكنونة .. أرض قد حفظها الله ووقاها وحماها، وأشمسها وخلاها .. وأقمرها وزكاها .. وجعلها أرض الأديان .. أرضه المباركة .. أرض الرسل والأنبياء .. أرضه المفضلة على الأرض .. بل المفضلة على كل أرض موجودة على هذه الأرض.
أنا ومصر كيان واحد
لا تسلني من أنا، فأنا مصر، أنا وهي كيان واحد .. ولا تسلني من هي مصر، فمصر هي أنا .. وهي وأنا بنيان واحد .. بل نحن مثل جسد واحد له قلب واحد، ولكنه قلب متين مكين حصين أمين ...
أنا صورة مصغرة من مصر، ومصر صورة مكبرة مني .. أنا بدونها صفر، ومصر بدوني صفر أيضا ... إننا مترابطان متلازمان متعانقان متضافران .. إننا معا نكون شركة واحدة تفكر برأس واحد وعقل واحد وبجنان واحد ولهدف واحد .. هي تفكر في إسعادي، وأنا لا أفكر إلا في إسعادها.
وجه مصر هو وجهي عندما تراه مبتسما منشرحا منبسطا سمحا كريما بلا تجاعيد ولا أخاديد.
وقلب مصر هو قلبي أنا عندما تجده نقيا أبيض بلا ضغائن ولا أحقاد، وبلا شرور ولا ذنوب ولا سواد ممقوت.
وعقل مصر هو عقلي أنا عندما تجده يفكر في الخير والرخاء والجمال والسناء، والعمل والجد والاجتهاد والتقدم والتسامي والنماء والتقوى والدعاء.
وعين مصر هي عيني عندما تراها بلا شرر وبلا حمرة أو تصلب أو جفاء، وبلا شحوب أو ارتخاء .. بل عندما تراها لامعة نجلاء، يقظة متيقظة، مستبشرة تتمنى ولا تتجنى، تحنو ولا تقسو .. ترمش ولا تخدش .. تدغدغ ولا تجحظ .. تسامح ولا تخادع.
وسواعد مصر هي سواعدي عندما تشمر أكمامها وترفع الفأس لتعزق الأرض وتمسك بناصية المحراث لتحرثها، وتدير الآلات لتصنع وتمسك بالقلم لتسطر .. وعندما تسعى وراء الرزق والمكسب.
وأقدام مصر هي أقدامي عندما تسعى إلى العمل وتدب في ميدان القتال، تكر وتفر في ساحة الوغى، وعندما تشق الطريق إلى النجاح والفلاح والعلا والسمو والرفعة .. وعندما تدوس الظلم والطغيان، والذل والهوان، وتسحق رءوس المعتدين الغاصبين.
من هنا يصح لي أن أقول: إنني ومصر كيان واحد، وبنيان واحد، بل قل إننا شخص واحد شامخ ناجح بإذن الله.
مصر .. مصر .. مصر
نعم، مصر .. وإلا فلا .. مصر أولا .. ومصر ثانيا .. ومصر ثالثا .. وأخيرا .. وكل غير مصري، فمصر ليست وطنا له، ولا أما ولا أبا ولا أخا ولا عما ولا خالا .
نعم .. أنا فخور بأنني مصري من نبت الصعيد، وأخي في الوطن فخور بأنه مصري من نبت الوجه البحري .. نحن شخص واحد، نشرب من نيل واحد، ونمت إلى وطن واحد اسمه مصر .. ومصر هي المصير، مصيري ومصيره .. نسير إليها بخطى وئيدة ثابتة .. ونعيش لها بجوارحنا ومشاعرنا .. ومن أجلها نعمل ونتكاتف ونتحاب ونتعاون .. نحن لا نفكر في أنفسنا بقدر ما نفكر في مصر .. هذا البلد الآمن الأمين الزاخر بالحب والدفء والطمأنينة والرخاء والإخاء.
نعم، هي مصر أولا؛ لأنها خير الأوطان في الشدة والأمان .. تؤويك وتحميك وتؤازرك، وتحل لك مشاكلك.
نعم، وهي مصر ثانيا؛ لأنني لن أجد وطنا خيرا منها يعطيني ولا يأخذ مني، يجود علي ولا يريد مني جزاء ولا شكورا .. يظللني بسمائه الصافية، ويدفيني شتاء بشمسه الساطعة الحانية، بلا مقابل، وبكل سخاء.
وهي مصر ثالثا، وأخيرا؛ لأنني لن أرتضي لنفسي أرضا أحسن من هذه الأرض لأدفن فيها وأنعم بتربتها، وألتحف بترابها، وأنام هادئا مستريحا مستكينا، عالما بأنني سأحظى بأعظم راحة لجسدي الفاني .. وأن تكون لسعادتي حدود يوم أن يختلط تراب جسدي بترابها، وينصهر جسمي في بوتقتها، فأصبح حفنة من ترابها الغالي وأديمها الثمين، الذي لا يعرف الجدب، ولا يكف عن الإنبات والإخصاب .. ليت تراب جسدي يتحول إلى وردة فوق صدرها، فيقطفني طفل ليشمني، أو عذراء تتجمل بي، أو شاب وسيم كي يهديني إلى محبوبته في صباح ندي، أو في مساء طري، فتأخذني من بين يديه وتقبلني وتضمني إلى صدرها، وتظل ممسكة بي لا تريد التفريط في؛ لأنني هدية من حبيبها وحبيب قلبها، وهي لا تدري في هذه اللحظة أنها تمسك بقطعة من قلب مصر، وحفنة من تراب مصر، انصهرت وتحولت إلى وردة حمراء في يد عذراء.
يا مصر، أنت حلوة عذبة
يا مصر؛ أنت في عيني حلوة عذبة تشبهين غادة فرعاء، تسحب من قيام شعرها الفاحم السبط الطويل، فينساب فوق ظهرها مرسلا، ويتدلى فوق خديها الورديين فيزيدها فتنة ورواء وجاذبية.
يا مصر، أنت في عيني شابة فتية فارعة الطول، مستقيمة القوام ، ممشوقة القد، معتدلة القامة، طويلة العنق، واسعة العينين، مزججة الحاجبين، مستقيمة الأنف الدقيق، ذات فم كخاتم سليمان، ووجه مستدير جميل، ووجنتين في حمرة التفاح، وشفتين بلون العناب، وأسنان بيضاء لامعة كاللؤلؤ كأنك تلك التي تغنى الشاعر في جمالها إذ قال:
فأرسلت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
أما صدرك فناتئ إلى الأمام يطفح حيوية وشبابا وصحة وقوة، لا يخاف ولا يهاب، وإنما يرهب وينشد، يطلب ولا ينبذ، يشتهى ولا يعرض عنه .. هكذا أنت في ناظري وخاطري وفي مشاعري.
يا مصر، أنت عندي أشجع من أبي، وأروع من أخي، وأبهى وأسمى من أمي؛ لأنك دائما في خاطري، وأنا دائما في خاطرك .. كلانا مرتبط بأسمى رباط .. فأنت تريدينني في كل وقت، وتقبلينني في كل يوم، وتربتين على كتفي في كل حين .. وليس من طبعك أن تنكريني أو تتنكري لي، أو تذيقيني مرارة الحياة، بل أراك تلعقينها معي حتى تجتريها عني، وتحميني من أذاها وشرورها.
يا مصر، يا كبيرة القلب، يا حلوة العينين، ويا جميلة المشاعر .. يا كريمة، يا عامرة، يا واسعة الصدر، يا رحيمة، يا عظيمة .. أنا أحبك كل الحب، بل وأهواك كل الهوى .. أنا لك إلى يوم أن أموت وألتقي بترابك العزيز. سوف أحتضنك بذراعي كما كنت أحتضن أمي يوم خرجت من أحشائها كي أرى وجه مصر الصبوح، وألتقي بوجه أمي مع وجه بلدي، فأرى أحلى الوجوه وأشرق الجباه، وأجمل السنا والآمال.
يا مصر، أنت حلوة الوجه .. وحلوة القلب .. وحلوة الروح .. أنت خفيفة الظل، باسمة مرحبة، ملاقية معطاءة جوادة .. يضحك نيلك دائما، ويسخو باستمرار؛ لأنه يجرى فيك، وينساب في أراضيك، ويروي حقولك ومزارعك، وغدا يروي الفيافي والصحاري.
هواؤك يا مصر منى الأرواح
أينما يسافر المصري فلن يجد طقسا بديعا كطقس مصر .. ففي الخارج، في أوروبا مثلا أو في الأمريكتين، يتعرض الطقس إلى برد شديد، وثلوج ورعود وأمطار، بلا رابط ودون سابق إنذار .. فهي متوقعة في أي وقت وعلى مدار العام. ويكاد فصل الصيف في البلاد الأوروبية أن يكون فصلا ضعيفا هزيلا، وقد تشتد فيه الحرارة فتفوق حرارة صيف مصر الجميل.
والطقس في البلاد العربية، إما أن يكون شديد الحرارة إلى درجة قاتلة، وإما أن يكون طقسا صحراويا قاتلا، لا يجد المرء إزاءه إلا أن يتبرم أو يشكو!
أما أنت يا مصر، يا أم الدنيا، فلك طقس غريب جميل نادر .. فشتاء مصر عظيم بمعنى الكلمة؛ برده معقول جدا ومحتمل .. قلما نشكو منه إلا إذا أخطأت الموازين السماوية وجلبت علينا بردا ما كنا لنعرف كنهه إلا لخطأ تعرضت له الأرصاد الجوية، فنعاني قليلا، وما كان لنا أن نعاني إذا لم يحدث ذلك الخطأ.
أما ربيعنا، فحدث عنه ولا حرج:
أما الربيع فاستمع ما فيه
من فطن يفهم سامعيه
لحره وبرده مقدار
لم يكتنف حدهما الإكثار
نهاره من أحسن النهار
في غاية الإشراق والإبدار
تظهر فيه الشمس من غير عجب
كأنها في الأفق قرص من ذهب
يبدأ ربيعنا أحيانا في شهر مارس ولا ينتهي قبل شهر يوليو .. ربيعنا في طقسه أشبه بطقس الجنة الموعودة .. الشمس ناصعة حلوة حنونة دافئة في رفق، جوادة مبكرة .. لا تقسو أبدا وإنما تظل على درجة واحدة فتكسب أجسامنا نشاطا عجيبا فتتحرر معه أجسادنا من الملبس الثقيل.
وتبدأ تباشير الطبيعة المزدهرة بألوانها البديعة تنتشر وتنبسط على صفحة الأرض .. فترى الورود والأزهار تضحك على الأغصان، وترى الأشجار وقد أورقت وأينعت واكتست حلة خضراء جديدة ناضرة اللون والشكل معا:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
أوائل ورد كن بالأمس نوما
فمن شجر رد الربيع لباسه
عليه كما نشرت وشيا منمنما
وصيف مصر إن اشتد لظاه قليلا فإنما يرجع ذلك إلى خطأ في الأجواء العلوية .. أما فيما عدا هذه الأخطاء فصيف مصر من أحلى الأجواء .. تأتيك فيه النسائم حلوة رقراقة رطبة .. تلفحك فتنتشي .. أما جو المصايف وجوار الشطآن وبحذاء النيل الطويل، فقد أفاض في وصفه الشعراء والأدباء؛ إذ هو من أجمل الأجواء التي يجدها المرء على وجه البسيطة .
السلام .. تحت نافذة الإيمان: عدسة «ع. عيد».
مصر الكرامة
مصر الكرامة هي مصر عام 73؛ يوم هزم التتار الصهاينة على يد أبناء وشباب مصر العظيمة التي نالت منها هزيمة 67، وظن العالم كله أن مصر قد انتهت، وشبابها قد مضى وصار في خبر كان، وأن مصر لن تقوم لها بعد ذلك قائمة، ولن تحيا بعد تلك النكسة إطلاقا .. إذ ضاع سلاحها، وتحطم، وسقطت مدن قناتها وانهارت وهجرها أهلها وأصحابها، وتحولت إلى خرائب تنعق فيها البوم والغربان .. ويعيش على حطامها النمل الأبيض والجرذان.
وفي يوم الكرامة .. الكرامة المصرية، نهضت مصر كالمارد الجبار .. قامت تلقن العدو الحقير، أولا، أكبر درس في الرجولة والصمود والشجاعة والبراعة والقوة والشهامة، وفي حرص مصر بالذات، من دون سائر البلاد، على محافظتها على الكرامة الوطنية والعزة البشرية والإباء الفرعوني المتأصل.
في يوم الكرامة هذا، ضربت مصر بيد من حديد .. ضربت ضربتها المصرية، التي أفاقت العدو السادر في غيه، والتائه في غروره .. وأنزلت به أنكى هزيمة يمكن للطائرات الأمريكية والسلاح الأمريكي أن يصابا بها؛ لتسيل دماء الصهاينة، وتروي أرض صحرائنا، ولتنهمر دموع العذارى والأرامل الإسرائيليات لتجري أنهارا تحول تراب الأرض إلى طين يلطخن به خدودهن ووجوههن خزيا وعارا لما أصابهن من هزيمة لم تكن في العلم ولا في الحسبان!
مصر الكرامة مثل صارخ واضح يتحدث به الركبان، ويجري ذكره على كل لسان، وصار موضوع الساعة لدى جميع الناس طرا، شرقا وغربا .. لقد أدركت الدنيا بأسرها أن مصر هي مصر قديم الزمان ولا تزال هي مصر إلى الآن .. مصر هي مصر .. هادية للدنيا، ومعلمة القرون والأجيال، بأنها أرض الكرامة التي لا تدنس، وأرض العزة التي لا تنال .. وأرض الفتوة التي لا تضام .. أرض الرجولة التي لا تخدش ولا تجرح.
مصر الكرامة منارة شاهقة سامقة عالية، تهدي العالم إلى معان سامية راقية يمكن أن يتحلى بها الرجال والنساء على حد سواء، فيشار إليهم بالبنان كأمثلة فارقة في شتى المناحي وأرقى النواحي، وأسمى المعاني وأسنى القيم وأقوم الأخلاق وأعلى الهمم.
مصر الكرامة، ضحت بكل شيء، بالشباب وبالسلاح وبالمال وبكل نفيس عزيز، وشبابها يقول:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
فللكرامة لدى مصر معان فوق كل المعاني، وهي بالنسبة للمصري مسألة حياة أو موت .. فما من مصري لا يموت من أجل الحفاظ على كرامة مصر .. ما من مصري يرضى أن يعيش لحظة واحدة لو خدشت مصر أو جرحت أو أصيبت في كرامتها وعزتها وكبريائها وشهامتها ورجولتها .. يهون لدى المصري كل شيء .. فحتى الموت يشتهى ويرتضى ويصبح سهلا مقبولا في سبيل المحافظة على كرامة مصر .. نحن إلى فناء وأما مصر فباقية أبد الدهر .. وهي إن بقيت، فلا بد لكرامتها من أن تبقى كاملة شاملة سليمة غير منقوصة.
من يبصر مصر فقد أبصر الدنيا كلها
يا لحظ من يرى مصر! يكون قد رأى صندوق الدنيا بكل ما في هذا الصندوق من طرائف وعجائب وغرائب، وفكاهات ودعابات وحسنات وسيئات وطيبات في شتى المجالات.
من يبصر مصر، فله أن يفخر ويزهو ويتطاوس إذ قد أبصر الدنيا كلها تتحرك في شوارعها وميادينها وحقولها وصحاريها.
من أبصر مصر، كتب له الهناء الكامل؛ إذ سوف يسعد بما رأى، وسوف يهنأ بما شاهد، فيتضاعف هناؤه عندما يحتك بأهلها، ويتعامل مع شعبها العريق الطيب، صاحب السمعة الشريفة، والأصالة العتيدة، والزعامة الفريدة، والحضارة القديمة والحديثة.
من رأى مصر، فلن يرغب في أن يرى شيئا غيرها .. فهي جامعة حاوية، تجمع كل شيء من باطنها وتستوعب كل شيء في ربوعها وتستلهم كل شيء من واقعها وواقع أحداثها، وكلها أحداث عالمية يؤثر فيها العالم، ويتأثر بها.
من يشاهد مصر يعشقها ويحبها ويعبدها ويموت فيها، ويود ألا ينفصل أو يبتعد عنها .. فهي جذابة خفيفة الظل وخفيفة الروح .. مداعبة مسلية، وراقصة متحركة، وعازفة مغرية، ألحانها حلوة، وأنغامها عذبة، وأغانيها شجية، وأصواتها منسجمة .. مآذنها تتكلم، وجوامعها تصلي، وكنائسها تجلجل؛ وقساوستها ترتل، وطيورها تغرد .. أشجارها تثمر، وأغصانها تظلل وشمسها تنشط، وقمرها ينادي، ونجومها ترشد الحادي وتنادم الساهر الولهان، بلألائها وروائها وبريقها.
من رأى مصر، مات قرير العين ، إذ رأى أحلى مكان في الدنيا بأسرها، وشرب من أعذب مياه في العالم، واستدفأ بأعظم شمس في الدنيا، وأكل من أحلى ثمار شهية.
سبحان الذي خلق الدنيا فسواها، ثم جعل مصر صورة مصغرة للدنيا الواسعة كي يقطعها المرء في لحظات قلائل.
لا حياة بغيرك يا مصر
بالله يا مصر، إن الحياة بغيرك عدم أي عدم! وكيف يكون للحياة معنى بدونك .. وكيف يستطيع مصري أن يعيش لحظة واحدة بغير مصريته، أو وأنت بعيدة عن خاطره وقلبه وفؤاده وجنانه.
مصر بالنسبة للمصريين كالدم بالنسبة للجسم .. فلو انعدم الدم من الجسم لاختفت الخلايا والأنسجة ومات الإنسان .. كذلك لو انعدمت مصر من قلوب المصريين لماتوا كمدا وحسرة عليها! فهي بالنسبة لهم: الهواء والماء والمأكل والمشرب .. والأمل والحياة .. إنها الإلهام والوحي، والإيحاء والفكر، والتأمل والتدين والتطهر .. هي الأمان والحنان والعطف والطمأنينة.
كل من عرف مصر على حقيقتها، ويكون قد ارتبط بأرضها أو اتصل بشعبها، وتعامل مع أبنائها وأولادها، لا يمكنه أن يسلوها أو ينساها أو يرضى بغيرها بديلا، أو يرتبط بسواها .. فلمصر جاذبيتها الخاصة .. ولها مزاياها النادرة، ولها نعمها، ولها هباتها الموهوبة المرغوبة، والمطلوبة المحبوبة، التي قلما تجدها في كثير من البلاد الأخرى.
سبحانك ربي! لقد خصصت مصر بكل ما هو حبيب إلى النفس، جميل إلى العين، قريب إلى القلب، كريم إلى أهل الكرم، عظيم إلى العظماء من عبيدك المتعبدين الساجدين الخاشعين الراكعين، المؤمنين بأديانك الثلاثة .. وما أطهرها من أديان! وما أروعها هدى للعيون والأذهان والأوطان.
آه لو سئلت عن معشوقتي المصونة وجوهرتي المكنونة، وعن اسمها المحفور في قلبي. لما نطق لساني إلا بكلمة واحدة من ثلاثة أحرف: ميم فصاد فراء .. وما عداها هراء في هراء .. ليس هذا مني جفاء ولا كبرياء، ولا اجتراء أو اعتداء .. بل هو إحقاق للحق وإيمان بالواقع الملموس المحسوس.
حقا، لا حياة بغيرك يا مصر .. ولا داعي لأية حياة بدونك .. إنني راحل عنك يوما، ولكن إياك أن ترحلي أنت عني.
مصر عروس الشرق
جميع أيام مصر أفراح وليال ملاح .. فمصر في الليل متلألئة الأنوار، ساطعة الأضواء .. تغالب الشمس نورا وقوة وتزيد القمر الفضي لمعانا وبريقا.
مصر عروس الشرق، منارة هادية تشع منها أنوار الحضارة المتقدمة السابقة لعصرها وأوانها.
ولكل عروس جميلة، عيون مصر جميلة تعشقها العيون من أول نظرة، وتشتهيها النفوس من أول وهلة .. ولمصر شعر طويل في سواد الليل الداجي، ولها جبين ناصع وضاء في بياض النهار الصبوح، وخدود فاتنة في حمرة الورد الندى ...
مصر كعروس بتول خطابها كثيرون وعشاقها عديدون وأحباؤها متهافتون .. الكل يطلب يدها ويخطب ودها، ويفديها بروحه وكبده وفؤاده، ويبذل في سبيل القرب منها كل غال ورخيص.
ومصر العروس مشتهى كل عريس من أهلها ومن الأغراب عنها .. أتاها القريب فأحبها وعشق خيراتها، وتمسك بها وتشبث بتلابيبها، ولم يترك أحضانها إلا بعد عذاب طويل عاناه من أجلها .. وعاناه أصحاب مصر من أجل حبها وودها.
ومصر كعروس طاهرة متدينة لا تسمع أذناها إلا كلام الله الهادي المنبعث من مآذنها وكنائسها ومعابدها، ومن أفواه أشياخها وقسسها وأحبارها.
ومصر العروس لا ترتوي إلا بالماء القراح العذب كالشراب الحلو، والذي يفيض في نهرها وينساب في مجراه الطويل المتدفق على الدوام، لا يجدب ولا يجف .. هذا الماء أو الشراب يكسب وجنتيها جمالا ونهديها بروزا، وفخذيها بضاضة وملاسة ونعومة، وقدميها حلاوة في الشكل، ونعومة في المداس، ومياسة في القد ورشاقة في القوام.
يحلف الشرق كله بحياة عروسه المفضلة المبجلة «مصر» .. وهو لا يراها إلا هدفا كبيرا، ومعلما مرموقا يهديه ويقومه ويعلمه ويرسم له الطريق .. فإذا تكلمت سمع الشرق كله، وإن رفضت رفض الشرق عامته، فهي للشرق عروس وعين بل عيون، وهي له عقل بل عقول.
مصر الاشتراكية
الاشتراكية نظام جديد تمارسه مصر بكفاءة نادرة .. وهو نشاط يلائمها ويلائم ظروفها، ويوحد بين أفراد شعبها ويقرب ذات البين بينهم، ويقضي على التفرقة الطبقية، ويوزع العدالة الاجتماعية بالقسطاس، على كل بنيها وأولادها وأفراد شعبها.
جاءت الاشتراكية إلى مصر متأخرة .. وكانت تجربة ممارستها شاقة متعبة .. كانت الهزة الاجتماعية أقوى من أن تتحملها أعصاب الطبقة القادرة المتمكنة من الأرض والعقار والمال .. فدخلت مصر الاشتراكية في معركة ضارية مع هؤلاء المردة المتسلحين بالمال والثراء، والجاه والسلطان والألقاب.
قضت الاشتراكية أولا على الملكية الباغية .. قضت على حكم فاروق الجائر؛ ذلك الملك الشاب الذي غرق في ملذاته الجسدية حتى أذنيه، ناسيا أو متناسيا الشعب المطحون، كأنما يلذ له رؤية الشعب يعافر وسماعه يئن ويتوجع ويشكون، ولا مجيب.
تصدت مصر الاشتراكية بعد ذلك إلى زبائنه فاروق وحاشيته وأعوانه وجماعات الباشوات والبكوات التي كانت تستعبد الفلاح والعامل، وتعاملهما أسوأ معاملة؛ فتمص دماءهما وتتركهما يعانيان الفقر والجوع والمرض ...
وجاءت مصر الاشتراكية فأباحت التعليم لجميع الناس، وجعلته بالمجان .. وفتحت أبواب الجامعة للكل على حد سواء، ونجحت في هذا الصدد، وزادت عدد الجامعات، وضاعفت عدد المدارس الثانوية والإعدادية والابتدائية ودور الحضانة وروضة الأطفال .. فانتشر التعليم وصار كالماء والهواء بالنسبة للإنسان المصري.
وتحولت مصر من بلد زراعي بحت، إلى بلد صناعي له وزنه وأهميته، وعنيت الاشتراكية المصرية بالصناعة فأقامت مئات المئات من المصانع، فراحت آلاتها تدور وتعمل دائبة، فصرنا نعتمد على أنفسنا في كثير من البضائع، وما عدنا نستوردها من الخارج بالعملات الصعبة .. وأمنت الاشتراكية حياة العامل، فلم يعد يفصل فصلا تعسفيا، وصارت هناك قوانين تحمي الأيدي العاملة من ظلم وطغيان أصحاب المصانع والورش والمؤسسات الخاصة والعامة .. وراح العامل ينصرف إلى عمله آمنا مطمئنا على نفسه وعلى مستقبله ومستقبل حياته في ظل الاشتراكية العادلة.
واهتمت الاشتراكية بالطاعنين في السن، فجعلت المعاش حقا للجميع، وامتدت مظلة التأمينات الاجتماعية فشملت مختلف طبقات الشعب التي ما كان لها أن تحلم بمعاش لو أن الاشتراكية الاجتماعية لم تكن هي الحاكمة اليوم في صعيدي مصر.
وفي ظل الاشتراكية تساوى أفراد الشعب وزالت الألقاب وذابت الفوارق .. وأصبح العمل أساس الكسب .. وغدا العمل هو الشرف .. فمن يعمل في أي مرفق من مرافق الحياة يكتسب احترام الجميع بغض النظر عن نوع العمل الذي يقوم به.
وحتى الخادم نال شرف العمل فأصبح يسمى «الشغال» أو «المساعد» .. فلا أحد في ظل الاشتراكية خدام لأحد ولا عبد لأحد ، وهذه والحق يقال، بعض مظاهر مصر الاشتراكية.
مصر النضال
من قديم الزمان واسم مصر يرتبط بالنضال الشريف من أجل الحرية والانطلاق والتحرر والديمقراطية.
ومصر كأمة نضال، تضرب المثل الأول والأعلى في العالم كله .. فنضال مصر معروف ويحتذى ويعمل به في عدة بلاد من الدنيا.
مصر لا ترهب النضال ولا تهاب القتال، ولها في النضال تاريخ طويل، بل تواريخ طويلة مشرفة مسجلة بسطور من نور وحروف من نار .. تاريخها في الوطنية كله شرر وأضواء وأنوار. له في القلوب رنين وأصداء يحكي قصص الوفاء والولاء، من مصر الفداء إلى بنيها الأشداء الأجلاء العظماء.
نضال مصر ضد الاستعمار نضال طويل له هيبته وشوكته، وله جلاله وسيرته .. وفي سبيل النضال ضد الاستعمار، أراقت دماء بنيها في سخاء وبلا حساب، وثارت ثورتها العارمة، وتصدى له رجالها البواسل الأفذاذ الأوفياء، وأفنوا أنفسهم وأرواحهم، وماتوا وهم يكررون اسم مصر عاليا، مقرونا بأحلى العبارات وأشجى التحيات والأمنيات.
أما نضال مصر ضد مراكز القوى فنضال آخر من طابع آخر، ولكن مصر المناضلة عرفت كيف تقضي عليهم وتلفظهم لفظ النواة وتتخلص منهم، وتطوي صفحتهم السوداء التي يندى لها جبين الوطن الشريف الأمين العريق، ذو الماضي المشرق المجيد.
وناضلت مصر في سبيل رفعة الفلاح والعامل وأدخلتهما مجلس الشعب. فجلس الفلاح بجانب الوزير والموظف والرئيس والمدير، ورفع هو والعامل صوتيهما عاليا جهوريا يجلجل تحت قبة البرلمان، فكان ذلك قصة جديدة من قصص النضال الممتاز الذي تعرضت له مصر في عزة وكرامة.
وظهرت الأحزاب وتعددت أهدافها ومشاربها فظهرت قصة نضال جديدة تعرضت لها مصر، فبرز إلى حيز الوجود من جديد حزب الأحرار وحزب الوفد، وظهرت رءوس حسبناها ماتت واندثرت، وأكل عليها الدهر وشرب و«بال» وحسبنا أنه لن تقوم لها قائمة .. ولكن مصر النضال، ناضلت من أجل الديمقراطية الحقة، وأبرزت رجالها وحشدت حشودهم وكتلتهم ليحموا البلاد من الأزمات التي تتعرض لها، وكي لا يكون بمصر حكم الفرد الواحد المستأسد المتوحش، الذي يأبى أن يسمع صوت أحد غير صوته هو ليس غير.
وكما نجحت مصر قديما في نضالها، من أجل الحرية ضد الاستعباد، نجحت مصر حاليا في جميع نضالاتها من أجل الرخاء والرفاهية ورفعة الإنسان المصري ككيان وبنيان، وصار اسم «مصر» على كل لسان في داخل البلاد وخارجها .. وصار العالم كله يذكر اسم «مصر» النضال ويهابها ويحترمها ويقدسها ولا يقبل أن يدوس أحد، كائنا من كان، على كرامتها أو يخدش حياءها، أو يهددها بغزو أو عدوان.
ولمصر النضال من أجل العروبة قصة طريفة رائعة كل الروعة. قادرة تماما، أثبتت بها مصر أنها أم العروبة والعرب في كل مكان وأينما وجدوا .. كما أثبتت أنها قلعة العروبة التي لا تهزم ولا تزلزل ولا تتغير.
مصر الشهداء
الشهادة واجب يؤمن به كل مصري يعيش في وادي النيل الحبيب.
والشهادة أو الاستشهاد ميتة يشتهيها المصريون ويؤثرونها على كل ميتة أخرى، طالما أن الموت كأس مشروب وحوض مورود.
وما أكثر الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل مصر العزيزة .. هم خالدون في سجل الشهادة المصري .. فهم إن ماتوا أجسادا فإن أسماءهم حية وذكراهم باقية وأعمالهم خالدة في قلوب شعب مصر.
ومصر الشهداء سجل عامر بالشهداء من جميع العصور ومن كل الأعمار: منهم الطلبة والقادة والعلماء والعمال والفلاحون.
ومن أحدث الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل مصر، الشهيد «يوسف السباعي» الكاتب القصصي والأديب الصحفي .. مات في ساحة الشهداء بيد الغدر والإرهاب المعادي للأقلام الشريفة والأصوات القوية السديدة الرأي والفكر، والمدافعة عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية.
وهناك أرواح الشهداء رجال الصاعقة الخمسة عشر الذين استشهدوا فداء لمصر في ساحة الدفاع عنها ضد الطغيان والإرهاب الأسود وضد الغدر الخسيس.
تحتفل مصر في شهر مارس من كل عام بعيد شهدائها، في نفس اليوم الذي استشهد فيه الفريق أول «عبد المنعم رياض»، فاعتبر هذا اليوم عيدا لتخليد ذكرى جميع شهداء مصر.
للشهداء نصب تذكاري ضخم، هو نصب الجندي المجهول .. أقامته مصر حديثا لتخليد ذكرى أبنائها الشهداء العظماء.
تخلد مصر شهداءها بإطلاق أسمائهم على شوارعها .. وقلما يخلو حي واحد من أحياء مصر من عدة شوارع تحمل أسماء بعض شهدائه الخالدين .. وللطلبة الشهداء نصب تذكاري في حرم الجامعة، يرمز إلى كل من سقط دفاعا عن مصر في معركتها ضد الإنجليز الغاصبين المحتلين.
مات هؤلاء الطلبة عزلا من السلاح وهم يواجهون رصاص الإنجليز في شوارع القاهرة بجسارة يعجز عنها الوصف وفوق التصور والخيال .. آثر هؤلاء الشبان الذين كانوا في عمر الزهور؛ آثروا ظلمة القبر عن الحياة والنور في وضع من الأمور تجعل الدماء في العروق تثور وتفور!
ولعل «حي عابدين» يشمخ برأسه عاليا بعد أن استشهد أحد أبنائه وهو الشهيد المعروف «أحمد عبد العزيز» أحد أبطال حرب عام 1948م، حرب الأسلحة الفاسدة التي استخدمها المصريون ضد أنفسهم وهم لا يعلمون .. فماتوا شهداء للخديعة الوضيعة في عهد عرف بالظلم والطغيان ...
تكرم مصر اليوم اللواء مهندس «أحمد حمدي»، أحد عمالقة وحدات الكباري بسلاح المهندسين في حرب أكتوبر سنة 1973م، الذي استشهد في الساعات الأولى من حرب رمضان المقدسة .. تكرمه مصر اليوم بإطلاق اسمه الكريم على النفق الذي يقام الآن في «سيناء»، في الموضع الذي استشهد فيه.
مصر بدر البدور
كلنا نحب البدر وهو يتلألأ في الفضاء يملأ الدنيا بأشعته الفضية، يمشي الهوينى متهاديا متدللا .. ومهما يصغر البدر فيبدو هلالا أو تربيعا أو أحدب أو اختفى في المحاق كما عودنا أن يختفي، فالبدر بدر محبوب مرغوب، يفتقد في الليلة الظلماء ويبدو جميلا إذا بدا فيمتع الناظرين.
ومصر هي البدر في علاه .. في خيلائه .. في مرتقاه عبر سمائه .. مصر متألقة كالبدر أضواؤها قوية شاملة تضم الأجواء والأرجاء، والأموات والأحياء .. مصر في استدارتها صورة مصغرة للأرض المستديرة .. ف «مصر» الأرض هي مصدر البدر .. مصدر الإشعاع والإلهام والتوجيه والتعليم .. والحصاد والفكر والاجتهاد.
وكما يتغزل الشعراء في جمال البدر منذ أقدم العصور، فإن الشعراء لم ينسوا «مصر»، بل اختصوها بأروع الأشعار وأقوى القصائد .. وقالوا عنها أحلى كلام .. ووصفوها بأرقى المعاني وأجل الصفات وأسماها وأرفعها.
كلنا في وصف القمر شعراء، ولكننا في وصف مصر نخرج عن دائرة الشعراء إلى دائرة البلغاء العلماء العاشقين المدلهين الأوفياء .. إلى دائرة الأقوياء الأجلاء الأشداء الشهداء.
وكفى «مصر» فخرا أن بدرها لا يغيب عنها أبدا .. فسماء مصر مرتعه الفسيح .. يجري فيها ما طاب له أن يجري، ويسبح خلالها ما طاب له أن يسبح .. ويلهو فيها ما طاب له أن يلهو .. وبدر مصر أحلى بدر وأكمل بدر وألمع بدر وأقمر بدر تتميز به مصر ويحق لها أن تفخر به وتزهو.
بدر مصر هو بدر البدور، في فلكه يلف ويدور .. وفي قلبها يزأر ويجور .. وفي دمائها يثور ويفور .. أما في ذكرها فموجود في الكفور والقصور .. ومع كل خطوة أو عبور، وفي كل فرح وسرور وانشراح وحبور.
فيا بدر البدور، يا أصفى من البلور .. يا مصر الشعور .. يا مصر العبور .. يا أم الكفور، ونبع السرور .. يا فيض الحبور .. يا قلب النمور والليث الهصور .. يا عدوة الشرور، وللغزاة مقبرة، بل قبور .. يا حلوة بنور .. يا مصر يا بدر البدور .. قلبي لك يلف ويدور ويدور.
مصر النور والأمل
من يعشق مصر ير فيها نور عينيه ونور أصغريه .. ومن ير النور تمتلئ حياته بالأمل ...
مصر قبس العروبة ونور المشرقين، وهادية الأمم وقبلة العالم، ومحط أنظار الدنيا والعالمين ...
فمن مصر خرجت الحكمة .. والحكمة نور قوي، ونور فكري .. نور عقلي مصدره العقل الحكيم والفكر السديد والإدراك السليم.
من مصر خرجت العبادات والأديان .. فمنها خرج أول من وحد الأديان وآمن بالإله الواحد قبل ظهور الرسل والأنبياء وقبل انطلاق الرسالات السماوية، تعلن قوة الرحمن والواحد القهار.
من مصر خرجت العلوم السنية وانتشرت في ربوع الأرض الفسيحة، وتعلم الناس ما لم يعلموه من كيمياء وفيزياء وفلك وحساب وهندسة ومعمار وبناء وطب وقانون وفنون حربية وملاحة وصناعة وزراعة .. تعلموا الكتابة والقراءة والرسم والتصوير والنقش.
تعلموا التعدين والبحث عما تخبئه الأرض في جوفها .. ولعل بناة الأهرام خير دليل على جبروت المهندس المصري الفرعوني من دون مهندسي العالم طرا.
من مصر خرجت القيم والمثل العليا .. وراحت مصر تضرب للعالم أروع أمثلة الفداء والتضحية والصبر والجلد والديمقراطية .. وتعلم الناس في كافة أنحاء الأرض ما لم يكن لهم أن يعلموه، لو لم نكن لهم نحن النور والقبس والمنبع المضيء المنير والهادي والموجه ...
ومصر الأمل لا تقل روعة عن مصر النور .. فقد ولد الأمل في مصر .. ومصر هي أم الأمل ووالدته .. ومنشئته ومربيته، وراعيته وساقيته.
وأمل مصر لا حدود له .. الأمل في المستقبل المشرق العامر بالخير .. الفائض على الحد، المتمثل في الجود الإلهي بما لأرض مصر من إخصاب لا ينضب، وبما لنهر مصر من طول لا يقل ولا يقصر .. ومن فيض لا يجف ولا يجدب .. وبما لهواء مصر من نقاء وصفاء .. وبما لشمس مصر من إشراق دائم ونور ساطع ودفء عظيم وإبداع نادر الوجود، لا نظير له في أية بقعة أخرى من بقاع الأرض.
ينحصر أمل مصر في توثب شبابها ورجالها العامرين بالإيمان، والمتسلحين بالعلم والثقافة والحنكة والممارسة .. والممتلئين حيوية ونشاطا، وحبا وطنيا لا حد له ولا نهاية.
أبقاك الله يا مصر، منارة ونورا ونارا وأملا على الدوام وإلى أبد الآباد.
حكايتي مع مصر
ولدت في مصر من أبوين مصريين أفهماني صغيرا أنني مصري .. من أهل مصر .. وأن مصر هي أرضي ووطني .. قالا لي أن أهتف باسمها، فقلت: تحيا مصر .. تحيا مصر!
ولما ذهبت إلى المدرسة المصرية، علموني الوطنية، وقالوا لي إن مصر هي أمك الأولى، وإنها هي التي سترعاك ليل نهار، وإن علي أن أعشقها قبل أن أعشق حبيبتي، أو من ستكون يوما ما زوجتي وأم أولادي .. وفعلا اعتبرت مصر أمي الأولى، وراح اسمها يتردد في خاطري الصغير، ومع كل دقة من دقات قلبي الطاهر النظيف؛ فأحب قلبي مصر حبا نظيفا غريبا، يختلف عن كل حب عرفه قلبي الصغير في ذلك الحين المبكر من حياتي القصيرة.
ولما نموت قليلا، علمت أن مصر، التي هي أمي، تعاني مرضا وبيلا .. تعاني مرض الاستعمار الإنجليزي البغيض .. وعرفت أن علاج هذا المرض ليس لدى أي طبيب متخصص، وإنما علاج هذا الداء موجود عندي أنا .. فأنا مصري ابن مصر، وفي يدي علاج أمي من مرضها العضال الذي أعيا نطس الأطباء .. عندئذ زاد اهتمامي ب «مصر»، وبدأت أفكر في العلاج .. وتصديت مع إخوتي من أبناء مصر لمحاربة الإنجليز والتصدي لهم في كل طريق ومقاومة شوكتهم بالضرب على أيديهم وعلى أيدي من يعاونونهم .. ولما وصلت إلى الجامعة، أدركت أن حكام مصر هم السبب في تغلغل المرض في جسم أمي .. ومن هنا بدأت معركة جديدة مع الحكام المارقين الفاسدين .. وجاءت ثورة 52 فوقفت معها بكل كياني، وآزرتها وكرست صوتي لها وهتفت لرجالها .. وفعلا خرج الملك المستبد الذي باع أمه للإنجليز .. خرج غير مأسوف عليه تشيعه اللعنات .. وخرج معه أعوانه من حاشيته وطاقمه ومن كانوا على شاكلته .. وألغيت الألقاب .. وصرنا سادة بعد أن كنا مسودين .. وخرج الإنجليز وتحررت أمي من مستعبديها .. وتخلصت أيضا من أمراضها وسقامها .. وتبدلت الشعارات، وتغير وجه أمي، وأصبحت أما كريمة مرفوعة الرأس، وتحررت قناتها من الاستغلال وأصبحت مصرية مائة في المائة .. وغضب الغاصبون، وثارت ثائرتهم، فأغاروا عليها .. أغاروا على أمي .. ولكني كنت لهم بالمرصاد وأبيت لأمي المذلة، ودافعت عنها حتى ساعدني الله على التنكيل بهم وردهم على أعقابهم بقوة السلاح، وأخرجتهم بعيدا عن عرض أمي.
وتكررت قصة الاعتداءات .. فهناك الكثيرون الذين يشتهون أمي الجميلة الحلوة، بعضهم من الوضعاء السكعاء الرقعاء، فوقفت أمام هؤلاء درعا لأمي وسيفا مصلتا على رقابهم .. وهجم أنجاس الأرض علينا في سنة 67؛ تلك السنة الغبراء .. وقطع أولئك الأنجاس إصبعا من أصابع يد أمي، فتألمت أمي وأطلقت أنا التأوه والأنين بدلا منها وظللت أئن وأتوجع لآلامها .. وحاولت المستحيل لتخفيف آلامها وتسكين حدة سقامها .. وعولت على الانتقام .. وشجعتني أمي، واستبسلت هي معي وعلمتني الطريق .. وفي عام 73، في السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان المبارك، خرجت أضرب عدوي الضربة التي لم يكن يتوقعها. فقلت آلام أمي، وتحولت إليه سقامها، واسترجعت الإصبع المفقودة .. وزالت أوجاع مصر .. وعادت إلى ثغرها البسمة والفرحة، فهللت وكبرت معها، ورحنا معا نزعق ونقول: «الله أكبر .. الله أكبر .. يوم لنا ويوم علينا .. يوم يصيبنا فيه السوء ويوم ننال فيه الخير، كل الخير.»
وظهرت أعلام السلام يرفعها قائد ضرغام، هو أخي في الوطنية ، وابن أمي التي أنجبتني.
جاء «السادات» العظيم، وأعلن على الملأ باسم أمي الكريمة الشريفة، حق مصر في السلام العادل حتى تعيش في راحة بال وطمأنينة، وحتى تندمل جراحها السابقة، وتستعيد أنفاسها وتستريح كل أم بعد التعب والعرق ...
هذه، يا سادة، هي حكايتي مع مصر، رويتها باختصار .. والمهم في هذه القصة أنني ما زلت أحيا لأرى أمي تنهض نهضتها الجديدة .. ولكي أرى السلام يعقد عقوده الماسية فوق جيدها الأبيض الناصع.
حقا. إن حكايتي معك، يا مصر، حكاية حلوة يحسدني عليها أبناء الأمم الأخرى .. لأنها حكاية شريفة نبيلة، خالصة مخلصة، تنم بحق عن منتهى الوفاء والولاء.
مصر البداية هي مصر النهاية
كانت مصر منذ البداية منارة ومهد حضارة، وكبرت مصر وكبر نورها وتقدمت حضارتها .. فانتشر اسم مصر وصيتها وجرى على كل لسان.
اشتهرت مصر بأمور يحق لها أن تفخر بها .. فكل ما يقوله الناس عن مصر يشرفها ويرفع هامتها ويطيل قامتها ويجعلها تتطاوس وتتمايل تيها وإعجابا.
راح اسم مصر يجلجل في الخافقين، وتزداد شهرتها انتشارا على تعاقب الملوين وتألق النيرين، وتطلع العالم كله إلى مصر .. ومضت مصر في ركاب الحضارة العالمي ترفع لواءه وترسم خطاه ومداه .. لم تتخلف مصر أبدا، ولم تتوقف عن الركب، ولم تشغلها الشواغل، ولم تقعدها الحروب والكوارث، ولا الأزمات والنكبات .. فهي رائدة منذ البداية .. هادية منذ أول العصور .. قائدة منذ أقدم الدهور .. تقود ولا تقاد .. وتسود ولا تساد أو تساق.
ومنذ البداية ولدت مصر عظيمة .. تولاها الفراعنة ففرعنوها وأغنوها .. وساروا بها فنظموها وزينوها وتوجوها ووحدوها .. وفلحوها وزرعوها وأنعشوها وبلوروها .. ورسموا لها طابعا ممتازا مميزا، خلق منها أمة عالية الهمة عظيمة القيمة .. أمة تؤم ولا تؤم .. تغلب ولا تغلب ... تنهى ولا تنهى .. تفني ولا تفنى .. تزرع ولا تزرع .. فهي البداية وهي النهاية .. وهي القادرة على الدوام .. أولها كآخرها، وظاهرها كباطنها .. داخلها كخارجها .. هي أمة لا تتغير ولا تتبدل ولا تتشكل أو تتلون .. تسعى دائما وراء الأفضل، ولا تنتقي إلا الأفضل، ولا تفوز إلا بالأفضل .. تسالم من يسالمها وتعادي من يعاديها .. إنها أمة قوامها الصدق، ودينها المحبة، وديدنها السلام والوئام .. تعرف كيف تحافظ على عزتها وكرامتها .. إن قامت قومتها فإلى حين .. وإن نامت نومتها فإلى حين أيضا، ولكنها على الدوام متيقظة ساهرة .. تغني وتنشد، وترنو وتشعر .. للغة عندها مكانة وطعم ومذاق .. فالذي خلق اللغات جميعها وضع المحاسن كلها في الضاد .. في لغة مصر .. في لغتها العربية الأصيلة .. اللغة التي نزل بها القرآن هدى للناس .. فقرآنها هو سلاحها وقوامها ولسانها العف الشريف .. هو لها بداية، وهو لها نهاية .. ومصر لا تنكر بداية على الإطلاق.
ظهر على أرضها موسى وعبر، وحكمها يوسف ودبر، وتوالى عليها الأنبياء .. كل لها يفكر ويكفر .. وجاء عيسى فما استعلى عليها ولا تكبر .. أكل من ثمارها، وشرب من مائها وباركها ومهد الطريق للنهاية الكريمة الشريفة .. وجاورها محمد .. وجاءها أتباع محمد، لتقوم فيها أكبر دولة إسلامية، ولتكون القاهرة وحدها هي العاصمة ذات الألف مئذنة .. كلها تسبح باسم الله العلي القدير العظيم، ذي العرش المجيد، فعال لما يريد .. تكبر وتعظم وتفخم بمنطق سوي قويم، يفهمه الجاهل والعليم.
وكانت النهاية صورة من البداية .. هداية في هداية .. لأحسن رواية تحكي النهاية السعيدة لأمة مجيدة فريدة، وقديرة نميرة. ذات عزم وقوة وبأس، وتشتهر بين أمم العالم جميعا بأنضج رأس .. كانت «مصر» خير أمة أخرجت للناس في أبهى لباس .. معجزة لبنيها .. مفخرة لخالقها وبانيها .. وذكرى عاطرة لمسميها .. ف «مصر» - والحق يقال - هي بداية الكون، وأول أمة عرفتها الدنيا .. وهي نهاية الكون بإذن الله تعالى.
Unknown page