عامر وجدي
حسني علام
منصور باهي
سرحان البحيري
عامر وجدي
عامر وجدي
حسني علام
منصور باهي
سرحان البحيري
عامر وجدي
ميرامار
ميرامار
تأليف
نجيب محفوظ
عامر وجدي
الإسكندرية أخيرا.
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. •••
العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم يستقر في ذاكرتك، فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك. كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلل جنباته النخيل وأشجار البلح، ثم يمتد حتى طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية.
ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي، كالظن وكالمأمول، وإلا فعلي وعلى دنياي السلام. لم يبق إلا القليل، والدنيا تتكرر في صورة غريبة للعين الكليلة المظللة بحاجب أبيض منجرد الشعر.
ها أنا أرجع إليك أخيرا يا إسكندرية. •••
ضغطت على جرس الشقة بالدور الرابع. فتحت شراعة الباب. فتحت شراعة الباب عن وجه ماريانا. تغيرت كثيرا يا عزيزتي. ولم تعرفني في الطرقة المظلمة. أما بشرتها البيضاء الناصعة وشعرها الذهبي فقد توهجا تحت ضوء ينتشر من نافذة بالداخل. - بنسيون ميرامار؟ - نعم يا فندم. - أريد حجرة خالية.
الباب فتح. استقبلني تمثال العذراء البرنزي. ثمة رائحة ما لعلي أفتقدها أحيانا. وقفنا نتبادل النظر. طويلة رشيقة، الشعر ذهبي، والصحة لا بأس بها، ولكن بأعلى الظهر احديداب، والشعر مصبوغ حتما، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتي الفم تشي بالعجز والكبر. إنك يا عزيزتي في الخامسة والستين رغم أن الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها. ولكن هل تتذكرينني؟
نظرت باهتمام تجاري بادئ الأمر، ودققت النظر، ثم اختلجت العينان الزرقاوان. ها أنت تتذكرين، وها أنا أسترد وجودي الضائع. - أوه .. أنت! - مدام!
تصافحنا بحرارة، غلبها الانفعال فقهقهت ضاحكة، كنساء الأنفوشي قهقهت. وأطاحت بالوقار بضربة واحدة. - يا خبر أبيض، عامر بك، أستاذ عامر، ها .. ها.
جلسنا على كنبة الآبنوس تحت العذراء وشبحانا يتخايلان في زجاج صوان المكتب القائم للزينة.
نظرت فيما حولي وقلت: مدخل البنسيون هو هو لم يتغير.
فقالت محتجة، ملوحة بيدها بفخار: بل تجدد وطلي مرات، وعندك أشياء جديدة كالنجفة والبارفان والراديو. - إني سعيد يا ماريانا، الشكر لله على أنك في صحة جيدة. - وأنت أيضا يا مسيو عامر، المس الخشب. - عندي المصران الغليظ والبروستاتا، نحمده على أي حال. - أتجيء بعد زوال الصيف؟
قلت باهتمام: بل جئت للإقامة، متى تلاقينا آخر مرة؟ - منذ .. منذ .. أقلت للإقامة؟ - نعم يا عزيزتي، رأيتك آخر مرة منذ حوالي عشرين عاما. - واختفيت طيلة ذلك العمر! - العمل، الهموم ... - أراهن على أنك زرت الإسكندرية مرات ومرات في تلك الأعوام. - أحيانا، ولكن وطأة العمل كانت شديدة، وأنت أدرى بالصحافة. - وأعرف أيضا جحود الرجال. - ماريانا يا عزيزة، أنت أنت الإسكندرية. - تزوجت طبعا. - كلا بعد!
تساءلت مقهقهة: ومتى تتم النية وتقدم؟
قلت بنبرة لم تخل من امتعاض: لا زواج، لا أبناء، اعتزلت العمل، انتهيت يا ماريانا.
شجعتني بحركة من يدها فواصلت قائلا: عند ذاك نادتني الإسكندرية، مسقط رأسي، ولما لم يكن لي فيها من قريب حي فقد قصدت الصديق الباقي لي في دنياي. - جميل أن يجد الإنسان صديقا يقاسمه وحدته. - أتذكرين أيام زمان؟
قالت بصوت مأساوي: ذهبت بكل جميل.
ثم في شبه غمغمة: ولكن علينا أن نعيش.
وجاء وقت الحساب والمساومة. قالت إنه لم يعد لها من مورد إلا البنسيون، ولذلك فهي ترحب بنزلاء فصل الشتاء ولو كانوا من الطلبة المزعجين، وفي سبيل ذلك تستعين بالسماسرة وبعض خدم الفنادق. رددت ذلك بحزن عزيز قوم ذل. واختارت لي الحجرة رقم 6 في الجناح البعيد عن البحر. واتفقنا على أجرة معقولة تصلح لشهور العام عدا فصل الصيف، على أن يكون لي حق الاستمرار في الإقامة صيفا إذا دفعت أجرة المصيفين. تم الاتفاق على كل شيء بما فيه الفطور الإجباري، وأثبتت المدام أنها تستطيع في الوقت المناسب أن تستنقذ قلبها من الذكريات لتحسن المساومة والتدبير. وسألتني عن حقائبي، فأجبت بأنها في أمانات المحطة. فقالت ضاحكة: لم تكن متأكدا من وجود ماريانا.
ثم واصلت بحماس: لتكن إقامة دائمة.
فنظرت إلى يدي التي ذكرتني بيد مومياء في المتحف المصري. •••
لا تقل حجرتي في شيء عن الحجرات المطلة على البحر، مستوفية لحاجتها من الأثاث والمقاعد المريحة ذات الطابع القديم. ولتبق الكتب في صندوقها إلا ما ندر مما قد أراجعه فيمكن وضعه فوق الترابيزة أو التسريحة. لا يعيبها شيء إلا أن جوها يسبح في مغيب دائم لأنها تطل على منور كبير يتسلق على جدرانه سلم الخدم حيث تهر القطط ويتناجى العاملون. وزرت الحجرات كلها. الوردية والبنفسجية والسماوية وكانت جميعها خالية. في كل أقمت صيفا أو أكثر في زمن مضى. ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضضة والفنايير البلورية فما زالت مسحة أرستقراطية باهتة تعلق بالجدران المورقة والأسقف العالية الموشاة بصور الملائكة.
قالت وهي تتنهد وقد لمحت لأول مرة طاقم أسنانها: كان بنسيون السادة.
فقلت مواسيا: سبحان من له الدوام!
فعادت تقول وهي تلوي بوزها: أكثر النزلاء شتاء من الطلبة، وأما في الصيف فأستقبل كل من هب ودب. ••• - عامر بك، كن شفيعي عند دولة الباشا.
وقلت للباشا: يا دولة الزعيم، ليس الرجل ذا كفاءة ممتازة ولكنه فقد ابنه في الجهاد وهو جدير بأن يرشح عن الدائرة.
وافق على اقتراحي، أسكنه الله أعز مكان في جنته. كان يحبني ويتابع مقالاتي باهتمام صادق. ومرة قال لي: أنت كلب الأمة الخافك.
كان رحمه الله ينطق القاف كافا. وسمع بها بعض الزملاء القدامى من رجال الحزب الوطني؛ فكانوا كلما رأوني صاح صائحهم: «أهلا بكلب الأمة.»
لكنها كانت أيام المجد والجهاد والبطولة.
كان عامر وجدي شخصا فريدا، له في الرجاء جانب يرده الأصدقاء، وفي الخوف جانب يتجنبه الأعداء. •••
في الحجرة أتذكر أو أقرأ أو أستسلم للنعاس. وفي المدخل مجال سمر مع الراديو وماريانا. وإن شئت تنويعا في التسلية ففي أسفل العمارة مقهى الميرامار. من البعيد جدا أن أعثر على أحد أعرفه أو يعرفني، ولا في التريانون نفسه. ذهب الأصدقاء وذهب زمانهم . وإني لأعرفك يا إسكندرية الشتاء. تخلين ميادينك وشوارعك مع المغيب فيمرح فيها الهواء والمطر والوحشة، وتعمر حجراتك بالمناجاة والسمر. ••• - ذلك العجوز الذي يخفي جسده المحنط تحت بدلة سوداء من عهد نوح.
وقال من عينه الزمن الهازل رئيسا للتحرير: زمن البلاغة ولى، هل عندك عبارة تصلح لراكب طيارة؟
راكب طيارة! أيها «القره جوز» المفعم شحما وغباء .. إنما خلق القلم لأصحاب العقول والأذواق لا للمجانين المعربدين من ضحايا الملاهي والحانات .. ولكن قضي علينا طول العمر بالسير في ركاب زملاء جدد في المهنة، لقنوا علمهم في السيرك ثم اجتاحوا الصحافة ليلعبوا دور البهلوانات. •••
جلست على الفوتيل مرتديا الروب، استسلمت ماريانا إلى مسند الكنبة الأبنوس تحت تمثال العذراء، وانبعث من المحطة الإفرنجية موسيقى راقصة. وددت أن أسمع لونا آخر، ولكني تجنبت إزعاجها. استرخت جفونها كمن تحلم وحركت رأسها في طرب كأيام زمان. - كنا وما زلنا أصدقاء يا عزيزتي. - طول العمر. - لم نتبادل العشق ولا مرة!
ضحكت ضحكة عالية وقالت: ذوقك بلدي، لا تنكر. - عدا مرة عابرة، هل تذكرين؟
ضحكت طويلا ثم قالت: نعم، جئت مرة بخواجاية فاشترطت عليك تكتب في السجل «عامر وجدي وحرمه». - وسبب آخر أبعدني عنك، كنت حسناء فاخرة يحتكرك الوجهاء.
تهلل وجهها في سعادة شاملة، ماريانا، مهم عندي جدا أن يمتد بك العمر بعدي ولو يوما واحدا حتى لا أضطر إلى البحث عن مأوى جديد. ماريانا، إنك شاهد حي على أن التاريخ ليس وهما، من عهد الإمام إلى اليوم. ••• - سيدي الأستاذ، أستودعك الله.
رمقني في ضجر، وهو يضيق بي كلما رآني. قلت: آن لي أن أعتزل.
قال وهو يداري ارتياحه: خسارة كبيرة ولكنني أرجو لك حياة طيبة.
انتهى كل شيء.
انطوت صفحة تاريخ بلا كلمة وداع ولا حفلة تكريم ولا حتى مقال من عصر الطائرة. أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟ •••
قلت وأنا أرنو إليها تحت تمثال العذراء: ولا هيلانة في زمانها!
ضحكت وقالت: قبل أن تجيء كنت أجلس وحدي، لا أنتظر أحدا أعرفه . مهددة دائما بأزمة كلى. - سلامتك، ولكن أين أهلك؟
وهي تتنهد: هاجر النساء والرجال.
ولوت بوزها المجعد ثم واصلت: قلت أين أذهب؟ لقد ولدت هنا، لم أر أثينا أبدا في حياتي، ثم إن البنسيونات الصغيرة لن تؤمم على أي حال. •••
يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مكان القانون. لا فض فوك. لقد أكرمك الله بتمثالين والموت. ••• - مصر وطنك، والإسكندرية ليس كمثلها شيء.
عزف الهواء في الخارج. والظلام يهبط خلسة. قامت فأشعلت من النجفة ثلاثة مصابيح في أسفلها مثل عنقود العنب. عادت إلى مجلسها وهي تقول: كنت سيدة، سيدة بكل معنى الكلمة. - ما زلت سيدة يا عزيزتي. - هل تشرب كأيام زمان؟ - كأس واحدة عند العشاء، طعامي خفيف جدا، وذاك سر حيويتي رغم تقدم العمر. - آه يا مسيو عامر، تقول إن الإسكندرية ليس كمثلها شيء؟ كلا، لم تعد كما كانت على أيامنا، الزبالة ترى الآن في طرقاتها.
قلت بإشفاق: عزيزتي، كان لا بد أن تعود إلى أهلها.
قالت بحدة: ولكننا نحن الذين خلقناها. - عزيزتي ماريانا، ألا تشربين كأيام زمان؟ - كلا، ولا كأس واحدة، عندي ضغط من الكلى. - ما أجمل أن نوضع في متحف جنبا إلى جنب، ولكن عديني بألا تموتي قبلي. - مسيو عامر، قتلت الثورة الأولى زوجي الأول، أما الثورة الثانية فجردتني من مالي وأهلي، لماذا؟ - إنك مستورة والحمد لله، ونحن أهلك، والعالم يشهد أمثال هذه الحوادث كل شروق شمس. - يا له من عالم! - ألا نغير المحطة الإفرنجية؟ - عدا ليلة أم كلثوم، فلا محطة غيرها! - أمرك يا عزيزتي. - خبرني لماذا يعذب الناس بعضهم البعض، ولماذا يتقدم بنا العمر؟
ضحكت دون أن أنبس.
أجلت البصر في الجدران المنقوش عليها تاريخها. هاك صورة الكابتن بقبعته العالية وشاربه الغزير في البدلة العسكرية، زوجها الأول، ولعله حبيبها الأول والأخير، الذي قتل في ثورة 1919. في الجدار المقابل وفوق المكتبة صورة أمها العجوز، كانت مدرسة. على مرمى البصر في الصالة فيما وراء البارفان صورة الزوج الثاني ملك البطارخ وصاحب قصر الإبراهيمية، أفلس ذات يوم فانتحر. - متى فتحت البنسيون؟ - قل متى اضطررت لفتحه من فضلك!
ثم أجابت: عام 1925.
عام محنة وكدر. ••• - ها أنا شبه سجين في بيتي، وعرائض التأييد تزف إلى الملك. - زيف وكذب يا دولة الزعيم. - حسبت الثورة قد طهرت النفوس من ضعفها. - الجوهر سليم والحمد لله ... سأسمع دولتكم مقالة الغد. •••
راحت تدلك بشرة وجهها بليمونة وهي تقول: كنت سيدة يا مسيو عامر، أحب الحياة الحلوة والنور والفخامة والأبهة والملابس والصالونات، وكنت أهل على المدعوين كالشمس. - رأيت ذلك بعيني. - لكنك لم تر إلا صاحبة البنسيون. - كانت تهل أيضا كالشمس. - وكان النزلاء من السادة، ولكن لم يعزني ذلك عن تدهوري. - ما زلت سيدة بكل معنى الكلمة.
هزت رأسها ثم سألت: والأصدقاء القدامى ماذا حل بهم؟ - حل بهم المكتوب عليهم. - لماذا لم تتزوج يا مسيو عامر؟ - سوء الحظ، ليتنا أنجبنا ذرية. - أوه .. كان كلا الزوجين عاقرا!
يغلب علي الظن أنك أنت العاقر، إنه أمر مؤسف إذ إننا لم نوجد إلا لكي ننجب. •••
ذلك البيت الكبير الذي تحول مع الأيام إلى فندق، يراه السائر في خان جعفر كقلعة صغيرة، وحوشه القديم الذي شق فيه طريق إلى خان الخليلي، قد نقش في قلبي هو وما يكتنفه من بيوت قديمة والكلوب العتيق، صورة تذكارية لنشوة الحب المشبوب المرتطم بخيبة الأمة. العمامة واللحية البيضاء وقسوة الشفتين وهما تلفظان «لا» فتقضي في تعصب أعمى على الحب الذي هبط إلى الدنيا قبل الأديان بمليون سنة. - مولاي، إني أنشد القرب منكم على سنة الله ورسوله.
صمت وبيننا فنجان قهوة لم يمس، فقلت: إني صحفي، ذو مال، وابن شيخ كان خادما لمسجد سيدي أبي العباس المرسي.
قال: رحمه الله، كان من التقاة المؤمنين.
وقبض على المسبحة ثم استطرد: يا بني، كنت منا، جاورت الأزهر زمنا.
ذاك التاريخ متى ينسى! قال: ثم طردت من الأزهر، أنت تذكر ...؟ - مولاي، ذلك تاريخ قد انقضى، لأتفه الأسباب كان يحق الطرد، شاب هزه الشباب فاشترك في تخت مطرب ذات ليلة، أو طرح بعض أسئلة ببراءة.
قال بامتعاض: قضى عليه قوم عقلاء بتهمة شنيعة. - مولاي من ذا يستطيع أن يقضي على إنسان بتهمة كالإلحاد، ولا مطلع على الفؤاد إلا الله؟ - يستطيع ذلك من يسترشد بالله.
اللعنة! من ذا يزعم أنه عرف الإيمان! قد تجلى الله للأنبياء ونحن أحوج منهم إلى ذاك التجلي. وعندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار. •••
لنحذر الكسل. لا بأس من تجربة المشي في الصباح المشمس. ما أحلى أيام الدفء في البالما والبجعة. ولو وجدت نفسك وحيدا بين أسر تعمر بالأجيال. الأب يطالع جريدة والأم تطرز رقعة، والأبناء يلعبون. لو يخترع المخترعون للمعتزلين جهازا يبادلهم الحديث والسمر، أو شخصا إلكترونيا يلاعبهم النرد، أو يركب لهم عينا جديدة تولع مرة أخرى بنبات الأرض وألوان السماء.
وقد عشنا دهرا طويلا حافلا بالأحداث والأفكار، نوينا أكثر من مرة أن نسجله في مذكرات - كما فعل الصديق القديم أحمد شفيق باشا - ولكن لم تصدق النية ثم تبددت بين إمهال وإرجاء. اليوم لم يبق من النية القديمة إلا الحسرة بعد أن وهنت اليد وضعفت الذاكرة واضمحلت القوة. ففي ذمة الله ذكريات الأزهر، وصحبة الشيخ علي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش، حزب الأمة ما أعجبني فيه وما نفرني منه، الحزب الوطني بحماساته وحماقاته، الوفد بثورته العالمية الخالدة، الخلافات الحزبية التي قوقعتني في حياد بارد لا معنى له، الإخوان الذين لم أحبهم، الشيوعيون الذين لم أفهمهم، الثورة ومغزاها وامتصاصها للتيارات السابقة، غرامياتي وشارع محمد علي، موقفي العنيد من الزواج. لو قيض لذكرياتي أن تكتب لكانت عجبا حقا.
زرت بحنان أثنيوس وباستوريدس وأنطونيادس. جلست وقتا في بهو وندسور وسيسل، ملتقى الباشوات والساسة الأجانب في الزمن القديم، وخير مجال لالتقاط الأخبار ومتابعة الأحداث، فلم أر إلا قلة من الأجانب شرقيين وغربيين. رجعت ولي عند الله دعاءان: دعاء بأن يمن علي بحل مشكلة الإيمان، ودعاء بألا يصيبني بمرض يقعدني عن الحركة فلا أجد من يأخذ بيدي. •••
ما أجمل هذه الصورة النابضة بالشباب! قد وضعت على المقعد ركبة الساق اليمنى وأراحت الأخرى على الأرض، ومالت بجذعها نحو مسند المقعد ملقية معصميها عليه، واستدار وجهها ليواجه الكاميرا باسما معتزا بملاحته، وقد انحسر ديكولتيه الفستان الكلاسيكي الفضفاض عن قاعدة العنق الطويل ونحر منبسط كالمرمر.
كانت قد ارتدت معطفها الأسود والإشارب الكحلي تأهبا لزيارة الطبيب، وجلست تنتظر الوقت المناسب للذهاب. سألتها: أقلت إن الثورة جردتك من مالك؟
فرفعت حاجبيها المزججين وقالت: ألم تسمع بكارثة الأسهم؟
لعلها قرأت في عيني تساؤلا ففطنت إلى ما يدور بخلدي فقالت: ضاع ما ربحته أيام الحرب الثانية. صدقني، لقد ربحته بشجاعتي إذ أصررت على البقاء في الإسكندرية عندما هاجر الكثيرون إلى القاهرة والأرياف خوفا من غارات الألمان، طليت النوافذ باللون الأزرق وأسدلت الستائر، ودار الرقص على ضوء الشموع، ولن تجد من يضاهي ضباط الإمبراطورية في البذل والكرم.
وجدتني وحيدا بعد ذهابها أنظر إلى عيني زوجها الأول وينظر إلي. ترى من قتلك وبأي سلاح؟ وكم من جيلنا قتلت قبل أن تقتل؟ جيلنا العتيد الذي فاق الأجيال جميعا في غزارة ضحاياه. •••
الغناء الإفرنجي لا ينقطع. أقسى ما حكم الزمان به علي في عزلتي. ماريانا أخذت حماما ساخنا عقب عودتها من عند الطبيب، ها هي تجلس ملفوفة في برنس أبيض وقد عقصت شعرها المصبوغ غارسة فيه عشرات المشابك المعدنية البيضاء. خفضت صوت الراديو إلى حد الهمس لتبدأ هي إذاعتها وقالت: مسيو عامر .. لا شك أن لديك مالا وفيرا.
فسألتها بشيء من الحذر: هل عندك مشروعات؟ - كلا، ولكن في مثل عمرك - وعمري أيضا مع الفارق الكبير - لا يتهددنا شيء مثل الفقر والمرض.
قلت والحذر لم يفارقني بعد: لقد عشت مستورا وأرجو أن أموت مستورا. - لا أذكر أنك كنت مسرفا قط.
ترددت قليلا ثم قلت: أرجو أن يكون عمر المدخر من نقودي أطول من عمري.
لوحت بيدها باستهانة وقالت: الطبيب شجعني هذه المرة فوعدته بألا أحمل هما. - جميل ألا نحمل هما. - يجب أن نفرح ونلهو عندما تأتي ليلة رأس السنة.
قلت ضاحكا: نعم، على قدر ما تسمح قلوبنا.
راحت تهز رأسها في تلذذ وتقول في مناجاة : يا ليالي رأس السنة ...
فقلت منفعلا بذكريات بعيدة: كم أحبك الكبراء! - لم أعرف الحب إلا مرة واحدة.
ثم أشارت إلى صورة الكابتن. وعادت تقول: قتله طالب من الطلبة الذين أخدمهم اليوم!
ثم قالت بخيلاء: كان بنسيون السادة .. يعمل به طاه ومرمطون وسفرجي وغسالة وخادمان، لا أحد يخدم به اليوم سوى غسالة أسبوعية. - كبراء كثيرون يغبطونك على ما أنت فيه. - أهذا عدل يا مسيو عامر؟ - هو على أي حال طبيعي يا مدام.
اربد وجهها فضحكت متوددا وملاطفا. •••
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان
مضيت أقرأ سورة الرحمن الحبيبة إلى قلبي مذ كنت في الأزهر. كنت غائصا في مقعد كبير طارحا قدمي على وسادة. هطل المطر بغزارة فارتفع رنينه فوق درجات السلم المعدني في المنور.
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
ثمة أصوات تقتحم الصمت خارج الحجرة في البنسيون. رفعت رأسي عن الكتاب وأنصت. ضيف أم نزيل جديد؟ صوت ماريانا يرحب بحرارة لا تليق إلا بصديق حميم. وثمة ضحك أيضا. ثم وضحت نبرة غليظة من صوت أجوف. ترى من القادم؟ الوقت بعد العصر بقليل. والمطر ينهل بشدة، والغيوم تريق في الحجرة ظلمة كالليل. ضغطت على زر الأباجورة حين لمع برق خاطف نضح به الشيش، وهزم الرعد.
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان •••
يميل إلى القصر والبدانة، منتفخ الشدقين واللغد، وله عينان زرقاوان رغم سمرة بشرته، ذو طابع أرستقراطي لا تخطئه العين وينم عنه صمته المتكبر إذا صمت، وحركات رأسه ويديه المتزنة المرسومة بدقة إذا تكلم. قدمته المدام باسم «طلبة بك مرزوق» في مجلس المساء، ثم قالت تزيدني معرفة به: كان وكيلا لوزارة الأوقاف ومن الأعيان الكبار.
لم يكن عندي في حاجة إلى تعريف. عرفته من بعيد بحكم مهنتي على عهد النضال السياسي والحزبي. كان من المنتمين إلى أحزاب السراي، وبطبيعة الحال من أعداء الوفد. وتذكرت أيضا أنه وضع تحت الحراسة منذ عام أو أكثر وأنه جرد من موارده عدا القدر المعلوم. أما المدام فقد تبدت في أحسن أحوالها مرحا وعاطفية، نوهت مرارا بصداقتها القديمة لطلبة بك. وبرز حماسها المتدفق عندما دعته بمحبها القديم.
وقال لي الرجل ونحن نتبادل الحديث: قرأت لك كثيرا فيما مضى.
فضحكت ضحكة ذات مغزى فضحك بدوره قائلا: كنت تعطيني مثلا حيا لقوة البلاغة عندما تتصدى للدفاع عن باطل!
وضحك طويلا ولكنني لم أجادله. وقالت المدام تخاطبني بشماتة: طلبة بك تلميذ قديم للجزويت، سنسمع الأغاني الإفرنجية معا ونتركك لتتعذب وحدك.
ثم بسطت راحتيها في ترحيب وقالت: جاء ليقيم معنا.
فرحبت به فعادت تقول في رثاء: كان يملك ألف فدان، كان يلعب بالمال لعبا.
هنا قال الرجل بامتعاض: انقضى عهد اللعب. - وأين كريمتك يا طلبة بك؟ - في الكويت مع زوجها المقاول.
وكنت أعلم أن الحراسة قد فرضت عليه لشبهة تهريب، بيد أنه فسر مأساته قائلا: خسرت أموالي جميعا ثمنا لنكتة عابرة!
فسألته: هل دعيت إلى تحقيق؟
فقال بازدراء: المسألة بكل بساطة أنهم كانوا في حاجة إلى مالي.
وكانت المرأة تنظر إليه بإمعان فقالت: تغيرت كثيرا يا طلبة بك.
ابتسم فوه الصغير المطوق بشدقيه ثم قال: أصابتني جلطة كادت تقضي علي.
ثم بشيء من العزاء: ولكنني أستطيع أن أشرب الويسكي في حدود الاعتدال. •••
غمس الكروسان في الشاي الممزوج باللبن ثم أكل بأناة من لم يألف الطاقم الجديد بعد. لم يكن على مائدة الإفطار سوانا. وكانت الأيام القلائل الماضية قد قربت بيننا وأزالت حواجز الحذر فغلب الأنس بروح الجيل الواحد على الخلافات البالية، وإن انطوى كل منا في أعماقه على مزاج متفرد مناقض لصاحبه: ولكن تجيء أوقات يبرز فيها المزاج الثاوي في الأعماق ليثير الغبار والتحديات. أجل، قد سألني بلا مناسبة: أتدري ما السبب وراء المصائب التي حلت بنا؟
فتساءلت بدهشة: أي مصائب تعني؟ - أيها الثعلب، إنك تعرف تماما ما أعني. - ولكن لم تحل بي المصائب من أي نوع كان.
رفع حاجبيه الأشيبين وقال: لقد اغتيلت شعبيتكم كما اغتيلت أموالنا. - لعلك تذكر أنني خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعا، منذ حادث 4 فبراير. - ولو .. ثمة لطمة قد أحاطت بكبرياء الجيل كله.
فقلت زاهدا في الجدل: بصرف النظر عن موقفي فإني مشوق إلى معرفة رأيك.
قال بهدوء وازدراء: يوجد سبب بعيد في طرف الحبل المشدود حول أعناقنا، شخص لا يكاد يذكره أحد. - من هو؟ - سعد زغلول!
لم أتمالك من الضحك فراح يقول بحدة: أجل، منذ دأب على إثارة الإحن بين الناس، والتطاول على الملك، وتملق الجماهير، رمى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخم كسرطان لا علاج له حتى قضى علينا. •••
لم يكن بالبالما إلا آحاد. مضى طلبة مرزوق ينظر إلى ماء النيل شبه الساكن في ترعة المحمودية على حين مددت ساقي واستلقيت على مسند الكرسي كأنما أضطجع تحت شعاع الشمس النقي الدافئ. هاجرنا إلى أطراف الإسكندرية المزدحمة بالنبات والأزهار، التي تنعم أيام الصحو بالدفء والسلام، فآوينا إلى ركن من الجنة عامر بالبركات.
مهما يكن من غلو صاحبي وعصبيته فهو يستحق قدرا من الرثاء. عليه أن يبدأ حياة جديدة مريرة بعد الستين. إنه يغبط كريمته في مهجرها ويرى أحلاما غريبة، لا يطيق أن يسمع عن نظرية تبرر مأساته التاريخية. ويؤمن بأن الاعتداء على ماله إنما كان اعتداء على كون الله وسننه وحكمته. - كدت أعدل عن الإقامة في البنسيون عندما علمت بوجودك.
لم أصدق وسألته عن السبب: وقع اختياري على بنسيون ميرامار بأمل ألا أجد فيه إلا صاحبته الخواجاية.
فسألته عما بدد سوء ظنه بي: فكرت، ثم اقتنعت بأن التاريخ لم يعرف عميلا فوق الثمانين!
ضحكت طويلا ثم سألته: ولم تخاف العملاء؟ - لا شيء في الحقيقة غير أني أروح عن نفسي أحيانا بالكلام.
ثم واصل حديثه بعصبية: لم يعد لي مقام في الريف، وجو القاهرة يصر على إشعاري بهواني. عند ذاك فكرت في عشيقتي القديمة، وقلت لقد فقدت زوجها في ثورة، ومالها في الثورة الأخرى، وإذن فسوف نعزف لحنا واحدا.
وأثنى على صحتي رغم طعوني في السن ، وجعل يغريني على مصاحبته في دور السينما والمقاهي الشتوية. تم تساءل: لماذا عدل الله عن سياسة القوة؟
لم أدرك مرماه، فقال متبسطا في الشرح: أعني الطوفان والرياح وغيرها.
فسألته بدوري: أتحسب أن الطوفان قد أهلك من البشر أكثر ممن أهلكتهم قنبلة هيروشيما؟
فلوح بيده ساخطا وقال: ردد دعايات الشيوعيين أيها الثعلب! إن أكبر خطأ في حق البشرية قد وقع لدى تردد أمريكا في الاستيلاء على سلطان العالم عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذرية. - خبرني هل تجدد غرامياتك مع ماريانا؟
ضحك عاليا وقال: يا لها من فكرة جنونية، إني شيخ هدمه العمر والسياسة وهيهات أن تحركني إلا المعجزات، وأما هي فلم يبق لها من الأنوثة إلا ألوانها المجردة.
وضحك مرة أخرى ثم قال: وأنت هل نسيت تاريخك؟ لقد قرأت عن فضائحك في مجلة الكشكول، عن جريك وراء الملاءات اللف بشارع محمد علي.
ضحكت بلا تعليق فتساءل: هل رجعت أخيرا إلى الدين؟ - وأنت؟ .. يخيل إلي أحيانا أنك لا تؤمن بشيء.
فقال بحنق: كيف لا أومن بالله وأنا أحترق في جحيمه؟! ••• - لقد خلق أمثالك للجحيم، لن يبارك الله لك في شيء، اخرج مطرودا من هذا المكان الطاهر، كما طرد إبليس من رحمة الله. •••
دقت الساعة الكبيرة في الصالة معلنة انتصاف الليل. تجاوبت أركان المنور بصفير هواء قوي. أقعدني الكسل والدفء وأنا غائص في المقعد الكبير عن القيام إلى الفراش. وثقلت علي وحدتي بعد أن انفردت بي في الحجرة الخالية؛ فقلت لنفسي: ما جدوى الندم بعد الثمانين!
وإذا بالباب يفتح دون استئذان ويقف طلبة مرزوق على عتبته قائلا: معذرة، أدركت من ضوء الحجرة أنك لم تنم.
نظرت نحوه باستغراب. لقد شرب الليلة أكثر مما يشرب عادة. وسألني متهكما وحركات رأسه تواكب نبرته: أتعلم كم كان يكلفني في الشهر الواحد الدواء والفيتامينات والهرمونات والروائح والدهون وخلافه؟
انتظرت أن يتكلم ولكنه أغمض عينيه كأن الجهد أرهقه، ثم تراجع فأغلق الباب ومضى. •••
السرادق مكتظ بالخلق، ساحة المولد كيوم الحشر، والصواريخ تنطلق في الفضاء. انشق النور وانعدم الظلام لمولد أحمد. وتهادت الرولزرويس حتى وقفت أمام السرادق. هبط منها طلبة مرزوق فخف لاستقباله أقوام وأقوام من السادة الدمرداشية؛ طريقة الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي. ولمحني صاحب الرولزرويس فأعرض عني في كبرياء. وقيل ليلتها إنك جئت ثملا كما جئتني الليلة. ودعي سيد المطربين إلى وسط السرادق فأنشد «يا سماء ما عليك سماء.» وفي الهزيع الأخير من الليل غنى «أحب أشوفك» فأطاح بعقول المريدين. متى كانت تلك الليلة العجيبة؟ على التحديد لا أذكر ولكنها حتما سبقت وفاة الرجل الجليل وإلا ما صفا لي الطرب. •••
كنت أجلس في المدخل ولا أحد معي في البنسيون عندما دق الجرس. فتحت الشراعة على طريقة المدام فرأيت أمامي وجها انشرح لمرآه صدري. من النظرة الأولى انشرح له صدري. وجه أسمر لفلاحة مطوقة الرأس والوجه بطرحة سوداء، أصيلة الملامح، مؤثرة جدا بنظرة عينيها الحلوة المترقبة: من أنت؟ - أنا زهرة!
قالتها ببراءة وثقة كأنما تنطق باسم علم من الأعلام. سألتها وأنا أبتسم: ماذا تريدين يا زهرة؟ - الست ماريانا.
فتحت لها الباب فدخلت حاملة بقجة صغيرة. نظرت فيما حولها ثم سألت: أين الست؟ - ستجيء بعد قليل. اجلسي.
جلست على مقعد واضعة البقجة على حجرها فعدت إلى مجلسي في نشاط جديد. جعلت أنظر إليها، إلى تكوينها القوي الرشيق، وملاحتها الفائقة، وشبابها الغض، وأنا في غاية من الارتياح. واستسلمت لرغبة في محادثتها فقلت: قلت إن اسمك زهرة؟ - زهرة سلامة. - من أين يا زهرة؟ - من الزيادية بحيرة. - على ميعاد مع المدام؟ - لا. - إذن؟ - جئت لأقابلها. - تعرفك طبعا؟ - نعم.
تمليت جمالها وشبابها بارتياح لم أشعر بمثله من دهر، ثم عدت أسألها: هل تعيشين في الإسكندرية من زمن طويل؟ - لم أعش في الإسكندرية، ولكن زرتها مرارا مع المرحوم أبي. - وكيف عرفت المدام؟ - كان أبي يجيئها بالجبن والزبد السمن والدجاج، وكنت أجيء معه أحيانا. - فهمت، تنوين يا زهرة أن تحلي محل أبيك. - لا.
حولت عينيها إلى البارفان كأنما لتتفادى من المزيد، فاحترمت سرها وازددت لها حبا. وبكل حنان دعوت لها في سري أن يحفظها الله. •••
قلت وأنا أقبل يدها المعروقة المدبوغة: «ببركة دعواتك أصبحت رجلا ولا كل الرجال، هلمي معي إلى القاهرة.» فقالت وهي تتطلع نحوي بحنان: «فليزدك الله من خيره وبركاته، أما أنا فلن أغادر البيت، إنه حياتي وعمري.»
بيت نحيل، مقشر الجدران، تلطمه الرياح وتستقر أملاح البحر على أحجاره، وتلفحه روائح السمك المكدس على شاطئ الأنفوشي.
قلت: «لكنك تعيشين هنا وحدك.»
فقالت: «معي خالق الليل والنهار.» •••
دق الجرس فقامت زهرة ففتحت الباب. نظرت إليها المدام بدهشة ثم هتفت: زهرة! .. غير معقول!
لثمت الفتاة يدها مشرقة الوجه لحرارة الترحيب. - جميل أن أراك، الله يرحم والدك، تزوجت يا زهرة؟ - كلا. - غير معقول!
وضحكت عاليا ثم التفتت إلي قائلة: زهرة بنت رجل طيب يا مسيو عامر.
ومضتا معا إلى الداخل حين جاش صدري بحنان وأبوة. •••
ولما جمعنا مجلس الليل - أنا وطلبة وماريانا - قالت المدام: أخيرا ارتحت.
وسكتت لحظة ثم واصلت: زهرة ستعمل عندي.
اجتاحني إحساس غريب بالفرح والضيق معا ثم سألت: أجاءت لتعمل خادمة؟ - نعم، لم لا، ستكون على أي حال في مركز ممتاز. - ولكن ما ... - كانت تستأجر نصف فدان وتزرعه بنفسها، ما رأيك في ذلك؟ - جميل، ولكن لم تركت أرضها؟
نظرت إلي مليا ثم قالت: لقد هربت. - هربت!
قال طلبة ساخرا: اعتبروها إقطاعية! - أراد جدها أن يزوجها من عجوز مثله لتخدمه، والباقي معروف.
قلت بحزن: حدث خطير لا تهضمه القرية. - لا أحد لها بعد جدها إلا شقيقتها الكبرى وزوجها. - وإذا عرفوا أنها هنا؟ - محتمل، ولكن ما يهم؟ - ألا تخشين ...؟ - ليست صغيرة، وما فعلت إلا أنني آويتها وأعطيت لها عملا شريفا.
ثم بإصرار: مسيو عامر، لن أتخلى عنها. •••
لن أتخلى عن واجبي ما دام في عرق ينبض، ولتفعل بنا القوة ما تشاء. •••
وراحت تعلمها وزهرة تتعلم بسرعة فائقة، وماريانا تقول بسرور: البنت مدهشة يا عامر بك، مدهشة، ذكية وقوية، من مرة واحدة تعرف المطلوب، أنا بختي عال.
وقالت لي في مرة أخرى: ما رأيك، خمسة جنيهات غير الأكل واللبس؟
أعلنت ارتياحي ثم قلت برجاء: لا تلبسيها بطريقة عصرية! - أتريدها أن تلبس كالفلاحات؟ - عزيزتي، البنت جميلة، فكري في الأمر. - أنا عيني مفتوحة دائما، والبنت طيبة يا مسيو عامر.
هكذا خطرت زهرة في فستان من الكستور فصل على جسمها الرشيق ليبرز محاسنه، ربما لأول مرة، بعد طول اختفاء تحت الجلباب الفضفاض المسترسل حتى الكعبين، ومشط شعرها جيدا بعد أن غسل بالجاز ثم فرق في وسط الدماغ ليجتمع في ضفيرتين انسابتا في امتلاء وراء الأذنين.
ورآها طلبة مرزوق فنظر إليها متفرسا ثم مال نحوي بعد ذهابها وهمس قائلا: سنشاهدها في الصيف القادم في الجنفواز أو مونت كارلو.
فقلت باستياء: فال الله ولا فالك يا شيخ!
ثم مر بها وهو في طريقه إلى الخارج فسألها مداعبا: هل فيك عرق أجنبي يا زهرة؟
شيعته بنظرة متسائلة. واضح أنها لم تستلطفه. ونظرت نحوي فقلت لها: إنه يداعبك، فاعتبري قوله نوعا من الثناء.
ثم قلت باسما: وأنا أيضا من عشاقك يا زهرة.
فابتسمت ابتسامة صافية، فلم أشك في أنها تبادلني مودة بمودة وسررت بذلك جدا. وكانت المدام تدعوها - بعد انتهاء العمل - للجلوس معنا في المدخل حول الراديو، فكانت تختار مقعدا بعيدا بعض الشيء عنا وعلى كثب من البارفان وتتابع أحاديثنا برغبة جادة في الاستطلاع والفهم، واستأنستها بمودتي فصرنا صديقين، وتبادلنا الكلام كثيرا في الفرص المتاحة.
وقصت علينا ذات ليلة قصتها بنفسها وهي تظن أننا نسمعها لأول مرة. ثم قالت تعليقا على بعض ظروفها: أراد زوج أختي أن يأكلني، فزرعت أرضي بنفسي. - ألم يشق عليك ذلك يا زهرة؟ - كلا، إني قوية بحمد الله، لم يغلبني أحد في المعاملة، لا في الحقل ولا في السوق.
فقال طلبة مرزوق ضاحكا: ولكن الرجال يهتمون بأمور أخرى أيضا؟
فقالت بتحد لطيف: أكون رجلا عند الضرورة.
فأمنت على قولها بحماس. وقالت المدام: زهرة ليست غشيمة، كانت تصحب أباها في جولاته، كان يحبها جدا.
فقالت بحزن: وكنت أحبه أكثر من عيني، أما جدي فلا يفكر إلا في الانتفاع من ورائي.
ولكن طلبة عاد إلى معاكستها قائلا : لو كان باستطاعتك أن تكوني رجلا فلم اضطررت إلى الهرب؟
فقلت مدافعا عنها: يا طلبة بك، أنت أدرى بجو القرى، وقداسة الأجداد، والتقاليد الرهيبة، كان عليها أن تبقى لتصير زوجة زائفة أو أن تهرب.
رمقتني بامتنان، ثم قالت بأسف: تركت أرضي.
وإذا بطلبة يقول: سيقولون إنك هربت لكيت وكيت ...
حدجته بنظرة غاضبة، واكفهر وجهها كأنما اتخذ من ماء الفيضان بشرة جديدة، وفردت سبابتها والوسطى وهي تقول بخشونة: أغرزهما في عين من يتقول علي بالباطل.
هتفت المدام: زهرة، ألا تفرقين بين الجد والدعابة؟
وقلت بدوري ملاطفا وقد أخذت بغضبتها: إنه يداعبك يا زهرة.
وملت نحوه متسائلا: أين لباقتك يا عزيزي؟
فأجابني باستهانة: موضوعة تحت الحراسة! •••
عيناها عسليتان، وجنتاها دسمتان موردتان، في ذقنها غمازة. بالكاد حفيدتي الصغرى، أما جدتها المحتملة فقد مرت في لمح البصر. لم يدركها حب ولا زواج. المستحيل تذكر ملامحها. بيرجوان والدرب الأحمر وسيدي أبو السعود طبيب الجراح. ••• - حتى متى تبقى هنا يا سيدي؟
كانت تجيئني في حجرتي بقهوة العصر فأستبقيها حتى أفرغ؛ رغبة في حديثها. - إني مقيم هنا يا زهرة. - وأسرتك؟
قلت ضاحكا: لا أحد لي في الدنيا سواك.
فضحكت من أعماق قلبها في مرح. يدها صغيرة صلبة خشنة الأنامل. قدماها مفلطحتان كبيرتان. أما الجسم والوجه فسبحان الله العظيم!
ومرة همست لي: إنه ثقيل الدم!
قلت لها مستعطفا: إنه رجل كبير سيئ الحظ، وبه مرض. - يظن نفسه باشا وقد مضى عهد الباشوات.
وقع قولها من أذني موقعا غريبا، فدار رأسي في دائرة سحرية قطرها قرن كامل. ••• - يأبون زيارة وزير الحقانية لأنه أفندي. - يا دولة الزعيم، لرجال القضاء مهابتهم! - إني فلاح قبل كل شيء، أما هم فشراكسة.
ثم ماضيا في تصميم: اسمع، طالما عيروني بالغوغاء ففاخرتهم بأنني زعيم الرعاع ذوي الجلاليب الزرق. اسمع، لا بد أن تتم الزيارة .. وبكل احترام. •••
حتى أنواع الويسكي حفظت أسماءها وهي تبتاعها من بقالة الهاي لايف. وكانت تقول لي: كلما طلبتها رمقتني الأبصار وضحكت الوجوه.
فرددت في نفسي «ليحفظك الله!» •••
يا لها من ضوضاء . الأصوات ليست بالغريبة ولكنها تصرخ محتدمة. ماذا يجري خارج الغرفة؟ غادرت الفراش والساعة تدق الخامسة مساء. تلفعت بالروب ومضيت إلى الخارج. لمحت طلبة وهو يختفي في حجرته ضاربا كفا على كف. رأيت زهرة جالسة مقطبة وشبه باكية مقوسة الظهر، والمدام واقفة أمامها في غاية من الكدر. ماذا هناك؟ قالت المدام لما رأتني: زهرة سيئة الظن جدا يا عامر بك.
تشجعت زهرة بحضوري فقالت بخشونة: أراد أن أدلكه!
بادرتها المدام: إنك لا تفهمين، إنه مريض، كلنا نعلم ذلك، في حاجة إلى تدليك، كان يسافر كل سنة إلى أوروبا، وما دمت لا تريدين فلن يرغمك أحد.
قالت زهرة بحدة: لم أسمع عن ذلك من قبل، دخلت حجرته بنية سليمة فرأيته منطرحا على وجهه شبه عار! - كفي يا زهرة، الرجل كبير، أكبر من والدك، ليس إلا سوء تفاهم، قومي فاغسلي وجهك وانسي الأمر كله.
جلسنا على كنبة من الآبنوس وحدنا. الهواء يصرخ في الخارج والنوافذ تصطك. غشانا صمت ثقيل مرهق، فقال المدام: هو الذي طلب. وأنا لا أشك في نيته.
تمتمت بلهجة ذات معنى: ماريانا!
تساءلت بحدة: أتشك في نيته؟ - العبث لا حدود له! - لكنه شيخ كما تعلم. - وللشيوخ عبثهم أيضا! - قلت إنها أولى بالنقود من أخرى غريبة. - إنها فلاحة.
ثم ذكرتها قائلا: وقد وضعتها في حماك! •••
وجاء طلبة فاتخذ مجلسه في بساطة البريء وانطلاقته. وراح يقول: الفلاح يعيش فلاحا ويموت فلاحا.
فقلت بضيق: دعها تعيش وتموت على ما فطرها الله عليه.
قال بامتعاض: قطة متوحشة، لا يغرك منظرها في الفستان، وجاكتة المدام الرمادية، إنها قطة متوحشة.
إني حزين من أجلك يا زهرة. أدرك الآن مدى وحدتك. وليس البنسيون بالمكان المناسب لك. المدام - حاميتك - لن تتورع عند أول فرصة عن اتهام براءتك.
وتساءل طلبة مرزوق بعد الكأس الأولى قائلا: من ذا يحدثني عن حكمة الله في خلقه؟
فهتفت ماريانا مرحبة بتغيير مجرى الحديث: حاسب أن تكفر يا طلبة بك!
فأشار إلى تمثال العذراء وسأل: خبريني يا سيدتي، لماذا رضي الله بأن يصلب ابنه ؟
فقالت بجد: لولا ذلك لحلت بنا اللعنة!
فضحك طويلا ثم قال: ألم تحل بنا اللعنة بعد؟
وكان يسترق إلي النظر وأنا أتجاهله حتى لكزني بكوعه وهو يقول: أيها الثعلب، عليك أن تصالحني مع زهرة. •••
نزيل جديد؟
شيء في وجهه الأسمر الواضح الملامح يشي بأنه فلاح، معتدل القامة في غير امتلاء، سمرته أميل إلى الغمق، له نظرة قوية، في الثلاثين من عمره. دعته المدام إلى مقعد من مائدة الإفطار وهي تقول: مسيو سرحان البحيري.
ثم قدمتنا إليه، وطلبت منه أن يزيدنا تعريفا بنفسه إن شاء، فقال بصوت قوي ذي طعم ريفي متمدن: وكيل حسابات شركة الإسكندرية للغزل.
وعقب خروجه ضحكت المدام معلنة عن سرورها وقالت: نزيل مقيم أيضا وبنفس الشروط.
ولم يكد يمضي أسبوع حتى جاء حسني علام للإقامة أيضا: وهو شاب يصغر سرحان بقليل، ربعة أبيض اللون، ذو بنيان متين يليق بمصارع، وقالت المدام: إنه من أعيان طنطا.
وأخيرا جاء منصور باهي مذيع بمحطة الإسكندرية، في الخامسة والعشرين، وقد أثر في وجهه الرقيق وقسماته الصغيرة الجميلة، أجل فيه شيء من الطفولة ولا أقول الأنوثة، ولكن بدا من أول الأمر أنه يعيش في ذاته عسير الألفة.
إذن قد شمل العمران الحجرات جميعا وطارت المدام من الفرح. وتوثب قلبي للترحيب والتعارف ولإشباع عواطفه المتعطشة. وقلت للمدام: شباب مرح جميل، فلعلهم لا يزهدون في مجلسنا العجوز.
فقالت بسرور: وليسوا طلبة على أي حال.
لم يتجاوز التعارف حدوده الرسمية، حتى اقتربت الليلة الأولى لموسم أم كلثوم فعلمت أنهم سيسهرون معنا حول الراديو وأنها ستكون ليلة طيبة عامرة بالشباب والغناء. •••
أعدوا فيما بينهم عشاء من الشواء وشرابا من الويسكي .. جلسنا حول الراديو وزهرة تقوم على خدمتنا كنحلة. الليلة باردة ولكنها صامتة لم نسمع للرياح فيها صوتا وقالت زهرة: إن السماء صافية وإنك تستطيع أن تعد النجوم. ودارت الكئوس وزهرة جالسة عند البارفان تراقبنا بنظرة باسمة. عانى طلبة مرزوق وحده قلقا خفيا. قال لي قبل السهرة بأيام: «سينقلب البنسيون جحيما.» إنه يخاف الأغراب، ولم يشك في أنهم يحيطون بتاريخه وظروف حراسته علما، إن لم يكن عن طريق الصحف فعن سبيل المذيع منصور باهي.
وكانت المدام كعادتها قد استخلصت منهم المعلومات الخليقة بأن تشبع تطفلها الأبدي: مسيو سرحان البحيري من أسرة البحيري!
لم أسمع عن الأسرة من قبل ولا بدا على طلبة مرزوق نفسه أنه سمع بها. - وقد دله صديق على البنسيون لما علم بضيقه بشقته القديمة.
وحسني علام؟ - مسيو حسني من أسرة علام بطنطا.
وخيل إلي أن طلبة يعرفها ولكنه تجنب الحديث ما أمكنه. - وهو يملك مائة فدان!
قالتها بزهو كأنها هي المالكة. - لم تزد ولم تنقص فالثورة لم تمسه.
وتهلل وجهها كأنما النجاة كانت لها. - وقد جاء الإسكندرية لينشئ لنفسه عملا.
هنا سأله سرحان: ولم لا تزرع أرضك؟
فقال باقتضاب: مؤجرة.
فتفحصه سرحان بنظرة مداعبة ثم قال: قل إنك لم تزرع في حياتك قيراطا.
وضحك ثلاثتهم ولكن برزت ضحكة حسني المجلجلة.
ثم أشارت المدام إلى منصور باهي وقالت: أما هذا فهو شقيق صديق قديم يعتبر من أحسن ضباط البوليس الذين عرفتهم الإسكندرية.
خيل إلي أن أشداق طلبة قد ازدادت انتفاخا. - وقد أشار عليه لدى نقله من الإسكندرية قريبا بالإقامة في بنسيون ميرامار.
مال طلبة نحوي منتهزا فرصة انشغالهم بالشراب وهمس: وقعنا في وكر للجواسيس!
فهمست له بدوري: لقد ولت أيام الوحشية، فلا تكن سخيفا.
وإذا بالسياسة تفرقع في السمر. وبدا سرحان متحمسا بلا حدود: لقد خلق الريف خلقا جديدا.
كان صوته يتغير تبعا لامتلائه بالطعام أو خلوه منه: كذلك العمال، إني أعيش بينهم في الشركة فتعالوا وانظروا بأنفسكم.
وسأله منصور باهي - إنه أميلهم للصمت وقد ينفجر ضاحكا كأنه شخص آخر: أتشتغل بالسياسة بالفعل؟ - من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي، واليوم فأنا عضو بلجنة العشرين وعضو مجلس الإدارة المنتخب عن الموظفين. - ألم تشتغل بالسياسة من قبل؟ - كلا.
وقال حسني علام: إني مقتنع تماما بالثورة؛ لذلك أعتبر ثائرا على طبقتي التي جاءت الثورة لتصفيتها.
فقال منصور باهي: على أي حال فالثورة لم تمسك. - ليس ذاك هو السبب ، فحتى فقراء طبقتنا قد لا يحبون الثورة.
وأخيرا قال منصور باهي: إني مقتنع تماما بأن الثورة كانت أرفق بأعدائها مما يجب!
والظاهر أن طلبة مرزوق ظن أنه إن لزم الصمت فقد يضره الصمت، لذلك قال: لقد حاق بي ضرر بالغ فأكون منافقا لو قلت إنني لم أتألم، ولكنني أكون أنانيا كذلك لو أنكرت أن ما عمل هو ما كان ينبغي أن يعمل. •••
عندما آويت إلى حجرتي قبيل الفجر لحق بي فسألني عن رأيي فيما قال، فأجبته بصوت غريب بعد أن نزعت طاقم أسناني: رائع. - أتظن أن أحدا صدقني؟ - لا يهم. - يحسن بي أن أبحث عن مقام آخر. - لا تكن سخيفا. - كلما سمعت ثناء على إجراءات قتلي تعرضت لأزمة روماتزم! - عليك أن تروض نفسك عليه. - كما تفعل أنت؟!
فقلت ضاحكا: إننا مختلفان منذ الأزل كما تعلم.
فمضى وهو يقول لي: أتمنى لك أحلاما مزعجة! •••
وقالت المدام ولم تكن تشارك في الشراب وقنعت من الطعام بشريحة شواء وكوب حليب دافئ: عيب ثومة أنها تبدأ في وقت متأخر!
ولكن الشبان نجحوا في التغلب على آلام الانتظار. وفجأني منصور باهي قائلا: إني أعرف من تاريخك الشيء الكثير.
اجتاحني فرح صبياني كأنما رددت إلى فترة من فترات الشباب، فمضى يفسر قوله: راجعت الصحف القديمة مرات وأنا بصدد إعداد برنامج إذاعي.
تطلعت إليه مستزيدا في اهتمام فقال: تاريخ طويل حقا، أسهمت بقدر ملحوظ في شتى تياراته، حزب الأمة، الحزب الوطني، الوفد، الثورة.
قبضت على الفرصة بجنون، مضيت به إلى رحلة في رحاب التاريخ، نوهت بمواقف لا يجوز أن تنسى، استعرضنا الأحزاب؛ حزب الأمة ما له وما عليه، والحزب الوطني ما له وما عليه، والوفد وحله للمتناقضات القديمة وقاعدته الشعبية من الطلبة والعمال والفلاحين، لماذا جنحت بعد ذلك للاستقلال، ثم لماذا أيدت الثورة. - ولكنك لم تهتم بالمشكلة الاجتماعية الجوهرية.
فقلت ضاحكا: لقد نشأت عهدا بالأزهر فلم يكن غريبا أن أعمل كمأذون شرعي رسالته في الحياة أن يوفق بين الشرق والغرب في الحلال! - أليس غريبا أن تحمل على النقيضين معا، أعني الإخوان والشيوعيين؟ - كلا، كانت فترة حيرة، ثم جاءت الثورة لتمتص خير ما فيهما معا. - إذن فقد انتهت حيرتك؟
أجبت بالإيجاب. ثم تذكرت حيرتي الخاصة التي لا تحل بحزب أو ثورة فرددت في نفسي الدعاء الذي لا يدري به أحد.
وآن الأوان فدفعت بقاربي المضطرب إلى بحر الأنغام والطرب. نشدته أن يكون من الأعضاء المتنافرة المتناحرة جسما ينبض بالروح والانسجام. نشدته أن يعلمني التوافق والتوازن في بناء ترعاه عين الحب والسلام. أن يصهر عذاباتي في نغمة تنعش القلب والعقل بجمال البصيرة. أن يسكب الشهد المصفى على عناد الوجود. •••
ألم تسمع بالخبر العجيب؟ .. لقد اجتمع مجلس النظار أمس بعوامة منيرة المهدية. ••• - شبان ظرفاء وأغنياء!
هكذا جعلت تردد ماريانا، وقد زادت أعباء زهرة ولكنها حملتها بهمة عالية حقا. أما طلبة مرزوق فراح يقول: إني لا أطمئن إلى أحد منهم.
فسألته ماريانا: ولا حسني علام؟
فواصل حديثه قائلا: سرحان البحيري أشدهم خطورة، لقد انتفع بالثورة إلى أقصى حد، ودعك من أسرة البحيري التي لم يسمع بها أحد، ثم إن كل مولود في البحيرة فهو بحيري، حتى زهرة فهي زهرة البحيري.
ضحكت كما ضحكت المدام. ومرت بنا زهرة في طريقها إلى الخارج لأداء واجب من واجباتها، فرأيتها مطوقة الرأس بإشارب أزرق ابتاعته بنقودها، تخطر في جاكتة المدام الرمادية، فاتنة من فاتنات الأعشاب الندية والزهور البرية. وعدت أقول: منصور باهي فتى ذكي، ما رأيك؟ ... لا يحب الكلمات الجوفاء، ويخيل إلي أنه ممن يعملون في صمت، ثم إنه من جيل الثورة الخالص. - ما الذي يدعوه، هو أو غيره، إلى الالتصاق بالثورة؟ - إنك تتكلم كأنما لا يوجد بالوطن فلاحون ولا عمال ولا شبان! - لقد سلبت البعض أموالهم وسلبت الجميع حريتهم.
فقلت ساخرا: إنك تتكلم عن حرية بالية، وحتى هذه لم تحظ باحترامكم أيام سطوتكم. •••
وأنا خارج من الحمام رأيت في الطرقة شبحين، زهرة وسرحان البحيري. في مهامسة أو مناجاة. لعله أراد أن يداري موقفه، فرفع صوته متحدثا في بعض الشئون التي تعد الفتاة مسئولة عنها . مضيت إلى حجرتي كأنما لا أرى ولا أسمع ولكن اجتاحني القلق. كيف تحافظ زهرة على راحة بالها في خلية غاصة بالشبان؟ وعندما جاءتني بقهوة العصر سألتها: أين تقضين عطلتك الأسبوعية مساء الأحد؟
أجابت بابتهاج: في السينما. - وحدك؟ - مع المدام.
قلت من قلب محب: فليحفظك الله!
ابتسمت قائلة: إنك تخاف علي كما لو كنت طفلة. - وإنك لطفلة يا زهرة. - كلا، تجدني في وقت الشدة كالرجال.
قربت وجهي من وجهها الجميل المحبوب وقلت: زهرة، هؤلاء الشبان لا يعرفون للهو حدودا، أما عند الجد ... وفرقعت بأصابعي، ولكنها قالت: حدثني أبي عن كل شيء. - إني في الواقع أحبك وأخاف عليك. - أنا فاهمة، لم أعرف رجلا مثلك منذ أبي، وأنا أحبك أيضا.
لم أسمع بكلمة الحب من قبل بهذه النعومة الرائقة. وكان من الجائز أن تخاطبني بها عشرات الأفواه البريئة لولا تهمة ألقيت بغباء، تهمة لا يمكن أن يقضي فيها أحد من الناس. •••
البرقع الأبيض.
خرجت العجوز من الباب إلى الحارة وهي تقول: هلمي، قد كف المطر.
تبعتها صاحبة البرقع الأبيض تمشي في حذر على أرض زلقة متجنبة نقرة مملوءة بماء المطر. عفى الزمان على ذكريات جمالها إلا الأثر. تنحيت جانبا وأنا أردد في نفسي سبحان الخلاق ذي النعم. واهتز الفؤاد من أعماقه، فقلت أتوكل على الله وخير البر عاجله. •••
في المدخل وحدنا وقد جلست تحت العذراء تعكس عيناها الزرقاوان نظرة مثقلة بالفكر. وكان المطر يهطل بلا توقف منذ الظهر والسحب تنتابها نوبات رعدية متفجرة. قالت المدام: مسيو عامر، إني أشم رائحة غريبة.
رمقتها بحذر فقالت باستياء: زهرة!
ثم بعد وقفة قصيرة: وسرحان البحيري!
انقبض صدري ولكنني تساءلت بسذاجة: ما تعنين؟ - أنت تفهم تماما ما أعني. - ولكن الفتاة ... - قلبي لا يخونني في هذه الأمور! - البنت طيبة وشريفة يا عزيزتي ماريانا. - مهما يكن من أمرها فإني لا أحب أن يلعب أحد من وراء ظهري!
إما أن تبقى زهرة شريفة وإما أن تعمل لحسابك. إني أفهمك تماما أيتها العجوز. •••
حلمت - وأنا مستغرق في القيلولة - بالمظاهر الدامية التي اقتحم الإنجليز على أثرها ساحة الأزهر. وفتحت عيني وأصوات المتظاهرين وطلقات الرصاص تدوي في رأسي. كلا، إنها أصوات من نوع آخر تجتاح البنسيون خارج حجرتي. ارتديت الروب وغادرت الحجرة وأنا من الانزعاج في نهاية. وجدت الجميع قد سبقوني إلى المدخل. البعض في حال استطلاع مثلي، أما سرحان البحيري فكان ثائرا متسخطا وهو يسوي الكرافتة وياقة القميص، كذلك زهرة كانت مصفرة الوجه من الغضب وقد تمزقت طاقة فستانها وراح صدرها يعلو وينخفض، على حين مضى حسني علام إلى الخارج بالروب آخذا معه امرأة غريبة وهي تصرخ وتسب، وقد بصقت في وجه سرحان البحيري قبل أن يغيبها الباب. وصاحت المدام: لا يجوز هذا في بنسيون محترم.
وجعلت تردد بحدة: «لا .. لا .. لا.»
ثم خلا المدخل إلا من ثلاثتنا - أنا وهي وطلبة مرزوق. سألت ولما أفق من النوم تماما: ماذا حدث؟
فأجابني طلبة مرزوق: لم أر أكثر مما رأيت إلا القليل.
وذهبت المدام إلى حجرة سرحان للاستماع فيما بدا، أما طلبة فواصل الحديث قائلا: يبدو أن صاحبنا البحيري دون جوان عتيد! - ما الذي حملك على هذا الظن؟ - ألم تر إلى المرأة وهي تبصق عليه؟ - ولكن من المرأة الغريبة؟ - امرأة، أي امرأة!
ثم وهو يضحك: امرأة جاءت تسعى وراء رجلها الهاجر!
وجاءت زهرة وهي ما زالت منفعلة فمضت تقول دون سؤال من أحد: فتحت الباب للأستاذ سرحان وإذا بامرأة تتبعه وهو لا يدري ثم اشتبكا في عراك حام. - ورجعت المدام فقالت وهي واقفة: الفتاة كانت خطيبته، أو هذا ما فهمته.
وضح كل شيء فيما أعتقد غير أن طلبة مرزوق سأل بخبث: وما دخل زهرة في الموضوع؟
فأجابت زهرة: أردت أن أخلص بينهما فتحولت إلي ثم كان ما كان.
فقال الرجل: إنك ملاكمة جبارة يا زهرة.
فقلت برجاء: فلنعتبر الموضوع منتهيا من فضلكم. •••
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .
سمعت يدا تنقر على الباب مستأذنة في الدخول. دخلت المدام باسمة ثم جلست أمامي على مقعد بلا ظهر أطرح عليه ساقي أحيانا. ثمة زوبعة كانت تعوي في المنور وأنا مدثر بالروب، والحجرة نعسانة في جوها شبه المظلم الذي لا يدل على وقت. قالت وهي تغالب ضحكة: إليك نبأ عجيبا ...
أغلقت الكتاب ووضعته على الكوميدينو وأنا أغمغم: ليكن سارا يا عزيزتي. - زهرة قررت أن تتعلم.
نظرت إليها ببلاهة ولم أفهم شيئا: حقا قررت أن تتعلم، قالت لي إنها ستغيب ساعة كل يوم لتتلقى درسا.
قلت: هذا مذهل حقا. - عندنا في العمارة بالدور الخامس أسرة فيها ابنة مدرسة اتفقت معها. - أكرر أنه قرار مذهل حقا. - من جانبي لم أعارضها وإن أشفقت على أجرتها التي ستستولي عليها المدرسة. - جميل منك هذا يا مدام، ولكني مذهول بكل معنى الكلمة.
ولما جاءتني زهرة بقهوة العصر قلت لها: تخفين عني أسرارك يا ماكرة!
قالت بحياء: لا أسرار تخفى عليك. - وقرارك عن التعليم؟ .. خبريني كيف فكرت في ذلك؟ - كل البنات تتعلم، إنهن يملأن الشوارع. - ولكنك لم تفكري في ذلك من قبل.
ضحكت بسرور فقلت: إنك قلت لنفسك إنك أجمل منهن، فلم يتعلمن ولا تتعلمين .. هه؟
جعلت تنظر إلي بابتهاج دون أن تنبس فقلت: ولكن ليس ذاك بكل شيء. - ماذا هناك أيضا؟
ترددت لحظة ثم قلت: هناك صاحبنا سرحان البحيري.
تورد وجهها وغضت البصر فقلت بإشفاق: أما التعليم ففكرة مدهشة وأما سرحان ...
ترددت في الإفصاح، فتساءلت: ما له؟ - هؤلاء الشبان طموحون.
قالت بامتعاض: كلنا أبناء حواء وآدم. - هذا حق ولكن ... - الدنيا تغيرت، أليس كذلك؟ - الدنيا تغيرت، ولكنهم لم يتغيروا بعد.
امتلأت نظرتها بالتفكير وهي تقول: بعد الكتابة والقراءة سأتعلم مهنة كالخياطة.
خفت إن تكلمت أكثر أن أجرح مشاعرها فسألتها: هل يحبك حقا؟
فأحنت رأسها بالإيجاب فقلت: ليحفظك الله ويسعدك.
ورحت أساعدها من حين لآخر وهي تدق باب المجهول، عالم الكلمات والأعداد . وعلم الجميع بقرارها وناقشوه طويلا ولكن لم يسخر منها أحد. على الأقل أمامها. كان الجميع يميلون إليها فيما أعتقد. كل على طريقته. وتابع طلبة مرزوق القضية فلم يخف عليه شيء من أسرارها، ثم قال لي: ما هو الحل السعيد لمشكلة زهرة؟ .. أن ينزل عندنا يوما منتج سينمائي. ما رأيك؟
فلعنت رأيه. •••
وذات أصيل ذهبت كالعادة إلى مجلسي بالمدخل فرأيت زهرة جالسة إلى جانب فتاة غريبة على الكنبة. من لمحة أدركت أنها المدرسة. فتاة ريفية وجميلة. وقد تكرمت بالحضور إليها بسبب وجود زوار في شقتها. وكالعادة كانت المدام قد استجوبتها وعرفت عنها بعض ما تتطلع إليه، فأخبرت بأنها تقيم مع والديها وأن لها أخا يعمل في السعودية. وتكرر حضور المدرسة للبنسيون، وكانت تثني على اجتهاد تلميذتها.
ولاحظت مرة - وزهرة قادمة بقهوة العصر - أنها متجهمة فسألتها عن الصحة فأجابتني بفتور: كالبغل! - والدروس؟ - لا شكوى من هذه الناحية.
فقلت بقلق: لم يبق إلا صديقنا البحيري!
وصمتنا بعض الوقت كأنما لنصغي إلى صوت المطر المنهمر، ثم قلت: لا أطيق أن أراك متألمة.
فقالت بامتنان: إني أصدقك. - ماذا حدث؟ - الحظ يعاندني. - قلت لك من أول يوم ... - ليس الأمر بالسهولة التي تتصورها!
ثم نظرت إلي بكآبة وقالت بانفعال: ما العمل؟ إني أحبه، ما العمل؟ - هل تبين لك كذبه؟ - كلا، إنه يحبني أيضا، ولكنه يتكلم دائما عن العقبات. - ولكن الرجل إذا أحب ...
فقالت بإصرار: إنه يحبني ولكنه دائما يتكلم عن العقبات.
فقلت بحنان: ولكن ما ذنبك أنت؟ يجب أن تعرفي لنفسك طريقا.
فمضت وهي تقول: ما قيمة أن أعرف ما يجب عمله ما دمت لا أستطيعه! ••• - يا سعادة الباشا، كيف هان عليك؟
فقاطعني قائلا: كان علي أن أختار بين أمرين، فإما الانتفاع ببنك التسليف الزراعي مع إعلان خروجي على الوفد وإما الخراب. - ولكن الكثيرين فضلوا الخراب.
فصاح غاضبا: صه .. إنك لا تملك قيراطا ولا ابن لك ولا بنت، ولقد ضربت واعتقلت في قشلاق قصر النيل، ولكن ابنتي أعز علي من الدنيا والآخرة. •••
قالت لي المدام هامسة: تعال معي، أهل زهرة حضروا.
مضيت معها إلى المدخل فرأيت شقيقة زهرة وزوجها جالسين والفتاة واقفة في وسط المكان تنظر إليهما في صلابة وعناد. وكان الرجل يقول: حسن أن تذهبي إلى المدام، ولكن عار أن تهربي.
وقالت أختها: فضحتنا يا زهرة في الزيادية كلها.
فقالت زهرة بغضب وحدة: أنا حرة ولا شأن لأحد بي. - لو كان جدك يستطيع السفر ... - لا أحد لي بعد أبي. - يا للعيب! .. هل كفر لأنه أراد أن يزوجك من رجل مستور؟ - أراد أن يبيعني. - الله يسامحك .. قومي معنا. - لن أرجع ولو رجع الأموات.
وهم زوج أختها بالكلام ولكنها بادرته: لا شأن لك بي!
وأشارت إلى المدام قائلة: إني أعمل هنا كما يعمل الشرفاء وأعيش من عرق جبيني.
خيل إلي أنهما يودان أن يصارحاها برأيهما في المدام والبنسيون وتمثال العذراء ولكنهما لا يستطيعان. وقالت المدام: زهرة ابنة رجل كنت أحترمه، إني أعاملها كابنة، فأهلا بها إن أرادت البقاء.
ونظرت المدام إلي كأنما تستحثني على الكلام، فقلت: فكري يا زهرة واختاري.
لكنها قالت بإصرار: لن أرجع ولو رجع الأموات!
انتهت الرحلة بالفشل فمضى الرجل بزوجته وهو يقول لزهرة: القتل لك حق وعدل.
وجعلنا نناقش الموضوع، ونقول ونعيد، حتى قالت لي زهرة: خبرني عن رأيك صراحة؟
فقلت: أتمنى أن ترجعي إلى قريتك! - أرجع للهوان؟ - قلت «أتمنى» يا زهرة .. أقصد أن ترجعي وأن يكون في الرجوع سعادتك. - إني أحب الأرض والقرية ولكني لا أحب الشقاء.
وانتهزت فرصة ذهاب المدام إلى بعض شأنها فقالت بحزن: هنا الحب والتعليم والنظافة والأمل.
أدركت أشجانها. لقد هاجرت مثلها مع والدي من القرية. وأحببت القرية مثلها ولكني ضقت بالعيش فيها. وعلمت نفسي كما تود أن تفعل. ورميت مثلها بتهمة باطلة فقال أقوام إني أستحق القتل. ومثلها فتنني الحب والتعليم والنظافة والأمل.
الله أسأل أن يجعل حظك أسعد من حظي يا زهرة. •••
دنا الخريف من نهايته، ولكن جو الإسكندرية يسير على هواه. وقد أنعمت بركاته علينا بصباح مضيء دافئ، فابتهج ميدان الرمل تحت أشعة الشمس الهابطة من سماء صافية الزرقة. ابتسم إلي محمود أبو العباس بائع الجرائد وأنا أقف أمام معرضه الملون بأغلفة المجلات والكتب، ابتسم وقال لي: سعادة البك!
ظننت أن ثمة خطأ في الحساب. نظرت إليه متسائلا وهو قائم أمامي بجسمه الفارع فقال: سعادتك تقيم في بنسيون ميرامار؟
أجبت بهزة من رأسي فقال: لا مؤاخذة، توجد في البنسيون بنت اسمها زهرة؟
أجبت بانتباه مفاجئ: نعم. - أين أهلها؟ - لكن لماذا تسأل؟ - لا مؤاخذة، أريد أن أخطبها.
فكرت قليلا ثم قلت: أهلها في الريف، وأظنها على خلاف معهم، هل فاتحتها في الأمر؟ - إنها تجيء أحيانا لشراء الجرائد ولكنها لا تشجعني على الكلام.
وزار المدام مساء اليوم نفسه ليطلب يد زهرة. وخاطبت المدام زهرة في الأمر بعد ذهابه. ولكنها رفضته بلا تردد ولا تفكير. ولما أعادت على مسمعنا - أنا وطلبة - الحكاية، قال الرجل: لقد أفسدتها يا ماريانا، نظفتها ولبستها ملابسك، وها هي تختلط بالشبان الممتازين فتلعب بعقولها الأحلام، وليس لذلك كله إلا نهاية محتومة واحدة.
وفي خلوتنا اليومية - عندما جاءتني بقهوة العصر - تحادثنا في الموضوع. قلت لها: كان يجب أن تفكري في الأمر.
فقالت محتجة: ولكنك تعرف كل شيء. - لا ضرر البتة من التفكير والمشاورة.
فقالت معاتبة: إنك تراني شيئا حقيرا لا يجوز له أن ينظر إلى فوق!
فلوحت بيدي معترضا وقلت: المسألة أنني أراه زوجا كفئا، هذا كل ما هناك. - سأعود معه إلى مثل حياة القرية التي هربت منها.
لم أرتح إلى حجتها، فواصلت حديثها قائلة: ومرة سمعته يتكلم مع صاحب له وهو لا يراني، فيقول له إن النساء تختلف في الألوان ولكنها تتفق على حقيقة واحدة، فكل امرأة حيوان لطيف بلا عقل ولا دين، والوسيلة الوحيدة التي تجعل منهن حيوانات أليفة هي الحذاء!
نظرت إلي كالمتحدية ثم تساءلت: أمن العيب أن أحب لنفسي حياة كريمة؟
لم أجد ما أقوله. ورغم تظاهري بالأسف فإنني شعرت بإعجاب بها لا يحد. لن أضايقك بنصائح العجائز. لقد كان سعد زغلول يستمع إلى نصائح الشيوخ، ولكنه اتبع غالبا آراء الشباب. ليحفظك الله يا زهرة! ••• - أحداث هامة تقع من حولك وأنت لا تدري أيها العجوز.
قال طلبة مرزوق ذلك وهو يبتسم ابتسامة خبيثة. كنا نجلس في المدخل وحدنا ولا أنيس لنا إلا صوت هطول المطر. سألته وأنا أتوقع أنباء سوء: ماذا هناك؟ - دون جوان البحيرة يدبر انقلابا في الخفاء.
همني الأمر لصلته بزهرة فسألته عما يعني فقال: غير الهدف القديم، وهو يسدد الآن بإحكام نحو هدف جديد. - تكلم بلا تلذذ بالمصائب. - حسن، جاء دور الأستاذة! - المدرسة؟ - بالضبط، لمحت نظرات متبادلة وأنا - كما تعلم - لي خبرة قديمة بهذه اللغة. - يا لك من رجل تتجسد له أفكاره الشريرة في صورة حقائق.
قال وهو يسخر ضاحكا، وشامتا: بابا عامر .. أدعوك إلى متابعة ألطف دراما في ميرامار!
عزمت على ألا أصدقه ولكن كدر صفوي القلق. وإذا بحسني علام يحدثنا في نفس اليوم عن معركة دارت بين سرحان البحيري ومحمود أبو العباس بائع الجرائد في ميدان الرمل. خمنت ما وراء المعركة من أسباب، ولكن تخيل تطوراتها كان فوق المستطاع. وقال حسني: تبادلا الضرب حتى خلص الناس بينهما.
فسأله طلبة مرزوق: هل شهدتهما وهما يتضاربان؟ - كلا، علمت بما كان بعد وقوعه بفترة وجيزة.
وتساءلت المدام بإشفاق: وهل وصل الأمر إلى القسم؟ - كلا، انتهى بسيل من السباب والوعيد.
ولم يشر سرحان إلى الواقعة فتجنبنا ذكرها. ورجعت أفكر فيما قال طلبة عن سرحان والمدرسة فاعتراني غم ونكد.
الوفاء عند الملاح صدف
أسعفيني يا دموع العين
واستعدناها مرات ومرات بالتصفيق والهتاف، فراح يغني حتى مطلع الفجر. كنت ليلتها مكتظا بالشباب والقوة والطعام والخمر. والقلب يعاني وحده أسرار الشجن.
حلمت بوفاة أبي.
كنت مستغرقا في النوم في الهزيع الأخير من الليل. رأيتهم وهم يحملونه من رواق مسجد أبي العباس حيث أدركته الوفاة ثم يمضون به إلى البيت. بكيت. ودوى في أذني صوات أمي. ومضى يدوي حتى فتحت عيني.
يا إلهي! ماذا يحدث في الخارج؟ كالمرة السابقة؟ لقد انقلب بنسيون ميرامار إلى ميدان قتال. ولكن عندما غادرت حجرتي كان كل شيء قد انتهى . ولمحتني ماريانا فأقبلت نحوي كالمستغيثة فدخلنا الحجرة وهي تهتف: لا .. لا .. فليذهبوا جميعا إلى الجحيم.
نظرت إليها بعيني المثقلتين بالنوم فقصت علي القصة الجديدة. استيقظت على صوت عراك، غادرت حجرتها فوجدت سرحان البحيري وحسني علام وهما يتضاربان. - حسني علام؟! - نعم، لم لا، يجب أن يأخذ كل نصيبه من الجنون.
فسألتها بامتعاض: ولكن ما السبب؟ - آه، فلنرجع خطوة إلى الوراء، إلى حادثة لم أشهدها لأني كنت مثلكم مستغرقة في النوم. - وهي؟ - قالت زهرة: إن حسني علام رجع من الخارج سكران فحاول أن ... - لا! - إني أصدقها يا مسيو عامر. - وأنا أيضا، ولكن حسني لم يلاحظ عليه أنه ... - لا يمكن أن نلاحظ كل شيء. وقد استيقظ سرحان في الوقت المناسب، فكان ما كان. - يا للأسف!
مسحت على عنقها كأنما لتزيل عنه الألم الذي ألم بأوتار صوتها من الزعق، ورجعت تقول: لا .. فليذهبوا إلى الجحيم.
فقلت بامتعاض: على الأقل يجب أن يذهب حسني علام.
لم تعلق على قولي، بل ولم تتحمس له، ثم غادرت الحجرة متجهمة.
ولما جاءتني زهرة عصر اليوم التالي تبادلنا نظرات ذات معنى. غمغمت: أسفت جدا يا زهرة.
فقالت بسخط: رجال بلا شهامة. - للحق إن المكان لا يليق بك. - بوسعي دائما أن أدافع عن نفسي، وقد فعلت. - ولكن ليست هذه بالحياة المطمئنة التي ترجى لبنت طيبة مثلك.
فقال بعناد: يوجد أرذال في كل مكان، حتى في القرية. •••
غادرت البنسيون عقب أيام حبست فيها داخله لشدة البرد وثورة الرياح وانهلال المطر. كانت أياما فظيعة فانطوينا على أنفسنا في الحجرات، ولكن لم يكف الجو عن مهاجمتنا في قواقعنا، لطمت المياه النوافذ، وزلزلت الجدران بصواعق الرعد، وومض البرق كالنذر، وصرخت الرياح كعزيف الجان.
ولما غادرت البنسيون استقبلني الوجه الآخر للإسكندرية، الذي أفرخ غضبه. وثاب إلى وداعته، تلقيت الشعاع الذهبي المغسول بامتنان، نظرت إلى الأمواج وهي تتتابع في براءة، على حين نقشت السماء بسحائب صغيرة متهافتة كالأنفاس المترددة. جلست في التريانون لأشرب القهوة باللبن. كما كنت أجلس في الأيام الخالية مع الغرابلي باشا والشيخ جاويش ، ومدام لبراسكا الإفرنجية الوحيدة التي جربتها وسط طوفان من الملاءات اللف! جلس معي طلبة مرزوق بعض الوقت ثم انصرف إلى بهو وندسور لمقابلة صديق قديم. وإذا بسرحان البحيري يقبل نحوي فيسلم ويجلس ثم يقول: فرصة سعيدة. دعني أودعك فقد لا ألقاك وأنا أغادر البنسيون.
سألته بدهشة: هل عزمت على الرحيل؟
فأجاب بصوته العريض: نعم، انتهت الإقامة، ولو ذهبت دون أن أودعك لأسفت على ذلك طيلة العمر!
شكرت له رقته، ولكني وجدت أسئلة تلح علي، غير أنه لم يهبني فرصة لمزيد من الكلام إذ يلوح بيده لشخص قادم ثم صافحني وذهب.
وسألت نفسي في قلق وكآبة: ماذا عن زهرة؟ •••
قبض بشدة على قضبان قفص الاتهام وهو يستمع إلى النطق بالحكم ثم صاح بأعلى صوته في المحكمة: يا فرحتك في يا دنف، يا فرحتك في يا نعيمة يا ضباطي! •••
ولما رجعت إلى البنسيون وجدت المدام وطلبة مرزوق وزهرة مجتمعين في المدخل، مغلفين بكآبة أبلغ في إفصاحها عن أي تفجع أو ندب! جلست صامتا وقد وضح لي ما وددت أن أسأل الآخر عنه. قالت المدام: تكشف أخيرا ذاك السرحان عن حقيقته.
تمتمت: قابلني منذ ساعات في التريانون فأخبرني بأنه سيغادر البنسيون. - الحق أني طردته!
ثم وهي تشير نحو زهرة: هاجمها بلا حياء، ثم أعلن بأنه ذاهب ليتزوج من المدرسة.
نظرت إلى طلبة فنظر إلي وقال ساخرا: أخيرا استقر رأيه على الزواج!
وقالت المدام: لم يرتح له قلبي أبدا، من أول نظرة فهمته، شرير لا خلاق له.
ثم واصلت حديثها: أراد مسيو منصور باهي أن يناقشه وإذا بمعركة جديدة تنشب فجأة، عند ذاك صرخت في وجهه أن يخرج إلى غير رجعة.
نظرت إلى زهرة بإشفاق، أيقنت أن اللعبة قد انتهت، وأن الوغد قد ذهب بلا جزاء. وغضبت غضبة كغضبات الأيام المريرة ثم قلت لزهرة: إنه وغد لا يستحق أن تأسفي عليه!
ولما خلوت إلى طلبة قلت له: ليتها تقبل الزواج من محمود أبو العباس!
فقال لي بلهجة من يوقظ محدثه من غفلة: يا رجل ، أي محمود! ألم تدرك بعد أنها فقدت الشيء الذي لا يعوض؟
قطبت محتجا، وقد أخذت في الوقت نفسه، فقال ساخرا: أين عقلك أيها العجوز؟ .. وأين فطنتك؟ - ليست زهرة كالأخريات. - الله يرحمك!
وبقدر ما حنقت عليه بقدر ما اجتاحني الشك. وقلت لنفسي بحزن عميق: يا للخسارة!
وعاد طلبة يقول: المدام أول من نبهني، ولكني لم أكن في حاجة إلى تنبيه. - امرأة سوء! - إنها كما تعلم على استعداد دائما لحمايتها أو لاستغلالها.
فقلت بغيظ: لا هذا ولا ذاك، أقسم على ذلك.
وجاء لقاء العصر حزينا مؤثرا. رجتني ألا أذكرها بنصائحي القديمة وألا ألوم أو أعتب. تبرأت من ذلك كله وقلت إن عليها أن تواجه مستقبلها بشجاعة هي جديرة بها. - ترى هل يفتر حماسك للتعليم؟
فقالت بتصميم وبلا أدنى ابتهاج: سأجد مدرسة أخرى.
فهمست: وإن احتجت إلى أي مساعدة ...
مالت نحوي حتى لثمت منكبي ثم عضت على شفتها لتمنع الدموع. مددت يدي المعروقة المدبوغة حتى مسحت بحنان شعرها الأسود وتمتمت: ليحفظك الله يا زهرة! •••
لزمت حجرتي تلك الليلة مذعنا لإحساس شامل بالإعياء، وأقعدني التعب بضعة أيام أخر. وجعلت المدام تحثني على مقاومة الضعف لأشهد ليلة رأس السنة الجديدة. وفي سياق ذلك سألتني: نقضيها في المونسنيير كما يقترح طلبة بك أم نقضيها هنا؟
غمغمت في فتور: هنا أفضل يا عزيزتي.
كم احتفلت بها في صولت وجروبي وألف ليلة وحديقة لبتون. وقد مرت بي عاما وأنا معتقل في سجن القلعة الحربي. •••
وفي صباح اليوم الثالث لاعتكافي اقتحمت المدام غرفتي في غاية من الانزعاج ثم قالت لاهثة: أما سمعت بالخبر؟
ثم وهي تغوص في المقعد الكبير: قتل سرحان البحيري!
هتفت: هه! - وجد قتيلا في طريق البالما!
ولحق بها طلبة مرزوق قابضا بعصبية على الجريدة وهو يقول: خبر مزعج جدا، وقد يجر علينا متاعب لم تكن في الحسبان!
وجعلنا نتبادل النظر والرأي دون جدوى. استعرضنا كافة الاحتمالات، فكرنا في خطيبته الأولى، حسني علام، منصور باهي، محمود أبو العباس، وحتى قالت المدام: قد يكون القاتل شخصا آخر لا يخطر لنا ببال.
فقلت: لم لا، نحن لا نكاد نعرف عن الشاب شيئا، لا عن حياته ولا علاقاته ولا ظروفه.
فقالت المدام بقلق: كم أتمنى أن يكتشفوا القاتل عاجلا وأن يكون بعيدا عنا كل البعد، وألا أرى وجه رجل من البوليس.
فأيدها طلبة مرزوق قائلا: كم أتمنى ذلك أيضا!
وسألت عن زهرة فتنهدت المدام قائلة: صعقت المسكينة، صعقت بكل معنى الكلمة.
قلت بحزن: ألا يمكن أن أراها؟ - إنها منهارة تماما في حجرتها وقد أغلقت الباب.
وعدنا نتبادل الرأي والنظر دون جدوى.
أخيرا أغمضت عيني فتردد في خاطري:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام * فبأي آلاء ربكما تكذبان .
حسني علام
فريكيكو .. لا تلمني.
وجه البحر أسود محتقن بزرقة. يتميز غيظا. يكظم غيظه. تتلاطم أمواجه في اختناق. يغلي بغضب أبدي لا متنفس له.
ثورة. لم لا؟ كي تؤدبكم وتفقركم وتمرغ أنوفكم في التراب. يا سلالة الجواري، إني منكم وهو قضاء لا حيلة لي فيه. وقد عرفتني ذات العين الزرقاء بقولها: «غير مثقف، والمائة الفدان على كف عفريت.» وقبعت تنتظر ثورا آخر.
الكورنيش لا يرى من شرفة سيسل. إن لم أنحن فوق السور فلا سبيل لرؤيته. البحر يمتد مباشرة كأنما أراه من سفينة. وهو يترامى حتى قلعة قايتباي محصورا بين سياج الكورنيش وذراع حجري يضرب في الماء كالغول. بينهما يختنق البحر. يتلاطم موجه في تثاقل وهو كظيم. بوجه أسود ضارب للزرقة منذر بالغضب. يضطرم بباطن محشو بأسرار الموت ونفاياته.
أما الغرفة فتنطبع بسحنة كلاسيكية. تذكرني بسراي آل علام بطنطا؛ لذلك أضيق بها. وقد غرب مجد الريف وجاء عصر الشهادات يحملها أبناء السفلة. حسن، لتكن ثورة. ولتدككم دكا. إني أتبرأ منكم. سأنشئ عملا. أتبرأ منكم يا فتات العصور البالية.
فريكيكو .. لا تلمني. •••
ذات يوم - ومحمد النوبي يقدم لي الإفطار في الحجرة - خطر لي أن أقول له: كم أشعر بالضجر في فندقكم العظيم!
عادة قديمة لي أن أقيم علاقات طيبة مع خدم الفنادق التي أنزل بها، بالمؤانسة والسخاء، لحين الحاجة إليهم ! وإذا بالرجل يسألني: هل تقيم في الإسكندرية مدة طويلة؟ - جدا! - أليست الإقامة في بنسيون معقول أفضل لك في تلك الحال؟
نظرت إليه مستطلعا، فقال: هناك بنسيون نظيف ومعقول. ستجد فيه تسلية أكثر ونفقات أقل، ولكن ليكن ذلك سرا بيننا.
ظريف ومفيد وخائن. يخدم في جهة ويعمل لحساب أخرى ككثيرين من مواطني الأعزاء. وحق أن للبنسيون جوا عائليا حميما، وهو أنسب لمن يفكر في مشروع جديد. وهل ساقني إلى سيسل إلا عادة قديمة متأصلة وكبرياء لم يخفف من غلوائه بعد! •••
فتحت شراعة الباب عن وجه جميل. أجمل مما يليق بخادمة. أجمل مما يليق بسيدة. يا لها من شابة مليحة. وسوف تعشقني من النظرة الأولى. - نعم؟
فلاحة؟ عجبا. ليدفن سيسل في جوف الأمواج السوداء. - من طرف محمد كامل بفندق سيسل.
أجلستني في المدخل ومضت إلى الداخل. جعلت أنظر إلى الصور كمقدمة لمعرفة أصحابها. من هذا الضابط الإنجليزي؟ ومن الحسناء المتكئة على ظهر الكرسي؟ جميلة ومثيرة. ولكنها قديمة، موضة الفستان تقطع بأنها كانت معاصرة للعذراء.
وجاءت عجوز مضيئة مذهبة. صاحبة البنسيون بلا ريب. الطراز الكامل لقوادة إفرنجية متقاعدة. أو غير متقاعدة كما أرجو. وتلك صورتها قبل أن يخربها الزمن. ها هي الأمور تتضح. لقد ترجم محمد كامل شكواي من الضجر بلغته الخاصة. وخيرا فعل. وكلما توفر الترفيه تهيأ الجو للتفكير في المشروعات الجديدة. - حجرة خالية يا مدام. - كنت تقيم في سيسل؟
بهرها ذلك بلا شك. تمنيت أن ترجع إلى الوراء أربعين عاما. وأجبت بالإيجاب، فسألت: كم يوما؟ - على الأقل شهر، وقد يمتد عاما. - إلا أشهر الصيف فلا بد من اتفاق خاص. - ليكن ... - طالب؟ - من الأعيان.
جاءت بالسجل وهي تسألني عن اسمي، فقلت: حسني علام.
غير مثقف وذو مائة فدان على كف عفريت، وسعيد الحظ لأنه لم يعرف الحب الذي يتغنى به المطربون. •••
حجرة مقبولة بنفسجية الجدران. ها هو البحر يترامى في زرقة صافية حتى الأفق. ونسائم الخريف تلاعب الستائر، وفي السماء قطعان مبعثرة من السحائب. التفت نحو الفلاحة وهي تفرش السرير بالملاءات والأغطية . جسمها قوي رشيق مفصل المحاسن، وإن صدق ظني فهي لم تحبل، ولم تجهض بعد. على أي حال، من المستحسن أن أتأنى حتى أحيط بأسرار المكان. - اسمك يا حلوة؟
أجابت بوجه جاد: زهرة. - عاش من سمى.
شكرتني برأسها وبلا ابتسامة. - يوجد في البنسيون نزلاء آخرون؟ - رجلان وشاب مثل حضرتك. - وأي اسم أختار لك للدلاعة؟
أجابت بأدب ودون تشجيع: اسمي زهرة.
جادة أكثر مما يليق. سوف تكون زينة أي شقة أستأجرها في المستقبل. وهي أجمل من قريبتي الحمقاء التي قررت أن تختار عريسها على ضوء الميثاق.
فريكيكو .. لا تلمني. ••• - أأنت جاد فيما تقول؟ - طبعا يا عزيزتي. - ولكنك في رأيي لا تعرف الحب. - أريد أن أتزوج كما ترين. - يخيل إلي أنك لا يمكن أن تحب. - أريد أن أتزوج منك، ألا يعني هذا أنني أحبك؟
ثم قلت وأنا أراوغ الغيظ والغضب: وإني كفء للزواج، أليس كذلك؟
بعد تردد قالت: ما قيمة الأرض الآن؟
حملت نفسي مسئولية الموقف المهين ثم مضيت وأنا أقول: سأتركك لتفكري في هدوء. •••
على مائدة الإفطار تم التعارف بيني وبين النزلاء الآخرين. عامر وجدي صحفي متقاعد في الثمانين على أقل تقدير، نحيل مع ميل إلى الطول، وذو صحة يحسد عليها، ووجهه المتجعد الغائر العينين البارز العظام لم يدع للموت شيئا يلتهمه. كرهت منظره، وعجبت كيف يبقى حيا على حين تهلك أجيال من الشباب كل يوم.
طلبة مرزوق لم يكن بالغريب علي. وقد علق عمي ذات يوم بعطف على وضعه تحت الحراسة، ولكني لم أشر إلى ذلك بطبيعة الحال. كنا وما زلنا نتابع أخبار الحراسة بشغف شهواني مخيف كأفلام الرعب. وقد سألني: من آل علام بطنطا؟
أجبت بالإيجاب، وبسرور خفي، فقال: عرفت والدك. كان مزارعا ممتازا.
ثم التفت إلى عامر وجدي - وكان يغادر المائدة - وقال ضاحكا: ولم يقع - رحمه الله - طويلا تحت تأثير المهرجين.
ولما أدرك أنني لم أفهم ما يعنيه قال: أقصد الوفديين.
فقلت بعدم اكتراث: مدى علمي أنه كان وفديا عندما كانت البلاد كلها وفدية.
أمن على قولي، ثم عاد يسألني: أظن لك إخوة وأخوات؟ - أخي قنصل بإيطاليا، وأختي زوجة لسفيرنا في الحبشة.
فتحرك شدقاه حركة راقصة ثم سألني: وأنت؟
كرهته في تلك اللحظة حتى وددت له الموت غرقا أو حرقا، ولكنني أجبت باستهانة: لا شيء. - ألا تزرع أرضك؟ - إنها مؤجرة كما تعلم ولكني أفكر في إنشاء عمل جديد.
كان يتابعنا سرحان البحيري - النزيل الثالث ووكيل حسابات شركة الإسكندرية للغزل - وكذلك المدام العجوز. وسألني سرحان: أي عمل؟ - لم أستقر على رأي بعد. - أليس الأضمن أن تبحث لك عن وظيفة؟
كرهته في تلك اللحظة هو الآخر. به لهجة ريفية خفيفة لصقت به كرائحة طعام في إناء لم يحسن غسله. وهو حيوان لا يسع مرفت أن تصمه بأنه غير متعلم أو غير مثقف. وإذا سولت له نفسه أن يسألني عن شهادتي فسأقذفه بقدح الشاي. ••• - من أين جاءك هذا الحماس للثورة؟ - هذا ما أعتقده يا عمي. - لا أصدقك. - بل صدقني بلا تردد.
ضحك ضحكة فاترة وقال: الظاهر أن اعتذار مرفت قد أطاح بعقلك.
فقلت باستياء: الزواج كان فكرة عابرة.
فقال باستياء أيضا: رحم الله والدك، أورثك عناده دون حكمته! •••
وكم أغراني الغيظ بالهجوم على الثورة ممثلة في شخص سرحان المنتفع بها بلا شك، ولكني لم أستسلم للتهور. وسألتني المدام العجوز: لم لا تحدثنا عن مشروعك؟ - لم أجده بعد. - إذن فأنت غني؟
ابتسمت بثقة دون أن أجيب فراحت تنظر إلي باهتمام. •••
غادرت البنسيون أنا وسرحان فحملنا المصعد معا. جعل ينظر إلي بعينين باسمتين داعيتين إلى مزيد من التعارف، فخف سخطي عليه درجات. وقال وكأنه يصحح خطأه دون شعور منه: الوظيفة اليوم أضمن مما عداها، ولكن العمل الحر إذا اختير بحكمة ...
تركنا المصعد قبل أن يتم جملته ولكن لهجته المؤيدة أغنت عن الكلام. وافترقنا فمضى نحو محطة الترام، ومضيت نحو الجراج. مررت أمام مقهى الميرامار القائم أسفل العمارة فتذكرت جلوسي به مع عمي في الأيام الخالية، وقبل وقوع الكارثة. كان يذهب إليه في الأصائل ليدخن النارجيلة، فيجلس متلفعا بعباءته الخفيفة كملك متنكر في ثياب العامة ، يتوسط مجموعة من الشيوخ والنواب والأعيان! أجل تلك أيام خلت، ولكنه يستحق أكثر مما حاق به.
استقللت سيارتي الفورد بلا هدف معين سوى رغبتي الأبدية في التجوال والسرعة. وقلت لنفسي إنه من المستحسن ألا أنبذ سرحان البحيري؛ فقد أجد نفعا في خبرته ومعارفه بالمدينة. وانطلقت بالسيارة إلى الأزاريطة فالشاطبي فالإبراهيمية إلخ، في سرعة خاطفة استجابت لها أعصابي المتوثبة. اخترقت هواء نشيطا لطيفا منعشا تحت سماء ظللها الغمام. وبدا الكورنيش المحفوف بزرقة البحر نظيفا نقيا، قد تطهر من عرق المصيفين وصخبهم، وقلت بتصميم لن أعود إليك يا طنطا إلا لأقبض نقودا أو لأبيع أرضا، فلتذهبي بذكرياتك إلى الجحيم.
ملت إلى مستعمرة السيوف ثم مرقت إلى شارع أبي قير، سيد الشوارع، فازددت سرعة وطربا وتحديا. وتساءلت بأسى: أين الأوروبيات .. أين الجمال .. أين سبائك الذهب؟ وحضرت الحفلة الصباحية بسينما مترو. غازلت فتاة في الاستراحة أمام البوفية. تناولنا الغداء في عمر الخيام. نمنا القيلولة معا في مسكنها بالإبراهيمية. عدت إلى البنسيون عصرا وقد نسيت اسمها تماما. كان المدخل والصالة خاليين فأخذت دشا، وتحت الماء تذكرت الفلاحة المليحة. ولما عدت إلى حجرتي طلبت قدح شاي لأراها من جديد. وقدمت لها قطعة شيكولاتة فترددت، ولكني ألححت عليها قائلا: كيف لا ونحن أسرة واحدة!
وجعلت أنظر إليها بسرور وهي تنظر إلي بلا ارتباك أو تنظر إلى الأرض. خائفة؟ .. ماكرة؟ - زهرة، هل يوجد مثلك كثيرات في الريف؟
قالت متجاهلة مقصدي: لا عد لهن ولا حصر. - ولكن كم منهن جميلة مثلك؟
فشكرت لي هدية الشيكولاتة وذهبت خائفة؟ ماكرة؟ على أي حال، لست بحاجة إليها الآن. ومن حقها شيء من التمنع والدلال. ومن حقها كذلك أن أعترف بأنها فائقة الجمال.
فريكيكو .. لا تلمني. •••
نظرت طويلا إلى صورة المدام القديمة حتى ضحكت متسائلة: تعجبك؟
وقصت علي قصة زواجها الأول، ثم الثاني. - كيف تراني الآن؟
فقلت وأنا أرى عروق معصمها النافرة وبشرتها المتكاثفة كقشرة السمكة: جميلة كما كنت!
فقالت بتسليم: المرض كبرني قبل الأوان.
ثم بلا تمهيد: ولكن هل من الحكمة أن تجازف بنقودك في مشروع جديد؟ - لا بأس بذلك أبدا. - وإذا استولت عليه الحكومة؟ - توجد أعمال مضمونة.
خمنت أنها تتردد في زحزحة البلاطة فقلت معابثا: ما أجمل أن نشترك معا في عمل مثمر!
تظاهرت بالدهشة وقالت ضاحكة: أنا! .. أوه .. البنسيون لا يجيء إلا بالكفاف!
وانضم إلى مجلسنا قلاوون الصحافة. جاء متدثرا في روب سميك. ووجدته بشوشا رغم شيخوخته الكريهة. وقال كمن يعلق على حالي وحاله: الشباب يبحث عن المغامرة، الشيخوخة تنشد السلامة.
تمنيت له صحة طيبة فسألني: أجئت الإسكندرية من أجل المشروع؟
فأجبته بالإيجاب، فعاد يسأل: وهل أنت جاد في سعيك؟ - لقد ضقت بالفراغ.
فردد قائلا:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
ولكني أكره الشعر كما أكره سيرة الشهادات. وشعرت باستعلاء فارس تركماني يعيش بين رعاع. حق قد صقل الحظ بعضهم. نفس الحظ الذي ينفخ شمعتنا لتنطفئ. وقلت لنفسي إن الثورة ظاهرة غريبة مثل الكوارث الطبيعية. وإنني كمن يستقل سيارة فارغة البطارية.
وإذا بشاب جديد يظهر من وراء البارفان متجها نحو الباب الخارجي فدعته المدام للجلوس وقدمته إلينا قائلة: مسيو منصور باهي.
مذيع في محطة الإسكندرية. شهادة عالية جديدة، ووجه وسيم دقيق، ولكنه خلو من الرجولة. وهو أيضا من الرعاع المصقولين. وفي تحفظه ما يغري بلكمه. وقد سألت المدام بعد ذهابه: نزيل عابر أم مقيم؟
فقالت بتيه: مقيم يا عزيزي، أنا لا ينزل عندي العابرون.
ورجعت زهرة من الخارج بحافظة من البلاستيك مثقلة بالبقالة. تابعتها وهي تمضي بنهم. البلد مكتظة بالنسوان، ولكن البنت مثيرة لغرائزي.
فريكيكو .. لا تلمني. ••• - أخيرا وقعت في الحب؟ - طانط .. لا حب ولا هيام .. لكنها فتاة ممتازة .. ومن لحمي ودمي .. وأنا أريد أن أتزوج. - على أي حال فأنت شاب تتمناك أي فتاة. •••
ليلة أم كلثوم متوجة حتى في بنسيون ميرامار. أكلنا وشربنا وضحكنا. خضنا في كل موضوع حتى في السياسة. لكن الخمر نفسها لم تستطع أن تقهر عاطفة الخوف. صال عامر وجدي وجال فحكى على الربابة أساطير مجد لا شاهد عليها إلا ضميره. صمم الرجل الخرب على إقناعنا بأنه بطل قديم، وإذن فلا يوجد إنسان عادي في هذه الدنيا اللعينة. كذلك لا يوجد فرد واحد غير متحمس للثورة. حتى طلبة مرزوق، حتى حضرتي. علينا بالحذر. سرحان منتفع ومنصور غالبا مرشد، حتى العجوز فمن يدري، والمدام نفسها لا يبعد أن تكلفها جهات الأمن بنوع من المراقبة. ولما جاءتني زهرة بزجاجة صودا سألتها: وأنت يا زهرة .. تحبين الثورة؟
فقالت المدام: أوه .. انظر إلى الصورة المعلقة في حجرتها!
هل أعتبر ذلك إذنا بالتسلل إلى الحجرة؟ ورغم أن الويسكي صهرنا في بوتقة ألفة حميمة إلا أنني شعرت بأنها عابرة، وستظل عابرة. لن تقوم صداقة حقيقية بيني وبين سرحان أو منصور. مودة عابرة ستمضي كما مضت البنت التي التقطتها من بوفيه مترو. وقلت لنفسي إن علي أن أجد عملا أفرغ فيه طاقتي وأملأ به وقتي، وإلا تعرضت لأن أرتكب حماقة خرقاء أو جريمة قتل تناسب المقام. ومن المسلم به أنني سأبقى عازبا إلى الأبد كي لا أرتطم بلفظة «لا» مرة أخرى، ولأنه لن توجد الفتاة الكفء لي في مجتمعنا النامي. يمكن بعد ذلك أن أعتبر جميع النساء حريما متنقلا لمزاجي، إلى خادمة ممتازة لملء فراغ شقتي المستقبلة؛ خادمة مثل زهرة، بل هي زهرة بالذات. وسوف ترحب بذلك بكل امتنان. ستمارس مهنة ست البيت مع الإعفاء من متاعب الحمل والولادة والتربية. وهي جميلة، وسوف تروضها حقارة أصلها على تحمل نزواتي وغرامياتي اللامتناهية. وإذن فالحياة مقبولة رغم كل شيء، وواعدة بمسرات لا بأس بها.
وبالغ سرحان في حكي النوادر حتى سقطت قلوبنا من الضحك. ومنصور قد ينفجر ضاحكا ثم سرعان ما يتقهقر إلى قوقعته. •••
اسمعوا ... اقرءوا ... هذا حكم بالإعدام ... هل يقف الإنجليز مكتوفي الأيدي حتى تجتاحنا الشيوعية! •••
بدأ الغناء. بدأ السماع. كالعادة شملني توتر. أجل، إني أستطيع أن أتابع مقطعا أو مقطعين ثم يدركني التشتت والملل. ها هم يهيمون في الطرب. وها أنا أغرق في وحدة. والذي أدهشني حقا أن المدام تحب أم كلثوم كالآخرين. ولعلها لاحظت دهشتي فقالت: سمعتها عمرا طويلا.
وراح طلبة مرزوق يستمع بعمق، ثم مال إلى أذني هامسا: من نعم الله أنهم لم يصادروا أذني!
أما قلاوون فقد أغمض عينيه وراح يسمع أو راح في سبات. استرقت النظر إلى زهرة فوق مقعدها عند البارفان. جميلة حقا ولكن هل تسمع؟ فيم تفكر؟ أي أمل يراودها؟ هل تحيرها الحياة كما تحيرنا؟ ومضت بغتة إلى الداخل والجميع بالطرب سكارى، فقمت إلى الحمام لألتقي بها في الطرقة، داعبت ضفيرها وهمست: لا شيء أجمل من الطرب إلا وجهك.
جفلت في صلابة فتقدمت منها لأضمها إلى صدري، ولكني توقفت أمام نظرة باردة منذرة. - طال انتظاري يا زهرة!
تراجعت بخفة ثم ذهبت إلى مقعدها. حسن. في سراي علام بطنطا عشرات من أمثالك، ألا تفهمين؟ أم ترين ثقافتي دون الكفاية يا روث الجاموسة؟ رجعت إلى مجلسي. وبتأوهات مفتعلة إعجابا بغناء لا أتابعه داريت غيظي. ثم وثبت بي رغبة ملحة في الجهر برأيي لأكون صادقا مع نفسي ولو مرة واحدة في السهرة الطويلة، ولكني لم أفعل. وفي الاستراحة انتهزت فرصة التفرق المؤقت للمجتمعين، فغادرت البنسيون.
انطلقت بالسيارة إلى كيلوباترا. كان الجو باردا عاصفا ولكنني كنت مشتعلا بحرارة الخمر. قصدت مسكن قوادة مالطية كنت أتردد عليها في ليالي الصيف. وقد دهشت لحضوري بعد انتصاف الليل وفي ذلك الوقت الموحش المقفر من العام. وقالت لي: لا أحد في البيت سواي، ولا أستطيع أن أدعو واحدة الآن.
وقفت أمامي في قميص النوم، في الخمسين أو أكثر، بدينة مترهلة، لا تخلو من مسحة أنثوية، وثمة زغب يعلو شفتها كالشارب. دفعتها إلى حجرتها وهي تقول بدهشة: ما هذا! .. لست مستعدة.
فقلت ضاحكا: لا أهمية لذلك، ولا أهمية لشيء.
ثم أمضينا ساعة أخرى في ثرثرة حتى سألتني عما جاء بي إلى الإسكندرية. ولما حدثتها عن هدفي قالت: إنهم الآن يصفون أعمالهم ويذهبون.
فقلت لها وأنا أتثاءب: لن أنشئ شركة ولا مصنعا. - إذن فابحث عن خواجة مناسب لتحل محله. - فكرة لا بأس بها ولكن علي أن أدرس كل شيء.
وفي طريق العودة هطل المطر بشدة . رأيت طريقي بصعوبة رغم نشاط ماسحة المطر. وقلت لنفسي بغضب إن الوقت يتبدد سدى! •••
جميلة .. رغم رائحة المطبخ، جميلة. - قطعتان من السكر من فضلك.
دعوتها بذلك لإذابة السكر في الشاي، وللبقاء دقيقة. - كنت جافة معي يا زهرة. - كلا، ولكنك جاوزت الحدود. - أردت أن أعرب لك عن مشاعري.
فقالت بصراحة حادة: إني هنا للعمل وحده. - هذا أمر مفروغ منه. - الظاهر أنك لا تصدقه. - أخطأت فهمي يا زهرة! - إنك سيد طيب فكن طيبا معي.
وذهبت فطاردها صوتي قائلا: سأحبك إلى الأبد! •••
هلم معي إلى رحلة غريبة. يوم رهيب، زجر وتأنيب من أخي، تأنيب من عمي، المدرسة المدرسة، بنا إلى الطريق الزراعي، رحلة طويلة وغريبة، شمالا وجنوبا، ليلا ونهارا، عند كل بلدة نتزود بالطعام والشراب، لم أعد قاصرا. •••
إني رأيتكما معا.
في الطرقة أمام الحمام رأيتكما معا. إذن فهو ذلك السرحان. قرص خدك بحنان. لم يرتفع رأسك في غضب. وجهك الجميل ابتسم وشع منه نور أسمر. وتحركت ضفيرتك في دلال كالحال في حقول الذرة. سبقني الفلاح بأيام. لا ضير من ذلك البتة إذا روعيت العدالة في التوزيع. ولو يكون لي يوم وله يومان. •••
ضحكت طويلا وأنا أستقل الفورد. وهتفت: فريكيكو .. لا تلمني. •••
أوصلت طلبة مرزوق بالسيارة إلى التربانون فدعاني للجلوس معه. مررنا في طريقنا إلى مجلسنا بسرحان البحيري وهو ينفرد بشخص آخر فتبادلنا التحية. سألني طلبة كيف أمضي وقتي، فأجبته بأنني أتجول بالسيارة وأفكر في المشروع الجديد. سألني: ألك خبرة في نشاط معين؟
أجبت بالنفي، فقال: لا تلق بنقودك في بئر. - ولكنني مصمم. - تزوج لتتعلم الحكمة!
فقلت وأنا أكظم غيظي متورما: إنني مصمم على العزوبة والمشروع.
أشار صوب سرحان البحيري وقال: ولد ذكي.
فسألته باهتمام: أعرفت عنه شيئا؟ - ثمة صديق قديم على صلة بالشركة، يصفونه هناك بأنه شاب ثوري، وفي هذا الكفاية. - أتظنه مخلصا؟ - نحن نعيش في غابة يتعارك وحوشها على أسلابنا.
داخلني ارتياح خفي فمضى يقول: ما تحت البدلة إلا مجنون بالترف.
فقلت بتسليم وأنا مطمئن إلى وحدتنا: ولكن ثمة إصلاحات لا يمكن إنكارها.
حرك شدقيه حركة غريبة وقال: قصد بها أناس لم يرتقوا بعد إلى درجة الوعي. وهم - مثلنا - تحت رحمة البدل.
ولما آن لي أن أرجع إلى البنسيون لحق بي سرحان في الخارج فأركبته معي في السيارة. كأنما خلق اللعين لكي يألف ويؤلف. ورغم ازدرائي له فإني أبقي عليه لعلي أنتفع به في وقت الحاجة. وقد لكزته بكوعي وأنا أقول ضاحكا: حلال عليك يا عم.
نظر إلي باسما ومستطلعا فقلت: زهرة!
رفع حاجبيه الكثيفين ولكنه أرخى عينيه في تسليم، فقلت: إنك فلاح كريم فلا تبخل علي.
فقال بوجوم: الحق أني لا أفهمك.
ضحكت ساخرا وقلت: سأكون صريحا معك كما يجدر بالأصحاب، أتعطيها نقودا أم تعطي المدام؟
فقال بإنكار: لا .. لا .. ليس الأمر كما تتصور. - إذن فكيف أتصوره على حقيقته؟ - إنها فلاحة طيبة، ليست ... صدقني ... - ليكن. الظاهر أني استوقفت سيارة «ملاكي» بظن أنها تاكسي.
فريكيكو، لا تشغل بالك بأشياء تافهة. الخطأ أنني صادقت زمنا عدوا وأنا أحسبه الصديق. ولكني سعيد بحريتي. لقد قذفت بي طبقتي إلى الماء والقارب يميل إلى الغرق، ولكني سعيد بحريتي. ولا ولاء عندك لشيء. سعادة عظمى ألا يكون لك ولاء لشيء. لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب. لا أعرف عن ديني إلا أن الله غفور رحيم.
فريكيكو .. لا تلمني. •••
انفجرت في الخارج ضجة لا عهد للبنسيون بها.
كنت مستيقظا لتوي من القيلولة فخرجت إلى الصالة. وضح لي أن ثمة معركة في المدخل. نظرت في فرجة البارفان فرأيت مشهدا مسليا حقا. امرأة غريبة ممسكة بتلابيب صديقنا البحيري تنهال عليه ضربا وسبا. وزهرة واقفة متوترة الأعصاب تنطق بكلمات سريعة وتحاول التخليص بينهما. المرأة تنقض على زهرة فجأة، ولكن زهرة أثبتت أنها مصارعة ذات جبروت. لكمتها مرتين، وفي كل مرة أطاحت بها حتى ألصقتها بالجدار. إنها جميلة ولكنها خفير ذو قبضة حديدية. لبثت متواريا لأتيح لنفسي أكبر قدر من تسلية فريدة حقا. ولكني عندما ترامى إلي صرير أبواب خرجت من مكمني، فأخذت المرأة الغريبة من معصمها، وذهبت بها خارجا وليس علي - عدا البيجاما - إلا الروب. دفعتها برقة أمامي، معلنا لها عن أسفي، واضعا نفسي في خدمتها. كانت تغلي بالغضب غليانا، وتسب وتلعن، ولم يبد عليها أنها أحست بوجودي بعد. إنها امرأة لا بأس بها وقد أوقفتها عند بسطة السلم بالدور الثاني وأنا أقول: انتظري لحظة، يجب أن تصلحي حالك قبل الخروج إلى الشارع.
سوت شعرها، وشبكت طوق فستانها الممزق بمشبك من شعرها، ثم أعطيتها منديلا معطرا لتمسح به وجهها. - سيارتي أمام العمارة، سأوصلك إذا سمحت بها.
نظرت إلي لأول مرة. شكرتني بعجلة، ثم نزلنا معا، جلست في السيارة إلى جانبي فسألتها عن المكان الذي تود الذهاب إليه فتمتمت بصوت مبحوح: الأزاريطة.
سرنا تحت سماء ملبدة بالغيوم وقد عاجلنا الظلام قبل أوانه. قلت مستدرجا: لعنة الله على الغضب.
فهتفت: السافل الحقير! - يبدو أنه فلاح طيب. - سافل حقير.
تساءلت بسخرية خفية: خطيبك؟
لكنها لم تجب. ما زالت مشتعلة. وهي امرأة لا بأس بها، ومحترفة بطريقة ما على وجه اليقين. أوقفت السيارة أمام عمارة بشارع الليدو فقالت وهي تفتح الباب: أشكرك، إنك رجل كريم. - لا أريد أن أتركك وحدك لأطمئن عليك. - أشكرك، إني على خير حال. - إذن فهو الوداع؟
مدت يدا لتصافحني ثم قالت: إني أشتغل في الجنفواز.
درت بالسيارة وأنا متحمس لمعرفة مزيد من المعلومات، بيد أن تحمسي فتر قبل أن أبلغ العمارة. الأمر واضح وتافه. عشق وهجر ثم معركة تقليدية. وها هو يلقى زهرة فيبدأ حكاية جديدة. والمرأة لا بأس بها وقد أحتاج إليها ذات ليلة. ولكن ما الذي دفعني إلى تكبد مشاق هذه الرحلة السخيفة؟
فريكيكو .. لا تلمني. •••
السيارة تطير فوق أرض الشوارع السنجابية، المصابيح وأشجار الكافور تركض في الاتجاه المضاد. السرعة الانسيابية تنعش القلب فتنفض عنه الخمول والملال. ويزمر الهواء ويرعش الأغصان فتتشتت في انتشارات جنونية. أو ينهمر المطر فيغسل الزرع فتضيء الحقول بخضرة متألقة. من قايتباي إلى أبي قير، من بحري حتى السيوف، البطن والأطراف، وكل أرض ممهدة أهيم فوقها بسيارتي.
والوقت يمر ولا خطوة جدية أخطوها لتحقيق المشروع.
وخطر لي أن أقوم بجولة استكشافية في مراكز الإشعاع الأصيلة. زرت قوادة قديمة بالشاطبي فجاءتني بفتاة مقبولة للصبوح. وتناولت الغداء عند قوادة ثانية باسبورتنج فأمدتني بامرأة أرمنية فوق المتوسط. أما قوادة سيدي جابر فأهدت إلي فتاة رائعة من أم إيطالية وأب سوري، فأصررت على دعوتها إلى سيارتي. حذرتني من الغيوم المنذرة بالمطر، فقلت لها إني أتمنى أن يهطل المطر. وفي الطريق الزراعي إلى أبي قير هطل المطر واختفى البشر فأحكمت إغلاق النوافذ ورحت أنظر إلى الماء المنسكب والأشجار الراقصة والخلاء النقي الذي لا نهاية له، وقد ذعرت الجميلة وقالت إن هذا جنون، فقلت لها تصوري مخلوقين مثلنا عاريين تماما في سيارة وآمنين رغم ذلك من أي تطفل يتبادلان القبل على انفجارات الرعد ووميض البرق وانهلال المطر، فقالت إنه المحال. فقلت ألا تودين أن تخرجي اللسان للدنيا ومن عليها وأنت في حماية هذه الغضبة الكونية؟ فقالت محال .. محال. فقلت ولكنه سيتحقق بعد ثوان وشربت من فوهة الزجاجة وكلما جعجع الرعد استحثثته على المزيد وتوسلت إلى السماء أن تفرغ مدخرها من الماء. فقالت الجميلة قد تتعطل السيارة فقلت لها آمين .. فقالت: وقد يدركنا الظلام. فقلت وليدم إلى الأبد. فقالت: إنك مجنون .. مجنون. فصحت بأعلى صوتي: فريكيكو .. لا تلمني. •••
على مائدة الإفطار بلغتني الأنباء العجيبة على القرار الذي اتخذته زهرة للتعلم. سمعت تعليقات شتى لم تخل من مزاح، ولكن غلبت عليها روح تشجيع. حز في نفسي الخبر فنكأ الجرح القديم. لقد نشأت بلا رقيب حقيقي فاجتاحني اللهو. ما أسفت على شيء وقتذاك ولكنني أدركت متأخرا أن الزمن عدو وليس بالصديق الذي توهمته. وها هي الفلاحة تقرر أن تتعلم. وقد شرحت لي المدام ظروفها ما بين القرية والإسكندرية. تؤكد لي أنها ليست من توابع المدام، ولعلها ما تزال عذراء إلا يكن سرحان ممن يضيقون بالعذارى، ولكنني قلت للمدام بخبث: ظننت زهرة ...
وأشرت بيدي إشارة، فقالت: لا .. لا.
فتجاهلت الموضوع بغتة قائلا: يجب أن تفكري في المشروع المشترك.
فتساءلت بدهاء قوادة: من أين لي بالمال؟
فهمست باهتمام مصطنع: ماذا لو أردت أن أدعو صديقة إلى هنا؟
هزت رأسها آسفة وقالت: البنسيون مشغول كله، وإذا سمحت لواحد فكيف أرفض لآخر؟ ولكن يمكن أن أدلك على مكان إذا أردت.
ولما صادفت زهرة في الصالة هنأتها على قرارها وقلت لها ضاحكا: شدي حيلك، فعندما يتحقق مشروعي سأكون في حاجة إلى سكرتيرة.
فابتسمت في ابتهاج حتى أطلت آي الملاحة من قسماتها. الحق أن رغبتي فيها لم تمت. ومع سابق علمي بأنني سأشبع منها في أسبوع إلا أنه أسبوع ضروري فيما بدا لي. •••
راحت السيارة تجوب الشوارع والأحياء. في جو صاف هادئ معتدل لدرجة أثارت أعصابي. ولكي أستمتع بأكبر قدر من السرعة الجنونية بلا عائق اتجهت إلى الطريق الصحراوي، فانطلقت فيه بسرعة مائة وعشرين كم، مقدار ساعة، ثم رجعت بنفس السرعة. تناولت الغداء في «بام بام». والتقطت فتاة لدى مغادرتها لمحل حلاق. ثم رجعت إلى البنسيون حوالي العصر. رأيت زهرة جالسة إلى فتاة بالمدخل فأدركت من النظرة الأولى أنها المدرسة. جالست المدام واسترقت إلى المدرسة النظر. لا بأس بها. ثمة احديداب خفيف لا يكاد يلحظ، وفطس بالأنف مقبول بل ومثير. من المؤسف أن فتاة مثلها لا تقبل ليلة حب عابرة. لا بد لأمثالها من علاقة وطيدة طويلة. وقد لا ترضى بذلك أيضا فترمي بنظرها البعيد إلى الزواج متخطية دعوة الثورة إلى تحديد النسل.
تم التعارف عن طريق المدام. وقد قدمتني كعادتها بالكامل، أي بالمائة فدان والمشروع، فسررت لذلك وحمدت لها لباقتها المستقاة من خبرة السنين. وركزت في جولاتي على حي محرم بك حيث تقع مدرستها. وأثمرت خطتي فرأيتها مرة قبيل العصر واقفة في محطة الباص. أوقفت السيارة ودعوتها إلى الركوب. ترددت قليلا ولكن شجعها على قبول دعوتي تلبد السماء بالغيوم. أوصلتها إلى عمارتنا وأنا أشكو لها وحدتي في الإسكندرية، وحاجتي إلى المشورة والرأي فيما يتعلق بمشروعي، وقلت لها وأنا أودعها: أظنني بحاجة إلى لقاء آخر.
فقالت بترحيب: تفضل بزيارتنا!
الحق يا فريكيكو أن سني وثروتي يرشحانني بمنطق حاسم للزواج. لذلك يتعذر علي أن أرافق مدرسة أو طبيبة أو مذيعة أو موظفة. وعلي إن أردت توسيع مجالي الحيوي أن أخدع الأبصار بدبلة زواج وهمي.
ولم أجد ما أشغل به نفسي بقية اليوم إلا أن قصدت القوادة المالطية بكليوباطرة، فطلبت منها أن تدعو أكبر عدد ممكن من بناتها، وسهرت سهرة عجيبة معربدة وموشاة بأبهج الحماقات التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا منذ عهد خليفتنا خالد الذكر هارون الرشيد. - إنه لم ير أمه .. وتركه أبوه وهو في السادسة .. لذلك لا أقسو عليه.
كان يتكلم بهدوء أما أخي فكان ينتفض من الغضب. •••
حوصرت بالعجائز. الواقع أنني لا أحب قلاوون الصحافة وهيهات أن أوفق إلى خير ما دمت أصبح على وجهه. وسألني طلبة مرزوق عن مدى تقدمي في مشروعي. وتشممت في الجو رائحة بخور فتساءلت عنها فضحك طلبة بك وقال: كان يجب أن ترى المدام وهي تطوف بالحجرات حاملة المبخرة.
نظرت إليها قائلا: إذن فأنت تحبين أم كلثوم وتؤمنين بالبخور؟
ابتسمت ابتسامة عابرة لشدة متابعتها لأغنية يونانية. وقلت لطلبة بك: يجب أن أجد خواجة ممن ينوون الهجرة لأشتري عمله. - فكرة حسنة، ما رأيك يا ماريانا؟
أجابت بعجلة حتى لا تنقطع عن الأغنية: نعم، انتظر، أظن صاحب مقهى ميرامار يفكر في ذلك.
فسألتها: ماذا تعني الأغنية؟
أجابت بدلال: عن البنت في سن الزواج، ماما تسألها وهي تجيب معددة المزايا التي تتطلبها في العريس.
نقلت بصري بين صورة الكابتن وصورة شبابها فغمغمت: كان من الممكن أن أبقى سيدة حتى اليوم. - إنك سيدة تماما.
فقالت محتجة: أعني سيدة في قصر الإبراهيمية.
والتفت نحوي قلاوون الصحافة وقال: لا تدع الوقت يمر دون أن تفعل شيئا.
لعنته في سري، كان الجو قارص البرودة صامتا. وكنت على موعد من الفتاة الإيطاسورية في سكن القوادة بسيدي جابر.
فريكيكو .. لا تلمني. •••
علمت بزيارة شقيقة زهرة وزوجها على مائدة الإفطار. - قررت البقاء معنا بصفة نهائية.
قالت المدام ذلك بارتياح، فقلت: لنحمد الله على أن المقابلة مرت بسلام، أعني دون شروع في القتل .
ثم قلت لسرحان البحيري ساخرا: الظاهر أن البحيرة خرعة. - خرعة؟! - يقال إن قربها من الإسكندرية قد أضعف من ضراوة تقاليدها الريفية.
فقال بصوته الرنان متباهيا: ذاك يعني أنها أعظم تمدينا من سائر الريف. •••
ركب طلبة مرزوق معي لكي أوصله إلى فندق وندسور لمقابلة صديق قديم. إنه الشخص الوحيد الذي أضمر له حبا واحتراما. وهو يقوم أمام عيني كتمثال أثري لملك قديم دالت دولته وولى زمانه، ولكنه يحتفظ بكافة مزاياه الذاتية. قلت له والخبث يسيطر على أفكاري: ألم يكن الأجدر بالفلاحة أن تذهب مع أهلها؟
فقال ضاحكا: كان الأجدر بها ألا تهرب من أول الأمر. - أعني أن لديها من الأسباب ما يمنعها من العودة حتى لو تمنتها! - تقصد الفتى البحيري؟ - ليس هذا بالضبط ما أعنيه، ولكنه يرجع إليه على أي حال.
ضحك الرجل وقال: محتمل جدا، ومحتمل أنه بريء مما تظن، وأن آخر كان وراء الدافع لهروبها في القرية.
وقد تضاعف سوء ظني عندما علمت - عقب ذلك بأيام - برفضها الزواج من محمود أبو العباس بياع الجرائد. وكان محمود قد شاورني في الأمر - كزبون قديم له - قبل أن يقدم على الذهاب إلى المدام لطلب يد الفتاة. وعندما وقفت أمام معرضه في اليوم التالي لمسعاه الفاشل كنت واثقا من مناقشته للموضوع ومتأهبا له. كان يبدو ممتعضا وحانقا. تبادلنا نظرات تغني عن قول الكثير، ثم قلت له مواسيا: هاك عينة من بنات اليوم.
فقال بغضب: هيهات أن تجد مثلي الحمقاء. - سيعوضك الله بخير منها، وإن أردت الحق فليس البنسيون بالمكان المناسب لاختيار عروسك. - ظننتها بنتا طيبة. - أنا لم أقل إنها ليست كذلك ولكن ...
فسألني باهتمام: ولكن ماذا؟ - ماذا يهمك منها وقد انتهى أمرها بالنسبة إليك؟ - ليرتاح قلبي. - أيرتاح قلبك لو قلت لك إنها تحب سرحان البحيري؟ - المجنونة! .. وهل سيتزوج الأستاذ سرحان منها؟
فقلت وأنا أودعه: تكلمت عن الحب لا الزواج!
كنت أكره سرحان من أول يوم. أجل، قد تهبط كراهيتي له لدرجة الصفر في الأوقات التي يفتح لي قلبه المطبوع على الألفة والمعاشرة ولكن سرعان ما يرجع الحال إلى أصله. ولا دخل لزهرة في هذه الكراهية فهي أتفه من أن تجعلني أكره أو أحب إنسانا. ربما لصراحته العمياء أحيانا، وربما لإصراره على الإشادة بالثورة لمناسبة ولغير ما مناسبة. لذلك فكثيرا ما أرغمني على مجاراته ولو بالسكوت. وقد فاض بي الكيل مرة فقلت له: نحن مؤمنون بالثورة ولكن لم يكن ما سبقها فراغا كله.
فقال بعناد مثير: بل كان فراغا. - كان الكورنيش موجودا قبلها، كذلك جامعة الإسكندرية. - لم يكن الكورنيش للشعب، ولا الجامعة.
ثم سألني ضاحكا، وبلا حقد ظاهر: خبرني لم تملك وحدك مائة فدان على حين أن كل ما تملكه أسرتي عشرة فقط؟
فسألته وأنا أكظم غيظي: ولم تملك عشرة على حين لا يملك ملايين من الفلاحين قيراطا واحدا؟ ••• - مهما تقل فلن أصدق كلمة واحدة مما تقول، إن رفض مرفت لك أطاح بعقلك، ولا تصدق ما يقال عن العدالة والاشتراكية، المسألة تتلخص في كلمة واحدة: القوة، إن من يملك القوة يملك كل شيء، ولا بأس بعد ذلك من أن يتغنى أمام الناس بالعدالة والاشتراكية، وإلا فخبرني بالله، هل رأيت أحدا منهم يسير في الأسواق شبه جائع مثل سيدنا عمر؟! •••
على أي حال سرعان ما بلغني الخبر اللذيذ عن القتال بين محمود أبو العباس وسرحان البحيري يا بصل! وتجاهلت الأمر احتراما لصمته، بل انتهزت فرصة اجتماعي به في مدخل البنسيون فسألته الرأي عن المشروع، وإذا به يقول لي في اهتمام: اصرف النظر عن مشروع المقهى وما شاكل ذلك، إنك ابن ناس، وعليك أن تختار مشروعا مناسبا. - مثل ماذا؟ - أنا أقول لك، مشروع تربية دواجن وعجول مثلا، إنه يدر ذهبا.
ثم بعد تفكير قليل: ممكن أن نؤجر قطعة أرض في منطقة سموحة، وممكن أن أساعدك بما لي خبرة وأصدقاء وربما شاركتك إذا ما أسعفتني الظروف. •••
ما أضيق الإسكندرية في عيني سيارة مجنونة! إني أمرق فيها كالهواء، ولكنها انقلبت علبة سردين، الليل يتبع النهار في إصرار غبي ولكن لا شيء يحدث على الإطلاق. ورغم أن السماء تتزين كل يوم برداء. والطقس كالبهلوان لا يمكن التنبؤ بحركته التالية، والنساء يقبلن في ألوان لا حصر لها، فلا شيء يحدث على الإطلاق. الكون في الحقيقة قد مات وما هذه الحركات إلا الانتفاضات الأخيرة التي تند عن الجثة قبل السكون الأبدي.
وتذكرت الجنفواز.
إنه يقع على الكورنيش متحديا البحر والشتاء ولكن بابه يقع في شارع خلفي ضيق. له مسرح للغناء والرقص، وتتوسطه باحة للرقص المشترك، وينتشر اللون الأحمر الكابي في السقف والجدران والمصابيح كأنه مأوى للجان، ومن نظرة إلى فتياته وزبائنه يتسرب إلى النفس إحساس محتوم بأنه ماخور.
رأيت فتاة البحيري ترقص رقصة فولكلورية مبتذلة. دعوتها إلى مائدتي فلم تعرفني بادئ الأمر ثم اعتذرت بحالها يوم التعارف. وسرعان ما قالت إنها انتظرت مقدمي طويلا فاعتذرت بضيق الوقت وكثرة المشاغل. عرفت أن اسمها صفية بركات والله أعلم باسمها الحقيقي. وهي أجمل من المدرسة ولكن يعيبها ميل إلى البدانة، وتستقر في وجهها المليء نظرة محترفة. شربت كثيرا حتى أوشكت أن أفقد الوعي ثم دعوتها إلى سيارتي ومضيت بها إلى شارع الليدو بالأزاريطة، ولما هممت بمصاحبتها اعتذرت بعذر قهري فرجعت إلى البنسيون وأنا من السكر وسوء المآل في حال.
التقيت وأنا ذاهب إلى حجرتي بزهرة وهي راجعة من الحمام في قميص النوم. اعترضت سبيلها مفتوح الذراعين. توقفت متوثبة. اقتربت منها فقالت بحزم: ابعد.
أشرت بإصبعي إلى حجرتي فقالت متوعدة: ابعد واذهب لحالك.
انقضضت عليها بالرغبة والسكر فضربتني بقبضتها في صدري ضربة مذهلة أشعلتني بالغضب. جن جنوني فلطمتها بوحشية. وصممت على الانقضاض حتى النهاية ولكن يدا وضعت على كتفي وجاءني صوت سرحان اللاهث وهو يقول: حسني .. أجننت؟
دفعته بوحشية، ولكنه شد على كتفي قائلا: ادخل الحمام وضع إصبعك في فمك.
استدرت نحوه ولطمته بشدة على غرة منه. تراجع وهو يهدر ثم لطمني بقوة. وإذا بالمدام قادمة وهي تحبك حولها الروب متسائلة في جزع: ماذا يحدث؟!
ثم دخلت بيني وبين سرحان وهي تقول بغضب: لا، هذا تخريب، ولا يمكن أن أقبله. •••
الملائكة تسبح أو ترقص في السقف. المطر يعزف فوق النوافذ وهدير الأمواج يصك الأذنين بانفجارات معركة محتدمة. أغمضت عيني مرة أخرى تحت لطمات الصداع. تأوهت ثم لعنت كل شيء. ثم اكتشفت أنني نمت بقية الليل بالبدلة والمعطف والحذاء. وانهالت علي ذكريات الليلة الماضية فلعنت كل شيء.
وجاءت المدام بعد أن أذنت لها بالدخول. وقفت تنظر إلي وأنا أتزحزح متثاقلا متكاسلا إلى الوراء لأجلس مستندا إلى رأس الفراش، وقالت: تأخرت عن موعدك؟
ثم غاصت في المقعد الكبير وهي تقول في عتاب: ها هي عاقبة السكر الشديد!
تلاقت عينانا فابتسمت وقالت: إنك أعز من عندي ولكن لا تعد للسكر.
رفعت عيني إلى السقف المزركش بصور الملائكة وتمتمت: إني آسف.
ثم بعد فترة صمت: يجب أن أعتذر لزهرة. - حسن، ولكن عدني بأن تسلك السلوك اللائق بأسرتك. - اعتذري عني لزهرة حتى أعتذر لها بنفسي.
وقد انقطع ما بيني وبين سرحان، أما زهرة فصالحتها بعد إباء وتمنع. ولا أنكر أن مخاصمة سرحان قد خلقت فراغا في نفسي. الآخر - منصور باهي - لا أكاد أعرفه، ولا علاقة لي به سوى كلمات عابرة نتبادلها على مائدة الإفطار فلا يبقى منها في الذاكرة شيء. إننا نتبادل - بلا شك - كراهية صامتة. وإني أحتقر انطواءه وغروره وأنوثته وما يحلي به نفسه من أدب ظاهري رخيص. وقد سمعته مرة في الراديو فهالني صوته - الكاذب مثله - الذي تحسبه صادرا من فارس خطيب. ومن عجب أنه لم تنشأ مودة بينه وبين أحد سوى قلاوون الصحافة مما جعلني أقطع بأن العجوز الأعزب لوطي سابق!
يحسن بي ألا أغادر الحجرة! ولكن ثمة حادث سعيد يقع في الخارج. في حجرة البحيري؟! أجل، مناقرة .. بل مشاجرة .. بل معركة .. بين روميو البحيري وجولييت البحيرية .. ما معنى ذلك؟ هل طالبته بإصلاح غلطته؟ هل رام التملص والهرب كما فعل مع صفية؟ إنه لأمر بالغ اللذة، ولكن يحسن بي ألا أغادر الحجرة. أين كانت تختبئ جميع تلك المسرات؟ فريكيكو، انتبه جيدا واستمتع باللحظة البديعة. وصاح الصوت الرنان: أنا حر .. أتزوج بمن أشاء .. سأتزوج من علية.
يا سيد يا بدوي! علية! الأستاذة! هل لبى الدعوة لزيارة بيتها؟ هل تحول من التلميذة إلى الأستاذة؟ اشهد يا فريكيكو. أي يوم بهيج يا إسكندرية لتحيا الثورة. ولتحيا قوانين يوليو. ها هو صوت المدام يرطن بالعربية. وها هو صوت المذيع الهمام بلحمه ودمه، أخيرا تنازل بالاهتمام بشئون الرعية. وسيجد ولا شك حلا لهذه المشكلة الريفية. يا أهلا بالمعارك. فريكيكو .. يجب أن تتحرك. احذر أن تسبقك الأحداث.
وقد سمعت القصة مرة أخرى على ربابة المدام. وقالت لي في الختام: لقد طردته، ما كان يجب أن يقيم بيننا يوما واحدا!
أثنيت على شهامتها، ثم سألت عن زهرة فقالت بأسف: معتكفة في حجرتها متوعكة.
أجل، القصة القديمة، المتجددة مثل فصول السنة. وقد هنأ البحيري بالطرد. فاز بترقية إلى الدور الخامس. ولا يدري أحد أين ينتهي به الطريق.
وقالت المدام: إن صاحب الميرامار يفكر جديا في بيعها.
فقلت بثقة: إني على استعداد لمفاوضته.
وغادرت البنسيون مدفوعا برغبة حامية في مسح الإسكندرية بالطول والعرض.
فريكيو .. لا تلمني. •••
لأول مرة أراها منهزمة منسحقة. شحب لونها الخمري وفقدت عيناها العسليتان الرونق والبريق. صبت لي الشاي وهمت بالانصراف فرجوتها أن تبقى. كان الهواء يزأر في هبات متقطعة، وجو الحجرة القاتم يشي بتجمع السحب. - زهرة .. الدنيا مليئة بالسفالات ولكنها لا تخلو من خير.
لم يبد عليها أنها تهتم بالإصغاء إلي أو أنها تهتم بأي شيء. - انظري ماذا فعلت أنا، ضاق بي العيش بين أهلي في طنطا فهاجرت إلى الإسكندرية.
لم تنبس ولا دبت فيها نسمة اهتمام. - أقول لك إنه لا حزن يدوم ولا فرح، وإن على الإنسان أن يجد طريقه، وإذا ساقه الحظ إلى طريق مسدودة فعليه أن يتحول إلى أخرى. - كل شيء طيب، لست آسفة على شيء. - بل أنت حزينة، حزينة جدا يا زهرة، ولك حق، ولكن عليك أن تختاري النجاة، هذا الاختيار نصف النجاة إن لم يكن النجاة كلها.
قاومت التأثر بإرادة جبارة طبعت وجهها بطابع دميم عابر، فقلت: أصغى إلي، إليك اقتراحا، لا تبتي فيه برأي الآن، ولكن فكري فيه على مهل.
وتريثت لحظات ثم قلت: عما قريب سيكون لدي عمل.
تململت، فقلت: ستجدين عندي إذا شئت وظيفة محترمة.
ارتسم سوء الظن في عينيها فقلت: هذا المكان لا يصلح لك .. بنت محترمة بين أشكال وألوان من مريدي اللهو والتسلية، من يقر ذلك؟
لم تأخذ كلمة من قولي مأخذ الجد، ذلك واضح جدا، فقلت: ستكونين عندي في حصن .. عمل شريف وحياة ممتازة.
غمغمت بما لم أسمع ثم حملت الصينية وذهبت.
غضبت عليها وعلى نفسي، غضبت لحد المقت. شهوات المحرومين أعمتها عن حقارتها. ملعونة الأرض التي أنبتتك في طينها. وقلت بذلة ومرارة: فريكيكو .. لا تلمني. •••
سهرت بين الجدران الحمراء الكابية في الجنفواز، دعتني صفية إلى المبيت في بيتها فلبيت. عرضت همومي للمناقشة وأنا سكران تماما. ولما جاء ذكر المشروع وثب صوتها قائلا: جاء الفرج!
ثم قالت وهي تشعل سيجارة: الجنفواز .. صاحبه يرغب في بيعه.
فقلت بلسان مخمور: ولكنه حقير كئيب. - فكر في موقعه الممتاز .. ممكن أن يصير ملهى ومطعما ممتازا! وأكدت أنه يدر ربحا كثيرا وهو بحالته الراهنة وتنبأت له بمزيد من النجاح إذا جدد. قالت: أنت ابن ناس، وسيضع البوليس ذلك في اعتباره، وعندي خبرة لا حد لها، الصيف مضمون، وبقية العام مضمونة كذلك بفضل الليبيين الذين يفدون علينا محملين بنقود البترول.
قلت وكأني في حلم: رتبي لي مقابلة مع الخواجة. - في أقرب فرصة وسوف أختص أنا بالجانب النسائي. - اتفقنا.
قبلتني وهي تتساءل: لم لا تجيء للإقامة معي؟ - فكرة، ولكن يجب أن تعرفيني على حقيقتي من أجل تعاون دائم، أنا لا أعرف ذلك الشيء الذي تسمونه الحب. •••
حوالي العاشرة صباحا عدت إلى البنسيون. التقيت بسرحان البحيري، في مدخل العمارة، تجاهلته كما تجاهلني ووقفنا ننتظر هبوط المصعد وأنا أقول لنفسي لعله جاء لزيارة آل عروسه، وفجأة التفت نحوي وقال: إنك كنت السبب فيما بيني وبين محمود أبو العباس.
تجاهلته تماما كأنني لم أسمع صوتا، فاستمر يقول: لقد اعترف لي بذلك.
ولما أصررت على تجاهله في احتقار وبرود قال بعصبية: على أي حال، فقد خلا سلوكك من شهامة الرجال.
تحولت إليه بغضب صائحا: اخرس يا ابن الكلب!
وسرعان ما تبادلنا الضربات حتى جاء البواب ورفاق له فخلصوا بيننا، توقف الضرب وبدأ السباب. حتى هتف: سأؤدبك .. انتظرني.
فهتفت بدوري: تعال لأريحك من حياتك القذرة. •••
في مجلس الأصيل حول الراديو وجدت المدام وطلبة بك، فقالت لي المدام: اشترك معنا في التفكير، كيف نقضي ليلة رأس السنة؟
ثم أشارت إلى طلبة بك وقالت: من رأيه أن نسهر في المونسنيير ولكن عامر بك يفضل البقاء هنا. - أين عامر بك؟ - إنه معتكف، عنده برد. - دعيه في اعتكافه، ولنذهب إلى المونسنيير، يجب أن نلهو بعنف حتى الصباح.
وبعد صمت قليل قلت لها: أخيرا تحقق المشروع.
وقصصت عليها الخبر حتى عكس وجهها خيبة أمل واضحة، ثم قالت: لا تتسرع .. يجب أن تفكر. - كفاني تفكير.
ثم صرحت قائلة بعد تردد: مقهى الميرامار أفضل .. وإني أفكر جديا في مشاركتك.
فقلت ضاحكا: ربما فكرت في التوسع مستقبلا.
وانبعثت في أعماقي رغبة جامحة في الاستمتاع لأقصى حد بليلة رأس السنة الجديدة. •••
وقد تعرفت بصاحب «الجنفواز» في نفس الليلة في حجرة مكتبه بالملهى. وتم الاتفاق على البيع من حيث المبدأ، ثم دعاني إلى سهرة في مسكنه بكامب شيزار بعد موعد الإغلاق. وشهدت صفية السهرة واشتركت في مناقشة التفاصيل. وجاء ذكر لليلة رأس السنة فاتفقنا أيضا على الاحتفال بها معا في «الجنفواز» على أن نكمل السهرة في بيت الخواجة أو في أي مكان آخر، فهنأت نفسي على الخلاص من سهرة العجائز.
وفي صباح اليوم التالي لاحظت أن حجرة الإفطار تطالعني بوجه غريب. أجل كان قلاوون الصحافة معتكفا في حجرته ما يزال، ولكن منصور باهي لم يفارق حجرته أيضا، ولم أر أثرا لزهرة. وقرأت في وجهي المدام وطلبة بك وجوما ينذر بالشر، وإذا بالرجل يقول: أما علمت بالخبر؟
رمقته بنظرة متسائلة فقال: لقد عثر على سرحان البحيري جثة هامدة في طريق البالما.
لبثت لحظات ذاهلا قبل أن يستقر الخبر في وعيي وإدراكي. واكتسحني شعور من الانزعاج والإشفاق والقلق حيال طبيعة الموت الغامضة المقتحمة. وسألت: ميتا؟ - بل قتيلا. - ولكن ...
فقاطعتني المدام: اقرأ الجريدة، إنه خبر مزعج، وقلبي يحدثني بمتاعب كثيرة.
تذكرت المعركة الأخيرة أمام المصعد فامتعضت نفسي. وخشيت أن تمتد إلي المتاعب التي تنبأت بها المدام. وسألت وأنا أدرك سخف السؤال وعمقه: ترى من يكون القاتل؟
فقالت المدام: هذا هو السؤال طبعا.
وقال طلبة مرزوق: وعندما يسألون عن أعدائه ...
أجبت وقد استعدت شيئا من روح السخرية: في الحق لم يكن له صديق بيننا!
فقال طلبة مرزوق: وهل يكون له أعداء آخرون؟ - ستعرف الحقيقة عاجلا أو آجلا.
وسألت عن زهرة فأجابت المدام: في حجرتها على أسوأ حال.
أفقت من وقع الخبر فرددت قائلا: لتكن مشيئة الله.
كان في نيتي أن أخبر المدام بما استقر عليه رأيي من الانتقال من البنسيون ولكني أجلت ذلك إلى وقت آخر. ولما هممت بالخروج قال لي طلبة بك: محتمل أن ندعى جميعا لسماع أقوالنا.
فقلت وأنا أمضي: فليدعنا من يشاء.
صممت على غسل رأسي بجولة من جولاتي الانطلاقية في أنحاء الإسكندرية. كانت السحب البيضاء دانية يقطر منها لون رائق، والهواء خفيفا سريعا لاذعا.
إنه آخر يوم في السنة وقد تضاعفت رغبتي في إحياء ليلة جنونية حتى الصباح.
ولقد وضحت لي معالم الطريق، فليمت من يموت وليعش من يعيش.
دفعت السيارة وأنا أقول لصورتي في المرآة الصغيرة:
فريكيكو .. لا تلمني.
منصور باهي
قضي علي بالسجن في الإسكندرية وبأن أمضي العمر في انتحال الأعذار.
قلت ذلك لأخي وأنا أودعه، ثم ذهبت رأسا إلى بنسيون ميرامار. فتحت شراعة الباب عن وجه عجوز ذي طابع أنيق متعال، رغم الكبر ورغم المهنة، فسألتها: مدام ماريانا؟
أجابت بالإيجاب، فقلت: منصور باهي.
فتحت لي الباب مرحبة وهي تقول: أهلا .. حدثني أخوك بالتليفون .. اعتبر نفسك في بيتك.
انتظرت عند الباب حتى وصل البواب حاملا الحقيبتين، ثم دعتني إلى الجلوس وجلست هي على كنبة تحت تمثال للعذراء: أخوك ضابط بوليس عظيم، كان ينزل عندي قبل أن يتزوج، وقد أقام في الإسكندرية عمرا وها هو ينتقل إلى القاهرة.
تبادلنا نظرات مودة وهي تتفحصني بدقة وعناية ثم سألتني: كنت تقيم معه؟ - نعم. - طالب؟ .. موظف؟ - مذيع في محطة الإسكندرية. - ولكنك أصلا من القاهرة؟ - نعم. - اعتبر نفسك في بيتك ولا تحدثني عن الإيجار.
ضحكت مستنكرا، ولكني شعرت أنها على استعداد لقبولي بالمجان لو أردت. حسن، العفن يجري في الهواء ولعله يصدر أصلا من ذاتي أنا. - وأي مدة ستقيم معنا؟ - غير محدودة. - سنتفق على أجرة مناسبة ولن أطالب برفعها في الصيف. - شكرا، لقد أرشدني أخي إلى ما يجب عمله وسوف أدفع في المصيف كالمصيفين.
انتقلت بلباقة إلى موضوع آخر فتساءلت: أعزب؟ - نعم. - متى تفكر في الزواج؟ - ليس الآن على أي حال.
فضحكت عاليا وهي تسأل: فيم تفكر إذن؟
جاريتها في الضحك بلا روح، ودق الجرس فقامت ففتحت الباب فدخلت فتاة حاملة لفة كبيرة من البقالة أو غيرها ثم مضت إلى الداخل. من نظرة أدركت أنها خادمة وأنها جميلة. ثم عرفت - والمدام تخاطبها - أن اسمها زهرة. وهي في سن طالبة جامعية وكان ينبغي أن تكون كذلك.
قادتني المدام إلى إحدى الحجرتين المطلتين على البحر وهي تقول: هذا الجانب غير مناسب للشتاء، ولكنها الحجرة الوحيدة الخالية.
فقلت بلا اكتراث: إني أحب الشتاء. •••
وقفت في الشرفة وحيدا. ترامى البحر تحتي إلى غير نهاية، ينبسط في زرقة صافية بديعة، وتلعب أمواجه الهادئة بلآلئ الشمس. غمرتني ريح خفيفة في ملاطفة منعشة، ولم يكن في السماء إلا سحابات متفرقة. كاد يغلبني الحزن ولكن سمعت حركة خفيفة في الحجرة فالتفت مستطلعا فرأيت زهرة وهي تفرش السرير بالملاءات والأغطية. عملت بهمة دون أن تنظر نحوي فتمليتها على مهل وسرعان ما أكبرت ملاحتها الريفية الباهرة. وقلت راغبا في إنشاء علاقة ومودة: أشكرك يا زهرة.
فابتسمت إلي ابتسامة تشرح الصدر، فطلبت فنجال قهوة فجاءتني به بعد دقائق معدودة. وقلت: انتظري من فضلك حتى أفرغ.
وضعت طبق الفنجال على سور الشرفة ومضيت أحتسيه فاقتربت حتى وقفت عند العتبة رانية إلى البحر، فسألتها: تحبين الطبيعة؟
لم تجب، ولكنها لم تفهم. ترى ماذا يشغل بالها؟ ولكن لا ريب أنها بالغريزة المرتوية من الأرض تتحفز للعمل الأول الذي تهتم به الطبيعة الخلابة. قلت: لدي في الحقيبة الكبرى كتب ولا صوان لها في الحجرة.
استعرضت قطع الأثاث بعينيها ثم قالت ببساطة: دعها في الحقيبة.
ابتسمت ثم سألتها: تعملين هنا من قديم؟ - كلا. - والمكان أهو مناسب لراحتك؟ - نعم. - ألا يضايقك الرجال الذين يجيئون ويذهبون؟
هزت منكبيها ولم تجب بلا أو نعم، فقلت: إنهم مخيفون أحيانا، أليس كذلك؟
تناولت الفنجال ثم قالت وهي تهم بالذهاب: أنا لا أخاف!
أعجبت بثقتها بنفسها. وإذا بي أعاني إحساسا بالحسرة. وكعادتي جعلت أفكر فيما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وتهددني الحزن مرة أخرى.
تفقدت قطع الأثاث ثم قر عزمي على شراء مكتبة صغيرة للكتب، أما الترابيزة المستديرة القائمة بين صوان الملابس والشيزلونج فصالحة للكتابة. •••
لبثت في دار الإذاعة بضع ساعات لتسجيل البرنامج الأسبوعي. تناولت الغداء في مطعم بترو بشارع صفية زغلول. جلست في «على كيفك» لأحتسي فنجالا من القهوة. مضيت أتسلى بمشاهدة الميدان المغطى بمظلة من السحب. وقد انتشرت معاطف المطر المطوية على الأذرع. وفجأة دق قلبي عندما مر أمامي ذاك الرجل. فوزي! انحنيت إلى الأمام قليلا حتى أوشك جبيني أن يمس الزجاج لأتأكد من هويته. كلا، ليس بفوزي، ليس بفوزي على وجه اليقين. ولكن ما أعظم التماثل بينهما، ودرية حضرت بالتداعي كما يقال. وهي تحضر بلا قانون إلا قانونها الأزلي. أجل درية. ماذا لو كان هو فوزي حقا؟ وماذا لو تلاقت الأعين؟ إذا رأيت صديقا حميما وجبت عليك معانقته. وهو أيضا بمنزلة الأستاذ. لتكن معانقة حارة وإن أدمتك الأشواك. وادعه إلى فنجال قهوة فبذلك تقضي آداب الضيافة. - أهلا .. أهلا .. ماذا جاء بك إلى الإسكندرية في هذا الوقت من العام؟ - زيارة عائلية.
هذا يعني أنه جاء ليمارس نشاطا ولكنه يخفيه عني كما يجدر به. على أنني قلت: أتمنى لك إقامة دائمة. - لم نرك منذ عامين، وبالدقة منذ تخرجك. - بلى، فقد عينت في محطة الإسكندرية كما تعلم ! - أعني أنك هجرتنا تماما. - بعض المتاعب .. أعني صادفتني بعض المتاعب. - قد يكون من الحكمة ألا يستمر الإنسان في عمل لا يناسبه.
اجتاحتني كبرياء عمياء فقلت: وقد لا يستمر في العمل أيضا إذا كف عن الإيمان به.
تمهل كعادته ليزن كلماته ثم قال: قيل إن أخاك ...
قاطعته باستياء: لست قاصرا.
فضحك قائلا: أغضبتك؟ .. معذرة.
توترت أعصابي. درية. وتساقط رذاذ فتمنيت أن ينهل المطر ليخلو الميدان من البشر. عزيزتي، لا تصدقي. قديما قال حكيم إننا قد نكذب أحيانا لنقنع الآخرين بأننا صادقون. وعددت ألحظ صديقي المخيف فسألني: ألم تعد تهتم بشيء؟
فضحكت. كادت تند عني ضحكة. وقلت: ما دمت أحيا فلا بد أن أهتم بشيء. - مثل ماذا؟ - ألا ترى أنني حلقت ذقني وأنني أحكمت عقد الكرافتة؟
فسألني جادا: وماذا أيضا؟ - هل شاهدت فيلم مترو الجديد؟
ابتسم ثم قال: فكرة .. فلنشاهد فيلما رأسماليا. •••
زارتني مدام ماريانا في حجرتي زيارة مجاملة. ينقصك شيء؟ أي خدمة؟ كن صريحا، كان أخوك صريحا وكان شهما بكل معنى الكلمة، وهو قوي ضخم عملاق، أما أنت فدقيق متناسق ولكنك قوي أيضا، اعتبر البنسيون بيتك. واعتبرني صديقة، صديقة بكل معنى الكلمة.
ولكنها لم تأت في الحقيقة للمجاملة، أو لم تكن المجاملة إلا وسيلة فحسب، لقد جاءت أصلا للاعتراف، أو لتحقيق الذات عن طريق شفوي. هكذا تطوعت برواية تاريخ حياتها، نشأتها الناعمة المنعمة، حبها وزواجها الأول من كابتن إنجليزي، زواجها الثاني من ملك البطارخ وقصر الإبراهيمية، ثم فترة الانحدار، ولكن أي انحدار؟! كان بنسيون السادة، الباشوات والبيكوات، أيام الحرب.
ودعتني إلى البوح بأسرار حياتي، طوفان من الأسئلة، امرأة غريبة ومسلية ومرهقة، امرأة عند الزوال، لم أشهدها وهي عروس الصالونات، ولكن يمكن تخيلها، على ضوء الفاتنات والطغاة يمكن تخيلها، ولكني لم أعرفها إلا وهي خرابة أثرية تتعلق عبثا بأذيال الحياة.
وعلى مائدة الإفطار تعرفت بالنزلاء. أسرة متنافرة غريبة. وإني لفي حاجة إلى تسلية. إذا تغلبت على ما يشدني إلى الداخل فقد أنعم بصاحب أو بصديق. لم لا؟ لنطرح جانبا عامر وجدي وطلبة مرزوق فهما من جيل راحل. ولكن ماذا عن سرحان البحيري وحسني علام؟ في عيني سرحان جاذبية فطرية وهو ودود فيما يبدو رغم صوته المزعج ولكن ماذا عن اهتماماته؟ أما الآخر .. حسني علام .. فهو مثير للأعصاب، هكذا يبدو لأول وهلة على الأقل، متغطرس الصمت والتحفظ، غاظني بنيانه المحكم ورأسه الكبير المرتفع وتربعه على كرسيه كأنه حاكم، أجل حاكم ولكن بلا ولاية وبلا محتوى، ولعله لا يتبسط في الحديث مع أحد إلا إذا وثق من أنه أتفه منه. وقلت لنفسي: على الذي يرضى بهجر الدير أن يوطن النفس على معاشرة الأرذال. وكالعادة تملكني الانطواء حيال الغرباء. وقلت سيقولون .. سيظنون. وقديما خسرت بذلك الفرض حياتي. •••
دهشت عندما رأيت سرحان البحيري داخلا علي في حجرة مكتبي بالإذاعة. تألق وجهه ببشاشة صديق قديم، ثم صافحني بحرارة وهو يقول: كنت مارا تحت الإذاعة فقلت أسلم وأشرب القهوة.
رحبت به، وطلبت القهوة، فقال: سأطالبك يوما بإطلاعي على أسرار الإذاعة!
بكل سرور يا رجل المصطبة العتيدة التي لم أنعم بالجلوس عليها .. وبإيجاز حدثني عن عمله بشركة الإسكندرية وعضوية مجلس الإدارة وعضوية الوحدة الأساسية. وقلت له: يا له من حماس جميل يعد درسا للمتواكلين.
فنظر إلي بإمعان، ثم قال: إنه طريقنا للمشاركة في بناء عالمنا الجديد. - آمنت بالاشتراكية من قبل الثورة؟ - الحق أني آمنت بها مع الثورة.
ودغدغني ميل إلى مناقشة إيمانه ولكني كبحته. وجرى الحديث إلى البنسيون فقال: إنه أسرة طريفة لا يشبع الإنسان منها.
فسألته بعد تردد: وحسني علام؟ - شاب ظريف هو الآخر. - يبدو كأنه أبو الهول. - في الظاهر فقط، ولكنه ظريف، وذو استعداد أصيل للعربدة.
ضحكنا معا. لم يدر أنه يعرفني بنفسه أكثر مما يعرفني بالآخر. وعاد يقول محذرا: إنه من الأعيان، بلا وظيفة، فيمكن القول إنه بلا شهادة، خذ بالك من هذه النقطة.
ثم واصل بلهجته الحكيمة المحذرة: إنه يملك مائة فدان، فهو يخندق في الخطوط الأمامية، ولا يحمل شهادة علمية، وعليك أن تفهم البقية. - ولماذا أقام في الإسكندرية؟ - إنه ولد حكيم، يبحث عن مشروع تجاري ناجح.
فقلت ضاحكا: عليه أن يغير سحنته المتعجرفة وإلا هرب الزبائن. ثم خطر لي أن أسأله عما يدعوه إلى الإقامة في بنسيون رغم أنه قديم عهد بالإسكندرية، فتفكر قليلا ثم قال: فضلت بنسيونا عامرا بالناس عن شقة موحشة داخل البلد. •••
ليلة أم كلثوم، ليلة الخمر والطرب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس.
إلى سرحان البحيري يعود أكبر الفضل في إحيائها ولعله تكلف أقل نصيب من نفقاتها! استرقت نظرات إلى طلبة مرزوق لم يقرأ معانيها أحد. أجل، عاودتني ذكريات حميمة، أحلام دموية، صراعات طبقية، كتب وتجمعات، بنيان من الأفكار راسخ الأساس. راعني ترهله وانكساره. وحركات شدقيه، وقبوعه فوق مقعده في استسلام، وتودده إلى الثورة بلا إيمان، وكأنه لم يكن من السلالة التي شيدت قلاعها من اللحم والدماء. أخيرا جاء دوره ليمارس النفاق بعد أن خلف مجده المتهدم الذابل أمة من المنافقين. وما حسني إلا جناح من النسر المهيض، لكنه جناح ما زال يرفرف ولا يخلو من قدرة على الطيران. ••• - أقول إن تلك التناقضات قد محيت تماما. - كلا .. إنها أزيحت بتناقضات جديدة، وسوف تثبت لك الأيام. •••
أما سرحان البحيري فسرى فينا كالروح بمرح حار لا يفتر وهو طيب القلب، ومخلص، لم لا؟ طموح بلا ريب، إنه التفسير المادي للثورة، وسرعان ما تبين لي أن عامر وجدي هو أعظم الحاضرين فتنة وأحقهم بالتقدير والحب. عرفت أنه عامر وجدي الذي راجعت العديد من مقالاته عند إعدادي لبرنامج «أجيال من الثورة». لقد استولت علي أفكاره المتطورة بل والمتناقضة، وسحرني أسلوبه الذي بدأ بالسجع وانتهى إلى بساطة نسبية لا تخلو من فخامة وجزالة. وقد سر باطلاعي على مقالاته سرورا دل على عمق إحساسه بالزوال والنسيان والجحود، فأثر ذلك في نفسي تأثيرا حادا محزنا. وقبض على القشة التي ألقيتها إليه في الماء فمضى يقص علي تاريخه الطويل، جهاده المستمر، التيارات التي لاطمته، والأبطال الذين آمن بهم. ••• - وسعد زغلول؟ .. لقد عبده الجيل السابق عبادة. - ما قيمة المعبودات القديمة؟ لقد طعن الرجل الثورة الحقيقية وهي في مهدها. •••
ولكن ما بال طلبة مرزوق يرمقني بحذر؟ لقد ضبطت عينيه المرتابتين الكارهتين في مرآة المشجب. لا يهم. ومثله خليق بأن يخاف خياله. وقد صببت له كأسا فشكرني فسألته عن رأيه في نظرات عامر وجدي التاريخية، ولكنه قال كالمعتذر: ما مضى قد مضى، دعنا نتهيأ للسماع.
أعجبت بزهرة وهي تقوم على خدمتنا ولكنها لا تكاد تبتسم إلا للنادر من نكاتنا، وتجلس عند البارفان لتراقبنا من بعيد بعينين جميلتين غير مبينتين. وقد سألها حسني علام وهي تقدم له شيئا: وأنت يا زهرة .. هل تحبين الثورة؟
فتراجعت في حياء عن دائرة المعربدين، ولكن المدام أجابت عنها إجابة شافية. وقد بدا أنه يحييها بسؤاله ويدعوها إلى المشاركة في الحديث، ولكني لمحت في أعماقه ضيقا يداريه فقلت: إنها تحبها بالفطرة.
ولكنه لم يسمعني أو أنه - الوغد - تجاهلني. وقد اختفى قبل نهاية السهرة، وأخبرت زهرة بأنه غادر البنسيون، وقد أعجبت بعامر وجدي الذي ظل ساهرا يسمع ويطرب حتى مطلع الفجر. وسألته وقد نهضنا للنوم: هل سمعت في ماضيك صوتا كهذا الصوت؟
فأجاب باسما: إنه الشيء الوحيد الذي لا نظير له في الماضي. •••
رجوتها أن تجلس ولكنها لبثت واقفة مستندة إلى صوان الملابس، تنظر معي إلى الأفق الملبد بالغيوم من زجاج الشرفة المغلق، وتنتظر أن أفرغ من احتساء الشاي. وكنت أعطيها قطعة من البسكوت الذي أحتفظ بقدر منه فتقبلها عربونا لصداقة نامية. إن قلبها الأبيض يشعر بمودتي واحترامي وإعجابي وكنت بذلك سعيدا. وتساقط رذاذ، فانسابت قطراته على الزجاج فاهتزت صورة العالم الخارجي. سألتها عن بلدتها فأجابت. خمنت السبب الذي اقتلعها من أرضها، ولكني قلت: لو بقيت في قريتك لسارع إليك ابن الحلال.
فقصت علي قصة ضارية، عن الجد والزوج العجوز .. ثم قالت: وهربت.
انزعجت للخبر فقلت: ولكنك لن تسلمي من الألسنة.
فقالت باستهانة: إنه خير مما هربت منه!
أعجبت بها لحد الإكبار، ولكن أشجتني وحدتها، غير أنها كانت تقف مليئة بالثقة كمعدن غير قابل للكسر. وكان الرذاذ قد نقش الزجاج بالغبش فاختفى العالم أو كاد. •••
قنبلة ؟ صاروخ؟ فكرة جنونية. كلا إنها سيارة، الأحمق، يا للشيطان! إنه حسني علام. ماذا يدفعه إلى الطيران؟ سر لا يعلمه إلا هو، كلا .. فإلى جانبه تجلس فتاة، كأنها صونيا، أهي صونيا؟ صونيا أو غيرها فليذهب إلى الجحيم.
وما كدت أجلس في مكتبي حتى لحق بي زميلي وهو يقول: قبض على أصحابك أمس.
غشيتني لحظة غيبوبة. خجلت من أن أعلق بكلمة واحدة فقال: والسبب فيما يقال ...
قاطعته بحدة: لا أهمية لذلك. - ثمة همس عن ... - قلت لا أهمية لذلك.
اعتمد على مكتبي بذراعيه الممدودتين وقال: كان أخوك حكيما.
فقلت وأنا أنفخ: نعم الحكيم أخي!
وقلت لنفسي لا شك أن حسني علام قد بلغ الآن أقصى الأرض، وأن صونيا ترتعد من الخوف واللذة. ••• - ولا كلمة، سأقتلعك من الوكر! - ولكني لم أعد طفلا. - ألم تسرع بأمك إلى القبر؟ - اتفقنا على ألا نذكر ذلك الماضي البعيد. - ولكني أراه حاضرا، ستذهب معي إلى الإسكندرية ولو اضطررت إلى أخذك بالقوة. - عاملني كرجل من فضلك. - إنك ساذج، أتظننا غافلين، لسنا غافلين.
وتفرس في وجهي بقوة ثم قال: إنك غر جاهل، ماذا تحسبهم؟ أبطالا .. هه؟ إني أعرفهم خيرا منك، وستذهب معي طوعا أو كرها. •••
فتحت لي الباب. كنت خافق القلب، جاف الحلق، مشتت الفكر. برز لي وجهها من الدهليز القاتم أبيض شاحبا. حدقت في بعينين جامدتين، لم تعرفني أول الأمر، ثم اتسعت عيناها لوقع مفاجأة غير متوقعة، وهمست: أستاذ منصور!
تنحت جانبا فدخلت وأنا أقول: كيف حالك يا درية؟
تقدمتني إلى حجرة الجلوس، وقد أضفى منظرها الحزين على كل شيء كآبة وتجهما. جلسنا على مقعدين متقاربين، وعلى الحائط أمامنا صورته تطل علينا من إطار أسود وهو يسدد إلينا الفوتوغرافيا كأنما يلتقط لنا صورة، تبادلنا نظرات صامتة حزينة، ثم سألت: متى جئت إلى القاهرة؟ - جئت من المحطة رأسا. - إذن علمت ...؟ - أجل، في مكتبي، ثم أخذت ديزل الساعة الثانية مساء.
ونظرت إلى صورته وأنا أتشمم رائحة التبغ الذي يدخنه وهي مستكنة ما تزال في جو الحجرة، ثم سألت: هل قبض عليهم جميعا ؟ - أظن ذلك. - وأين ذهبوا بهم؟ - لا أدري.
تشعث شعرها في إهمال، وشحبت بشرتها البيضاء، وضعضعت عينيها نظرة ذابلة مسهدة. - وأنت؟ - كما ترى.
وحيدة بلا مورد. كان أستاذا مساعدا بكلية الاقتصاد ولكن بلا مدخرات. كل شيء واضح وضوح الكآبة التي تخنق المكان كله. - درية، أنت زميلة قديمة، وهو صديق، أعز صديق رغم كل شيء.
ثم استجمعت شجاعتي وواصلت: أنا موظف، ولي إيراد لا بأس به أيضا، ولست مسئولا عن أحد كما تعلمين.
حركت رأسها في ضيق. تمتمت: ولكنك تعلم أنني لا ...
قاطعتها بحرارة: لا أظنك ترفضين مساعدة تافهة من صديق قديم. - الطبيعي أن أجد عملا مناسبا. - عندما يتيسر ذلك، ولن يتيسر قبل مضي وقت.
ما زالت الحجرة مطبوعة بروحه. كعهدي بها في الأيام الخالية. الكنبة الاستديو ومكتبتها العامرة، المسجل، الجرامفون، التليفزيون والراديو، الفوتوغرافيا والأفلام وألبوم الصور، ولكن أين الصورة التي جمعت بيننا في أوبرج الفيوم؟ لا شك أنه رمى بها في لحظة الغضب. وكانت عينانا تلتقيان ثم تنفصلان في حذر، ولا شك أن مشاعر متجانسة طاردتنا، وأن ذكريات مشتركة ناوشتنا، وأن الماضي والحاضر والمستقبل يتمثل في صورة طريق مجهول. وسألتها: لديك خطة؟ - لم أجمع أفكاري بعد.
ترددت قليلا ثم سألت: ألم تفكري في الكتابة إلي؟
ترددت قليلا ثم أجابت: كلا. - ولكن احتمال حضوري لا شك خطر ببالك.
لم تجب. قامت فغابت دقائق ثم رجعت بالشاي، وأشعلنا سيجارتين. خيل إلي أني أسترجع رائحة قديمة مفتقدة. وكان لا بد مما ليس منه بد، فقلت وعذاباتي القديمة تجتاحني: أظنك علمت بمحاولاتي الفاشلة في العودة.
لازمت الصمت فقلت: لم ألق أي تشجيع، وهذا أخف تعبير يمكن اختياره.
تمتمت برجاء: لننس الماضي. - حتى فوزي نفسه تجاهلني! - قلت لننس الماضي. - كلا يا درية.
ثم قلت بامتعاض وألم: ولست أجهل ما قيل عني، قالوا إنني أسعى للعودة لأعمل عينا لأخي!
هتفت بتبرم وضيق: ألا يكفيني ما بي من حزن!
اعتذرت إليها بنظرة ذليلة وقلت: درية، إنك تدركين شعوري تماما. - إني ممتنة.
فهتفت كالملدوغ: أعني شعوري بأنني كان يجب أن أكون معهم.
فقالت بحزن: لا جدوى من تعذيب نفسك. - أود .. أود أن أعرف رأيك في بصراحة؟
ساد الصمت فترة قصيرة مشحونة بالعذاب ثم تمتمت: لقد استقبلتك في بيتي، أو إن شئت في بيته، وفي هذا الكفاية.
تنهدت بصوت مسموع. لم يطمئن قلبي تماما. وكنت على ثقة من أني سأرد إلى الجحيم كما كنت، ولكن لم يكن الوقت مناسبا لتبرير الأخطاء. وقلت: سأزورك بين حين وآخر، وعليك أن تكتبي لي لدى أي طارئ. •••
أرهقني السفر ذهابا وإيابا، فقررت البقاء في البنسيون. انضممت إلى الجالسين حول الراديو في المدخل، ومن حسن الحظ أنهم كانوا أحب أهل الدار إلى نفسي: عامر وجدي والمدام وزهرة. شغلتني أفكاري عن الحديث حولي حتى سمعت المدام وهي تقول لي: إنك دائما غائب عنا بأفكارك.
فقال عامر وجدي وهو يرمقني بمودة: ذاك شأن الأذكياء.
وظل يرمقني بعينيه الغائمتين ثم تساءل: ألا تفكر في استخلاص مادة كتاب من برامجك الثقافية؟
فقلت دون مبالاة بالحقيقة: إني أفكر في كتابة برنامج عن تاريخ الخيانة في مصر. - الخيانة! .. يا له من موضوع غزير متشعب!
وضحك طويلا ثم عاد يقول: عليك أن ترجع إلي، سأمدك بالمراجع والذكريات. ••• - أنا أحبك، وأنت تحبينني، دعيني أكلمه. - إنك مجنون! - إنه عاقل ومعقول وسيفهمنا تماما، وسيغفر لنا. - لكنه يحبني، ويعدك صديقه الأوحد، ألا تفهم؟ - إنه يكره الزيف، إني أفهمه تماما. •••
واستمر عامر وجدي قائلا: برنامج عن الخيانة، يا له من برنامج! ولكن احرص في النهاية على أن تؤلف كتابا وإلا نسيك الناس كما نسوني، لم يبق من الذين لم يدونوا أفكارهم إلا سقراط.
وكانت المدام تتابع أغنية يونانية طلبتها فيما يطلبه المستمعون، أغنية على لسان عذراء تعدد المزايا التي تتمناها في فتى الأحلام أو هكذا قالت المدام. إن منظرها وهي تستمع إلى الأغنية مغمضة العينين من الطرب منظر مؤثر حقا، خلاصة مبكية مضحكة لحب الحياة.
وقال عامر وجدي: وقد خلد بفضل تلميذه أفلاطون. ولكن غريب أن رضي بتجرع السم متجاهلا فرص الهرب.
فقلت بمرارة: أجل، ورغم أنه لم يكن يعاني شعورا بالإثم أو الخطأ. - وكم من أناس إذا قارنتهم بسقراط اقتنعت بأنهم لا يمكن أن يرجعوا معه إلى أصل جنسي واحد.
فقلت بمرارة وجنون: أولئك هم الخونة.
ثمة حقائق وثمة أساطير، الحياة يا بني محيرة حقا. - ولكنك من جيل الإيمان.
فضحك وهو يقول: الإيمان .. الشك .. إنها مثل النهار والليل. - ماذا تعني من فضلك؟
فسكت لحظات ثم قال: أعني أنهما لا ينفصلان. وأنت يا بني، من أي جيل؟
فقلت بضجر: العبرة بما نعمل لا بما نفكر، وإذن فأنا مجرد مشروع.
وضحكت المدام قائلة: نعمل .. نفكر .. ما هذا؟!
وضحك العجوز أيضا وقال: في كثير من الأحيان يخيل إلى المفكر المرهق أن أثمن ما في الوجود يتلخص في أكلة شهية وامرأة جميلة.
قهقهت المدام وقالت: برافو .. برافو.
وضحكت زهرة أيضا، فسمعت ضحكتها لأول مرة، فانجابت عني الهموم إلى حين. وأعقب ذلك دقائق صمت فتجلى صوت الهواء وهو يدوي في الخارج ويلطم الجدران فتصطك النوافذ المغلقة. وعاودني القلق والكآبة فقلت مخاطبا عامر وجدي: أن تؤمن وأن تعمل فهذا هو المثل الأعلى، ألا تؤمن فذاك طريق آخر اسمه الضياع، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو الجحيم. - أجل، إنك لم تشهد سعد في شيخوخته وهو يتحدى النفي والموت.
نظرت إلى زهرة، المنفية الوحيدة، وهي تجلس مفعمة ثقة وأملا فغبطتها، بل حسدتها. •••
زرت درية بعد مضي أسبوع من الزيارة الأولى. استعاد مسكنها أناقته المعهودة، وتبدت هي في مظهر لا تعوزه العناية، ولكني قرأت في عينيها السقم. أجل، وحيدة وبلا عمل أو أمل، قلت لها: أرجو ألا تضايقك زياراتي.
فقالت بصوت لم أتبين فيه معنى: على الأقل فهي تشعرني بأنني ما زلت على قيد الحياة.
تقبض قلبي ألما. تخيلت الحال على حقيقتها الخشنة الجرداء. وددت أن أعرب عن عواطفي ولكن الماضي عقد لساني. واتفق رأينا على أن في العمل النجاة من السقم، ولكن كيف؟ إنها تحمل ليسانس آداب في اللغات القديمة ولكن ثمة عقبات لا يستهان بها. - لا تحبسي نفسك في البيت. - فكرت في ذلك، ولكني لم أتحرك بعد. - لو كان في الإمكان أن أزورك كل يوم.
ابتسمت. تفكرت. ثم قالت: يحسن أن نتقابل خارج البيت.
لم أرتح لقولها ولكني اقتنعت به فقلت: فكرة مقبولة.
وتم اللقاء الثالث في حديقة الحيوان. طالعني وجه الزمان الأول عدا نظرة العين. بجماله ورونقه وإن خلا من روح المرح والبهجة. وسرنا دقائق إلى جانب السور المطل على طريق الجامعة، طريق ذكريات مشتركة لا يمكن أن تنسى. وقالت: إنك تكلف نفسك ما لا يطاق. - أنت لا تدرين كم أني سعيد بذلك.
أكان أجدر بي أن أصرح بالسعادة المزعومة؟ وعدت أقول: الوحدة يا درية، إنها شر ما يبتلى به الإنسان.
قلت ذلك بنبرة المجرب، ربما عن قصد، فقالت: لم أزر الحديقة منذ أيام الجامعة.
فقلت دون مبالاة بجملتها الاعتراضية: إني وحيد أيضا، وأعرف مذاق الوحدة.
بدت كالمحاصرة. ضايقني ذلك وزاد عواطفي تعقيدا والتواء. ورغم ذلك أوشك الفيضان أن يجرف السد. وعندما التقت عينانا خيل إلي أنها جفلت. وإذا بها تقول: يحزنني أنني أتريض على حين أنه .. هناك.
ولحظت وجومي فتساءلت: ما لك؟ - لا أكاد أتحرر من الإحساس بالذنب. - أخشى أن تجد في صحبتي مصدرا للعذاب. - كلا، ولكن ذلك الإحساس الجهنمي يتغذى على اليأس. - علينا أن نجد في اللقاء شيئا من العزاء. - واليأس يدفع للتهور، ولأن يداوي المريض الداء بالداء! - ماذا تعني؟ - أعني ...
ترددت قليلا ثم واصلت: أعني ... أن تعذري حماقتي لو قلت لك يوما تحت دفعة تيار جارف إني أحبك، كما أحببتك في زماننا الأول.
وأفقت من تهوري. أي حماقة، أي جنون، ما أبغي؟ كنت مندفعا وراء غاية محددة. كمن يلقي بنفسه في الماء ليطفئ ملابسه المشتعلة. وقالت بعتاب: منصور!
فتراجعت كمن تلقى لطمة شديدة، وقلت بخذلان: لا أدري ماذا قلت، ولا كيف قلته. ولكن ثقي من أنني لا يمكن أن أسعى للسعادة.
وقلت لنفسي وأنا أستقل الديزل: «في الرسائل يجد الإنسان شجاعة أكثر.» •••
استيقظت على ضوضاء وصخب .. أهو صوت يند عن الصراع الذي يتلاطم في باطني؟ كلا .. هناك صراع من نوع آخر في البنسيون. غادرت حجرتي فرأيت المنظر الأخير من معركة. أدركت من آثارها المطبوعة على الوجوه أن سرحان وامرأة غريبة وزهرة كانوا أبطالها أو ضحاياها. ولكن من المرأة؟ .. وما علاقة زهرة بالأمر كله؟
وجاءتني زهرة بالشاي كالعادة، فراحت تقص علي الواقعة كما وقعت، باندفاع امرأة وراء سرحان وهو عائد إلى البنسيون، واشتباكها معه في عراك. وكيف جرت إلى العراك وهي تخلص بينهما. - ولكن من المرأة يا زهرة؟ - لا أعرف. - سمعت من المدام أنها كانت خطيبة لسرحان؟
ترددت مليا ثم قالت: ربما. - ولم انقضت عليك أنت؟ - قلت إني أردت التخليص بينهما. - ولكن ذلك لا يبرر اشتباكها معك. - حصل.
نظرت إليها برقة ومودة ثم سألتها: هل بينك وبين ...؟
لكنها تجاهلت سؤالي فقلت: لا عيب في ذلك، وأنا صديق، وباسم الصداقة أسألك.
فأحنت رأسها بالإيجاب. - إذن فأنت مخطوبة وتخفين عني؟
حركت رأسها نفيا. فقلت: لم تعلن الخطوبة بعد؟
وأقلقني سكوتها فسألت: متى تعلن؟
أجابت بثقة: كل شيء بأوانه.
هجس هاجس الخوف في صدري فقلت: لكنه هجر الأخرى كما رأيت؟
فقالت ببراءة: إنه لا يحبها. - فلم خطبها إذن؟
نظرت إلي بإشفاق ثم تشجعت قائلة: لم تكن في الحقيقة خطيبته، إنها امرأة ساقطة. - الخيانة هي الخيانة على أي حال.
وقع القول من مسمعي موقعا غريبا فاجعا فوجدت له في فمي طعم السم وعواقبه. وحنقت على سرحان ضمن حنقي على نفسي فلعنته ألف لعنة.
وعندما جاءتني في نفس الموعد بعد ذلك بأيام قالت لي بروح مرحة عالية: أستاذ .. هل أبوح لك بسر؟
نظرت إليها مستطلعا، ومتوقعا المزيد عن علاقتها بسرحان ولكنها قالت لي: سأتعلم.
لم أفهم في الواقع شيئا، وظللت أنظر إليها مستطلعا. فقالت: اتفقت مع جارتنا ست علية محمد المدرسة على تعليمي.
ذهلت .. وهتفت: حقا؟ - نعم .. اتفقنا على كل شيء.
شيء رائع يا زهرة، كيف فكرت في ذلك؟
قالت بفخار: فكرت فيه بنفسي. - نعم .. ولكن ماذا جعلك تفكرين فيه؟ - قلت لن أبقى جاهلة إلى الأبد، ثم إن لي غرضا آخر. - غرض آخر؟ - نعم .. سأتعلم مهنة!
رمقتها بإكبار وسعادة وهتفت: رائع .. رائع .. رائع يا زهرة.
لبثت منفعلا بالسعادة والإكبار وأنا منفرد بنفسي في الحجرة المغلقة. كان المطر يهطل، وهدير الأمواج يتتابع في دفعات مدوية متقطعة راطنا بلغته المجهولة. ثم مضى الانفعال يهدأ وينخفض ويبرد حتى انداح في مستنقع من ماء آسن يغشاه زبد الكآبة. إن الصعود يذكر بالهبوط، والقوة بالضعف، والبراءة بالعفن، والأمل باليأس. وللمرة الثانية لم أجد من أصب عليه جام غضبي إلا شخصية سرحان البحيري. •••
اخترنا مجلسنا تحت شجرة كافور بكازينو الشاطئ. وكانت الشمس المائلة عن السمت تريق علينا شعاعها الدافئ فتذيب برد القاهرة القارص. وقالت وهي تتفادى طيلة الوقت من تلاقي عينينا: ما كان يجب أن أجيء.
فقلت بطمأنينة: ولكنك جئت فحسم مجيئك التردد. - لم يحسم شيئا، ثق من ذلك!
نظرت إليها وبي تصميم على القفز إلى الهاوية: إني مقتنع بأن مجيئك ... - كلا، المسألة أني لم أرض أن أبقى وحيدة مع رسائلك. - لا أظن أن رسائلي تتضمن جديدا. - ولكنك أرسلتها لشخص لا وجود له!
فلمست يدها المطروحة على المائدة كأنما لأثبت لها الوجود، ولكنها سحبتها وهي تقول: لقد أرسلتها بعد زمانها بأربع سنوات! - إنها تتضمن أشياء تجاوز بطبعها الزمان والمكان. - ألا ترى أنني ضعيفة وتعيسة! - وأنا كذلك، إني في رأي أصحابنا جاسوس. وفي رأي نفسي خائن. ولا ملجأ لي إلا أنت. - أي دواء. - لا يبقى غيره إلا الموت أو الجنون.
نفخت في توتر معذب ثم تمتمت: إني خائنة من قديم الزمان. - بل كنت مثال الإخلاص الزائف. - تعريف آخر للخيانة التي مزقتني.
فقلت بغضب: إننا نتمزق بلا سبب حقيقي، وذاك جوهر المأساة.
ونظرنا إلى النيل بلونه الرصاصي وأمواجه شبه الساكنة. ثم تسللت يدي من وراء النافذة إلى يدها فاحتوتها بحنان، وشدت قليلا لتسكت مقاومتها الضعيفة. وهمست: لا يجوز أن نذعن لرواسب غير صحية.
فقالت بحزن: إننا نتدهور معا بأكثر مما تصورت. - لكنا سنخرج من التجربة كالمعدن النقي.
ووجدت رغبة طاغية تدفعني إلى الحضيض كأنما الحضيض غاية منشودة تطلب لذاتها، أو كأنما الجحيم أمسى هدف الإنسان النهم إلى السعادة. •••
التقيت في محطة مصر بصديق قديم، صحفي وذي ميول تقدمية ولكنه لم يشتغل بالسياسة. جلسنا في البوفيه، أنا في انتظار الديزل وهو في انتظار شخص قادم من القنال. قال: علي أن أشكر هذه الفرصة الطيبة فقد كنت أود أن أقابلك.
حسن، ماذا يريد؟ إنني لم أره منذ تعييني في الإسكندرية. وإذا به يسألني: ماذا يجيء بك إلى القاهرة؟
حدجته بدهشة. أجل .. وكان يدرك أن سؤاله سيثير دهشتي .. فقال: لتشفع صداقتنا لصراحتي، يقولون إنك تجيء من أجل مدام فوزي.
لم أنزعج الانزعاج الذي توقعه. فقد ساورتنا - أنا ودرية - الشكوك من قبل، فقلت بفتور: إنها في حاجة إلى صديق كما تعلم. - وأعلم أيضا ...
فقاطعته باستهانة: وتعلم أنني أحبها من قديم!
فتساءل بإشفاق: وفوزي؟! - إنه أعظم مما يظن الآخرون.
فقال بضيق: إني - كصديق - غير سعيد بما يقال. - حدثني عما يقال.
ولكنه سكت .. فقلت بعصبية: إنني جاسوس، إنني هربت في الوقت المناسب، ثم تسللت إلى بيت الصديق القديم! - لم أقصد إلا ... - وأنت تصدق ذلك؟ - لا .. لا .. ولن أسامحك إذا توهمت ذلك. •••
تساءلت في طريق عودتي إلى الإسكندرية: هل أستحق نعمة الحياة؟ إني أبحث عن حل لمتناقضات شتى، حل عسير فيما يبدو. فلم لا يكون الموت هو الحل الأخير؟ وأردت أن أجلس بعض الوقت في التريانون، ولكنني لمحت في الخارج سرحان البحيري وحسني علام جالسين يتحادثان فعافتهما نفسي وعدلت عن الدخول. كانت سحب متقاربة الألوان تركض بسرعة ملحوظة وهي دانية، والهواء يهب في دفعات منعشة. سرت والكورنيش متحديا وقد ارتفع الماء وتطاير رشاشه إلى الطريق. وقلت لو أنني كنت أملك أشياء ثمينة لحطمتها. وقلت إن التوازن لن يرجع إلى الأشياء إلا بزلزال شامل.
وجاءتني زهرة بالشاي. قالت لي باعتداد الواثق من اهتمامي بشئونها: جاء أهلي ليأخذوني ولكنني رفضت.
ورغم فتور مشاعري عامة فإن اهتمامي بزهرة لم يمت، فقلت لها: أحسنت! - حتى الرجل الطيب، عامر بك، نصحني بالرجوع إلى القرية. - إنه يخاف عليك، هذا كل ما هنالك.
فرمقتني بإمعان ثم قالت: ولكنك لا تبتسم كعادتك.
ابتسمت إليها بلا روح فقالت: أنا فاهمة! - فاهمة؟ - نعم، سفرك كل أسبوع وانشغال بالك!
ضحكت على رغمي، فقالت بسعادة: أتمنى أن أشهد فرحك! - ربنا يسمع منك يا زهرة.
وتم التفاهم على ضوء نظرة متبادلة. وأشارت بيدها كأنما تدعوني إلى المرح فقلت: هناك شخص ينغص علي صفوي. - من هو؟ - شخص خان دينه!
فحركت يدها مستنكرة. - وخان صديقه وأستاذه!
واصلت حركتها الاستنكارية فسألتها: هل يغفر له الذنب أنه يحب؟
فقالت مستفظعة: حب الخائن نجس مثله! •••
انغمست في العمل. وكلما اضطربت أعصابي أو تشتت فكري سافرت إلى القاهرة. هنالك سعادة الحب. ولكن أي سعادة؟ لقد سعدت حقا عندما كفت عن المقاومة فتركت يدها في يدي. ولكني عانيت بعد ذلك شعورا محموما قلقا، وسيطرت علي فكرة غريبة وهي أن الحب طريق الموت، وأنني بالإفراط في كل شيء قد أبلغ نهاية الطريق. وقلت لها مرة: أحببتك من قديم، إنك تذكرين ذلك، ثم فوجئت بخطوبتك.
فقالت بحزن: إنك تبدو مترددا فيسهل إساءة فهمك.
ثم قالت بنبرات اعتراف: قبلت فوزي تأثرا بشخصيته. إنه كما تعلم يستحق كل إكبار.
وكان يجلس حولنا كثيرون من العشاق فسألتها: هل نحن سعداء؟
فحدجتني باستغراب وقالت: يا له من سؤال يا منصور! - أعني ربما ساءك أنني جعلت منك حديث المجالس. - لا يهمني ذلك، أما فوزي ...
أرادت بلا شك أن تردد ما قلته مرات عن سعة إدراكه وكبر قلبه ولكنها سكتت. وكرهت إدارة الأسطوانة من جديد. وإذا بي أسألها: درية، هل داخلك الشك في كالآخرين؟
قطبت في استياء لأنها حذرتني أكثر من مرة من طرق ذلك الموضوع ولكني قلت برغبة ملحة: لو فعلت لكان أمرا طبيعيا.
تحولت إلي محتجة وسألت: لم تنبش عن العذاب؟
تراجعت باسما وأنا أقول: طالما أسأل نفسي عما دعاك للخروج عن الإجماع؟
فقالت بضجر: الحق أنه ليس لك طبيعة الخونة! - وما طبيعة الخونة؟ إني ضعيف، إذعاني لأخي ضعف لا شك فيه، وإني أرشح الضعفاء للخيانة.
تناولت يدي بين يديها وقالت برجاء: لا تعذب نفسك .. لا تعذبنا.
وقلت لنفسي إنها لا تدري أنها أداة من أدوات التعذيب. •••
دخلت المدام حجرتي فأيقنت من أنني سأسمع أنباء. إنها تطير بالأخبار - كفراشة - من ناحية إلى أخرى. حسن. أما سمعت يا مسيو منصور؟! محمود أبو العباس بياع الجرائد خطب زهرة، ولكنها رفضته. - هو الجنون نفسه يا مسيو منصور!
فقلت ببساطة: إنها لا تحبه يا مدام. - قلبها سائر في طريق خاطئ.
وغمزت بعينها. وقلت لنفسي الويل له إذا غدر بها، وتملكتني بغتة فكرة غريبة، أو رغبة منحرفة، وهي أن يغدر بها لأنزل به العقاب الذي يستحقه!
ومالت نحوي هامسة: انصحها من فضلك، ستعمل برأيك .. إنها تحبك.
وأثارني فعل الحب فبذلت أقصى جهدي لكي أكظم غضبي. ••• - إنها من أصل طيب، شبه أرستقراطي، ولكنها لم تعد قديسة، للعمل ظروفه القهرية كما تعلم، ولولاي لأخليت شقتها وصودرت أموالها. •••
الريح تسفع النوافذ بوابل المطر. هدير الأمواج يقتحم أعماقي. لم أشعر بدخول زهرة حتى وضعت قدح الشاي على الترابيزة أمامي. رحبت بها لتنتشلني من أفكاري السوداء. تبادلنا ابتسامة. قدمت لها قطعة البسكوت. وقلت ضاحكا: ها هو ثاني عريس ترفضينه.
رمقتني بحذر فواصلت قائلا: أتريدين رأيي يا زهرة؟ إني أفضل محمود على سرحان.
فقطبت قائلة: لأنك لا تعرفه. - وهل عرفت الآخر كما يجب؟
فقالت بحدة: لا أحد يصدق أنني كفء له! - قولي ذلك لغير أصدقائك. - إنه لا يفرق بين المرأة وبين الحذاء!
وضحكت فقصت علي نادرة من تصرفاته وآرائه. فقلت: إنك تستطيعين أن تردي له التحية بأحسن منها.
ولكنها تحب سرحان وستظل تحبه حتى يتزوج بها أو يغدر بها. وقلت: زهرة .. إني أحترم رأيك وفعلك، بودي أن أهنئك في القريب. •••
تخلفت عن السفر إلى القاهرة لإنجاز أعمال عاجلة وهامة. اتصلت بي درية بالتليفون مستغيثة من وحدتها المضنية. ولما تلاقينا في الأسبوع التالي قالت لي بعصبية: جاء دوري لمطاردتك!
فقبلت يديها ونحن نستقل بحجرة منفردة بفلورينا، ثم أوجزت لها أخباري المتضمنة عذري. وكانت قلقة متوترة الأعصاب فأكثرت من التدخين، ولم أكن على حال أحسن. وقلت لها: كنت أدفن نفسي في العمل ولكني أطفو رغم إرادتي ويهمس لي صوت غريب بأن ثمة خطأ في العمل، أو أن أمرا هاما فاتني تدبره، وكثيرا ما أكتشف أنني نسيت شيئا ضروريا في البنسيون أو في المكتب.
فقالت بلهفة: ولكنني وحيدة، ولم أعد أحتمل وحدتي. - نحن في دوامة، ولا نحرك يدا لحل مشكلتنا. - والعمل؟
تفكرت قليلا مطاوعا المنطق وحده، ولكن أي منطق؟ لا منطق لمن تعتصره الانفعالات. كأنما كنت أنقب عن تحديات جديدة. قلت: لو سألنا العقل لأجاب بأن علينا أن نفترق أو أن نسعى إلى الطلاق.
اتسعت عيناها الرماديتان في فزع، ربما لاستجابتها لا لنفورها، وهتفت: الطلاق!
فقلت بهدوء: ثم نبدأ حياة جديدة. - تصرف خارق! - لكنه طبيعي، وأخلاقي إن شئت.
أسندت رأسها إلى يدها ثم سكتت معلنة إفلاسها، فقلت: ألم أقل إننا لا نحرك يدا؟
ثم بعد فترة صمت: خبريني عن فوزي لو كان مكاني؟
فقالت بصوت متهافت: أنت تعلم أنه يحبني. - ولكنه لن يبقي عليك إذا علم أنك تحبينني. - ألا يتسم تفكيرك بطابع نظري جدا؟ - ولكني أعرف فوزي، وهذا واقع! - تصور .. تصور أن يقول ... - إنك تخليت عنه وهو في السجن، أليس كذلك؟ لا قيمة لذلك، تتخلين عنه لا عن مبادئه.
تخيلته وهو مستلق على الكنبة الاستديو، يرمقني بعينيه اللوزيتين السوداوين، يدخن غليونه، يعالج هموما لا حصر لها ولكنه لا يشك في سعادته الزوجية. وسألتني: فيم تفكر؟
فقلت: إن الحياة الحقة لا تجود بنفسها إلا للأكفاء.
ثم تناولت يدها وأنا أقول: لنشرب كأسين ولنكف عن التفكير. •••
غبت عما حولي. صهرني الغضب. مذ علمت بتهجم حسني علام على زهرة صهرني الغضب. كان يجلس معي في المدخل عامر وجدي والمدام، ولكني لم أسمع من حديثهما إلا وشا. وعلمت أيضا بمشاجرة سرحان وحسني فتمنيت لو أنها استمرت حتى الموت، الموت لكليهما. تمنيت أيضا أن أؤدب حسني ولكن لم يداخلني شك في قدرته على سحقي فكرهته حتى الجنون. وغادرت المدام المكان فنبهتني إلى ما حولي. نظرت إلى عامر وجدي فرأيته يرنو إلي باهتمام ومحبة فتخففت من انفعالات القتال المحتدمة في صدري، وتلقيت فكرة عجيبة بأن الرجل العجوز كان صديقا حميما لأبي أو لجدي. وراح يسألني عن أحلامي فقلت باقتضاب: يخيل إلي أنه لا مستقبل لي.
فابتسم ابتسامة مجرب لكل شيء، وكأنما مر به سخطي مرات بشتى الصور، ثم قال: الشباب عدو الرضا، هذا كل ما هنالك. - لقد استغرقني الماضي فبت أعتقد أنه لا يوجد مستقبل.
قال بجدية وقد زايل الابتسام وجهه: ثمة صدمة، عثرة، سوء حظ، ولكنك تستحق الحياة بكل جدارة.
كرهت أن أناقش معه همومي، حتى المشروع منها، فتساءلت متهربا: ماذا عن أحلامك أنت يا أستاذ؟
ضحك طويلا ثم قال: نوم الشيوخ يقل للدرجة التي تنعدم فيها الأحلام، غير أني أتمنى ميتة رفيقة. - إذن فالموت أنواع؟ - ما أسعد الرجل الذي نام عقب سهرة طيبة ثم لم يصح إلى الأبد.
فسألته مأخوذا بلذة محادثته: أتعتقد أنك ستبعث ذات يوم؟
ضحك مرة أخرى وقال: أجل، إذا جمعت برامجك في كتاب! •••
يعجبني جو الإسكندرية .. لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة .. ولكن في غضباته الموسمية .. عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم .. ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب .. ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب. عند ذاك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل .. وتتتابع الدفقات ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون .. ويدوي عزيفها في الآفاق .. ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتى حافة الطريق .. ويجعجع الرعد حاملا نشوات فائرة من عالم مجهول .. وتندلع شرارات البرق فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب .. وينهل المطر في هوس فيضم الأرض والسماء في عناق ندي .. عند ذاك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها كأنما يعاد الخلق من جديد.
وعند ذاك فقط يجلو الصفاء ويطيب .. إذا انقشعت الظلمات .. وأسفرت الإسكندرية عن وجه مغسول .. وخضرة يانعة، وطرقات متألقة، ونسائم نقية، وشعاع دافئ، وصحوة ناعمة.
عايشت العاصفة من وراء الزجاج. حتى نعمت بالصفاء. شيء حدثني بأن تلك الدراما إنما تحكي أسطورة مطمورة في قلبي .. وتخط طريقا ما زال غامض الهدف .. أو تضرب موعدا في غمغمة لم تفهم بعد.
دقت الساعة الكبيرة فوضعت إصبعي في أذني حتى لا أعرف الوقت. ثم ترامت إلي أصوات غريبة. استمرت في إصرار وارتفعت. مشاحنة؟ .. شجار؟ إن الأحداث التي تقع في البنسيون تكفي قارة بأكملها. وحدس قلبي بأن زهرة محورها كالعادة. وفتح باب بعنف فوضحت الأصوات تماما. زهرة وسرحان! وثبت إلى الباب ففتحته. رأيتهما في الصالة وجها لوجه كديكين والمدام تحول بينهما.
وكان سرحان يصرخ في غضب هادر: أنا حر .. أتزوج بمن أشاء .. سأتزوج من علية.
زهرة غاضبة كبركان، عز عليها أن يعبث بها، أن تنهار آمالها ثم ترتد وهي الخاسرة. إذن قد نال أربه ويريد أن يولي وجهة أخرى. اقتربت منه ثم أخذته من يده عائدا إلى حجرتي. كان ممزق البيجاما في أكثر من موضع، دامي الشفتين. وراح يصيح: شريرة متوحشة!
فطالبته بالهدوء ولكنه تمادى في الغضب وهو يقول: تصور .. تريد حضرتها أن تتزوج مني!
فعدت أنصحه بالهدوء فصاح: مجنونة فاجرة!
وضقت به فسألته: لم أرادت أن تتزوج منك؟ - اسألها .. اسألها. - إني أسألك أنت.
نظر إلي لأول مرة في انتباه، فقلت: لا بد من سبب يبرر طلبها؟
تحول الانتباه في عينيه إلى حذر ثم سألني: ماذا تعني؟
فقلت بغضب: أعني أنك وغد. - أستاذ!
فبصقت في وجهه وأنا أصرخ: على وجهك، ووجه كل وغد، وكل خائن.
وسرعان ما اشتبكنا في عراك عنيف. بيد أن المدام اقتحمت الحجرة قبل أن يستفحل الضرب.
دخلت بيننا وهي تقول: من فضلكم. لقد ضقت بذلك كله. سووا خلافاتكم في الخارج لا في بيتي.
وذهبت به خارج الحجرة. •••
مظلم الرأس، مثقل القلب. مشتت الفكر، هكذا ذهبت إلى دار الإذاعة. ولما دخلت حجرتي رأيت امرأة جالسة أمام مكتبي. امرأة؟! درية! أجل درية دون غيرها. عقدت الدهشة لساني، تسمرت أمامها لحظات، ثم انجابت الظلمات عن رأسي فهتفت: درية!
وابتسمت. يجب أن أبتسم، بل يجب أن أتهلل. وأخذت يدها بين يدي فضغطت عليها بحنو، واجتاحتني عاطفة ثرية بالفرح، اكتسحت القلق والمخاوف التي تنهش قلبي، وقلت: يا لها من مفاجأة! أي سعادة يا درية!
قالت وهي تطالعني بوجه شاحب: كان يمكن أن أنتظر يومين حتى نلتقي ولكنني لم أستطع الانتظار، واتصلت بك تليفونيا فلم أجدك.
وساورني قلق لم أعرف كنهه. جئت بكرسي فجلست قبالتها وأنا أقول: ليكن خيرا ما جاء بك يا درية.
قالت وهي تغض البصر: بلغتني رسالة من فوزي عن طريق صحفي صديق.
خفق قلبي. إنه الصحفي الصديق. لا خير هناك على وجه اليقين. قالت: إنه يمنحني الحرية للتصرف في مستقبلي كما أشاء.
اشتد خفقان قلبي. وضح الأمر بحذافيره ولكني صممت على تقطيره نقطة نقطة. والعجب أن الاضطراب شملني لدرجة لم أنعم فيها بأي شعور مريح أو سعيد. بل خيل إلي أنني غير سعيد. وسألت بعناد: ماذا يعني؟ - واضح أنه علم بأمرنا. - ولكن كيف؟ - بأي طريق كان، ليس ذلك بالمهم.
تبادلنا نظرا حائرا. شعرت بأنني أكبل بالحديد. وقلت لنفسي كان يجب أن أحظى بقدر من السعادة أو الارتياح، فماذا جرى؟ وسألت: ترى هل غضب؟
فقالت بعصبية: لقد تصرف على أي حال كما توقعت أنت!
أحنيت رأسي في تسليم ذاهل، فقالت: عليك الآن أن تمدني برأيك؟!
أجل، لا يبقى إلا أن أعطيها إشارة البدء، أن تمضي الإجراءات في سبيلها، أن أبني عش الزوجية كما اقترحت وتمنيت. ها هو الحلم يستأذنني ليتسرب إلى عالم الحقيقة. ولكنني غير سعيد، يجب أن أكون صريحا مع نفسي، بل أبعد ما يكون عن السعادة. إني قلق وخائف. وليس ما بي شعور بالندم أو الخجل. إنه ملتصق بذاتي دون غيري. ملكي الشخصي. وإذا لم أكن في موقف دفاع عن سعادتي ففي أي موقف أكون؟
وقالت بنبرة لا تخلو من استياء: كلما فكرت وأمسكت عن الجواب، أشعرتني بأنني منبوذة في وحدة قاتلة!
ولكني كنت في حاجة إلى المزيد من التدبر. وكان الخوف والقلق قد بلغا بي مبلغا لم أعد أكترث فيه لعواطفها أو حتى مجاملتها. أفقت من سحرها كأن هراوة صكت رأسي. تحررت من سيطرتها. ارتفعت في باطني المضطرب القلق المذعور موجة سوداء من النفور والتمرد والقسوة. لم أجد لذلك تفسيرا إلا يكن الجنون نفسه.
وتساءلت هي بحدة: لم لا تتكلم؟
قلت بهدوء مخيف: درية .. لا تقبلي هبته الكريمة.
حملقت في وجهي. حملقت في وجهي ذابلة غير مصدقة تعيسة غاضبة، فقلت ممعنا في وحشيتي: افعلي ذلك بلا تردد! - أنت تقول ذلك؟! - نعم. - إنه لمضحك، إنه لمبك، إني لا أفهم شيئا.
فقلت بيأس: فلنؤجل الفهم إلى حين. - لا يمكن أن تدعني بلا تفسير! - لا أملك أي تفسير.
انبثق شعاع غضب من أعماق عينيها الرماديتين وقالت: إنك تجعلني أشك في عقلك. - أعتقد أنني أستحق ذلك.
فصاحت بحنق: أكنت تعبث بي طيلة الوقت؟ - درية! - صارحني .. أكنت تكذب علي؟ - أبدا. - إذن هل مات حبك فجأة؟ - أبدا .. أبدا. - إنك تصر على العبث بي. - ليس عندي ما أقوله، إني أكره نفسي، هذا ما يجب أن أصارحك به، وعليك ألا تقتربي من رجل يكره نفسه.
عكست عيناها المحملقتان هبوطا في قواها الداخلية. ثم انتزعت بصرها من وجهي بازدراء وحنق. ولبثت فترة صامتة كأنما لا تدري ماذا تصنع بنفسها. ثم تمتمت وكأنما تحادث نفسها: إني حمقاء. وعلي أن أدفع ثمن حماقتي. لم تشعرني بالثقة قط، ولا الأمان، كيف تجاهلت ذلك؟ لقد دستني في اندفاعك المجنون. أجل، إنك مجنون.
تخشعت كطفل مذنب مطيع. ولذت بالصمت كذريعة أخيرة لإنهاء الموقف المعذب. تجنبت النظر نحوها. تجاهلت وقع عينيها، صوت أصابعها فوق حافة المكتب، نفخها المضطرم. تحولت إلى جثة هامدة.
وجاءني صوتها متهافتا: أليس لديك ما تقول؟
فثابرت على الموت. قامت بشيء من العنف فقمت بدوري. غادرت المكان فتبعتها حتى بلغنا الطريق. وعبرناه معا. ثم أوسعت خطاها معلنة رفضها لمرافقتي فتوقفت. أتبعتها عيني كمن ينظر في حلم. وتضخم الحلم وامتد رواقه. وتراجع الواقع حتى توارى وراء الأفق. رنوت إلى مشيتها المألوفة المحبوبة بغرابة، وبحزن، وحتى تلك اللحظة الجنونية لم يغب عني أن ذاك الكائن المخلخل المقهور الذي يختفي رويدا في تيار السابلة. لم يغب عني أنه حبي الأول وربما الأخير في هذه الدنيا. وباختفائها هويت إلى الحضيض. ورغم شقائي المؤكد فقد داخلني ارتياح غامض غريب. •••
البحر يترامى تحت سطح أملس باسم الزرقة، فأين العاصفة الهوجاء؟ والشمس تهوي إلى المغيب مرسلة شعاعا ماسيا يلتحم بأهداب سحائب رقيقة، فأين جبال الغيوم؟ والهواء يلاعب سعف النخيل في غابة السلسلة بمداعبات شفافة رقيقة، فأين الرياح الهوج المزلزلة؟
ونظرت إلى وجه زهرة الشاحب، ودموعها الجافة على الوجنتين، ونظرتها الكسيرة الذابلة، فخيل إلي أنني أنظر في مرآة، وأن الحياة تطالعني بفطرتها الخشنة الفظة الرهيبة، بإمكانياتها المجردة، بصمودها الصلب المغطى بالأشواك، بآمالها الخبيثة في قوقعة مسمومة الأطراف، بروحها الأبدية التي تجذب إليها المغامرين واليائسين فتقدم لكل غذاءه. لقد سلبت الشرف وهجرت بلا كبرياء. أجل، إني أنظر في مرآة.
رمقتني بتحذير وقالت: لا لوم ولا عتاب من فضلك.
فقلت بحزن: سمعا وطاعة.
لم أكن أفقت بعد من تجربة درية المريرة، ولا وجدت الوقت الهادئ لتحليلها وفهمها. ولكني كنت ممتلئا بها حتى الجنون. وكنت على يقين من أن العاصفة آتية لا ريب فيها، وأن ثمة ذروة للمأساة لم أبلغها بعد. وكان من المستحيل أن أبقى صامتا فقلت مواسيا: قد يكون الخير فيما حصل.
لم تنبس .. فسألتها: ماذا عن المستقبل؟
تمتمت بلا روح: إني أحيا كما ترى. - وأحلامك يا زهرة؟ - سأستمر ...
قالتها بعناد وإصرار ولكن أين الروح؟ قلت: سيذهب الحزن كأن لم يكن، وسوف تتزوجين وتنجبين أطفالا.
قالت بمرارة: خير ما أفعل أن أتجنب جنس الرجال.
ضحكت أول ضحكة منذ دهر. إنها لا تدري بالدوامة التي تعصف بي، ولا بالجنون الذي يتربص بي.
وخطرت لي فكرة، أخطرت فجأة بلا مقدمات؟ كلا، لا شك أن لها جذورا مطمورة لم أفطن لها. إنها جنونية ولذلك فهي مغرية. فكرة غريبة باهرة وأصيلة. وغير بعيدة أن تكون هي ما أبحث عنه. أن تكون البلسم لالتهاباتي المزمنة. نظرت إليها بحنان، وقلت: زهرة، لن تطيب لي الحياة وأنت حزينة.
اغتصبت من شفتيها ابتسامة شكر، فقلت وموجة الحماس ترتفع بي درجة جديدة: زهرة .. اطردي الأحزان .. كوني كما كنت دائما. خبريني متى أرى ابتسامة السعادة على شفتيك!
ابتسمت برأس حان. ارتفعت موجة الحماس درجة جديدة. ها هي الفتاة المنفية الوحيدة المهجورة المسلوبة الشرف. وقلت بانفعال غريب: زهرة .. لعلك تجهلين كم أنك عزيزة عندي .. زهرة .. اقبليني زوجا لك!
التفتت نحوي بحركة سريعة، ذاهلة وغير مصدقة. انفرجت شفتاها لتتكلم، ولكنها لم تنبس بحرف.
قلت وأنا واقع تحت سيطرة انفعالي الغريب: اقبليني يا زهرة .. إني أعني ما أقول.
قالت ولما تفق من دهشتها: لا. - فلنتزوج في أقرب فرصة.
تحركت أصابعها القوية بعصبية وهي تقول: إنك تحب واحدة أخرى! - لم يكن هناك حب، إنها حكاية اختلقها خيالك، فأسمعيني جوابك يا زهرة.
تنهدت .. تنهدت وهي ترمقني في ارتياب وقالت: أنت كريم نبيل، وعطفك يدفعك في طريقه بلا تفكير، كلا، لن أقبل ذلك، وأنت لا تعنيه، كلا، لا تعد إلى ذلك. - إذن ترفضينني يا زهرة؟ - إني أشكرك، ولكن ليس هناك طلب حتى أرفضه أو أقبله. - صدقيني، أقسم لك، امنحيني وعدا .. أملا .. وسأنتظر.
قالت بإصرار ودون أن تأخذ كلامي مأخذ التصديق الحقيقي: كلا، إني أشكر عطفك وأقدره، ولكنني لا أستطيع أن أقبله. عد إلى فتاتك، إن كان هناك خطأ فلا شك أنها هي المخطئة ولكنك ستسامحها. - زهرة .. صدقيني. - كلا .. لا تعد إلى ذلك من فضلك.
قالتها بإصرار رهيب، ثم تبدى الإعياء في أعماق عينيها وكأنما ضاقت بالموقف كله، فشكرتني بإيماءة وهي تمضي خارجا بتصميم قاطع.
ارتددت إلى الفراغ. نظرت فيما حولي كأنما أبحث عن غوث. متى يقع الزلزال؟ متى تهب العاصفة؟ وماذا قلت؟ كيف قلته؟ ولم؟ أيوجد شخص آخر يتخذ مني وسيطا له كلما شاء هواه؟ وكيف يمكن أن أضع حدا لذلك كله؟ •••
كيف يمكن أن أضع حدا لذلك كله؟
كررت السؤال وأنا أغادر الحجرة بجنوني. رأيت في الصالة سرحان البحيري وهو يتكلم في التليفون. ولمحت حقيبته وراء الباب مؤذنة برحيله الأبدي. نظرت إلى مؤخر رأسه المائل إلى سماعة التليفون بمقت. كأنما أنظر إلى عدو لدود ورائي. إنه يملأ حياتي أكثر مما تصورت. وإذا اختفى حقا إلى الأبد فماذا أصنع بحياتي؟ وكيف أعثر عليه مرة أخرى؟ إنه يشدني إليه شدا كالنور والفراشة. إنه الجرعة السامة التي قد أتداوى بها.
وارتفع صوته الرنان وهو يقول للتليفون: طيب .. الساعة الثامنة مساء .. سأنتظر في كازينو البجعة.
إنه يضرب لي موعدا .. وربما يحدد لي هدفا. إنه يدعو جنوني إلى الرقص. صوته الرنان يغريني بالانتحار. إنه يأمرني بأن أتبعه. وسيمن علي بانتشالي من الفراغ.
تراجعت إلى حجرتي خشية أن أندفع مع عواطفي الجامحة. ولما غادرت البنسيون لم يكن به أثر لسرحان.
ذهبت إلى أثنيوس. فكرت أن أكتب رسالة إلى درية ولكن الجنون عصف برغبتي كما عصف بعقلي.
واتخذت مجلسي في ركن البهو الداخلي بكازينو البجعة، كمن قرر الهجرة فودع المدينة وهمومها جميعا. وجدت شيئا من الراحة وشيئا من صفاء الذهن. توارى الركن وراء موائد مشغولة برجال ونساء. وطلبت كأسا من الكونياك ثم أتبعتها بأخرى وعيناي مصوبتان نحو المدخل. وقبيل الثامنة بربع ساعة جاء البطل المنشود. جاء يتقدمه طلبة مرزوق. أكان هو الشخص الذي كلمه في التليفون؟ ومتى جمعت بينهما هذه الصداقة الطارئة؟ جلسنا على مبعدة عشر موائد من مجلسي، وجاءهما الجرسون بكونياك كذلك. وتذكرت أنني وافقت صباحا - على مائدة الإفطار - على اقتراح لطلبة مرزوق بأن نمضي سهرة رأس السنة في المونسنيير. أجل، وعدت بالاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة. ومضيت أنظر إليهما من وراء وهما يشربان ويتبادلان الحديث والضحك. •••
حرصت على ألا يراني، ولكنه لمحني في المرآة. تجاهلته ومضيت وأنا ألعن سوء الحظ. كانت الطريق خالية تماما، وكنت أسمع أطيط حذائه ورائي. وأبطأت في السير حتى أوشك أن يدركني وكنا أوغلنا في الطريق الخالية، وحاذاني وهو يرمقني بارتياب. وتباطأ في السير حتى لا يعرض لي ظهره بلا دفاع، وقال: إنك تتبعني .. لقد رأيتك من البداية.
فقلت ببرود: نعم.
ازداد حذرا وهو يتساءل: لماذا؟
نزعت المقص من معطفي وأنا أقول: لأقتلك.
تحجرت عيناه على المقص وهو يقول: أنت مجنون بلا شك.
وتوثب كلانا سواء للهجوم أو للدفاع، ومضى يقول: لست بولي أمرها! - ليس من أجل زهرة .. ليس من أجل زهرة فقط. - إذن لماذا؟ - لا حياة لي إلا بقتلك! - ولكنك ستقتل أيضا، أنسيت؟
فاجتاحني شعور المهاجر الذي ودع المدينة بكافة همومها، وثملت به. وإذا به يسألني: كيف عرفت مكاني؟ - سمعتك في البنسيون وأنت تتكلم في التليفون. - وعزمت عند ذاك على قتلي؟ - أجل. - ألم تعزم على ذلك من قبل؟
ذهلت، لم أجب، ولكني لم أتراجع. - إنك في الواقع لا تريد قتلي. - بل أريده، وسأقتلك! - هبك لم ترني ولم تسمعني في تلك اللحظة. - ولكني رأيتك وسمعتك .. وسأقتلك. - ولكن لماذا؟
ذهلت مرة أخرى، ولكن تأكدت نيتي على القتل ورسخت إلى الأبد. وصحت به: لذلك أقتلك، خذ .. خذ. •••
ترامت إلي ضحكة سرحان وهو يحادث طلبة مرزوق. وأكثر من مرة غادر مكانه ثم رجع إليه.
لعنت طلبة مرزوق وقلت إن مجيئه قد أفسد كل شيء. غير أنه قام بعد مضي ساعة أو نحوها فصافح سرحان مودعا وذهب. بقي سرحان وحده فتلهفت على اللحظة التي يمحي فيها العذاب. وواصل الشراب ولكنه لم يتلفت كثيرا نحو مدخل المكان. ووضح في لفتاته التوتر والقلق. أينتظر شخصا آخر؟ هل يجيء الآخر فيضيع الفرصة إلى الأبد؟
ودعاه الجرسون إلى التليفون فمضى مسرعا ملهوفا. غاب بعض الوقت ثم رجع إلى مجلسه واجما متجهما. رجع في الحقيقة متهدما. ماذا حدث؟ لم يجلس، دفع حسابه ثم غادر المكان. راقبته من الزجاج الفاصل بين البهو والداخل فرأيته متجها نحو البار، ربما لمزيد من الشراب. تربصت به حتى فارق مكانه ماضيا نحو الباب الخارجي، فغادرت مجلسي في هدوء وتمهل. ولدى خروجي كان قد عبر الطريق. أحكمت المعطف حولي اتقاء لهواء خفيف ولكن لاسع كالسياط. الطريق خال تماما، وأضواء المصابيح متلفعة بهالات من الضباب، وهسيس النبات على الجانبين يخرق الصمت الشامل. سرت حذرا، أكاد ألاصق الجدران، ولكنه بدا غائبا في أفكاره ذاهلا عما حوله منهمكا بكليته في عالم وحده، حتى إنه نسي المعطف مطروحا على ذراعه. ماذا حصل؟ لقد ظل طيلة الوقت يتحدث ويضحك، فماذا قلبه؟ أما أنا فقد تركزت في فكرة واحدة كأنما هي وجه الخلاص الوحيد لي. وإذا به يميل إلى الطريق الزراعي الموصل للبالما. طريق خال ومظلم، مهجور تماما في تلك الساعة، ماذا يروم منه؟ وأي قضاء يتصرف كأنما ليسلم عنقه بين يدي؟! أسرعت قليلا حتى لا أضله وأنا ألامس سياج الحدائق، وقد غرقنا معا في الظلام. وجعلت أتوثب وأنا أتابع شبحه، ولكنه توقف فجأة فوقفت عن التقدم وأنا أرتعد. سيقع شيء ما. ربما جاء شخص غريب، علي أن أنتظر. وإذا بصوت يند عنه كلمة .. إشارة صوتية. قيء! وتحرك ببطء مسافة قصيرة ثم سقط على الأرض. سكران مخمور. لقد شرب فوق طاقته وها هو يفقد الوعي. وانتظرت وأنا أرهف السمع ولكن لم يقع شيء. اقتربت منه حتى كدت أعثر به. انحنيت فوقه، أردت أن أناديه ولكن صوتي انحبس. لمست جسمه ووجهه فلم يستجب، غرق تماما في غيبوبة الخمر، وسوف يفارق العالم بلا ألم أو خوف، كما يتمنى عامر وجدي العجوز. هززته برفق فلم ينتبه، هززته بشيء من الشدة فلم ينتبه أيضا، حركته بعنف فلم تبدر منه بادرة أمل في إفاقة. انتصبت قامتي في حنق. دسست يدي لأستخرج المقص ولكني لم أجد له أثرا. فتشت عنه في جميع مظانه عبثا. أسهي علي أن آخذه! كنت مضطربا، متأزما، يائسا، ثم جاءت المدام لتستطلع رأيي في سهرة رأس السنة. أجل، لقد غادرت الحجرة دون أن أحقق الغرض الوحيد من رجوعي إليها. تضاعف غضبي على نفسي، تضاعف غضبي على السكران المنعم بغيبوبة لا يستحقها. ركلته في جنبه. ركلته مرة أخرى بقوة أشد. ركلته الثالثة بعنف. وجن جنوني فانهلت عليه بطرف الحذاء في شتى أطرافه حتى أفرخت غضبي وهياجي. تراجعت إلى السياج وأنا أترنح من الإعياء مرددا: «لقد قضيت عليه.» كنت أتنفس بصعوبة وأشعر بتقزز، وسيطر علي إحساس مضن بأنني مجنون يمارس حركات جنونية عنيفة في الظلام، وتذكرت درية. تذكرتها وهي تنظر في أعماق عيني، وهي تضيع في زحمة الطريق.
ورجعت إلى البنسيون مشيا على الأقدام. تخيلت زهرة وهي تغط في نوم مرهق ثقيل خانق.
وتناولت حبة منومة ثم استلقيت على الفراش. •••
دفعني بإصرار وهو يقبض على منكبي فصرخت غاضبا: إنك تقضي علي إلى الأبد!
سرحان البحيري
هاي لايف.
معرض أشكال وألوان مثير للشغب، شغب البطون والقلوب. موجة هائلة من الأنوار الباهرة تسبح فيها قدور فواتح الشهية، العلب الحريفة والمسكرة، اللحوم المقددة والمدخنة والطازجة، الألبان ومستخرجاتها، القوارير المضلعة والمنبسطة والمبططة والمربعة والمنبعجة المترعة بشتى الخمور من مختلف الجنسيات.
لذلك تتوقف قدماي بطريقة أتوماتيكية أمام كل بقالة يونانية.
وهواء الخريف يلفحني بدسامته الجنسية. وعيناي ترنوان إلى الفلاحة بين الزبائن أمام الطاولة. طوبى للأرض التي غذت وجنتيك ونهديك. وأنا أراجع أسعار القوارير لمحتها. امتد إليها بصري من موقفي فوق الطوار، مارا فوق برميل الزيتون، نافذا من فرجة بين الهيج والديوارس، مائلا عن قطاعة البسطرمة، حتى استقر على عارض وجهها الأسمر المرفوع إلى البقال ذي الشارب البلقاني. وقد تأبطت حقيبة من القش المجدول ملئت بالمشتريات، وقد برزت من جانب غطائها رأس زجاجة الجوني ووكر.
تصديت لها وهي تغادر المحل فتلاقت عينانا، ارتطمت نظرتها المستطلعة الصلبة بنظرتي الضاحكة المعجبة. سارت في طريقها فسرت وراءها ولا غاية إلا تحية الجمال ذي العبير الريفي الذي أحبه. تعرضنا في طريق الكورنيش لدفقات هواء الخريف المشعشع بالشعاع الواني الغارب، وهي تتقدمني في مشية عسكرية سريعة حتى انعطفت فيما وراء عمارة الميرامار. التفتت ناحيتي وهي تمرق إلى مدخل العمارة فتلقيت نظرة عسلية محايدة.
وتذكرت موسم جني القطن في قريتنا. •••
كان عبيرها قد تبخر من نفسي أو كاد عندما رأيتها للمرة الثانية في نهاية الأسبوع. لمحتها أمام معرض محمود أبو العباس وهي تبتاع الجرائد. أدركتها قبل أن تذهب وأنا أقول: صباح الفل.
رد محمود أبو العباس التحية دونها ولكنها نظرت نحوي فتلقيت نظرتها بعين صقر تود أن تشدها إليها إلى الأبد. سرعان ما ذهبت وقد هيجت عبيرها من جديد فملأ حواسي جميعا، وقلت لمحمود: هنيئا لك!
فضحك في براءة فسألته: من أين؟
فأجاب دون مبالاة: تعمل في بنسيون ميرامار.
رددت إليه مبلغا كنت اقترضته في زنقة من مطالب الأسرة ثم مضيت أتمشى حول الفسقية في انتظار المهندس علي بكير. فلاحة حلوة، حلوة بكل معنى الكلمة، وها هي تسلب لبي. انتشيت بالانفعال وشعاع الشمس وبالوجوه الكثيرة الواقعة في حبائل الانتظار حولي.
وتذكرت موسم جني القطن في قريتنا. •••
جاء علي بكير حوالي العاشرة صباحا، فذهبنا إلى مسكني بشارع الليدو بالأزاريطة. كانت صفية قد ارتدت ملابسها فذهبنا إلى سينما مترو. غادرنا السينما في الواحدة بعد الظهر فسبقاني إلى الشقة وذهبت إلى هاي لايف لابتياع زجاجة نبيذ قبرصي.
رأيت الفلاحة واقفة تستبضع. كملاطفة الأحلام وابتسام الحظ. شيء نبهها إلى وقفتي فيما وراءها، فالتفتت مستطلعة فرأت وجهي المبتهج. أرجعت رأسها ولكنني لمحت في مرآة تتوسط أسرابا من قوارير الخمر ابتسامة انفرجت عنها شفتاها الورديتان. رأيت - فيما يرى الحالم اليقظان - نفسي مقيما في البنسيون، أستمتع فيه بالدفء والحب. لقد تسللت إلى نفسي، أنعشت قلبي كما حدث له مرة في كلية التجارة. وهذه الابتسامة صريحة كشمس النهار المشرق. فلاحة .. بعيدة عن منبتها .. غريبة في بنسيون .. غريبة كالكلب الضال الأمين في سعيه وراء صاحب.
وقلت لها ونحن نغادر المحل: لولا ضوء النهار لأوصلتك. - فقطبت ساخرة وهي تقول دون غضب حقيقي: دمك خفيف!
فحلمت أحلاما سعيدة بعبير الريف والحب البكر. •••
وجدت علي بكير متربعا فوق شلته بحجرة الشلت، وصفية تعد الطعام في المطبخ. ارتميت إلى جانبه ثم وضعت الزجاجة أمامي وأنا أقول: نار .. هذا هو آخر تعريف علمي للأسعار.
شد على ذراعي ثم سألني: مرت أزمة العام الدراسي الجديد؟ - مرت ولكن بغير سلام.
أخبرته ذات يوم بتنازلي لأمي وإخوتي عن إيراد ميراثي من الأرض البالغ أربعة أفدنة، ولكن ما الفائدة؟!
وقال مشجعا: ما زلت في مقتبل العمر والحياة، وأمامك مستقبل باهر.
فقلت في ضجر: حدثني عن الحاضر من فضلك، وخبرني بالله عن معنى الحياة بلا فيلا وسيارة وامرأة!
ضحك علي بكير موافقا، وسمعت صفية حديثي وهي قادمة بالصينية فرمقتني بنظرة ضارية وخاطبت المهندس قائلة: لا ينقصه شيء، ولكنه جاحد ابن جاحدة!
فتراجعت قائلا: لا أملك في الواقع إلا المرأة.
قالت صفية متشكية: نحن نعيش عيشة مشتركة منذ أكثر من عام، عزمت على تعليمه الاقتصاد فجرفني معه إلى التبذير.
شربنا وأكلنا ونمنا.
وغادر ثلاثتنا المسكن قبيل الغروب فذهبت صفية إلى الجنفواز، وذهبت وعلي بكير إلى الكافيه دي لابيه. سألني ونحن نحتسي القهوة: أما زالت تطمح إلى الزواج منك؟ - مجنونة .. ماذا تتوقع من مجنونة؟ - أخاف أن ... - نجوم السما أقرب إليها مني، ثم إنني مللتها جدا.
نظرنا من الزجاج إلى جو رائق. شعرت بعيني علي بكير وهما تتحولان إلي فتجاهلتهما وأنا أستشعر نذير الخطر. وما لبث أن قال: لندخل في الجد.
حولت نظري إليه. صرنا وجها لوجه. لا مفر الآن ولا مهرب، قلت: لندخل في الجد.
فقال في هدوء غريب: حسن، تمت دراسة الموضوع بدقائقه.
انقبض قلبي.
انقبض قلبي. نظرت إليه بتسليم واهتمام وقلق. قال: أنا المهندس المختص وأنت المشرف على حسابات القسم، سواق اللوري مضمون، وكذلك الخفير، لم يبق إلا أن نجتمع للقسم على القرآن.
ضحكت رغما عني. نظر إلي متسائلا، ثم أدركت النكتة التي أفلتت منه بلا قصد. ضحك أيضا، ثم قطب قائلا: ليكن، إنه مال بلا صاحب، تصور ما يعنيه لوري من الغزل في السوق السوداء، عملية مأمونة ويمكن أن تتكرر أربع مرات في الشهر.
رحت أفكر وأحلم. وواصل علي حديثه قائلا: الخطوات المشروعة سراب، صدقني. ترقيات وعلاوات ثم ماذا؟ بكم البيضة؟ .. بكم البدلة؟ وها أنت تتحدث عن فيلا وسيارة وامرأة. حسن، أفتني إذن، وقد انتخبت عضوا في الوحدة فماذا أفدت؟ وانتخبت عضوا في مجلس الإدارة فماذا جد؟ وتطوعت لحل مشكلات العمال، فهل فتحوا لك أبواب السماء؟ والأسعار ترتفع والمرتبات تنخفض والعمر يجري، حسن، ما الخطأ؟ كيف وقع؟ أنحن أرانب معمل؟ عزيزي .. اعدلني على القبلة.
سألته وصوتي يقع من سمعي موقع الصوت الغريب: متى نشرع في العمل؟ - لن نبدأ قبل شهرين وربما ثلاثة، يجب أن يكون التخطيط أساس عملنا، وبعدها حياة خالد الذكر هارون الرشيد.
رغم أن مقاومتي الحقيقية كانت قد انهارت من زمن بعيد إلا أن قلبي ناء بهم ثقيل. وجعل ينظر في عيني ببصر حاد. ثم سألني: هه؟
فانفجرت ضاحكا: ضحكت حتى دمعت عيناي، وطالعني وجهه طيلة الوقت صلبا باردا متسائلا. ملت نحوه فوق المائدة ثم همست: أوكي أيها الزميل العزيز.
شد على يدي ثم ذهب. لبثت وحدي موزعا بين أفكاري. - أستاذ .. سأحتاج قريبا إلى خبرتك.
سألته عما يريد فقال: سأشتري - إن شاء الكريم - مطعم بنايوتي عندما يقرر السفر إلى الخارج.
ذهلت حقا. نظرت إلى معرضه المكتظ بالكتب والجرائد والمجلات، هل مكنه حقا من ادخار ما يبتاع به مطعم بنايوتي؟ وسألته: ماذا تريد مني وأنا لا أعرف عن الطعام إلا أنه يؤكل؟ - أن تساعدني في الحسابات.
وعدته خيرا، ثم خطر لي أن أبيع الأفدنة وأشاركه، فسألته: لعلك تحتاج إلى شريك؟
فأجاب بنفور واضح: كلا، لا أحب الشركة، ولا أريد للمطعم أن يكبر فيلفت نظر الحكومة. •••
ذهبت إلى المقر العام للاتحاد الاشتراكي، فاستمعت إلى محاضرة عن السوق السوداء، أعقبتها مناقشة عامة. ولما انفض الاجتماع سمعت صوتا يناديني وأنا ماض نحو الباب الخارجي. توقفت في تيار الزحام وأنا أتلفت فرأيت رأفت أمين مقبلا نحوي. لم أكن رأيته منذ عهد الدراسة بالجامعة فتصافحنا بحرارة، وسرنا في الزحام حتى خرجنا إلى الطريق. أخبرني بأنه حضر الاجتماع باعتباره - مثلي - عضوا في الوحدة الأساسية لشركة المعادن المتحدة. واتجهنا نحو الكورنيش بإغراء من لطافة الجو، ولما خلونا إلى أنفسنا أو كدنا أغرقنا في الضحك معا. ضحكنا بلا مناسبة ظاهرة، ولكن بدافع من ذكريات مشتركة لم يكن في الإمكان نسيانها أو تجاهلها. ذكريات اجتماعية مماثلة، شهدناها جنبا لجنب، فصفقنا معا وهتفنا معا. حدث ذلك عندما كنا عضوين في لجنة الطلبة الوفديين بالكلية. أتذكر؟ طبعا، من ذا ينسى؟ كنا وقتذاك أعداء الدولة. أجل .. أما اليوم فنحن الدولة. وجرى الحديث هكذا بين الماضي والحاضر حتى قلت له: لا أصدق أنك - أنت بالذات - تبرأت من وفديتك؟ فعاوده الضحك وهو يقول: وأنت لم تكن وفديا مخلصا، واحدة بواحدة والبادي أظلم .. ثم لكزني بكوعه متسائلا: ولكن أأنت اشتراكي مخلص؟ - طبعا. - لم من فضلك؟ - للثورة أعمال لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها. - والبصير؟
فقلت بجدية: إني أعني ما أقول. - إذن فأنت ثوري اشتراكي؟ - بلا أدنى شك. - مبارك، خبرني الآن أين نقضي ليلتنا؟
فدعوته إلى الجنفواز. سهرنا حتى منتصف الليل. أردت أن أنتظر صفية، ولكنها أخبرتني بأنها مدعوة للذهاب مع زبون ليبي. •••
كنت خارجا من سينما ستراند عندما رأيت الفلاحة الحلوة. كانت قادمة من شارع صفية زغلول بصحبة عجوز يونانية. رائقة السمرة، ساحرة النظرة، ريانة الشباب. كان الطوار مكتظا بالخلق، والهواء يهب منعشا حاملا رائحة البحر، وهالة ضخمة من القطن المندوف تغشى القبة فتضفي على الجو لونا أبيض ناعسا ناعما كبهجة الرضا. مضتا تشقان طريقهما وسط الزحام فتراجعت خطوة موسعا وأنا أحيي بإغماضة من عيني. ابتسمت بحذر، أجل .. استجابت باسمة في حذر. وقلت لنفسي إن الصنارة قد نشبت. وشاع في نفسي سرور كالسائل العذب الذي يخالط الريق بعد مضغ الفول الأخضر البكر الطازج المقطوف لتوه من الأرض الخضراء. •••
اختلست من وجهها نظرة وأنا أحتسي قهوة الأصيل. كانت عيناها منتفختين محمرتين من أثر النوم العميق، وشفتاها الغليظتان منفرجتين، في أقبح أحوالها كالعادة، وغافلة تماما عما دبرت لها. فقلت بلهجة أسيفة مصطنعة: صفية!
رمقتني مستطلعة فقلت: جدت ظروف سخيفة ولكن علينا أن نتوافق معها.
فاستقرت في عينيها نظرة حذرة، وهزت رأسها داعية إياي إلى الإفصاح، فقلت: سنضطر إلى تغيير نظام حياتنا، أعني الإقامة في شقة واحدة. قطبت فتجمع الغضب في حاجبيها كما يتجمع ماء المطر في نقرة مطينة وتحفزت للنضال، فقلت: إنها كارثة، كارثة تماما بالنظر إلى أزمة المساكن، ولكن زميلا في الشركة لمح لي، أجل، حدثتك مرة عن الرقابة الإدارية، ولا شك أن مستقبلك يهمك كما يهمني.
قالت بضيق محتجة: ولكن مضى على حياتنا المشتركة حوالي عام ونصف. - كانت أهنأ أيام حياتي، وكان يمكن أن تمتد إلى الأبد دون أن يدري بها أحد.
ونظرت في قعر الفنجال كأنما أقرأ البخت ثم واصلت قائلا: ولكن سوء الحظ أدركني، سأرجع إلى شقة العازب المبعثرة، وربما اضطررت إلى الإقامة في فندق حقير أو بنسيون مزعج.
نفخت بوحشية وقالت: يوجد حل، يوجد حل، ولكنك خسيس ابن حرام! - أنا رجل صريح، أحبك حقا، وسأحبك حتى آخر يوم في حياتي، ولكني قلت لك من أول يوم إن الله لم يخلقني للزواج. - لأنه خلقك ناقص المروءة. - وإذن فلا داعي للرجوع إلى مناقشات لا خير فيها.
تفرست في عيني كأنما لتنفذ إلى أغوارهما، ثم قالت: تريد أن تهجرني.
فبادرتها: صفية، أنا رجل صريح، لو في نيتي أن أهجرك لقلتها بصريح العبارة وذهبت.
ران الكدر على روحها ووجهها، وضاعف العبوس من دمامتها العابرة، فتمنيت أن تعافني وتكرهني ليذهب كل منا إلى حال سبيله.
وقلت لنفسي إنه عند الحساب ستتعادل كفتانا. كانت حياتنا مشتركة بكل معنى الكلمة عدا المجاملات التي كانت تنفحني بها في المناسبات والتي عجزت - لظروفي الخاصة - عن ردها. غيري آخرون يستغلون عشيقاتهم استغلالا فاحشا. الحق أني لم أعتد بذل النقود للنساء. وعلى أي حال فإني أتوقع معركة ختامية، وقد جربت ذلك أكثر من مرة. وقد عرفت الحب في الكلية ولكني جئت متأخرا فضاعت الفرصة. فرصة سعيدة كانت. جميلة وذات مستقبل وكريمة لطبيب تتدفق عليه أموال المرضى. ولكن ما فائدة «لو»؟
ها هو قلبي يخفق مرة أخرى. أجل .. إني أحب الفلاحة. مجرد شهوة كالتي ساقتني إلى صفية في الجنفواز. ••• - أريد حجرة لإقامة طويلة.
تجلت نظرة ارتياح في العينين الزرقاوين المستطلعتين، ثم تراخت مستندة إلى ظهر الكنبة تحت تمثال العذراء. في لفتاتها رشاقة متخلفة عن ماض سعيد، وشعرها الذهبي المصبوغ يشي برغبة مزمنة في التشبث بذلك الماضي. ساومتني بصراحة تجارية مؤكدة الأسعار الخاصة بالصيف. - ولكن أأنت قادم جديد إلى الإسكندرية؟
لم يكن سؤالا عارضا ولكنه حلقة من سلسلة استجواب طويل مفهوم. جاريتها لأوثق علاقتي بها فقدمت لها اعترافا بعملي وسني وبلدتي وحالتي الاجتماعية. في أثناء ذلك رجعت الفلاحة من مشوار خارجي، رأتني فخفضت عينيها، أدركت حقيقة الموقف بنظرة واحدة، ومضت متعثرة في ارتباكها، ولكن المدام لم تفطن بطبيعة الحال إلى ارتباكها، ولا رأت تورد خديها. وعندما تقدمتني إلى الحجرة الخالية - آخر حجرة خالية مطلة على الشارع - كنا بمثابة صديقين ترجع صداقتهما إلى عهد غابر في الزمان. •••
تفقدت الحجرة بارتياح ثم جلست على المقعد الكبير مستبشرا. عرفت من مجلسي - ودون سؤال - اسم الفلاحة وهي تنادى. وما لبثت أن دخلت حجرتي حاملة الملاءات والأغطية لتعد السرير. مضيت أراقبها بسعادة متفحصا أجزاءها بعناية وشغف، الشعر والقسمات والقامة. يا سيدي أبو العباس البنت جميلة، جميلة لدرجة السحر، وتملك شخصية أيضا. أرادت أن تختلس مني نظرة ولكن عيني كانتا لها بالمرصاد. وابتسمت قائلا: أنا سعيد يا زهرة.
استمرت في عملها كأنها لم تسمعني فقلت: ربنا يطول عمرك فقد أرجعت إلي الريف الذي جئت منه.
ابتسمت فقلت: محسوبك سرحان البحيري يا زهرة.
فلم تملك أن سألت: بحيري؟ - من فرقاصة بالبحيرة.
كتمت ضحكتها وهي تقول: أنا من الزيادية.
فهتفت بنشوة كأنما وحدة المحافظة معجزة قد وجدت لضمان سعادتي وحبي: يا ربنا.
وكانت انتهت من عملها فهمت بمغادرة الحجرة فرجوتها قائلا: ابقي قليلا فلدي الكثير مما أود قوله.
ولكنها حركت رأسها بدلال بريء ثم ذهبت. سعدت بتنكرها لرجائي واعتدته معاملة «خاصة» لا يمكن أن تعامل بها «زبونا» مجردا. نعم إنها ثمرة ناضجة وما علي إلا أن أقطفها ولكن جسمها بريء فيما يبدو ولا علم لي باستعداداتها. إني أحبها، ولا غنى لي عنها. وددت أن يضمنا مسكن واحد بعيدا عن هذا البنسيون الذي لا يخلو عادة من متطفلين ثقلاء. •••
على مائدة الإفطار تعرفت بعجوزين غريبين. أكبرهما حي ميت، مومياء، ولكنه لا يخلو من مرح، وهو - كما قيل - صحفي قديم. والآخر طلبة مرزوق، ليس اسمه بالغريب على أذني وإن كاد يمحى، وهو ممن وضعوا تحت الحراسة، ولا علم لي بما جاء به إلى هذا البنسيون. وقد أثار تطلعي من أول مرة، فكل شاذ مثير سواء كان مجرما أو مجنونا أو محكوما عليه أو موضوعا تحت الحراسة. إلى ذلك كله فقد كان من الطبقة التي علينا أن نرثها بطريقة ما. ها هو يخفي عينيه في قدح الشاي ، متجنبا النظر نحوي، عن حذر أو كبرياء. وتلاطمت في نفسي - حياله - أحاسيس متباينة تتراوح ما بين الشماتة من ناحية والرثاء من ناحية أخرى، غير أن إحساسا منها استقر في وضوح وهو ذعري الغريب من فكرة مصادرة الثروات، كأنما أومن بأن من يقتل مرة يعتاد القتل!
وأراد عامر وجدي أن يجاملني فقال: يسرني أنك من رجال الاقتصاد، إن الدولة اليوم تعتمد أول ما تعتمد على الاقتصاديين والمهندسين.
تذكرت علي بكير فلم أهنأ بالثناء. وعاد العجوز يقول: على أيامنا كان جل اعتمادها على بلاغة البلغاء.
ضحكت هازئا متوهما أني بذلك أجاري رأيه غير أنه استاء فيما بدا فأدركت أنه لم يكن ينتقد، ولكنه كان يؤرخ. وراح يقول مدافعا عن جيله: يا بني، كان هدفنا إيقاظ الشعب، والشعوب تستيقظ بالكلمات، لا بالمهندسين ولا بالاقتصاديين.
وسرعان ما تراجعت قائلا في اعتذار: لو لم يقم جيلكم بواجبه لما تحقق لجيلنا وجود.
وظل طلبة مرزوق ملازما الصمت. •••
قلبي يستعيد براءته وفتوته. مثل هذا الصباح المشرق. مثل زرقة البحر الصافية. مثل هذا الدفء المبارك. وحب الحياة يتردد مع أنفاسي، يجري مع ريقي، ينعش روحي بفرح ونهم. عملت نهارا طيبا بالشركة ثم تناولت الغداء مع صفية في مسكني القديم. نظرت إلي ببصر فأسدلت على وجهي قناع الكآبة. شكوت إليها وحشة البنسيون وبرودته. حياة لا تحتمل يا عزيزتي ولذلك وصيت سمسارا بالبحث لي عن شقة.
وترددت ألفاظ مألوفة مثل خسيس وابن حرام، ولما آن لنا أن نستريح بعد الغداء ساءلت نفسي متى أتحرر من السخرة؟
ولمحت زهرة وهي تحمل القهوة إلى حجرة عامر وجدي. دقت الساعة الكبيرة الخامسة مساء فطلبت قدحا من الشاي. جاءتني منورة كالنرجسة. أو أغنية تتغنى بسواد الشعر وصفاء السمرة وشهد العين. لمست يدها وأنا أتناول القدح وهمست: من أجلك سجنت نفسي في هذه الحجرة.
قطبت لتداري عواطفها ثم استدارت لتذهب فقلت لها قبل أن تختفي عن ناظري: أحبك .. لا تنسي ذلك أبدا.
ولكنها استجابت لمحادثتي عصر اليوم التالي. رغبت أن أعرف عنها أقصى ما يسعني معرفته فسألتها: ماذا جاء بك من الزيادية إلى هنا؟
أجابت باللهجة الريفية الأليفة: الرزق.
وحدثتني عن أهلها، وظروف هربها، والتجائها أخيرا إلى المدام بوصفها عميلة أبيها. قلت بإشفاق: ولكنها خواجاية .. والبنسيون كما تعلمين سوق.
قالت بثقة واعتزاز: عرفت الحقل والسوق.
ليست بالغرة ولا بالهشة. ولكن هل آخذ القصة بحرفيتها؟ إن اللاتي يهربن من القصة إنما يهربن ... هه؟! وقلت وأنا أرامقها مفتونا بها: حدث ذلك كله لكي نلتقي هنا.
رمتني بنظرة مستطلعة لا تخلو من ارتياب ولكنها ندية بالميل، فقلت: أحبك. هذا ما أود قوله ولا أمله يا زهرة.
تمتمت: كفاية!
لن أكف حتى أسمع مثلها من شفتيك، حتى تطمئن إلى حضني. - أهذا ما تفكر فيه؟ - لن يكون لشيء طعم حتى أناله ...
ذهبت بوجه صاف لا أثر فيه للكدر أو الغضب. هنأت نفسي على بلوغ المراد. ووجدتني أجتر حنيني القديم إلى الزواج، إنه لحنين قديم، وقد فاض من جديد كنبع يتفجر. أود من أعماقي يا زهرة لولا .. أجل، لولا ... سحقا للبديهيات السخيفة القاتلة! •••
انضم إلينا شابان جديدان؛ حسني علام ومنصور باهي. تطلعت إلى التعرف بهما بغريزة لا تني عن الإكثار من المعارف والصحاب، ودائما تنظر إلى الوجه الجديد بعين صياد. وحسني علام من أسرة قديمة بطنطا، وجيه من الوجهاء، ومالك لمائة فدان، جميل الوجه قوي البنيان، كما يتمنى أي واحد منا أن يكون. وأنا قد أكره فكرة طبقته، ولكني أفتن بأي شخص منها إذا ساقتني الظروف الممتازة إلى صحبته. ومن السهل تخيل الحياة التي يمارسها شاب مثله رغم تغير الأحوال، فإن يكن بعد ذلك كريما كما ينبغي له فحدث عن الليالي الملاح بغير حساب.
أما منصور باهي فنوع آخر من الشبان. إذاعي بمحطة الإسكندرية وشقيق ضابط كبير من رجال الأمن. ذاك جميل ومفيد أيضا، ولكنه يبدو ملتصقا بذاته فوق ما يتصور العقل. إنه تمثال دقيق جيد الصنع ذو ملامح بريئة لا يحظى بها عادة إلا طفل. أين يمكن العثور على مفتاحه أو الاهتداء إلى الدرب الضيق الوعر الموصل إلى قلبه. ما أكثر الذين يفدون من القرية سعيا وراء عمل، وما أكثر المشكلات التي يتطلب حلها الاستعانة بضابط كبير من رجال الأمن. •••
جذبتها من ساعدها بغتة. انتظرت حتى وضعت قدح الشاي على الترابيزة ثم جذبتها من ساعدها بغتة. اختل توازنها فتهاوت علي بمجلسي على المقعد الكبير فاحتويتها بذراعي وقبلت خدها - المتاح لي من وجهها - قبلة خاطفة متوترة نهمة متعجلة. اعترضت ساعدي بيدين قويتين ثم تملصت مني. انتصبت متراجعة مقطبة. نظرت نحوها في حذر وتوقع، ثم ابتسمت مستعطفا. تجملت بالصبر فيما بدا. ثم راق وجهها وصفا كالبحر في صباح خريف دميث. توسلت إليها بإشارة أن تقترب فلم تلب ولم تذهب. وثبت إليها محموما برغبة مجنونة فضممتها إلى صدري بلا مقاومة تذكر، ثم التقت شفتانا في قبلة طويلة نهمة. وهمست في أذنها ورائحة شعرها الآدمية تملأ أنفي: تعالي إلي ليلا.
تفرست في وجهي قليلا ثم سألتني: ماذا تريد؟ - أريدك أنت يا زهرة.
لاحظت نظرة جادة في عينيها وهي تفكر، فسألتها: ستأتين؟
سألتني بمرارة: ماذا تريد مني؟
أفقت قليلا من سكرتي وقلت بحذر: نتحادث ونتبادل الحب. - لكننا نفعل ذلك الآن. - في عجلة وخوف يفسدان السرور. - لا أرتاح لأفكارك. - إنك تسيئين فهمي.
هزت رأسها كأنما تؤكد فهمها. وذهبت وهي تبتسم رغم ذلك.
داخلني حزن وتعاسة. جعلت أقول متحسرا: لو كانت من أسرة ... لو كانت على علم أو مال! وانهمر من لساني سيل من اللعنات. •••
وكانت ليلة أم كلثوم.
نازعني المزاج إلى قضائها في بيت علي بكير لنتلقى السماع في جو هادئ جدير به، كما دعاني رأفت أمين إلى السماع في مسكنه، ولكني فضلت - بعد تفكير - السهرة في أسرة البنسيون لأوثق علاقاتي بأفرادها. رأيت صينية كبيرة مليئة بالشواء فتعجلت الشراب لأتزود بالشجاعة الضرورية للهجوم. وهيمن علينا جو أسطوري فأنشدت أسطورة عن «آل البحيري» ومركز وكيل الحسابات، لا على سبيل الفخر الكاذب وحده، ولكن تمهيدا للطريق أمام الثروة المنتظرة من مغامرة علي بكير. وانقض علينا حديث السياسة كالقضاء المحتوم. أما سمعتهم ...؟ ما قولكم؟ .. أتريدون رأيي صراحة؟ أدركت بالغريزة أنني ممثل الثورة، مع احتمال مشاركة منصور في ذلك. وانهال الثناء وتبادلنا الأنخاب. ولمحت زهرة فقلت لنفسي إنها ممثلة الثورة الأولى، وتذكرت كيف دعت لها أمامي مرة وكيف لفحني صدق الدعاء وحماسه البريء. ترى أيرتاب منصور باهي في صدقي؟ يا صاحبي إني بطبعي عدو أعداء الثورة ألا تفهم؟ وإني من الموعودين ببركاتها، ألا تفهم؟ •••
لقد أغلقت من الأبواب بقدر ما فتحت. - تذكر الملايين ثم احكم من جديد. - حسن، وما رأيك في المنعمين الجشعين؟ - رأيي أنهم أعداء للثورة؛ فلا يحكم بهم عليها. •••
وقد عشقت مدام ماريانا، لا لأنها تحب غناءها فحسب ولكن لخفة روحها، ولأنها شريط مسجل يعيد ذكرياتها الخاصة بحنين يوناني عتيد. ومن خلال ذكرياتها رأيت لمحات من حياتي الخاصة، كالحب القديم، كحب الحياة الطيبة الناعمة. وهي ترجع في الأصل إلى قوم مهاجرين، والمهاجرون قوم وطنهم هو البلد الذي يوفر لهم السعادة.
وعامر وجدي أثر قديم اكتشفه منصور باهي. فترة جذابة من تاريخنا الذي لا نكاد نعرف منه شيئا.
وعندما نوه طلبة مرزوق بمآثر الثورة لم أملك إلا أن أحيي - في نفسي - نفاقه الممتع. واقتنعت بأن الإنسان رغم ابتكاراته وانتصاراته ما زال غارقا حتى أذنيه في الحماقة والسخف. ولعله من المفيد أن نجمع الأعداء على فترات ليقضوا معا ليلا طويلا وهم يسكرون ويطربون ويملئون أنفسهم بأعذب الألحان. ••• - إذن فأنت لا تؤمن بوجود الجنة والنار؟ - الجنة هي المكان الذي يتمتع فيه الإنسان بالأمن والكرامة، أما النار فهي ما ليس كذلك. •••
وعندما يضحك منصور لقفشاتي يتبدى كطفل رائع، فراودني أمل بأنني سأهتدي إلى الدرب الموصل إلى قلبه، وبأن صداقة حارة ترصدنا في نهاية السهرة. أما حسني علام - ليحيا حسني علام - فقد قدم وحده للسهرة زجاجتين من الديوارس. تسلطن على مقعده كعمدة، يملأ الكئوس ويوزعها، ويجلجل بضحكاته، وعندما اختفى فجأة عقب منتصف الليل منيت الجلسة بخسارة فادحة.
ولم أستمتع بأم كلثوم كالعادة، ولا رددت معها بعض المقاطع، ولكن نشواتي تفاعلت كسيال كهربائي مع زهرة. عندما تجيء وعندما تذهب، وهي جالسة عند البارفان تتفرج على عربدتنا بعين داهشة باسمة. وبالنظرات المختلسة تعانقنا، وتبادلنا القبلات والأشجان. •••
لا شك أنني رأيت هذا الرجل من قبل. كلا، كان مقبلا على التريانون من ناحية شارع سعد وكنت مقبلا عليه من ناحية الميدان. سرعان ما عرفت طلبة مرزوق! رأيته لأول مرة بملابسه الكاملة متدثرا بمعطفه والكوفية مغطيا رأسه بطربوش غامق الحمرة. صافحته بإجلال ثم دعوته إلى فنجال قهوة. أذعن لإلحاحي فجلسنا معا إلى مائدة خلف الزجاج المغلق المطل على البحر. كان الهواء يلعب بسعف النخيل المحدق بتمثال سعد وفي السماء غيم رقيق تضيء الشمس أطرافه بلون ماسي. تبادلنا حديثا عاديا لا معنى له ولا طعم، ولكني حرصت طيلة الوقت على احترامه ومجاملته والتودد إليه. شيء في أعماقي قال لي إنه لا يمكن أن يكون خالي الوفاض تماما. أجل، هناك طريقة أو أخرى، ولعله يود أن يستثمر ما لديه ولكن الخوف يكبله. وقلت تفريعا عن حديث المعيشة: من العبث أن يعتمد شاب مثلي على مرتب وظيفته. - وما حيلته في ذلك؟
خفضت صوتي كأنما أودعه سري وأنا أقول: مشروع تجاري .. هذا ما أفكر فيه. - ومن أين لك بالمال؟
فقلت وأنا أداري أفكاري بابتسامة بريئة: أبيع بضعة أفدنة ثم أبحث عن شريك. - ولكن هل يمكن أن تجمع بين الوظيفة والتجارة؟
قلت ضاحكا: على المشروع أن يبقى سرا من الأسرار.
تمنى لي التوفيق ثم بسط الجريدة ليلقي عليها نظرة. كأنما قد نسي الموضوع تماما. جائز أن يكون صادقا، ومحتمل أن تكون مناورة، ولكن أدركني إحساس باليأس منه.
وأشار إلى عنوان أحمر عن ألمانيا الشرقية، وقال: ولا شك أنك سمعت بعض ما يقال عن بؤس تلك المنطقة، وبخاصة إذا قورنت بالمنطقة الغربية.
ها هو يتحدث في السياسة الداخلية بلغة السياسة الخارجية. أجبته موافقا فعاد يقول: ليس لدى روسيا ما تقدمه إلى بلد يدور في فلكها، أما أمريكا ... - ولكن روسيا قدمت لنا بالفعل مساعدات قيمة.
فقال بعجلة: الوضع مختلف، نحن لا ندور في فلكها.
وبدا حذرا حتى ندمت على اعتراضي. وراح يقول: الحق أنهما - روسيا وأمريكا - سيان في رغبة التسلط على العالم، لذلك فموقف عدم الانحياز الذي اعتنقناه حكمة وأي حكمة.
أسفت على أنه أفلت من يدي، وأنه لا سبيل إلى استرداد الأرض المفقودة قريبا. وقلت: الحق أنه لولا ثورة يوليو لاجتاحت البلد ثورة دموية لا تبقي ولا تذر.
فوافقني بطربوشه وهو يقول: الله كبير، وقد أنقذنا بحكمته. •••
أين كنت؟ لم تشرفنا منذ ثلاثة أيام. كيف تذكرتني أخيرا؟ لماذا تعود إلى الأشياء القديمة الموضوعة على الرف؟ ألم أقل لك إنك خسيس وابن حرام؟ لا توجع رأسي بالأعذار السخيفة. لا تحدثني عن عملك الخطير بالشركة. لو كان لوزير رفيقة لما أهملها كما تهملني. جعلت أبتسم وأصب النبيذ في كوبين وباطني يضيق بها لحد التقزز. ها هي تلعب معي دور الطاغية فلا بد من التخلص منها. يجب أن أتحرر منها إلى الأبد. ولكن انجابت هموم الأرض عن صدري، انجابت جميعا بمقدم زهرة حاملة الشاي إلي. تعانقنا طويلا. قبلت شفتيها وخديها وجبينها وعنقها. استمتعت بشفتيها بوعي مركز وهي تطبع شفتيها على شفتي. ثم ابتعدت قيراطين عني وهي تتنهد وتقول هامسة متشكية: يخيل إلي أحيانا أنهم يعرفون.
فقلت باستهانة ممسوس بنشوة الحب: لا يهمك. - أنت لا يهمك شيء ولكن ... - يهمني شيء واحد يا زهرة.
ورنوت إليها مليا لأترجم لها ما أعنيه بعيني ثم قلت برغبة صادقة: لنعش معا بعيدا عن هنا!
فتساءلت بارتياب: أين؟ - في مسكن خاص بنا.
لاذت بصمت متلهف على مزيد من القول، ولما لم تلق مني ما يشبع لهفتها غامت عيناها بخيبة أمل، وتساءلت: عم تتحدث؟ - إنك تحبينني كما أحبك.
قالت بصوت خافت: أنا أحبك ولكنك لا تحبني. - زهرة! - إنك تنظر إلي من فوق كالآخرين.
قلت بصدق كامل: إني أحبك يا زهرة، من كل قلبي أحبك، والله شهيد.
فكرت قليلا بكدر ثم ساءلتني: أتعتبرني إنسانة مثلك؟ - وهل في ذلك من شك؟
هزت رأسها نفيا. أدركت بطبيعة الحال ما يدور بخلدها فقلت: توجد مشاكل لا حل لها.
واصلت هز رأسها مقطبة هذا المرة عن غضب وقالت: واجهتني مشاكل كذلك وأنا في القرية ولكنني لم أخضع لها.
لم أتصور أنها معتزة بنفسها لذاك الحد. شعرت بأن الحب يجرفني معه إلى الهاوية فغرزت قدمي في الحافة راميا بثقلي إلى الوراء. تناولت يدها بين يدي، قبلت ظهرها وبطنها، وهمست في أذنها: أحبك يا زهرة. •••
كلما نظرت إلى وجه حسني علام القوي الجميل حلمت بالليالي الملاح. ولكني علمت ذات يوم بالمشروع الذي جاء الإسكندرية من أجل دراسته وتنفيذه فتغيرت نظرتي إليه. طلبة مرزوق وهم مناقض للواقع، ومن المستحسن أن أسقطه من الحساب، أما حسني علام فرجل قد عقد العزم على العمل، وعلي أن أجد لنفسي دورا في ذلك المشروع. ليس الأمر مجرد عمل ونجاح ولكنه قد ينقذني في اللحظة الأخيرة من أفكار علي بكير الجهنمية. المؤسف حقا أن حسني علام مثل الزئبق لا يسهل القبض عليه. إنه يتحدث أحيانا عن المشروع ولكنه يهيم على وجهه طيلة الوقت دافعا بسيارته في سرعة جنونية ولا يخلو المقعد جنبه من امرأة. قلت له مرة: الرجل العملي لا يضيع وقته في اللهو.
فضحك وسألني: كيف يضيعه إذن؟
فقلت بلهجة من يغير على مصلحته: يدرس ويفكر ثم ينفذ. - جميل ما تقول، ولكني لا يحلو لي الدرس والتفكير إلا وأنا ألهو.
ثم وهو يقهقه: نحن نعيش الأيام التي تسبق مباشرة يوم القيامة!
تركته وأنا أحدث نفسي قائلا: «يا ربي .. أريد أن أفيد وأن أستفيد فما عسى أن أصنع؟» •••
تطايرت الشتائم بيننا كالأحجار أو كالشظايا. وصحت غاضبا: كل مرة! .. هو حساب الملكين؟!
وتطايرت الشتائم بيننا. وقد ذهل محمود أبو العباس الذي صحبني إلى بيتها ليأخذ درسه الثالث في الحساب ومسك الدفاتر. وقمت مصمما على الذهاب فمضى الرجل معي. وعند باب العمارة رجوته أن يرجع فيعلنها بأنني قررت الذهاب بغير رجعة.
ومضيت إلى ميرامار ولكنني لم أدرك أنني مطارد إلا وزهرة تفتح لي الباب. عند ذاك شعرت بيد تقبض على قفاي وصوت صفية يزعق: تريد أن تهجرني؟ .. تظنني طفلة أو لعبة؟!
تخلصت منها بجهد، ولكنها كانت قد اقتحمت الشقة . قلت لها هامسا ولاهثا: اذهبي .. الناس نيام.
فصرخت بصوت غليظ: تنهبني وتهرب! .. أكلتك وشربتك وكسوتك وتريد أن تهرب يا ابن الحرام!
لطمتها فلطمتني. اشتبكنا في صراع مرير. حاولت زهرة التخليص بيننا فلم تفلح، فقالت لها: من فضلك .. هذا بيت محترم.
ولما لم يجد القول صاحت بها: اذهبي وإلا استدعيت البوليس!
تراجعت خطوة وهي تلتفت نحو زهرة. دهشت لمنظرها.
رددت عينيها بيني وبينها، ثم هتفت بها بعجرفة: أنت يا خدامة، كيف ...؟
قبل أن تكمل عبارتها كانت يد زهرة قد صكت فاها. انقضت على زهرة فانهالت عليها لكمات الفتاة القوية حتى انهارت أو كادت. واستيقظ البنسيون ففتحت الأبواب ودبت الأقدام، وإذا بحسني علام يسبقهم إلينا فيأخذ صفية من يدها ويذهب بها خارجا.
ذهبت إلى حجرتي أعمى من الغضب. لحقت بي المدام وهي تتساءل عما جرى في انزعاج. أعلنت لها أسفي ولكنها سألتني: من هي؟
قلت مختلقا كذبة إنقاذا للموقف: كانت خطيبتي ثم فسخت خطبتها.
قالت وهي تهز رأسها: إن سلوكها يثبت أنك كنت على حق في معاملتها ولكن ...
وسكتت لحظات ثم استأنفت قائلة: ولكن أرجو أن تسوي حسابك معها بعيدا عن هنا.
ثم قالت وهي تغادر البنسيون: إني أعيش بفضل سمعتي الطيبة.
ولما جاءت زهرة في موعدها كان وجهها ما يزال منطبعا بآثار الحادث، وقد شكرتها، واعتذرت لها عما أصابها. تبادلنا نظرات عميقة أليمة حتى اضطررت أن أقول لها: لقد هجرتها من أجلك.
سألتني بخشونة: من هي؟ - امرأة ساقطة، من الماضي، اضطررت إلى أن أكذب على المدام فأقول لها إنها كانت خطيبتي.
لثمت خدها في امتنان وأسف. •••
صوت الريح ينطلق في الخارج كرعد متصل، جو الحجرة يقطر عصارة المساء رغم أن النهار لم يشارف الأصيل بعد، فتخيلت الغيوم المتراكمة في السماء وتخيلت جبال الأمواج. ولما جاءت زهرة - ولم أكن رأيتها منذ لقاء أمس - أضاءت المصباح. كنت أعاني انتظارها طيلة الوقت فبادرتها بحرارة ورجاء: لنذهب يا زهرة!
وضعت القدح على الترابيزة وهي ترمقني بعتاب مر فقلت: سنعيش معا إلى الأبد، إلى الأبد.
سألتني متهكمة: ولا توجد مشاكل في تلك الحال؟
أجبت بصراحة مؤسفة: المشاكل التي أعنيها إنما يخلقها الزواج!
تمتمت بغضب مكتوم: يجب أن أندم على حبي لك.
فقلت بحرارة وصدق وإخلاص: لا تقولي ذلك يا زهرة، عليك أن تفهميني، أنا أحبك، ومن غير حبك فلا معنى للحياة ولا طعم، ولكن الزواج سيخلق لي مشاكل من ناحية الأسرة ومن ناحية العمل، إنه يهدد مستقبلي فضلا عن أنه سيهدد حياتنا المشتركة، فما العمل؟
قالت بغضب أشد من الأول: لم أكن أعرف أنني يمكن أن أخلق جميع تلك المصائب!
ليس أنت، لكنه الغباء، الحواجز الصلبة، الحقائق العفنة، ما العمل؟
ضيقت عينيها بحنق وقالت: ما العمل حقا؟ .. أن تجعل مني امرأة مثل امرأة أمس!
هتفت بيأس: زهرة .. لو كنت تحبينني كما أحبك لفهمتني بوضوح لا لبس فيه.
فقالت بحدة: إني أحبك، خطأ لا حيلة لي فيه. - الحب أقوى من كل شيء، من كل شيء.
فاعترضت ساخرة: لكنه ليس أقوى من المشاكل!
تبادلنا نظرات صامتة. أنا محموم يائس وهي عنيدة غاضبة. ولولا قوة إرادتي، أو لولا خوفي لانهرت تماما. وفكرت بسرعة أشد من البرق ثم قلت: زهرة، توجد طرق وسطى، مثل الزواج الإسلامي الأصلي.
حل التساؤل في عينيها محل الغضب، فقلت وأنا لا أعرف عن الموضوع أكثر من ذكريات غامضة: نتزوج كما كان يتزوج المسلمون الأوائل. - كيف كانوا يتزوجون؟ - أعلن بيني وبينك أنني أقبلك زوجة على سنة الله ورسوله. - بلا شهود؟ - أمام الله وحده!
فقالت محتجة في استياء: جميع من حولنا يتصرفون وكأنهم لا يؤمنون بأن الله موجود!
ثم هزت رأسها وقالت بإصرار: لا! •••
هي عنيدة كالصلب. ليست رحلة سهلة كما حلمت. ويئست من إقناعها تماما. إني على استعداد - إذا وافقت - أن أعاشرها إلى الأبد مضحيا بالزواج وآمالي المعقودة عليه. وفكرت أن أهجر البنسيون كخطوة أولى للنسيان، ولكن حبها بقي عنيدا - مثلها - ومتشبثا بقلبي. ولم تقع بيننا جفوة. كانت تجيئني بالشاي في وقته ولا تصدني إذا قبلتها أو ضممتها إلى صدري. وقد أذهلني أن أراها - في المدخل - مكبة على كتاب المطالعة لتلاميذ السنة الأولى الابتدائية. ثبتت عيناي عليها غير مصدقتين. وكانت المدام جالسة تحت العذراء كما كان عامر وجدي مستسلما للفوتيل، فقالت لي المدام باسمة: انظر إلى التلميذة يا مسيو سرحان.
وألقت عليها نظرة تشجيع وهي تقول: اتفقت مع جارتنا المدرسة .. ما رأيك؟
إنه لحدث. أوشكت لحظة على الضحك ولكن سرعان ما أخذت به فقلت بحماس: برافو! .. برافو زهرة!
وكان العجوز يرمقني بعينيه الغائمتين فداخلني منه خوف لا أدريه فغادرت البنسيون. بلغ بي التأثر مبلغا هز أعماقي. وصوت باطني قال لي إنني إذا استهنت بحب الفتاة فإن الله لن يبارك لي قط. ولكنني لم أهادن فكرة الزواج المرعبة. الحب عاطفة يمكن معالجتها على نحو أو آخر. أما الزواج فهو مؤسسة، شركة كالشركة التي أعمل وكيلا لحساباتها، له لوائح ومؤهلات وإجراءات. إذا لم يرفعني من ناحية الأسرة درجة فما جدواه؟ إذا لم تكن العروس موظفة على الأقل فكيف أفتح بيتا جديدا يستحق هذا الاسم في زماننا المتوحش العسير؟! أما مرجع تعاستي فهو أنني أحب فتاة غير مستوفية لشروط الزواج. ولو قبلت حبي بلا قيد لضحيت في سبيلها بالزواج الذي أحن إليه منذ البلوغ. - همتك عالية يا زهرة!
قلت لها ذلك وأنا أرمقها بإعجاب، ثم قلت بأسف: ولكنك ترهقين نفسك وتبددين أجرك.
قالت بكبرياء وهي واقفة أمامي تفصل بيننا الترابيزة: لن أبقى جاهلة! - وما فائدة العلم؟
سأتعلم بعد ذلك مهنة، فلن أبقى خادمة.
عض الألم قلبي وعقد لساني، أما هي فقالت بنبرة جديدة: جاء أهلي اليوم ليقنعوني بالرجوع إلى القرية!
رفعت إليها عيني مستطلعا وأنا أداري قلقي بابتسامة فتجاهلتني خافضة جفنيها. - وماذا كان جوابك؟ - اتفقنا على الرجوع في أوائل الشهر القادم.
قلت بجزع: حقا! .. ترجعين إلى العجوز؟! - كلا، لقد تزوج.
ثم بصوت خافت: تقدم لي رجل غيره.
قبضت على يدها بشدة وتوسلت قائلا: لنذهب معا، غدا، اليوم إن شئت.
اتفقنا على الرجوع أول الشهر. - زهرة، هل قد قلبك من حديد؟ - إنه حل بلا مشاكل! - ولكنك تحبينني يا زهرة!
فقالت بامتعاض: الحب شيء والزواج شيء آخر، أنت علمتني ذلك.
عند ذاك خانتها شفتاها فوشتا بابتسامة خفيفة فهتفت: يا لك من شيطانة يا زهرة!
وغمرني فيض من الارتياح والفرح. ودخلت الحجرة عند ذاك المدام وهي تحتسي الشاي من قدح في يدها. جلست على حافة الفراش وهي تقص علي قصة أهل زهرة وكيف رفضت الفتاة العودة. وتساءلت بمكر كاذب: ألم يكن من الأفضل أن ترجع إلى أهلها؟
فابتسمت المدام ابتسامة قوادة عالمة ببواطن الأمور ثم قالت: أهلها الحقيقيون هنا يا مسيو سرحان.
تجنبت النظر إلى عينيها. تجاهلت مغزى قولها تماما. ولكني خمنت أن الفراشة تطير بالأنباء من حجرة إلى حجرة. ولعل سوء ظنها قد جاوز الحدود. ووجدتني في النهاية سعيدا بنصر وهمي أما في الواقع فإن العناد الذي سد في وجهي باب الأمل لم يلن لحظة واحدة. وساءلت نفسي متى أجد الشجاعة لأهجر البنسيون نهائيا؟! •••
بدا المنظر مألوفا وفاترا إلى حد ما. المدام تجلس لصق الراديو، تكاد تطرح رأسها وهي تتابع أغنية إفرنجية. أما عامر وجدي فقد راح يسمع لزهرة بعض الكلمات. ودق الجرس فإذا بالقادمة مدرسة زهرة. معذرة .. الشقة مزدحمة بالضيوف، فإذا سمحتم أعطيت الدرس هنا. كرم منها بلا ريب. واستقبلناها بترحاب وأدب. وهي وسيمة وأنيقة وموظفة. راقبتها وهي تدرس لزهرة، وجدتني منساقا للمقارنة بينهما بتأمل وأسى. هنا الفطرة والجمال والفقر والجهل، وهناك الثقافة والأناقة والوظيفة. آه لو تحل شخصية زهرة في بيئة الأخرى وإمكانياتها. وتطفلت المدام على الدرس لتشبع حب استطلاعها الأبدي؛ فعرفنا الاسم والأسرة وحتى الأخ المنتدب للعمل في السعودية. وإذا بي أسألها: أمن الممكن أن يرسل لنا بعض البضائع النادرة من هناك؟
فأجابت في تحفظ بأنها ستسأل عن إمكان ذلك.
وغادرت البنسيون إلى كافية دي لا بيه لمقابلة المهندس علي بكير. نظر إلي بثقة وقال: كل خطوة ترسم بدقة، والنتائج مضمونة!
حسن، فلنثب وثبة موفقة تجعل من زيارتنا للدنيا رحلة لها معناها وقيمتها. ثم سألني علي بكير: قابلت صفية بركات في ديليس فهل حقا ...؟
قلت بامتعاض: عليها اللعنة !
ضحك وهو ينظر في عيني باهتمام ثم عاد يسألني: ولكن هل هجرتها حقيقة من أجل ...؟ - لا تصدقها من فضلك، متى كانت ممن يعتمد الإنسان على صدقهن؟!
فازداد اهتماما وتفكيرا وهو يقول: إن سرنا من الأسرار التي يضن بها حتى على الزوجة والابن!
فهتفت به مؤنبا: الله يسامحك! •••
قلت لنفسي: يا للعجب! إنها نظرة يطيب بها غرور الرجل، لم تلح فيها ابتسامة ولا رعش هدب، ولكنها - المدرسة - حولت رأسها بغتة عن زهرة وكتابها ورشقتني بها. لم تدم أكثر من ثوان. هربتها إلي في غفلة من زهرة وعامر وجدي. لم تدم أكثر من ثوان. وقد أتلقى عشرات مثلها فلا تهزني شعرة وأعتدها نظرة عابرة، غير أنها عكست ومضة معبرة لا توصف وكأنما أبلغتني رسالة كاملة. غيرت خط سيري فقبعت وراء الزجاج بمقهى الميرامار أراقب السحب وأنتظر. تدبير بلا هدف، وليس وراءه عاطفة، ولكنه تطلع - من فراغ ويأس - إلى مغامرة، أية مغامرة. ولم تكن بالمثال الذي يمكن أن يفتنني ولا حتى يثيرني، ولكنها - فيما بدا - دعتني إلى نزهة في يوم عطلة شديد الملالة.
وإذا بها تمر أمام المقهى واضعة يديها في جيبي معطفها الرمادي. تبعتها عن بعد حتى لحقت بها في أثنيوس. ابتاعت بعض الحلوى ووقفت كالمترددة فاقتربت منها وحييتها. ردت التحية فدعوتها إلى قدح شاي، فقالت لي إنها كانت تفكر في الجلوس بعض الوقت. احتسينا الشاي وتناولنا قطعتين من الجاتوه، ثم دار حديث تعارف سطحي ولكن لا يخلو من معلومات مفيدة عن الأسرة والعمل. وسياق الحديث وحده هو الذي جعلني أطالب بموعد قريب. وتقابلنا في بوفيه سينما أمير، ثم شهدنا الفيلم معا، وكان علي أن أحدد نوع المغامرة ولونها، ولم أجدها بالقياس إلى قلبي جديرة بالمثابرة والتعب، ورغم ذلك فعندما دعتني إلى زيارة أسرتها قبلت. أدركت أنها تبحث عن زوج. وزنتها بعقل بارد، قدرت المرتب والدروس الخصوصية وتذكرت في ذات الوقت يأسي المتزايد من زهرة، وفي أسرتها عثرت على إغراء جديد وهي ملكية والديها لعمارة متوسطة بكرموز. وجدتني أفكر في الأمر بجدية لا طمعا في مالها ولا حبا فيها، ولكن انسياقا لحنيني القديم إلى الزواج. وزهرة؟! قد أجد شيئا من عزاء من غدري بها في الزواج نفسه الذي سيربطني إلى الأبد بامرأة لا أحبها، ولكن هل أستطيع حقا أن أقهر الحب المشبوب في قلبي؟! •••
أشار إلي راجيا أن أنتظر. كنت هممت بالانصراف بعد شراء الجريدة وكان يحاسب زبونا، فلما فرغ منه أقبل علي وهو يقول: أستاذ .. سأخطب زهرة!
داريت انزعاجي بابتسامة وسألته: مبارك، هل تم الاتفاق بينكما؟
أجاب منتفخا بالثقة: تقريبا!
نبض قلبي بألم أليم وأنا أسأله: ماذا تعني بقولك «تقريبا»؟ - هي زبونة يومية، لم نطرق الموضوع صراحة، ولكني خير من يفهم النسوان.
كرهته في تلك اللحظة لحد الموت، أما هو فسألني: ما رأيك يا أستاذ في أخلاقها؟ - طيبة جدا، والحق يقال.
سأخطبها من مدام ماريانا حتى أهتدي إلى أهلها.
تمنيت له التوفيق ثم ذهبت، ولكنه لحق بي بعد خطوتين وهو يسأل: ماذا تعرف عن الخلاف بينها وبين أهلها؟ - كيف علمت به؟ - أنبأني به عامر بك، العجوز. - جملة ما أعرفه أنها عنيدة وأبية النفس.
فضحك وهو يقول في مباهاة: إني أعرف الدواء لكل داء. •••
كانت خطبة .. وكان رفض.
وبقدر ما أرضاني ذلك بقدر ما ضاعف من إحساسي بالمسئولية. مزقني القلق، اجتاحني الحب، تراجعت علية من مقدم الصورة حتى لاحت خلفية باهتة.
وقبضت على معصمي زهرة بحنان وضراعة وقلت بحرارة وتوسل: أنقذيني .. ولنذهب في الحال.
تخلصت مني بجفاء وهي تقول: لا تعد إلى ذلك، إني أكره سماعه!
لن نتلاقى أبدا. هي تحبني ولكنها ترفض التسليم بلا قيد، وأنا أحبها ولكني أرفض القيد. ولا هذا ولا ذاك بالحب الحقيقي الذي تمحى عنده الإرادة والعقل.
وقد دعاني السيد محمد والد علية للغداء فلبيت الدعوة. ودعوت الأسرة في نهاية الأسبوع للعشاء في باستوريدس. انقلب الجو بعد أن استقر بنا المجلس فصفرت الريح وانهمر المطر. ومضيت أقنع نفسي طوال الوقت بأن علية فتاة ممتازة وأنها تعد بزواج موفق. وسيمة .. أنيقة جدا .. موظفة .. مثقفة .. ماذا تريد أفضل من ذلك؟ ولو لم أرق في عينيها ... مالي أتحفظ لهذا الحد؟ إنها تحبني بلا ريب، الراغبة في الزواج راغبة في الحب أيضا. ثم ما هذا الذي يعدنا بالفراديس دون أن يفي ولو بشيء من وعده؟ واشتدت العاصفة في الخارج حتى خيل إلي أنها ستقلع المدينة الجميلة من جذورها فتضاعف شعورنا بنعمة الدفء والأمان في الداخل. وقلت لنفسي إنني اقتحمت أبواب هذه الأسرة المحترمة مدفوعا بانفعالات عفوية ولكن بلا خطة موضوعة أو نية صادقة، وبلا إمكانية مالية مناسبة، وإن علي أن أصارحهم بحقيقة مركزي وبمسئوليتي العائلية تاركا لهم بعد ذلك الخيار. وقد جر الحديث المتشعب إلى «الزواج» كموضوع عام فقال والد علية: على أيامنا كنا نتزوج مبكرين فنهنأ برؤية أولادنا وهم رجال مسئولون.
فحركت رأسي حركة تنم عن الحسرة وأنا أقول: تلك أيام خلت، أما هذه الأيام فهي منحوتة من العسر والصخر.
فمال نحوي قليلا ثم قال بصوت كالهمس: ابن الحلال ثروة في ذاته، وعلى الأمناء من الناس أن يذللوا له العقبات. •••
يا له من وجه مكفهر. كان قد انتبه إلى اقترابي من معرضه وأنا على بعد خطوتين منه فسرعان ما اكفهر وجهه. رماني بنظرات غاضبة حتى عجبت لشأنه. ثم تساءل متهكما دون أن يقدم لي الجريدة كعادته كل يوم: لم أخفيت عني أنك عشقتها؟
بوغت بقوله، ولهجته الوقحة، وهتفت به: أنت مجنون!
فصاح بي: أنت جبان!
فقدت صوابي فلطمت وجهه بظهر كفي. وإذا به يهوي براحته الكبيرة على خدي. وتبادلنا الضرب بلا وعي ولا رحمة حتى فرق الواقفون بيننا. انفصلنا ونحن نتبادل أقذع الشتائم. وسرت وقتا على غير هدى وأنا أسائل نفسي عمن وضع تلك الفكرة الخبيثة في رأسه الخاوي.
وقد مضى زمن طويل قبل أن أراه مرة أخرى. دخلت آنذاك لأتناول عشاء خفيفا في مطعم بنايوتي فوجدته جالسا في مقعد صاحب المحل وراء صندوق الماركات. هممت بالتراجع فوثب من مجلسه إلي ثم احتواني بين ذراعيه وهو يقبل رأسي، وأبى إلا أن يدعوني للعشاء على حسابه. واعتذر إلي عما سلف ثم اعترف لي بأن حسني علام هو الذي افترى علي تلك الكذبة. ••• - عزيزتي .. أرجو ألا تعلم زهرة بما بيننا!
كنا نجلس على شاطئ المحمودية بكازينو البالما تحت الشعاع الدافئ. وكان اتصالها المنتظم بزهرة يقلق خيالي. إنها لا تدري شيئا عن الأسباب الحقيقية التي ساقت زهرة إلى التتلمذ عليها، كما أن زهرة لا تتصور أن مدرستها قررت الاستيلاء على رجلها. وقد رمقتني علية بارتياب وهي تسأل: لم؟ - إنها ثرثارة! .. والثرثرة غير مستحبة في اللحظة الراهنة من علاقتنا.
لم تزايل الريبة نظراتها وقالت: ولكن علاقتنا ستعرف عاجلا أو آجلا.
فقلت بصراحة فجة: يخيل إلي أحيانا أنها تنظر إلي نظرة خاصة.
قالت وهي تبتسم ابتسامة شاحبة فاترة: لعل لديها من الأسباب ...
فقلت بجدية: جميع النزلاء يمازحونها أحيانا، وقد فعلت مثلهم، هذا كل ما هنالك.
كانت العلاقة قد تطورت من ناحيتها إلى حب. ولم يكن يهمني أن تصدقني بالكامل بقدر ما يهمني أن تأخذ حذرها من زهرة! وإذن فقد انتصر العقل على القلب ولم يبق إلا أن أعلن الخطبة. على ذلك ترددت، وجعلت أؤجل اليوم الموعود بحجة الرجوع إلى القرية ليلعب الأهل دورهم التقليدي. وكلما مر يوم توترت مشاعري حيال زهرة وحز في نفسي غدري المخزي بها. وكنت أتنهد بحسرة وأقول: آه لو تلين .. لو تذعن .. فأهبها قلبي إلى الأبد. •••
رعد! .. زلزال؟ .. مظاهرة؟ .. سقوط جسم بالحجرة؟!
أخرجت رأسي من تحت الغطاء إلى ظلام دامس. أنا هو أنا .. هذا فراشي ببنسيون ميرامار .. ولكن ما هذا؟ .. رباه .. إنه صوت زهرة .. إنه يطرق بابي.
هرعت إلى الخارج. رأيتها على ضوء المصباح السهري مشتبكة مع حسني علام في صراع مميت. من نظرة واحدة أدركت حقيقة الموقف كله. أردت أن أنقذها بلا فضيحة ومع الإبقاء على علاقتي بحسني. وضعت يدي على كتفه برفق هامسا: حسني!
لكنه لم يسمعني فشددت على كتفه وأنا أقول بنبرة أقوى: حسني .. أجننت؟!
دفعني بظهره بوحشية ولكني قبضت على منكبه وقلت له بحزم: ادخل الحمام وضع إصبعك في فمك!
وإذا به يستدير نحوي ويلطمني على جبهتي . جننت من الغضب فانهلت عليه ضربا. ولم يقف الضرب بيننا حتى أدركتنا المدام. وقد عاملت المدام المعتدي برفق لا يستحقه. إني أفهم العجوز جيدا. من خلال نفسي أفهمها حقا. كلانا حام حول حسني ممنيا النفس بالاستفادة من مشروعه الخيالي. وهي مترددة تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وأنا متحفز طيلة الوقت للوثوب. ها هو الباب يغلق في وجهي نهائيا، أما هي فتكاد تعنف المضروب من أجل خاطر الضارب.
وعقب ذلك بأيام رأيته - حسني علام - خارجا من الجنفواز حوالي الواحدة صباحا مصطحبا معه صفية بركات. لم أدهش إلا قليلا ثم تذكرت يوم مضى بها من البنسيون. إنها تماثله في التهور والحلم بالمشاريع، وسيجمع بينهما الحب والأحلام. وكنت - تلك الليلة - قد سهرت في حانة جورج مع علي بكير ورأفت أمين. وسرنا في الكورنيش متشجعين بصفاء الجو وحرارة الخمر. ولا حديث لرأفت أمين - وبخاصة إذا سكر - إلا الوفد. وقد وضح لي أن علي بكير لا يكاد يعرف الفارق بين الوفد والنادي الأهلي. من ناحية أخرى لم أكن أهتم في أعماقي بالسياسة رغم نشاطي الموفور فيها.
أما رأفت أمين فراح يتحدث بلسان مخمور عن الوفد وأيامه. وسألته ساخرا: ألا تعترف بالموت؟
فقال بصوت دوى في الطريق الخالية: قل في الثورة ما تشاء، لا أنكر قوتها الشاملة، ولكن الشعب مات بموت الوفد!
عند ذلك وقع بصري على حسني علام وصفية بركات وهما ينحدران إلى الكورنيش كدبين قويين، قلت ضاحكا وأنا أشير إليهما من بعيد: ها هو شعب الوفد يواصل جهاده بعد منتصف الليل!
وعندما آن لنا أن نفترق همس علي بكير في أذني: عما قريب سنعطي إشارة البدء في العمل. •••
دخلت البنسيون والنوم يخيم على أرجائه. وتراءى لي باب منصور باهي الزجاجي وهو ينضح بالضوء فاندفعت بسحر الخمر إلى الاستئذان فالدخول، بلا باعث حقيقي. نظر إلي بشيء من الدهشة وهو جالس على المقعد الكبير. تتجلى في عينيه الصغيرتين الجميلتين كآبة وتفكير. قلت وأنا أتخذ مجلسا على كرسي قريب: لا تؤاخذني .. أنا سكران!
فقال دون مبالاة: هذا واضح .
ضحكت، ثم قلت معاتبا: الحق أني عجزت عن جذبك إلي، يبدو أنك شديد الانطواء.
أجاب بأدب ولكن دون تشجيع ما: لكل طبعه. - لا شك أن رأسك يرهقك.
أجاب بغموض: الرأس أصل البلاء!
فقلت ضاحكا: طوبى لنا نحن أصحاب الرءوس الفارغة! - لا تبالغ فإنك مركز نشاط لا يخمد. - حقا؟ - نشاطك السياسي .. أفكارك الثورية .. غرامياتك!
صدمتني العبارة الأخيرة من قوله ولكن ضاعت الصدمة في مد الموجة الخمرية. ووضح لي أنه لا يرحب بي - إنه لا يرحب بأحد - فصافحته ثم ذهبت. •••
عندما تجيء زهرة إلى حجرتي بالشاي أتخلى عن أفكاري ومشروعاتي ويتفرغ قلبي للحب الحقيقي وحده. ولكن وجهها تبدى صلبا متحجرا مصفرا من الغضب. ونظرتها الثابتة الكالحة المتحفزة المخيفة ملأت قلبي بالقلق والتشاؤم. قلت بإشفاق: زهرة .. لست كعادتك!
قالت بحنق متفرس: لولا أن لله حكمته التي هي فوق العقول لكفرت!
ماج صدري بالقلق فسألتها: هل من هم جديد يضاف إلى همومنا المستعصية؟
قالت باقتضاب وازدراء: بعيني رأيتكما.
عرفت من تعني، فغاص قلبي في هاوية عميقة من صدري وسألت بيأس: من تعنين؟ - الأستاذة!
ثم بضراوة وحقد: الخطافة الداعرة!
ضحكت. يجب أن أضحك، وأن أضحك ضحكة الاستهانة التي نواجه بها عادة غضبة خاطئة في غير محلها. ضحكت وأنا أقول: يا لك من ... صادفت أستاذتك في طريقي فأديت لها ما ... قاطعتني بقسوة: كذاب .. لم تكن مصادفة .. وقد عرفت ذلك منها اليوم.
هتفت بانزعاج: لا! - اعترفت الخنزيرة بمقابلتك، ولم يدهش أحد من والديها، ولكنهم دهشوا جميعا لتطفلي أنا.
خرست، خرست تماما. وقالت هي بتقزز وغضب: لم يخلق الله أمثالك من الجبناء؟
انهزمت .. تهدمت .. ومن أعماق هاوية اليأس توسلت إليها قائلا: زهرة! .. كل ذلك يقوم على غير أساس .. إن هو إلا تخبط يائس .. راجعي نفسك يا زهرة .. يجب أن نذهب معا.
لم تسمع كلمة مما قلت إذ واصلت كلامها قائلة: ماذا أفعل؟ .. لا حق لي عليك .. وغد حقير .. غر في ألف داهية!
وبصقت في وجهي!
غضبت، رغم موقفي المخزي غضبت، ثم صحت بها: زهرة!
فبصقت في وجهي مرة أخرى. أعماني الغضب فصرخت: اذهبي وإلا كسرت رأسك.
انقضت علي ولطمتني على وجهي بقوة مذهلة. انتترت واقفا وقد جن جنوني. قبضت على يدها بقسوة ولكنها انتزعتها بعنف ولطمتني للمرة الثانية. فقدت وعيي فانهلت عليها ضربا وصفعا وهي تبادلني الضرب والصفع بقوة فاقت تصوري. وإذا بالمدام تهرول نحونا وهي ترطن بألف لسان. أبعدتها عني فصحت في جنون الغضب: أنا حر .. أتزوج بمن أشاء .. وسأتزوج علية.
وجاء منصور باهي فمضى بي إلى حجرته. لا أذكر أي حديث تبادلنا، ولكني أذكر تهجمه علي بوقاحة غريبة، وكيف اشتبكنا في صراع جديد. جاء موقفه مفاجأة لي وأي مفاجأة. لم يجر لي في خاطر أنه أيضا من عشاق زهرة! هكذا عرفت سر نفوره الغريب مني. ولحقت بنا المدام. قررت أن تجعل مني كبش الفداء، العجوز القوادة. قالت إن البنسيون لم يعرف الهدوء منذ جئته، وإنني قلبته إلى سوق همجية للمعارك وقلة الأدب. وبصراحة وقحة قالت لي متحدية: ابحث لك عن مسكن آخر.
لم يعد ثمة ما يدعوني للبقاء، ولكني أصررت على الإقامة حتى عصر الغد، آخر الأسبوع الذي دفعت إيجاره مقدما، وهو إصرار يرجع أولا إلى العناد والكبرياء.
وغادرت البنسيون فهمت على وجهي طويلا تحت سماء ملبدة بالغيوم متعرضا لدفقات متواصلة من الهواء البارد. وجعلت أتسلى بمشاهدة معارض الحوانيت المتلألئة بهدايا السنة الجديدة وأنظر بفتور إلى بابا نويل العتيد.
وذهبت إلى بدرو لموعد سابق مع المهندس علي بكير. وقد سألني: هل دبرت مسألة الاستثمارات؟
فأجبته بالإيجاب فقال لي: فجر الغد، سوف نبدأ مع فجر الغد. •••
قلت لنفسي وأنا ذاهب إلى الشركة في الصباح الباكر «مضى الفجر .. وتمت اللعبة.»
كنت مضطربا، ونهما إلى الأخبار. اتصلت بالمصنع تليفونيا طالبا علي بكير فقيل لي إنه في المرور. إذن فقد نفذ التدبير بإحكام ونجاح، وها هو يزاول عمله اليومي. واجتاحني الاضطراب فغادرت الشركة قبل الميعاد متعللا بعذر ما، ولدى مروري أمام دار الإذاعة لمحت منصور باهي وفتاة حسناء يغادرانها معا. ترى من تكون؟ .. خطيبة؟ .. عشيقة؟ هل تجد زهرة نفسها على الرف مرة أخرى؟ تذكرت زهرة بحزن. لم أبرأ تماما من حبها، وهو العاطفة الصادقة الوحيدة التي خفق بها قلبي الممزق بالأهواء.
ومضيت لزيارة علية محمد وأسرتها فاستقبلت استقبالا فاترا، بل متجهما. هممت بطرح بعض الأكاذيب كالعادة، ولكن والدها قال لي بغضب: تصور موقفنا وتلك الخادمة تناقشنا الحساب!
ولما جاء ميعاد الغداء لم أدع له. غادرت الشقة بلا أمل في وصل ما انقطع من الأسباب. والحق أني لم أكترث لذلك كثيرا. لم يعد يفصل بيني وبين الثراء إلا ساعات، وسوف أجد الزوجة الفاخرة المناسبة.
تناولت الغداء عند بنايوتي (محمود أبو العباس) ثم ذهبت إلى مسكن علي بكير ولكني لم أجده. مضيت إلى البنسيون والنهم إلى الأخبار يحرقني حرقا. أعددت حقيبتي وحملتها إلى المدخل. وتلفنت إلى علي بكير وكم غمرني الارتياح الساحر وصوته يرد علي قائلا: «آلو». - سرحان يقدم تحياته .. كيف الحال؟ - كل شيء طيب .. لم أقابل السواق بعد. - متى نعرف النتيجة النهائية؟ - قابلني مساء اليوم الساعة الثامنة بكازينو البجعة.
فقلت باستجابة متلهفة: طيب .. الساعة الثامنة مساء .. سأنتظرك في كازينو البجعة. - إلى اللقاء. - إلى اللقاء.
غادرت بنسيون ميرامار إلى بنسيون إيفا. تسكعت بين المقاهي أشرب كأسا هنا وكأسا هناك، مبذرا نقودي بلا حساب. بالشراب أسكت وساوس القلق وأنات الحب المحتضر. ووعدت أهلي بخير لم يحلموا به منذ وفاة أبي. وذهبت إلى كازينو البجعة قبل الموعد بقليل. التقيت عند المدخل بطلبة مرزوق فضايقني جدا، ولكني صافحته متظاهرا بالارتياح. وقد سألني: ماذا جاء بك إلى هنا؟ - موعد هام. - دعني أرد إليك تحية من تحياتك، فلنجلس معا حتى يجيء صاحبك.
جلسنا في البهو الشتوي وهو يسألني بصوته الأجوف من انتفاخ شدقيه: كونياك؟
كنت ثملا ولكن كانت بي رغبة في المزيد. شربنا وتحادثنا وضحكنا. وإذا به يسألني: ترى هل يسمح لي بالسفر إلى الكويت لزيارة كريمتي؟ - أعتقد ذلك، أتريد أن تبدأ من جديد؟ - كلا، ولكن زوج كريمتي - هو ابن أخي أيضا - قد أثرى ثراء كبيرا. - لعلك تفكر في الهجرة؟
لاحت في عينيه نظرة حذرة ثم قال : كلا .. أريد فقط أن أرى ابنتي.
قربت رأسي منه وأنا أقول: هل أدلك على عزاء حقيقي؟ - ما هو؟ - البعض يضيقون بالثورة، ولكن أي نظام يمكن أن يحل محلها؟ فكر قليلا أو كثيرا فلن تجده خارجا عن واحد من اثنين، فإما الشيوعية وإما الإخوان، فأيهما تفضل على الثورة؟
قال بعجلة: لا هذا ولا ذاك.
فقلت وأنا أبتسم في ثقة وانتصار: هذا هو يقيني، فليكن لك في ذلك عزاء.
وأزف الميعاد ولم يجئ علي بكير. انتظرت نصف ساعة أخرى مرت في عذاب أليم. قمت إلى التليفون وطلبت مسكنه فلم يرد أحد. لعله في طريقه إلى هنا ولكن ماذا أخره؟ ألا يقدر ما يفعله التأخير بي؟ ونظر طلبة مرزوق في ساعته ثم قال: «آن لي أن أذهب.» ثم صافحني وذهب. ولم أكف عن الشراب. وأخيرا جاء الجرسون ليخبرني بأن شخصا يطلبني في التليفون. وثبت واقفا ثم هرعت إلى التليفون. تناولت السماعة وقلبي يضرب بشدة: آلو .. علي؟ .. لم لم تجئ؟ - سرحان .. أصغ إلي .. انكشف الأمر!
تفاعلت كلماته مع وش الكحول في أذني، وانداحت جميعا في دوران شمل السماء والأرض: ماذا قلت؟ - قضي علينا! - ولكن كيف؟ .. قل ما عندك دفعة واحدة. - ما الفائدة؟ .. أراد السواق أن يفوز بالغنيمة وحده فوقع في شر عمله .. سيعترف بكل شيء .. إن لم يكن قد اعترف بالفعل.
سألت بريق جاف: والعمل؟ .. ماذا أنت صانع؟ - قضي علينا .. سأفعل ما يمليه علي الشيطان.
وأغلق السكة.
إني أرتجف ولا تكاد تحملني قدماي. فكرت لحظة في الهرب، ولكني عدت - تحت عيني الجرسون - إلى المائدة. لم أجلس، شربت الكأس، أديت الحساب. اليأس يزحف بسرعة مذهلة. وخوف مثل الشيطان. فارقت موقفي إلى البار رأسا. بطريقة غير شعورية. طلبت من البارمان زجاجة واندفعت في الشراب بلا وعي وهو يرمقني بقلق. أصب وأشرب ثم أصب، دون كلمة أو لفتة أو تريث. ثم رفعت رأسي إليه قائلا: موسى حلاقة من فضلك؟
تردد قليلا، ولما قرأ الإصرار في وجهي نادى الجرسون وسأله عن موسى. رجع الجرسون بموسى مستعملة عارية فتقبلتها شاكرا ثم أودعتها جيبي. انفصلت عن البار بشيء من المشقة ثم مضيت نحو الباب الخارجي. مترنحا .. يائسا .. متعجلا. عبرت الطريق وبودي لو أركض ركضا.
كنت يائسا .. يائسا .. يائسا.
عامر وجدي
تنغص علي صفوي بالأحداث التي ألمت بالبنسيون. لقد ركنت إليه لأنعم بشيء من الهدوء الضروري لشيخوختي. وبشيء من عزاء الذكريات عن الخيبة المريرة التي منيت بها في ختام حياتي العملية. لم يجر لي في الظن أنه سينقلب ميدانا لمعارك وحشية قدر لها أن تنتهي بجريمة قتل دامية.
ودب في بعض نشاط فغادرت حجرتي منضما إلى ماريانا وطلبة مرزوق بمجلسنا المعهود بالمدخل. وددت أن أرى زهرة ولكن اضطراب ماريانا وتهجم طلبة منعاني من استدعائها إلى جو سيضيق حتما بأحزانها ولن يوليها الاحترام اللائق. وعلمت أن حسني علام غادر البنسيون في ميعاده المألوف تقريبا. إنه انفعل ساعة بالخبر الدامي ثم مضى إلى حال سبيله، أما منصور باهي فقد تأخر به النوم على خلاف عادته. وقالت ماريانا بتأفف: ها هو اليوم الأخير من السنة، ختمها أسوأ ختام، فماذا يخبئ لنا العام الجديد؟!
فتساءل طلبة مرزوق في ضجر عصبي: أي متاعب ستلاحقنا هنا!
فتمتمت بصوت واهن: ما دمنا أبرياء ...
فقاطعني بحدة: أنت متحصن بشيخوختك، فلن يضيرك شيء.
وترامى إلينا صوت باب منصور وهو يفتح. ذهب إلى الحمام. رجع إلى حجرته بعد نصف ساعة.
وما لبث أن ظهر من وراء البارفان، مرتديا بدلته ومعطفه، ولكنه طالعنا بوجه شديد الشحوب ونظرة معتمة وقسمات متصلبة. أخبرته المدام بأن إفطاره معد، ولكنه رفضه بهزة من رأسه دون أن ينبس. أقلقنا منظره بلا شك، وكانت المدام أسرعنا في الإفصاح عن ذاك القلق فقالت له: اجلس يا مسيو منصور .. أأنت على ما يرام؟
قال دون أن يجلس: على خير ما يرام، لقد نمت أكثر من المعتاد، هذا كل ما هنالك!
فقالت وهي تشير إلى الجريدة المطروحة على الكنبة: أما سمعت الخبر؟
لم يبد أي اهتمام بشيء فقالت: سرحان البحيري .. وجد قتيلا في طريق البالما.
نظر إليها طويلا. لم يدهش، لم ينزعج، ولكنه ظل ينظر في عينيها. كأنما لم يسمع قولها، أو لم يفهمه، أو أنه يعاني مرضا أخطر مما نتصور. ودعته ماريانا إلى قراءة الخبر في الجريدة فألقى عليه نظرة متمهلة هادئة، وأبصارنا مركزة عليه، ثم رفع رأسه وهو يقول: أجل .. وجد قتيلا.
قلت له بإشفاق: إنك متعب فلتجلس.
فقال ببرود أو لعله ذهول: إني بخير.
فقالت ماريانا: نحن كما ترى في غاية من الاضطراب.
نقل بصره بين وجوهنا ثم سأل: لم؟ - نتوقع أن يجيء البوليس فيقلق راحتنا. - لن يجيء.
فقال طلبة مرزوق: ولكن البوليس كما تعلم ...
فقاطعه قائلا بهدوء: أنا قاتل سرحان البحيري.
ومضى نحو الباب قبل أن نفقه قوله ففتحه ثم نظر إلينا قائلا: سأذهب إلى البوليس بنفسي.
وأغلق الباب وراءه .. تبادلنا نظرات ذاهلة، مضى وقت ونحن نترامق في ذهول وصمت. ثم هتفت ماريانا بخوف: إنه مجنون!
فقلت: بل إنه مريض.
تفكر طلبة مليا ثم قال: ولعله هو القاتل.
فصاحت ماريانا: ذلك الشاب المهذب الخجول!
وقلت بإشفاق: إنه مريض بلا شك.
وتساءلت ماريانا: ولم يقتله؟
فتساءل طلبة بدوره: ولم يعترف بأنه القاتل؟
قالت ماريانا: لن أنسى صورة وجهه، لقد مس عقله شيء.
فقال طلبة مؤيدا رأيه: لقد كان آخر المتشاجرين معه.
فقلت معترضا: ما من أحد إلا وتشاجر معه.
فأشار ناحية حجرة زهرة وقال: هناك يستقر السبب.
فقلت محتدا: ولكنه الوحيد الذي لم يبد نحوها أي اهتمام خاص. - لا يعني ذاك أنه لم يحبها، أو أنه لم يرغب في الانتقام من غريمه فيها. - يا سيدي، لقد تركها سرحان وذهب. - ولكنه أخذ قلبها، كما أخذ شرفها! - صه .. لا تفتري على الناس بغير يقين.
وتساءلت ماريانا: ترى هل يذهب حقا إلى البوليس؟
وتواصل الحديث محموما حتى أرهقنا، وعند ذاك هتفت: فلنكف .. كفاية .. ولنسلم إلى المقادر. •••
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور * ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير .
سرعان ما تعبت عيناي من القراءة. غادرت الحجرة إلى المدخل والساعة تدق الرابعة مساء. وجدت ماريانا غارقة في الكتابة فراحت تقول لي: أول ليلة رأس السنة تمر بي وكأنها ليلة مأتم.
فقال طلبة مرزوق بحزم: إياكم والعودة إلى حديث الهم والكدر.
فقالت المدام بغضب: لقد سقط النحس على البنسيون، إني واثقة من ذلك، وعلى زهرة أن تذهب، فلتبحث عن رزقها في مكان آخر.
أصابت غضبتها قلبي فقلت بإشفاق: إنها بريئة يا ماريانا، سيئة الحظ، وقد لجأت إليك في محنتها. - أصبحت أتشاءم منها.
فرقع طلبة بأصابعه كأنما قد تلقى فكرة جديدة سعيدة وقال: ماذا يمنعنا من الاحتفال بليلة رأس السنة؟
فقلت بدهشة: ماذا يمنعنا! .. يا له من قول مضحك.
تجاهلني .. وقال لماريانا: استعدي يا عزيزتي .. سنسهر معا كما اتفقنا!
تشكت المرأة قائلة: أعصابي ... أعصابي يا مسيو طلبة. - لذلك أدعوك للسهر.
تغير الجو. بالقياس إليهما على الأقل. وراحا يناقشان الاقتراح بجدية. وجاء آنذاك حسني علام من الخارج فأعلن عن عزمه على الانتقال من البنسيون إلى مقام جديد. وقصت عليه المدام قصة منصور باهي الغريبة فتلقاها بدهشة كبيرة وناقشها وقتا، ثم هز كتفيه العريضين كأنما ينفضهما عنه، وراح يعد حقيبته، ثم ودعنا وانصرف.
وتمتمت عقب انصرافه بحزن: عدنا وحدنا كما كنا.
فقال طلبة بمرح: لنحمد الله على ذلك.
انبعثت فيهما روح نشاط دفاق جرفت من قلبيهما شوائب القلق والكآبة. ازينت ماريانا كالأيام الخالية.
ارتدت فستان سهرة كحلي اللون فأضفى على بياض بشرتها نصاعة وبهاء، ومعطفا أسود ذا طوق من الفرو الأصيل. وانتعلت حذاء مذهبا. وتحلت بقرط من الماس وعقد من اللؤلؤ. ارتدت غانية جذابة نبيلة، وتوارت أمارات الكبر تحت قناع المساحيق. ترامقنا هنيهة وهي واقفة وسط المدخل وقفة استعراضية. ثم ضحكت بفرح بنت مراهقة ومضت هي تقول لطلبة: سأنتظرك عند الحلاق. •••
وجدت نفسي وحيدا، لا أنيس لي إلا عواء ريح عاتية. ناديت زهرة. ثلاث مرات ناديتها قبل أن تظهر من وراء البارفان. وقفت تعلوها مظاهر الحزن والهزيمة والانكسار حتى خيل إلي أنها ضؤلت واحدودبت.
أشرت إلى الكنبة فدلفت إليها في صمت، ثم استقرت تحت تمثال العذراء. شبكت ذراعيها على صدرها ورنت إلى الأرض. عصر قلبي عطف وحنان حتى امتلأت قنوات عيني بدمع غدة مضمحلة لم يعد من الميسور لها أن تروح عن صاحبها بالبكاء. قلت: لماذا تبقين وحدك كأنك بلا صديق؟ أصغي إلي، أنا رجل عجوز بل عجوز جدا كما ترين، وقد تعثر تيار حياتي ثلاث مرات أو أربع، تمنيت عند كل مرة أن أقتل نفسي، وكنت أهتف من قلب مكلوم: «لقد انتهى كل شيء.» وها أنت ترينني على رأس عمر مديد لا يظفر به إلا الأقلون، ولم يبق من عثرات اليأس إلا ذكريات غامضة بلا طعم ولا رائحة ولا معنى كأنما كانت من تجارب شخص آخر.
استقبلت كلماتي بلا حماس وبلا فتور. قلت: لنترك أحزاننا لزمن يبري الحديد ويفتت الحجر، ولكن عليك أن تفكري في مستقبلك، الحق يا زهرة أن المرأة لم تعد تريدك.
فبادرتني بشدة: لا يهمني ذلك. - ماذا أعددت للمستقبل؟
قالت وهي ترنو إلى الأرض ما تزال: كالماضي تماما حتى أحقق ما أريد.
تنسمت في قولها عزيمة ردت إلي الروح فقلت: حسن أن تواصلي تعليمك وأن تتدربي على مهنة، ولكن كيف توفرين لنفسك الأمن والرزق؟
قالت بثقة وتحد: في كل خطوة أجد من يعرض علي عملا.
قلت برقة أستعين بها على إقناعها: والقرية .. ألا تفكرين في العودة إليها؟ - كلا .. إنهم يسيئون بي الظن.
فقلت فيما يشبه التوسل: ومحمود أبو العباس؟ .. له عيوبه بلا شك، ولكنك قوية وستستطيعين أن تقوميه وأن تدفعيه إلى ما هو خير. - ليس دونهم سوء ظن بي.
تنهدت في تسليم أسيف وقلت: أود أن أطمئن عليك يا زهرة، إني أحبك. هو حب متبادل فيما أعتقد. وباسمه سأرجوك أن تقصديني عند الشدة.
رمقتني بامتنان وحب فقلت: مهما يكن من مرارة التجربة الماضية فلن تغير مرارتها من طبيعة الأشياء، ستظل غايتك المنشودة هي العثور على ابن الحلال.
أحنت رأسها وهي تتنهد. - وستجدين حتما ابن الحلال الجدير بك .. إنه موجود الآن في مكان ما، ولعله يتحين اللحظة المناسبة.
غمغمت بكلام لم أتبينه، ولكن حدثني قلبي بأنه كلام طيب، فقلت: ما تزال الدنيا بخير، وستكون كذلك إلى الأبد.
لبثنا جالسين نراوح بين الصمت والمناجاة. وبعد وقت غير قصير استأذنت في الانصراف ثم ذهبت إلى حجرتها.
مكثت وحدي طويلا حتى استيقظت - تسلل النوم إلي وأنا لا أدري - على صوت الباب وهو يفتح.
دخلت ماريانا وطلبة مرزوق ثملين وهما يغنيان، وصاح بي الرجل: ماذا أبقاك هنا أيها العجوز؟
تثاءبت في ذهول وأنا أتساءل: كم الساعة؟
فأجابت ماريانا بلسان مخمور: مضت ساعتان من العام الجديد.
وإذا بالرجل يشدها إلى حجرته وهو يقبلها فتطاوعه بعد تمنع لا خطورة له، ثم أغلق الباب وراءهما. جعلت أنظر إلى الباب المغلق وكأنني في حلم! •••
جمعتنا مائدة الإفطار صباحا وكنا وحدنا. لم تظهر ماريانا على حين ذهبت زهرة بعد إعداد المائدة.
نظرت إليه فوجدته مريضا أو كالمريض. قلت له مداعبا: صباحية مباركة!
تجاهلني مليا، ثم تمتم: يا لك من نحس!
رفعت إليه عيني مستطلعا فضحك رغما منه وقال: كان فشلا مزريا ومضحكا معا.
تساءلت متغابيا: عم تتحدث؟ - إنك تعرف تماما عما أتحدث يا ثعلب. - ماريانا؟
غلبه الضحك مرة أخرى ثم قال: حاولنا المستحيل، فعلنا كل ما يمكن تخيله، ولكن بلا فائدة، ولما تجردت من ملابسها تبدت كمومياء من شمع مذاب، فقلت لنفسي: يا للتعاسة! - لقد جننت! - وإذا بآلام الكلى تنتابها! تصور، وبكت، واتهمتني بأنني أمثل بها! •••
تبعني إلى حجرتي بعد الإفطار. جلس على كرسي أمامي مباشرة وهو يقول: يخيل إلي أنني سأسافر إلى الكويت قريبا، أفتاني المرحوم بذلك. - المرحوم؟ - سرحان البحيري.
وضحك ضحكة قصيرة ثم قال بلا مناسبة ظاهرة على الأقل: أراد أن يقنعني بالثورة بمنطق غريب.
نظرت إليه متسائلا فقال: أكد لي أنه لا بديل للثورة إلا واحد من اثنين .. الشيوعيين أو الإخوان. فظن أنه دفعني إلى ركن مسدود.
فقلت بإيمان: ولكن ذلك هو الحق.
ضحك ساخرا ثم قال: بل يوجد بديل ثالث. - ما هو؟ - أمريكا!
هتفت بغيظ: أمريكا تحكمنا؟
فقال بهدوء حالم: عن طريق يمينيين معقولين، لم لا؟
ضقت بأحلامه فقلت: اذهب إلى الكويت قبل أن تجن. •••
ها هي الصحف تحمل إلينا أنباء الجريمة. إنها تترادف غريبة ومتناقضة. لقد اعترف منصور باهي بالقتل، ولكنه لم يقنع أحدا بالباعث عليه. قال إنه قتل سرحان البحيري لأنه - في نظره - يستحق القتل. ولماذا يستحق سرحان البحيري القتل؟ لصفات وتصرفات هي مرذولة في ذاتها، ولكنها ليست بقاصرة عليه، فلم اختاره بالذات؟ بمحض الصدفة، وكان من المحتمل أن يختار غيره. هكذا أجاب. من ذا الذي يقتنع بذلك الكلام؟ أيكون الفتى مجنونا؟! هل يدعي الجنون؟
وإذا بتقرير الطبيب الشرعي يؤكد أن الوفاة نتجت عن قطع شرايين رسغ اليد اليسرى بموسى حلاقة، وليس بضرب الحذاء كما اعترف القاتل، وبذلك رجح أن تكون الوفاة نتيجة انتحار لا قتل.
وأخيرا اكتشفت العلاقة بين القتيل وبين جريمة تهريب الغزل، وبذلك توكد الانتحار.
وتساءلنا عن العقوبة التي يستحقها منصور باهي. أجل .. ستكون حتما عقوبة طفيفة، وسوف يستأنف حياته ولكن بأي قلب وبأي عقل؟ وقد قلت بحزن: إنه فتى رائع ولكنه يعاني داء خفيفا، عليه أن يبرأ منه. •••
ها هي زهرة كما رأيتها أول مرة لولا مسحة من الحزن. أنضجتها الأيام الأخيرة أكثر مما أنضجتها أعوام العمر السابقة جميعا. تناولت الفنجال من يدها وأنا أداري انقباضي بابتسامة.
قالت بصوت طبيعي: سأذهب صباح الغد.
كنت حاولت إثناء ماريانا عن رأيها، ولكنها أصرت عليه بعناد. ومن الناحية الأخرى صارحتني زهرة بأنها لن تقبل البقاء حتى لو عدلت المدام عن رأيها.
وعادت تقول بثقة: سأكون أحسن مما كنت هنا.
فقلت بحرارة: حمدا لله!
فافتر ثغرها عن ابتسامة حنون وهي تقول: ولن أنساك ما حييت أبدا.
أشرت إليها أن تقرب وجهها مني، ثم قبلت خديها بامتنان وأنا أقول: أشكرك يا زهرة.
ثم همست في أذنها: ثقي من أن وقتك لم يضع سدى؛ فإن من يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود.
وكعادتي لدى جيشان الصدر، هرعت إلى سورة الرحمن، فرحت أتلو:
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان * والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام * والحب ذو العصف والريحان * فبأي آلاء ربكما تكذبان .
Unknown page