مينا فون بارنهلم.
لاوكون.
فن المسرح الهامبورجي.
في الوقت الذي لازم فيه لسينج الجنرال فون تاونتسيين تمكن من جمع خبرات إنسانية حية من قطاعات كثيرة، أبرزها قطاع الجيش؛ فقد صاحب لسينج الجنرال في زحفه على قلعة شفايدنيتس واستيلائه عليها، وفهم على الطبيعة معنى التحركات العسكرية، ورأى بعينه التخريب الذي تحدثه الحرب، وعلم ما لم يكن يعلم، وأحس أن الخبرات الجديدة التي اكتسبها بلغت به مرحلة النضج الحقيقي. في خريف عام 1764م، وقبل مبارحته برسلاو بقليل، كتب يقول: «ها أنا ذا أدخل في الطور الجاد من حياتي، وأصبح رجلا تغلب على البقية الباقية من حماقات الشباب.»
وانتهت السنوات البرسلاوية، وعاد لسينج إلى برلين ليعكف على ما بدأ من روائع أثناء عمله مع الجنرال فون تاونتسيين. وعادت المشكلات المالية من جديد، وتدخل الأصدقاء يبحثون له عن عمل ثابت. وتصادف أن خلا منصب مدير دار الكتب في برلين، فتوسط نفر من أصدقاء لسينج ومنهم من كان مقربا من الملك، لدى الملك فريدريش الثاني ليعينه في ذلك المنصب، فرفض الملك، وكان لا يزال يذكر شكوى فولتير - الكيدية - من لسينج، هذا بالإضافة إلى أنه كان بطبعه يعتقد أن الأجانب يفضلون الألمان، وعين في المنصب فرنسيا كان البون بينه وبين لسينج في الكفاءة شاسعا. كان رفض الملك صدمة للسينج. لكنه تحملها بشجاعة واستأنف نشاطه، فأخرج عام 1766م كتابه العظيم «لاوكون»، وعاد إلى الترجمة التجارية يتكسب منها.
ولاحت بارقة أمل. كانت مدينة هامبورج بعد الحرب الثلاثينية (1618-1648م) قد أولت المسرح عنايتها، ورصدت لازدهاره المال الكثير. وكان أحب شيء إلى الجمهور الهامبورجي المسرح الواقعي الذي وصلهم من هولندا ومن إنجلترا لتصويره حياة الناس وبخاصة حياة البورجوازيين في غير تعقيد ولا مبالغة، بعكس المسرح الفرنسي الكلاسيكي الذي كاد أن يقتصر على تصوير حياة الطبقة الأرستقراطية في أزمان غابرة، ويجعلها تتكلم ألوانا من الشعر المقيد.
وتلقى لسينج من مسرح هامبورجي يسمي نفسه «المسرح القومي» دعوة ليعمل به في وظيفة مستشار في شئون الفن المسرحي، فقبلها. وكان في الوقت نفسه يشترك مع تاجر ماهر اسمه «بوده» في إنشاء دار للنشر، ويمني نفسه بالحصول على أرباح كبيرة منها، فحزم حقائبه ليسافر إلى هامبورج، وأتم درته الفريدة «مينا فون بارنهلم» ونشرها عام 1766م، ورآها الجمهور على المسرح الهامبورجي فأعجب بها كل الإعجاب، ثم مثلتها مسارح ليبتسج وبرلين فلقيت نجاحا وحماسا رائعا.
وصل لسينج هامبورج في أبريل عام 1767م، وبدأ المسرح موسمه بعد وصوله بقليل. وفي بداية الشهر التالي ظهرت بقلم لسينج أول مقالة في النقد المسرحي، أو بعبارة أخرى أول عدد من مجلة «فن المسرح الهامبورجي». كان المقرر أن تظهر هذه المجلة مرتين أسبوعيا تنشر نقدا أدبيا فنيا للقطع التي تمثل على المسرح. لكن المسرح ما لبث أن توقف في ديسمبر 1767م، وفشلت كل محاولة لبعث الحياة فيه نهائيا في نوفمبر 1768م. مات المسرح ومات معه أمل لسينج وأصدقاء المسرح في إنشاء مسرح قومي لا يعتمد إلا على الجمهور الواعي وعلى الإنتاج الفني التقدمي، وبقيت ثمرة هذه التجربة تحملها 104 مقالات في النقد المسرحي بقلم لسينج، ما لبثت أن جمعت في مجلدين بعنوان «فن المسرح الهامبورجي». فن المسرح الهامبورجي عمل هائل أثر على تطور المسرح الألماني كله تأثيرا بالغا من كل النواحي؛ التأليف، الإخراج، التمثيل ... إلخ.
كان لسينج منذ أول عهده بالمسرح في ليبتسج يرى أن المسرح المبني على قواعد جامدة - خاصة تلك المنقولة عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي - لا يناسب الروح الألمانية، ويرفض لذلك دعوى جوتشد إلى ربط عجلة المسرح الألماني في الحصان الفرنسي. وكان يرى أن إنتاج الإنجليز الذي يدور حول حياة الناس الواقعية أقرب إلى المزاج الألماني، وما علينا إلا أن نذكر «مس سارا سمبسون» وإشارته إلى أهمية شيكسبير في رسالته الأدبية رقم 17. ولا يعني هذا أن لسينج كان ينكر قيمة المسرح الفرنسي، وإنما يعني أنه كان يرى أن كل إنتاج مقيد بظروف وزمان ومكان ظهوره، وأن على كل أمة أن تختار من الإنتاج الثقافي الأجنبي ما يتفق مع ذوقها، وأن تشق طريقها أصيلة تبدع ولا تقلد تقليدا أعمى. كل هذه الآراء وكثير غيرها مما ضمنه «فن المسرح الهامبورجي» بدأت عصرا جديدا واعيا، ومهدت لمسرح ألماني حقيقي بدأه لسينج، ووصل به العصر الكلاسي الألماني إلى القمة.
لم يحقق عمل لسينج بهامبورج ما كان يرجى منه من ربح، ولكن إقامة لسينج بهامبورج أتاحت له فرصة الاتصال بشخصيات هامة كثيرة، وعقد الصداقات الوطيدة، بالإضافة إلى توسيع خبرته بالمسرح علما وعملا، وتدريب أسلوبه النثري على ألوان الحديث المختلفة ليصبح ذلك الأسلوب النثري أسلوب الأجيال القادمة. اتصل لسينج بالقس جوتسه وبزميله «ألبرتي» وتعرف بعائلة «رايماروس»، وكان رايماروس من رجال التعليم البارزين في هامبورج، وتوطدت بين لسينج وبين «إليزه» ابنة رايماروس صداقة متينة. كذلك تعرف على عائلة «كونيج»، وكان إنجلبرت كونيج تاجرا يتجر في الحرير. وتصادف أن قرر إنجلبرت كونيج أن يقوم برحلة طويلة، فترك زوجته وأولاده الأربعة في رعاية صديقة لسينج. كذلك اتصل لسينج بفيليب إيمانويل باخ وكان يشرف على الموسيقى في كنائس هامبورج، وبالأديب الألماني «ماتياس كلاوديوس» وكان في ذلك الوقت يمارس بعض أعمال التحرير في هامبورج.
Unknown page