١- إضاءة: ولما كانت الأقاويل الصادقة لا تقع في الخطابة بما هي خطابة إلا بأن يعدل بها عن طريقتها الأصلية وكان ما وقع منها في الشعر غير مقصود من حيث هو صدق كما لا تكون الأقاويل الكاذبة فيها مقصودة من حيث هي كذب بل من حيث هي أقاويل مخيلة رأيت ألا أشتغل بحصر الطرق التي بها يماز القول الصادق من غيره وتفصيل القول في ذلك، فإن ذلك مخرج على محض صناعة المنطق. وإن كنت قد أشرت إلى الأنحاء التي يتعرف منها ذلك إشارة إجمالية لأرشد الناظر في هذه الصناعة إلى جهات الفحص عن ذلك، وأدله على مظان التماسه، فإن الخطيب واجب عليه والشاعر متأكد في حقه أن يعرف الوجوه التي تصير بها الأقاويل الكاذبة موهمة أنها صدق.
٢- تنوير: وإنما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع إلى القول أو المقول له. وتلك التمويهات والاستدراجات قد توجد في كثير من الناس بالطبع والحنكة الحاصلة باعتياد المخاطبات التي يحتاج فيها إلى تقوية الظنون في شيء ما أنه على غير ما هو عليه بكثرة سماع المخاطبات في ذلك والتدرب في احتذائها.
٣- إضاءة: والتمويهات تكون في ما يرجع على الأقوال. والاستدرجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئة من يقبل قوله، أو باستمالته المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريظه، أو باطبائه إياه لنفسه وإحراجه على خصمه حتى يصير بذلك كلامه مقبولا عند الحكم، وكلام خصمه غير مقبول.
٤- تنوير: والتمويهات تكون بطي محل الكذب من القياس عن السامع، أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا، أو بترتيبه على وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح، أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا، أو بإلهاء السامع عن تفقد موضع الكذب وإن كان إلى حيز الوضوح أقرب منه على حيز الخفاء بضروب من الإبداعات والتعجيبات تشغل النفس عن ملاحظة محل الكذب والخلل الواقع في القياس من جهة مادة أو من جهة ترتيب أو من جهة المادة والترتيب معا.
٥- إضاءة: فلما كان كثير من التمويهات التي تكون من غير جهة اشتغال النفوس بالتعجيبات والإبداعات البلاغية عن تفقد محل الكذب يقصدها كثير من الناس بطباعهم ويتهدون إليها بأفكارهم -وإن كان تحصيل القوانين في حصر طرق تلك التمويهات أنفع شيء للخطيب في التوصل إلى الملكة الخطابية- رأيت ألا أشتغل بحصر تلك الطرق عما هو أنسب إلى هذه الصناعة من ذلك عن إبانة وجوه النظر البلاغي في الأقاويل الخطابية والشعرية من جهة ما يخص كلتا الصناعتين ويعمهما، وأن نشير في ما أشرنا إليه من ذكر طرق التمويهات الخطابية على ما أصله أهل صناعة المنطق كابن سينا وغيره.
٦- تنوير: وليس ترد المقاييس في الأقاويل الشعرية والخطابية المقصود بها البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين أو النتيجة في الحمليات، ومحذوفة الاستثناءات والنتائج في الشرطيات المتصلات، لأن القياس كلام تلازمت فيه القضايا فصار مسئما بطوله مع ما يقع فيه من تكرار الأسوار والحد الأوسط وأجزاء النتيجة. وكذلك المقدمات والتوالي في الشرطيات المتصلات يقع فيهما وفيما يتصل بهما التكرار أيضًا بما يعاد من أجزائهما في الاستثناء والنتيجة. فلما كان القول القياسي قد لزمه الطول والتكرار لم يكن لهم بد، فيما قصدوا به البلاغة من كلامهم، من أن يعدلوا مقداره ويميطوا تكراره. فإن الكلام إذا خف واعتدل حسن موقعه من النفس، وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له.
٧- إضاءة: وليس يحمد في الكلام أيضًا أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش، ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار، لكن المحمود من ذلك ما له حظ من الرصانة لا تبلغ به إلى الاستثقال، وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار. فإن الكلام المتقطع الأجزاء المنبتر التراكيب غير ملذوذ ولا مستحلى، وهو شبه الرشفات المتقطعة التي لا تروي غليلا. والكلام المتناهي في الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدي إلى الغصص، فلا شفاء مع التقطيع المخل ولا راحة مع التطويل الممل، ولكن خير الأمور أوساطها.
1 / 19