Minhat al-Mun'im fi Sharh Sahih Muslim
منة المنعم في شرح صحيح مسلم
Publisher
دار السلام للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Publisher Location
الرياض - المملكة العربية السعودية
Genres
مِنَّةُ الْمُنْعِمِ فِي شَرْحِ صَحِيح مُسْلِم
الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ المُخْتَصَرِ مِنْ السُّنَنِ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ
لِلْإِمَامَ الْحَافَظِ أَبِي الْحُسَيْنِ مُسلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُشَيْرِيِّ النَّيْسَابُورِي ﵀
(٢٠٦ - ٢٦١ هـ)
الجُزءُ الْأَوَّلُ
الشَّارِحُ
فَضِيلَة الشيخ / صَفِيُّ الرَّحْمنِ الْمُبَارَكْفُورِيُّ حَفِظَهُ اللهُ
دار السلام
DARUSSALAM
دَارُ السَّلَامِ لِلْنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ
الرِّيَاض
1 / 1
دار السلام
DARUSSALAM
دَارُ السَّلَامِ لِلْنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ
شارع الأمير عبد العزيز بن جلوي
(الضباب سابقًا) مقابل الغرفة التجارية
ص. ب: ٢٢٧٤٣ الرياض ١١٤١٦
المملكة العربية السعودية
هاتف: ٤٠٣٣٩٦٢ - ٤٠٤٣٤٣٢/ ٠٠٩٦٦١
فاكس: ٤٠٢١٦٥٩/ ٠٠٩٦٦١
جميع الحقوق لطبع هذا الكتاب ونشره وتوزيعه في كافة أنحَاء العَالمِ محفوظة لدار السَّلَامِ لِلْنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ
الطبعة الأولى
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلمة الناشر
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وألقى إليه معانيه، ليبيّن للناس ما نزل إليهم، ويفسّره تفسيرًا، وأرسله إلى الناس كافّة ليعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، ويبشّرهم بظهور دينه تبشيرًا، ففتح به أعينًا عميًّا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وطهَّر به النفوس تطهيرًا، اللهم فصلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين حملوا لواء الكتاب والسنّة وسعوا لنشر علومهما سعيًّا مشكورًا، وعلى من تبعهم بإحسان ما يجزى به عباده الصالحين، وفجّر لهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرًا.
أمّا بعد فإن كتاب صحيح مسلم لصاحبه الإمام الهمام، أحد أفذاذ الأنام أبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري (٢٠٤ - ٢٦١ هـ) هو "ثاني اثنين" من بين كتب السنّة، في الصحّة وعلوّ المرتبة، وله من الدّرجة السّابقة المرموقة ما يعرفه الجميع، ولا يحتاج إلى بيان.
وإن ممّا شرف الله به مكتبة دار السلام بالرياض أنه وفقها للقيام بخدمة الكتاب والسنّة وما إليهما من المعاني والعلوم، خدمة متواضعة، تتمثّل في شرح المتون والترجمة والتحقيق، والاختصار والتلخيص، والنشر والتوزيع، وغير ذلك.
وها نحن اليوم نقدّم الكتاب "بُغية المسلم في شرح صحيح مسلم" شرحًا متوسطًا في أربعة أجزاء وهذا أولها بين أيدي قرائنا الكرام، حيث قام بهذه الخدمة الجليلة فضيلة الشيخ/ صفي الرَّحمن المباركفوري - حفظه الله - أمير جماعة أهل الحديث في الهند، ولا يخفى على الإخوة الكرام مكانته العلمية وأعماله القيمة في مجال الدعوة إلى الله وتدريس العلوم الشرعية وتأليف الكتب القيمة أشهرها "الرحيق المختوم" في سيرة المصطفى ﷺ.
وممّا قامت به دار السلام في إخراج هذا المشروع أنّها جمعت أولًا عددًا من النسخ المطبوعة حتى يتم اختيار أفضل النسخ وأوثقها.
وقد تبيّن بعد الفحص والدراسة أنّ ثلاث نسخ منها هي أشمل وأدقّ من غيرها، وهي:
١ - النسخة الهندية المطبوعة في أصح المطابع، بدهلي/ الهند، سنة ١٣٤٩ هـ - ١٩٣٠ م، والتي طبعت مصوّرة مرّة أخرى في أصح المطابع بكراتشي/ باكستان سنة ١٣٧٥ هـ - ١٩٥٦ م،
1 / 5
وهذه الطبعة مأخوذة من الطّبعات الهندية السابقة، وقد ذكر القائم بنشر هذه الطبعة أنّه كلّف عددًا من أهل العلم بالمراجعة والتصحيح. ونظرًا لهذه الميزة جعلنا هذه الطبعة بمنزلة الأصل.
٢ - النسخة المطبوعة في إستنبول في المطبعة العامرة سنة ١٣٣٤ هـ. والمكتوب على غلافها "طبعة مصحّحة ومقابلة على عدّة مخطوطات ونسخ معتمدة"، وقد ضبطت على حواشيها فوارق هذه النسخ ضبطًا دقيقًا متقنًا.
٣ - نسخة محمد فؤاد عبد الباقي، وهي أكثر النسخ تداولًا بين أهل العلم اليوم ولها من الميزات ما يمتاز به عن غيرها. ولا يحتاج إلى البيان.
عملنا في هذه الطبعة:
* وكان أول عملنا في هذه الطبعة مقابلة هذه النسخ الثلاث مع إثبات ما هو الأوفق بالسياق من السند والمتن. وإذا أخذنا زيادة من إحدى النسخ على الأصل فقد جعلناها بين معقوفتين [].
* احتفظنا بأرقام محمد فؤاد عبد الباقي كما هي، وأضفنا إليها رقمًا ثالثًا، وهو الرقم المسلسل لأحاديث الكتاب من البداية إلى النهاية، بما فيه أحاديث المقدّمة التي يبلغ عددها اثنين وتسعين حديثًا. وقد اخترنا في هذا التسلسل لكل طريق رقمًا مستقلًّا ووضعنا هذه الأرقام في أول كلّ حديث بين معقوفتين، ويليها رقما محمد فؤاد عبد الباقي، وأولهما رقم أحاديث كلّ كتاب، وقد وضعناه بخط بارز، وثانيهما الرقم المسلسل لأحاديث صحيح مسلم حسب ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، فإنّه اكتفى فيه بترقيم أصل كلّ حديث وأوّله، ولم يضع لطرقه رقمًا آخر. وقد وضعنا هذا الرقم بين القوسين حسب ما هو في نسخته. ثم إنّنا زدنا في هذا الخصوص شيئًا آخر، وهو أن كلّ حديث مضى فيما سبق أشرنا إليه بقولنا في نهاية الحديث [راجع رقم كذا] وإذا كان آتيًا فيما بعد مكررًا قلنا [انظر رقم كذا] والإحالة في هاتين الصورتين إلى رقمنا المسلسل.
* أخذنا الآياتِ القرآنية من برنامج الحاسب الآلي للمصحف الشريف.
* خرجنا الآياتِ باسم السورة ورقم الآية ووضعنا التخريج بين معقوفتين.
* وضعنا كلام رسول الله ﷺ بين علامتي التنصيص.
* أبرزنا حرف (ح) حاء التحويل.
* وضعنا بخط بارز عناوين الكتب من عمل الشارح على الجانب الأيسر مع الترقيم الجديد حيث احتفظنا على ترتيب الإمام النووي للكتب ووضعناها على الجانب الأيسر في
1 / 6
السطر عند بداية كلّ كتاب.
* وضعنا عناوين الكتب اليمنى وتراجم الأبواب بين المعقوفتين، لأنّها من عمل الشيخ / صفي الرَّحمن، وليس من المؤلف.
* ذكرنا في رأس الصفحة على الناحية اليمنى اسم الكتاب مع رقمه وأرقام الأبواب التي وضعها الشيخ / صفي الرَّحمن، وعلى الناحية اليسرى اسم الكتاب للنووي وأرقام الأحاديث من عمل الأستاذ/ محمد فؤاد عبد الباقي تسهيلًا للقارىء والباحث.
* الكلمات التي يجوز فيها أكثر من وجه في الاعراب، أو يجوز في بعض حروفها أكثر من حركة وضعنا عليها تلك الحركات والأوجه كلها.
* ثم وضعنا متن الصحيح في أعلى الصفحة وشرحه في أسفل الصفحة واستعمل الشيخ في الشرح أرقام الأحاديث الداخلية لكل كتاب من عمل الأستاذ / محمد فؤاد عبد الباقي.
* وفي آخر الجزء الرابع وضعنا فهرسًا مفصلًا لأطراف الأحاديث والآثار - عدا فهرس الكتب والأبواب - وضعنا فيه الأطراف، ثم اسم الراوي، ثم رقم الحديث أو الأثر.
وبذلك كله نرجو أن تكون طبعتنا هذه أقرب إلى الصواب وأنفع للطلاب والدارسين، ولا ننسى أن ننبه على أنَّ هذا جهد البشر، وهو عرضة للخطأ والنسيان، فليس من الغريب أن يزيغ منه البصر، أو يتقدّم أو يتأخّر، فنرجو من يطلع على خطأ أو زلل أن يصحّحه وينبّهنا عليه حتى نصحّحه في الطبعة القادمة بإذن الله.
وأخيرًا أشكر إخوتي الأفاضل الذين قاموا ببذل جهودهم لتنفيذ ما ذكر، حتى استطعنا إخراج الكتاب في صورته المتقّنة، وهم أصحاب الفضيلة المحترمون القارئ الشيخ/ محمد إقبال من باكستان، والشيخ الحافظ عبد المتين من باكستان، والشيخ شكيل أحمد من الهند، حفظهم الله، فجزاهم الله خيرًا، وقدّر لهم المزيد من السعادة والتوفيق.
ولا أنسى تسجيل شكري وتقديري لفضيلة الشيخ صفي الرَّحمن المباركفوري حيث تحمل على كاهله هذا العمل النافع لأمة الإسلام، وأتمه خلال ثلاث سنوات تقريبًا. فجزاه الله خيرًا عنا وعن جميع المسلمين وبارك في حياته ونفع بعلمه كلّ من أراد فهم كتابه وسنة نبيه ﷺ.
والله ﷾ نسأل، أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، وجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا يوم نلقاه، وصلّى الله تعالى وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المدير المسئول
عبد المالك مجاهد
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الشارح
الحمد لله الذي جعل الكتاب والسنة أساس الشريعة الغراء. فأخرج بهما خلقه من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى المحجة البيضاء، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث بالملة الحنيفية السهلة السمحاء، بعثه الله على فترة من الرسل ففتح به أعينًا عميا وآذانا صما وقلوبًا غلفا، اللهم فصل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين هم صفوة البررة الأتقياء. وخلاصة أهل الفضل من الأولياء والعلماء.
أما بعد: فيقول العبد الضعيف المفتقر إلى رحمة ربه ومولاه صفي الرَّحمن بن عبد الله: إن هذا شرح موجز لطيف لأحد أعظم كتب الحديث: صحيح مسلم بن الحجاج ﵀ طلب ذلك مني أحد الاخوة الأكارم الذي جعل همه الوحيد نشر علوم السلف وما صح من أمور الدين. وهو أخونا الفاضل المكرم عبد المالك مجاهد المدير المسئول لمكتبة دار السلام بالرياض، المملكة العربية السعودية.
وقد كان الدارسون لهذا الكتاب يشعرون بحاجتهم إلى مثل هذا الشرح. والقصد منه أولًا وقبل كلّ شيء الوصول، في حد مستطاع البشر، إلى ما يريده الشارع، والاستفادة في ذلك من فهم السلف، دون التقيد والالتزام برأي رجل من رجال الأمة، فإن هذا هو السبيل المستقيم الذي دعا الله ﷾ إليه حيتَ يقول: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: ٣] ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] فالرد إلى الله والرسول هو المطلوب عند الاختلاف، لا التقيد بآراء الرجال.
وقد راعيت في هذا الشرح الموجز ما يلي:
(١) الإيجاز - فقد تقرر عند الإخوان أن أسلك في الشرح والإيضاح سبيل الإيجاز والاختصار، فاقتصرت على قدر الحاجة، وتركت جوانب يتنبه لها القارىء والدارس بقليل من التأمل والنظر.
1 / 8
(٢) بيان المسألة الفقهية وربما غير الفقهية التي يدلُّ عليها الحديث مع التنصيص أو الإشارة إلى اللفظ أو الجملة التي تستنبط منها تلك المسألة، وبيان وجه الاستنباط إذا كان غامضًا.
(٣) بيان الراجح أو الصحيح في مسائل الخلاف، والاستدلال له بلفظ الحديث، وتأييده بأحاديث أخرى عند الحاجة.
(٤) إيضاح الجوانب والمعاني التي تكفي للقضاء على التأويلات الفاسدة، دون ذكر تلك التأويلات ودون بيان وجه الرد عليها.
(٥) بيان الوقائع والأيام والغزوات والسرايا ونحو ذلك.
(٦) بيان الأماكن المهمة، والاستفادة في ذلك بالمعايير والمعلومات الجديدة.
(٧) شرح غريب الحديث.
(٨) توضيح الإعراب والتركيب النحوي عندما يخشى اللبس في فهم المراد. وهو قليل.
(٩) بيان ما يتعلق ببعض - الرجال ممن ورد في المتن أو السند، مثل بيان نسبهم أو نسبتهم أو عملهم أو بلدهم أو نحو ذلك.
(١٠) معلوم أن الإمام مسلما يورد الحديث الواحد بطرق وألفاظ عدة، وقد التزمت بشرح كلّ ما رأيت شرحه تحت أول طريق منها، ثم تركت بقية الطرق خالية دون شرح إلَّا أن تجيء فيها كلمة أو جملة تحتاج إلى إيضاح. أو لها دلالة خاصة على حكم أو معنى أو قيد أو شرط أو نحو ذلك فنبهت عليها.
(١١) حيث إن صحيح الإمام مسلم كان خاليا عن الكتب والأبواب عموما فقد وضع الإمام النووي وغيره الكتب والأبواب بعناوينها وتراجمها، واشتهر من بينها ما وضعه الإمام النووي اشتهارًا كأنه من أصل الكتاب، ومن عمل المصنّف، إلَّا أنه لا يخلو من نظر، فكثير منها لا يطابق الحديث تمام المطابقة، بل يطابق لما أفتى به الفقهاء الشافعية، وربما يأتي النووي للمسائل بقيود وشروط لا أصل لها في الحديث، وحتى إنه أحيانا يطيل لأجل ذلك عنوان الباب إطالة يخرج عما هو معهود عند فقهاء المحدثين في كتبهم عامة، وإنما يفعل ذلك نصرة وإيضاحًا لما ذهب إليه فقهاء المذهب، أضف إلى ذلك أنه ربما يعقد بابًا غريبًا لا يناسب الكتاب ولا الأبواب التي قبله وبعده. ثم إنك تجد كثيرًا من كتبه هذه لَمْ تقتصر على أحاديث تدخل تحت عنوانها، بل جاوزتها إلى أحاديث لا علاقة لها بعنوان الكتاب.
1 / 9
ونظرًا إلى ذلك كله رأيت إعادة العمل في وضع الكتب والأبواب، واختيار العناوين لها، مع الحفاظ بقدر الإمكان على ما وضعه النووي.
وقد استفدت في شرحي هذا بعامة كتب شروح الحديث، وأكثرت من فتح الباري للحافظ ابن حجر، لسبقه على غيره في هذا المضمار، كما استفدت من كتب السيرة والتاريخ، والرجال والمعاجم، والأماكن والبلدان وغير ذلك، وحيث إنني جمعت بين عباراتهم، وتصرفت فيها كثيرًا، حتى يناسب لما يقتضيه المقام، فقد صعبت الإحالة إلى مصدر معين، إلَّا في أماكن لابد منها، مثل عزو الأحاديث أو الإحالة إلى قول أحد المحققين أو رأيه أو استنباطه أو نحو ذلك.
روايتي لكتاب صحيح مسلم
جرت عادة أهل العلم بالحديث أن يذكروا أسانيدهم لكتب الحديث إلى مؤلفيها، وقد أحببت التأسي بهم، وإن كنت لست أهلا لذلك، ولكن تشبهًا بأولئك الأئمة، لعل الله يسلك بي في تلك المسالك. فأقول وبالله التوفيق:
إني قرأت أطراف الكتب الستة على المحدث الكبير الشيخ أبي الحسن عبيد الله الرحماني المباركفوري ﵀ فأجازني بجميع مروياته، وبرواية كتابه "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح". وهو حصل القراءة والسماعة والإجازة عن شيخيه الجليلين: الإمام المحدث أبي العُلى عبد الرَّحمن المباركفوري، مؤلف "تحفة الأحوذي، شرح جامع الترمذي"، والمحدث الشيخ أحمد الله القرشي البرتابكدهي ثم الدهلوي، كلاهما عن الإمام الهمام السيد نذير المحدث الدهلوي ﵀.
ح وقد قرأت صحيح البخاري، والنصف الأخير من جامع الترمذي، وأطراف بقية الكتب الستة على الشيخ شمس الحق السلفي ﵀، فأجازني برواية جميع مروياته، وقد حصلت له القراءة والسماعة والإجازة عن المحدث الشيخ أحمد الله القرشي المذكور، وعن المحدث الشيخ محمد إسحاق الآروي، كلاهما عن الإمام الهمام السيد نذير حسين المحدث الدهلوي ﵀.
ح وقد قرأت جزءًا صالحًا من الصحيحين على العلامة المحدث نذير أحمد الرحماني الأملوي، وجزءًا صالحًا من صحيح مسلم على الشيخ محمد بشير الرحماني المباركفوري كلاهما عن الشيخ أحمد الله القرشي المذكور.
ح وقد قرأت الصحيح لمسلم والسنن المجتبى للنسائي على الشيخ عبد الرَّحمن المئوي،
1 / 10
كما قرأت النصف الأول لكل من سنن أبي داود وجامع الترمذي على فضيلة المفتي الشيخ حبيب الرَّحمن الفيضي - وقد أجازني برواية جميع مروياته - كلاهما عن جد الأخير، المعروف بالشيخ الكبير، الشيخ محمد أحمد المئوي، عن الإمام الهمام السيد نذير حسين المحدث الدهلوي ﵀.
ويروي الإمام السيد نذير حسين ﵀ عن عمدة المحدثين الشاه محمد إسحاق ﵀. وهو عن جده لأمه المحدث الجليل الشاه عبد العزيز الدهلوي عن أبيه المحدث الإمام الشاه ولي الله الدهلوي ﵀، بإسناده المذكور في كتابه "الإرشاد إلى مهمات الإسناد".
قلت: ويروي الإمام المحدث أبو العُلى عبد الرَّحمن المباركفوري والشيخ أحمد الله القرشي الدهلوي عن المحدث الجليل والفقيه النبيل الشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي اليماني، وقد أجازهما برواية جميع ما حواه كتاب "إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر". وهو يروي عن الشيخين الجليلين العلَّامة الشريف محمد بن ناصر الحسني الحازمي، والقاضي العلَّامة أحمد بن الإمام محمد بن علي الشوكاني، كلاهما عن الإمام الحافظ محمد بن علي الشوكاني، مؤلف "إتحاف الأكابر".
ح وقد روى الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني ﵀ عاليا بدرجة عن شيخيه المذكورين، وعن العلَّامة حسن بن عبد الباري الأهدل، ثلاثتهم عن العلَّامة المحدث وجيه الإسلام، ومفتي الأنام عبد الرَّحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل، عن والده العلَّامة سليمان بن يحيى الأهدل. وباقي السند مكتوب في "إتحاف الأكابر".
هذا هو إسنادي لرواية الكتب الستة وغيرها من كتب الحديث، وعلى رأسها كتابا الشيخين: البخاري ومسلم - رحمهما الله -.
وأخيرًا أسأل الله ﷾ أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، نافعًا في الدنيا والآخرة، مساعدًا على التمسك والسلوك على الصراط المستقيم. وصلى الله على خير خلقه وأشرف أنبيائه محمد وبارك وسلم.
1 / 11
التعريف بالإمام مسلم
نسبه ونسبته:
هو الإمام الكبير، الحافظ المجود، الحجة الصادق أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح، والقشيري بضم ففتح، نسبة إلى بني قشير، بطن من بني عامر بن صعصعة، من هوازن.
مولده ووطنه:
اختلفت الأقوال في سنة ولادته ما بين ٢٠١ هـ، و٢٠٢ هـ، و٢٠٤ هـ، و٢٠٦ هـ. وقد ذكر الذهبي في التذكرة والسير أن مولده سنة ٢٠٤ هـ ولكن مفتتحا بقوله: قيل: وجزم به ابن كثير وابن حجر وابن تغري بردي وغيرهم.
أما موطنه فأعلى الزمجار بنيسابور، وكان مسكنه بها، وكانت من أهم مراكز علوم الحديث، واشتهرت بعلو الأسانيد، حتى وصفها الذهبي بـ "دار السنة والعوالي".
طلبه للحديث ورحلاته:
كان والد الإمام مسلم - وهو الحجاج بن مسلم - من المشيخة، ومعناه أن الإمام مسلمًا تعلم في بيته كثيرًا، وهو صغير، ولذلك نجده أقبل على سماع الحديث منذ صغره، فكان أول سماع له سنة ثماني عشرة ومائتين في بلدته نيسابور، وأول من سمع منه بها يحيى بن يحيى بن بكير التميمي (ت ٢٢٦ هـ) ثم حج بعد عامين سنة عشرين. وهو أمرد، فسمع بمكة من القعنبي (ت ٢٢١ هـ) فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة من أحمد بن يونس (ت ٢٢٧ هـ) وعمر بن حفص بن غياث (ت ٢٢١ هـ) وجماعة، وأسرع إلى وطنه (١).
وله رحلات في كورته نيسابور وفي ولاية خراسان، وفي بلدان العالم الإسلامي فقد رحل - عدا ما ذكر - إلى المدينة، والبصرة، وبغداد، والري، وبلخ، وإلى مصر، واختلف في رحلته إلى الشام.
بعض شيوخه وتلامذته:
أما شيوخه فمنهم يحيى بن يحيى التميمي، والقعنبي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٥٨.
1 / 12
حنبل: وسعيد بن منصور، وأبو مصعب، وعمرو بن سواد، وحرملة بن يحيى. وآخرون كثيرون.
* وأما تلامذته فروى عنه الترمذي حديثًا واحدًا، وابن خزيمة، والسراج، وابن صاعد، وأبو حامد ابن الشرقي، وأبو حامد أحمد بن حمدون الأعمش، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، ومكي بن عبدان، وعبد الرَّحمن بن أبي حاتم، وأبوه، ومحمد بن مخلد العطار وأبو عوانة الاسفرائيني، وروى عنه من شيوخه علي بن الحسن الهلالي ومحمد بن عبد الوهاب الفراء.
كسبه ومهنته:
كان الإمام مسلم ﵀ بزازًا يبيع البز، وكان متجره بخان محمش، وكان معاشه من ضياعه بأُستُوا (١) - بضم فسكون فضم - كورة من نواحي نيسابور تشتمل على ثلاث وتسعين قرية.
صفاته الخلقية والخلقية:
قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرَّحمن السلمي يقول: رأيت شيخًا حسن الوجه والثياب عليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه" فقيل: هذا مسلم، فتقدم أصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين، فقدموه في الجامع. فكبر وصلى بالناس (٢).
قال الحاكم: وسمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج يحدث في خان محمش، فكان تام المقامة، أبيض الرأس واللحية، يرخي طرف عمامته بين كتفيه. (٣)
وقد كانت تدر عليه الأموال بفضل تجارته وضياعه، فكان يبذلها في وجوه الخير، حتى كان "محسن نيسابور" على حد تعبير الذهبي، وقال الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي في بستان المحدثين: "إنه ما اغتاب أحدًا في حياته، ولا ضرب ولا شتم".
حلقته للتدريس:
تقدم عن الحاكم عن أبيه أنه رأى الإمام مسلمًا يحدث في خان محمش، وهذا يفيد أنه كانت له حلقة علمية يجتمع فيها الطلاب، يدرسون عليه الحديث في وطنه.
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٠.
(٢) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٦.
(٣) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٠.
1 / 13
وقد كان يحدث ويذاكر أثناء رحلاته العلمية أيضًا. قال أبو قريش الحافظ: كنت عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم بن الحجاج، فسلم عليه، وجلس ساعة وتذاكرا (١) وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه - أي عن الإمام مسلم - بالري، وقد قدم بغداد غير مرّة، فحدت بها، وكان آخر قدومه بغداد في سنة تسع وخمسين ومائتين (٢)، أي قبل وفاته بنحو عامين.
ثناء العلماء والأئمة عليه:
كان الإمام مسلم جليل القدر في نظر الأئمة والعلماء. قال له إسحاق الكوسج ومسلم ينتخب عليه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين (٣).
وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم الحافظ: إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال: محمد بن يحيى، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب (٤).
وقال أبو قريش الحافظ: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى (٥).
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس ومن أوعية العلم (٦).
وقال الحاكم: سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم: سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج معرفة الصحيح على مشائخ عصرهما (٧).
صلته مع الإمام البخاري:
كانت للإمام البخاري منة جسيمة في صنع الإمام مسلم. قال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء (٨).
وكان الإمام مسلم يشكر ذلك ويقدره: قال الخطيب البغدادي: جاء مسلم بن الحجاج
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٠، تذكرة الحفاظ: ٢/ ٥٨٩.
(٢) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠١.
(٣) تذكرة الحفاظ: ٢/ ٥٨٨، ٥٨٩، سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٣.
(٤) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٥.
(٥) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٤.
(٦) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٩.
(٧) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٩، تاريخ بغداد ١٣/ ١٠١.
(٨) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٠.
1 / 14
إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقَّبل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله (١).
وقال الخطيب: وإنما قفا مسلم طريق البخاري، ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه (٢).
ويدل على تقدير مسلم للإمام البخاري، وتعظيمه لشأنه موقفه من محمد بن يحيى الذهلي حين وقع بينه وبين البخاري في مسألة اللفظ (*) ما وقع. ذكر الخطيب من طريقه عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ أنه قال: لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور أكثر مسلم الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه، حتى هجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لَمْ يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديمًا وحديثًا، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه: إلا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كلّ ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلف عنه وعن زيارته (٣).
ويرى الذهبي أن مسلمًا انحرف عن البخاري أيضًا، وذلك لحدة في خلقه، فلم يذكر له حديثًا، ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحَطِّ على من اشترط اللُّقي بين الراوي والمروي عنه في العنعنة، وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى (٤). والله أعلم بحقيقة الحال.
فقهه واجتهاده:
لَمْ يضع الإمام مسلم ﵀ لصحيحه كتبًا وأبوابًا فقهية، إلَّا أنه رتب الأحاديث بحيث تدل على تلك الكتب والأبواب حتى يسهل على الطالب النبيه الانتقال من موضوع
_________
(١) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠٢.
(٢) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠٢.
(*) المراد باللفظ أن يقول أحد: لفظي بالقرآن مخلوق. وكان الذهلي ينكر ذلك بشدة.
(٣) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠٣، سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٢، تذكرة الحفاظ: ٢/ ٥٨٩.
(٤) ملخصًا من سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧٣.
1 / 15
إلى موضوع ومن عنوان إلى عنوان، وهذا يدلُّ على ما كان يتمتع به الإمام مسلم من النبوغ في التفقه والاجتهاد.
مذهبه:
حاول المذهبيون إلحاقه بأحد المذاهب الأربعة المعروفة. وهو خطأ منهم، وإنما شأنه في هذا الباب شأن عامة المحدثين. فقد كان إمامًا مجتهدًا متحررًا من التقليد، يعمل بالكتاب والسنة، ويستخرج منهما المسائل عند الحاجة. تدل على ذلك مقدمته لصحيحه. وإنما جاء التقليد بعد عهد هؤلاء الأئمة.
كتابه الصحيح:
أروع عمل قام به الإمام مسلم هو كتابه هذا الصحيح الذي بين يدي القارىء، وهو ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله ﷾، وقد اعتنت به الأئمة اعتناء عظيمًا، بالشرح والتدريس، وتلقته الأمة بالقبول. وإلى القارىء بعض ما يتعلق عنه:
قال الحسين محمد الماسرجسي سمعت أبي يقول: سمعت مسلمًا يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة (١).
قال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة، قال: وهو اثنا عشر ألف حديث. قال الذهبي: قلت: يعني بالمكرر، بحيث إنه إذا قال: "حَدَّثَنَا قتيبة وأخبرنا ابن رمح" يعدان حديثين، اتفق لفظهما أو اختلف في كلمة (٢).
وقد ذكروا عن الإمام مسلم أنه قال: لَمْ أقلّ ما لَمْ أخرجه ضعيف، وإنما أخرجت هذا من الصحيح ليكون مجموعًا لمن يكتبه (٣).
قال ابن الشرقي: سمعت مسلمًا يقول: ما وضعت شيئًا في هذا المسند إلَّا بحجة، وما أسقطت منه شيئًا إلَّا بحجة (٤).
وقال مكي بن عبدان: سمعت مسلمًا يقول: عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة، فكل ما أشار عليّ في هذا الكتاب أن له علة وسببًا تركته، وكل ما قال: إنه صحيح، ليس له علة، فهو الذي أخرجت، ولو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة فمدارهم على
_________
(١) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠١، سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٥.
(٢) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٦.
(٣) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧١.
(٤) تذكرة الحفاظ: ٢/ ٥٩٠، سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧١.
1 / 16
هذا المسند (١).
قلت: وقد ذكروا أن كتاب صحيح مسلم عرض على أبي زرعة فأنكر عليه بشدة إخراجه لأحاديث أمثال أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى (٢). ولا تزال أحاديثهم موجودة فيه. فلا أدري كيف التوفيق؟ هل زاد الإمام مسلم هذه الأحاديث بعد عرض الكتاب على أبي زرعة، أو أنه لَمْ يناقشه في جميع أحاديث الكتاب.
وقد تبين بما سبق أن الإمام مسلمًا كان يسمي صحيحه بالمسند، وبالمسند الصحيح.
بين صحيح البخاري وصحيح مسلم:
كاد الأئمة والعلماء يتفقون على أنَّ صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم. إلَّا أن جماعة من المغاربة وأبا علي النيسابوري من المشارقة خالفوا ذلك. قال أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم (٣). وقد قال عامة أهل العلم - بناء على قوله هذا -: إنه هو، وكذا المغاربة، يفضلون صحيح مسلم على صحيح البخاري، وقد ناقشهم الحافظ ابن حجر في كتابه "نزهة النظر شرح نخبة الفكر" في هذه المسألة فقال: "وقد صرح الجمهور بتقديم صحيح البخاري في الصحة، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه، وأما ما نقل عن أبي علي الفارسي أنه قال: "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم" فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري؛ لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، إذ المنفي إنما هو ما يقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في الصحة، يمتاز بتلك الزيادة عليه. ولم ينف المساواة.
وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود.
فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد وشرطه فيها أقوى وأسد. أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرّة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة، وألزم البخاري بأنه يحتاج إلى أن لا يقبل العنعنة أصلًا، وما ألزمه به ليس بلازم، لأنَّ الراوي إذا ثبت له
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٨.
(٢) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٧١.
(٣) سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٦.
1 / 17
اللقاء مرّة لا يجري في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون مدلسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلس.
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددًا من الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، مع أن البخاري لَمْ يكثر من إخراج حديثهم، بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم، ومارس حديثهم، بخلاف مسلم في الأمرين.
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقلّ عددًا مما انتقد على مسلم، هذا مع اتفاق العلماء على أنَّ البخاري كان أجل من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه، ويتتبع آثاره، حتى قال الدارقطني: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء" (١).
رواة صحيح مسلم:
كتاب صحيح مسلم في غاية من الشهرة، متواتر عن مصنفه في الجملة، أخذته عنه طائفة من أهل العلم والفضل لَمْ يعرف عددهم بالضبط، أما من حيث الرواية فقد انحصرت طريقه في بلاد الشرق في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم. وكان فقيهًا زاهدًا، مجتهدًا عابدًا، مجاب الدعوة، وكان من الملازمين للإمام مسلم. قال: فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب في شهر رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين. قال الحاكم: مات إبراهيم في رجب سنة ثمان وثلاثمائة ﵀.
وقد روى أهل المغرب صحيح مسلم أيضًا عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم. قال ابن الصلاح: وأما القلانسي فوقعت روايته عند أهل الغرب ولا رواية له عند غيرهم. قال: إلَّا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب، أولها حديث الإفك الطويل، فهي عن أبي سفيان عن مسلم ﵁ (فقط). انتهى ملخصًا.
مصنفاته الأخرى:
كان الإمام مسلم ﵀ كثير التأليف، ترك آثارًا علمية مفيدة في جمل من الفنون، عدا كتابه الصحيح. وعدد منها مطبوع. وقد ذكرها الأئمة وأهل العلم حسب ما يلي:
١ - الكتاب المسند الكبير، على الصحابة أو على الرجال. لَمْ يتم.
_________
(١) نزهة النظر في شرح نخبة الفكر ص ٣٠، ٣١.
1 / 18
٢ - كتاب الجامع الكبير، على الأبواب.
٣ - كتاب العلل.
٤ - كتاب أوهام المحدثين.
٥ - كتاب التمييز.
٦ - كتاب المخضرمين.
٧ - كتاب أولاد الصحابة.
٨ - كتاب طبقات التابعين، مختصر.
٩ - كتاب الأسماء والكنى.
١٠ - كتاب مسند حديث مالك.
١١ - كتاب مشائخ مالك.
١٢ - كتاب مشائخ الثوري.
١٣ - كتاب مشائخ شعبة.
١٤ - كتاب حديث عمرو بن شعيب.
١٥ - كتاب سؤالاته أحمد بن حنبل.
١٦ - كتاب من ليس له إلَّا راو واحد.
١٧ - كتاب الوحدان.
١٨ - كتاب أفراد الشاميين.
١٩ - كتاب الأفراد.
٢٠ - كتاب الأقران.
٢١ - كتاب الانتفاع بجلود السباع، أو بأهب السباع.
وقد أفاد الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الحاكم سرد لمسلم مزيدًا من التصانيف لَمْ يذكرها الذهبي. ويبدو من ظاهر هذه الأسماء أن بعض هذه الكتب له أكثر من اسم واحد. والله أعلم بالصواب.
وفاته وسبب وفاته:
بعد أن قضى الإمام مسلم ﵀ حياة حافلة بالأعمال العلمية توفي بنسابور عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين. ﵀ وأسكنه بحبوحة الجَنَّة.
1 / 19
قال أحمد بن سلمة: وعقد لمسلم مجلس المذاكرة، فذكر له حديث لَمْ يعرفه، فانصرف إلى منزله، وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم، فقيل له: أهديت لنا سلة تمر، فقال: قدموها، فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة، فأصبح وقد فني التمر، ووجد الحديث. رواها أبو عبد الله الحاكم ثم قال: زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مات (١).
بعض ما يهم الدارسين:
وأخيرًا نذكر شيئًا يسيرًا مما يهم من يدرس علم الحديث عامة، وكتاب صحيح مسلم خاصة، وقد ذكره النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم ضمن قواعد أخرى كثيرة نذكر هذا القدر اليسير فيما يلي من كلامه. قال:
فصل: جرت العادة بالاقتصار على الرمز في حَدَّثَنَا وأخبرنا، واستمر الاصطلاح عليه من قديم الأعصار إلى زماننا، واشتهر ذلك بحيث لا يخفي، فيكتبون من حَدَّثَنَا (ثنا) وهي الثاء والنون والألف، وربما حذفوا الثاء. ويكتبون من أخبرنا (أنا) ولا يحسن زيادة الباء قبل نا.
وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنَّها مأخوذة من التحول، لتحوله من الإسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارىء إذا انتهى إليها (ح)، ويستمر في قراءة ما بعدها.
وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية وقيل: إنها رمز إلى قوله الحديث، وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها الحديث. وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها "صح" فيشعر بأنها رمز "صح"، وحسنت ههنا كتابة "صح" لئلا يتوهم أنه سقط متن الإسناد الأول.
ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرًا، وهي كثيرة في صحيح مسلم، قليلة في صحيح البخاري، فتأكد احتياج صاحب هذا الكتاب إلى معرفتها، وقد أرشدناه إلى ذلك. ولله الحمد والنعمة والفضل والمنة.
فصل: ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه،
_________
(١) تاريخ بغداد: ١٣/ ١٠٣، سير أعلام النبلاء: ١٢/ ٥٦٤.
1 / 20
لئلا يكون كاذبًا على شيخه، فإن أراد تعريفه وإيضاحه، وزوال اللبس المتطرق إليه، لمشابهة غيره، فطريقه أن يقول: قال حدثني فلان يعني ابن فلان أو الفلاني، أو هو ابن فلان أو الفلاني، ونحو ذلك، فهذا جائز حسن، قد استعمله الأئمة، وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار، حتى إن كثيرًا من أسانيدهما يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر من هذا الضرب، كقوله في أول كتاب البخاري، في باب من سلم المسلمون من لسانه ويده: قال أبو معاوية: حَدَّثَنَا داود، هو ابن أبي هند، عن عامر قال سمعت عبد الله، هو ابن عمرو. وكقوله في كتاب مسلم، في باب منع النساء من الخروج إلى المساجد: حَدَّثَنَا عبد الله بن مسلمة: حَدَّثَنَا سليمان، يعني ابن بلال، عن يحيى، وهو ابن سعيد ونظائره كثيرة.
وإنما يقصدون بهذا الإيضاح، كما ذكرنا أولا، فإنه لو قال: حَدَّثَنَا داود أو عبد الله لَمْ يعرف من هو، لكثرة المشاركين في هذا الاسم، ولا يعرف ذلك في بعض المواطن إلَّا الخواص والعارفون بهذه الصنعة، وبمراتب الرجال، فأوضحوه لغيرهم، وخففوا عنهم مؤونة النظر والتفتيش.
وهذا الفصل نفيس يعظم الانتفاع به، فإن من لا يعاني هذا الفن قد يتوهم أن قوله "يعني" وقوله "هو" زيادة لا حاجة إليها، وأن الأولى حذفها، وهذا جهل قبيح والله أعلم.
فصل: في ضبط جملة من الأسماء المتكررة في صحيحي البخاري ومسلم المشتبهة، فمن ذلك "أُبَيّ" كله بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء إلَّا "آبي اللحم" فإنه بهمزة ممدودة مفتوحة، ثم باء مكسورة، ثم ياء مخففة؛ لأنه كان لا يأكل اللحم، وقيل: لا يأكل ما ذبح على الأصنام.
ومنه "البراء" كله مخفف الراء إلَّا أبا معشر البرّاء، وأبا العالية البرّاء، فبالتشديد وكله ممدود.
ومنه "يزيد" كله بالمثناة من تحت والزاي إلَّا ثلاثة، أحدهم بريد بن عبد الله بن أبي بردة، بضم الموحّدة وبالراء والثاني محمد بن عرعرة بن البرند بالموحدة والراء المكسورتين، وقيل: بفتحهما، ثم نون، والثالث علي بن هاشم بن البريد، بفتح الموحّدة وكسر الراء ثم مثناة من تحت.
ومنه "يسار" كله بالمثناة والسين المهملة، إلَّا محمد بن بشار شيخهما، فإنه بالموحدة ثم المعجمة. وفيهما سيار بن سلامة وابن أبي سيار بتقديم السين.
1 / 21
ومنه "بشر" كله بكسر الموحّدة، وبالشين المعجمة، إلَّا أربعة، فبالضم والمهملة، عبد الله بن بسر الصحابي، وبسر بن سعيد، وبسر بن عبيد الله، وبسر بن محجن، وقيل: هذا بالمعجمة.
ومنه "بشير" كله بفتح الموحّدة وكسر الشين المعجمة، إلَّا اثنين، فبالضم وفتح الشين، وهما بشير بن كعب، وبشير بن يسار، وإلا ثالثًا، فبضم المثناة وفتح السين المهملة، وهو يسير بن عمرو، ويقال: أسير، ورابعًا بضم النون وفتح المهملة، وهو قطن بن نسير.
ومنه "حارثة" كله بالحاء والمثلثة، إلَّا جارية بن قدامة. ويزيد بن جارية. فبالجيم والمثناة.
ومنه "جرير" كله بالجيم والراء المكررة، إلَّا حريز بن عثمان، وأبا حريز عبد الله بن الحسين الراوي عن عكرمة، فبالحاء والزاي آخرًا، ويقاربه حدير، بالحاء والدال، والد عمران بن حدير، ووالد زيد وزياد.
ومنه "حازم" كله بالحاء المهملة، إلَّا أبا معاوية محمد بن خازم فبالمعجمة.
ومنه "حبيب" كله بالحاء المهملة، إلَّا خبيب بن محمدي، وخبيب بن عبد الرَّحمن، وخبيبًا غير منسوب، عن حفص بن عاصم، وخبيبا كنية ابن الزبير، فبضم المعجمة.
ومنه "حيان" كله بفتح الحاء وبالمثناة، إلَّا خباب بن منقذ والد واسع بن خباب، وجد محمد بن يحيى بن خباب، وجد خباب بن واسع بن خباب. وإلا خباب بن هلال، منسوبًا وغير منسوب، عن شعبة ووهيب وهمام وغيرهم، فبالموحدة وفتح الخاء وإلا حبان بن العرقة، وحبان بن عطية، وحبان بن موسى، منسوبًا وغير منسوب، عن عبد الله - هو ابن المبارك - فبالموحدة وكسر الحاء.
ومنه "خراش" كله بالخاء المعجمة، إلَّا والد ربعي، فبالمهملة.
ومنه "حزام" في قريش بالزاي، وفي الأنصار بالراء.
ومنه "حصين" كله بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، إلَّا أبا حصين عثمان بن عاصم، فبالفتح، وإلا أبا ساسان حضين بن المنذر، فبالضم، والضاد معجمة فيه.
ومنه "حكيم" كله بفتح الحاء وكسر الكاف، إلَّا حكيم بن عبد الله، وزريق بن حكيم، فبالضم وفتح الكاف.
ومنه "رباح" كله بالموحدة، إلَّا زياد بن رياح عن أبي هريرة في أشراط الساعة، فبالمثناة عند الأكثرين، وقاله البخاري بالوجهين: المثناة والموحدة.
1 / 22