١- إضاءة: فأفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيأته، وقويت شهرته أو صدقه، أو خفي كذبه، وقامت غرابته. وإن كان قد يعد حذقا للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويه على النفس وإعجالها إلى التأثر له قبل، بإعمالها الروية في ما هو عليه. فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تحيله في إيقاع الدلسة للنفس في الكلام. فأما أن يكون ذلك شيئا يرجع إلى ذات الكلام فلا.
وأردأ الشعر ما كان قبيح المحاكاة والهيئة، واضح الكذب، خليا من الغرابة، وما أجدر ما كان بهذه الصفة ألا يسمى شعرا وإن كان موزونا مقفى، إذ المقصود بالشعر معدوم منه، لأن ما كان بهذه الصفة من الكلام الوارد في الشعر لا تتأثر النفس لمقتضاه، لأن قبح الهيأة يحول بين الكلام وتمكنه من القلب، وقبح المحاكاة يغطي على كثير من حسن المحاكى أو قبحه ويشغل عن تخيل ذلك. فتجمد النفس عن التأثر له، ووضوح الكذب يزعها عن التأثر بالجملة.
٢- تنوير: فإن حسنت الهيأة والمحاكاة ولم يكن الكذب شديد الوضوح، خادعا النفس عما تستشعره أو تعتقده من الكذب، وحركاها إلى اعتماد الشيء بفعل أو اعتقاد أو التخلي عنه تحريك مغالطة، فهذا أدنى مراتب الشعر إذا لم يعتد بما ذكرناه أولا.
٣- إضاءة: وإنما يرجع الشاعر إلى القول الكاذب حيث يعوزه الصادق والمشتهر بالنسبة إلى مقصده في الشعر. فقد يريد تقبيح حسن وتحسين قبيح، فلا يجد القول الصادق في هذا ولا المشتهر، فيضطر حينئذ إلى استعمال الأقاويل الكاذبة.
٤- تنوير: فأما إذا قصد تحسين حسن وتقبيح قبيح، فإنه متمكن من القول الصادق والمشهور فيهما. وأكثر أقوال الشعراء في هذين القسمين، إذا لم يقصدوا المبالغة في ما يحاكونه ويصفونه، صادقة. اللهم إلا أن يقصدوا المبالغة في تحسين حسن أو تقبيح قبيح فيتجاوزون حدود أوصافه الحقيقية ويحاكونه بما هو أعظم منه حالا أو أحقر ليزيدوا النفوس استمالة إليه أو تنفيرا عنه.
٥- إضاءة: ولا يخلو الشيء الحسن من أن يكون أحسن ما في معناه، أو أن يكون ثم ما هو أحسن منه. وكذلك القبيح قد يوجد أقبح منه أو لا يوجد. فالحسن الذي لا أحسن منه، والقبيح الذي لا أقبح منه، ولا يوجد مساو لهما في معنييهما، لا ينبغي أن يكون الأقوال فيهما صادقة في الأولى والأكثر، فإن محاكاته بما هو دونه تقصير به وليس هناك إلى ما يطمح به. فأما الحسن والقبيح اللذان يوجد في معناها ما هو أعظم منهما أو ما يساويهما، فإن الأقاويل الشعرية ترد فيهما صادقة وكاذبة، بحسب ما يعتمده الشاعر من اقتصاد في الوصف أو مبالغة.
٦- تنوير: وإذا حقق القول وجدت الأقاويل أيضًا في تقبيح الحسن وتحسين القبيح قد تكون صادقة لأن كل شيء حسن يقصد محاكاته وتخييله، وإن أحسن ما في معناه، فقد يوجد فيه وصف مستقبح. وكذلك الشيء القبيح، فإنه وإن كان لا أقبح منه، قد يوجد فيه وصف مستحسن.
فقد قال الجاحظ: " ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين، وإذا ذموا ذكروا أقبحهما".
وأنا أذكر الأنحاء التي يترامى إليها صدق الشعر أو كذبه بما يقتضيه أصل الصناعة ويوجبه. وهو الذي يعتمده المطبوعون من الشعراء، وهي ثمانية أنحاء: تحسين حسن لا نظير له. فهذا يجب أن تكون الأقاويل فيه صادقة وكذلك تقبيح القبيح الذي لا نظير له.
وتحسين حسن له نظير. وكثيرا ما يقع في هذا أيضًا الصدق إذا اقتصد في أوصافه واقتصر على الوقوف عند حدودها. وكذلك أيضًا إن اقتصد في محاكاته بغيره واقتصر به على المشابهة دون الغاية التي يطمح فيها عن محاكاة الشيء بالشيء إلى قول هو هو.
وفرق بين قولك في الشيء: إنه الشيء الآخر، وبين قولك: إنه مثله وشبهه، إذا لم ترد في نفسك معنى التشبيه، وتكون قد حذفت الحرف الدال عليه إيجازا، بل أردت أن يصير به اثنينية شيئين اتحادا. وهذا يكون في المشابهة وغيرها.
قال أبو علي بن سينا: "المجانسة اتحاد في الجنس، والمشاكلة اتحاد في النوع، والمشابهة اتحاد في الكيف، والمساواة اتحاد في الكم، والموازاة اتحاد في الوضع، والمطابقة اتحاد في الأطراف، والهو هو اتحاد في شيء من اثنين يجعل اثنين في الوضع تصير به اثنينيتهما اتحادا بنوع من الاتحادات الواقعة بين اثنين مما قيل".
1 / 22