بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: فهذا كتاب "منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع" تأليف الفاضل الشيخ سليمان بن سحمان، المتوفى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف _رحمه الله تعالى_ ألفّه الشيخ مساهمة في القضاء على بعض الأفكار التي جنح أهلها إلى الغلو في دين الله تعالى والتشدد في التدين، مما كان نواة لسلوك مسلك الخوارج ونحوهم في تكفير المسلمين والطعن على علمائهم والخروج على ولاتهم.
وغير خاف على أكثر القراء تاريخ تلك العصابة التي كانت في القرن الماضي، وما كان عندها في شطحات كبيرة تمثلت في مسائل من الدين، هي: التكفير، والهجر، والطعن في ولاية إمام المسلمين الملك الصالح عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، واتهام العلماء وتنقصهم.. ونحو ذلك من القضايا.
فلما خاضوا في ذلك غير عابئين بتوجيه العلماء ونصحهم، انبرى أهل العلم _غراس الدعوة الإصلاحية_ للرد عليهم، وبيان خطرهم، والتحذير منهم. كما أكثروا من كتابة النصائح لعامة المسلمين في بيان حقوق ولاة الأمر، والتشديد في الخروج عليهم، وخطر الطعن في العلماء
1 / 5
وعظم القول على الله بغير علم، ليكون هذا البيان حافظا للعامة من الاغترار بأولئك القوم، ومتابعتهم على ما زخرفوه من الباطل، فحمى الله بتلك الكتابات والردود الجماعة من الانخداع بتلك الأفكار الشاذة، وعرفوا ضلال القوم وخروجهم عن الصراط المستقيم، فخلوهم إلى سبيلهم الذي اختاروه حتى قضى الله ما قضى من خروجهم بالسيف على ولي الأمر، فكان عاقبة أمرهم خسرا، حيث قطع دابرهم كما قطع دابر أسلافهم على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه.
وكتابنا هذا الذي بين يديك إجابات تفضل بها الشيخ سليمان بن سحمان على أسئلة وردت عليه، يستفسر فيها السائل عن بعض الشبه التي تعلق بها أولئك القوم، وبثوها بين الناس. فتوسع الشيخ في الإجابة نظرا للحاجة الماسة إلى كشف هذه الشبه والإطاحة بها. وكان مما تناوله الشيخ هنا:
مسألة التكفير. بين فيها خطورة تكفير المسلم. وقواعد وضوابط للتكفير عند أهل السنة. كما طرق قضية مهمة هي: تبرئة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب مما نسبه إليه هؤلاء وغيرهم في باب التكفير، اعتمادا على جهلهم الغليظ وسوء فهمهم لعباراته _رحمه الله_ فوضح الشيخ سليمان الفهم الصحيح لتلك العبارات التي يتعلق بها التكفيريون، مما قطع الطريق عليهم، لان علماء الدعوة أعرف بمعاني عبارات شيخهم وإمامهم، فهم الحجة على غيرهم في بيان عقيدة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب.
1 / 6
ومنها مسألة الهجر. بين متى يشرع الهجر ومتى يمتنع. وأن الهجر مبناه على المصلحة يدور معها أينما دارت، فمتى وجدت المصلحة فثمّ الهجر، ومتى لم توجد فلا هجر.
ومنها مسألة الغلو في الدين. بين تحذير الشارع منه، وذكر صورا من الغلو وقع فيها بعض المنتسبين إلى الدين، كما استطرد في سرد قصة الخوارج الأولين وقارن بينهم وبين إخوانهم الذين في عصره. وتكلم عن الرخص الشرعية مبينا أحكامها وضوابطها.
ومنها بيان فضل ولاية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود _رحمه الله تعالى_ وما جمع الله على يده من الشمل ووحد من الكلمة، وما نشر الله بسببه من التوحيد وقمع من الشرك.
ومنها بيان خطورة الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة وخفة الديانة، وما يترتب على ذلك من المفاسد العظام.
هذا هو مجمل مواضيع الكتاب، وإن كان من تحدث الكتاب عنهم ورد عليهم قد ماتوا، فإن أفكارهم السيئة لم تمت، بل كلما قطع منها قرن خرج قرن حتى يكون آخرهم مع الدجال كما جاء في بعض الآثار.
نسأل الله أن يكفينهم بما شاء إنه هو السميع العليم.
1 / 7
عملي في هذه النشرة
طبع الكتاب بمطبعة المنار على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، سنة ١٣٤٠هـ. وقد علق على هذه الطبعة الشيخ محمد رشيد رضا، إلا أنه تعقب ابن سحمان في مواضع، بل تجرأ على حذف بعض كلامه مشيرا إلى هذا التصرف في الهامش.
وقد أثبتُّ ما حذفه رشيد رضا من مخطوطة للشيخ سليمان بن سحمان في الرد على صاحب المنار (١) فيما حشاه على كتب علماء الدعوة. وبهذا تكون هذه الطبعة هي الكاملة، وما سبقها من الطبعات فيها نقص، وفيها حواش غير مرضية.
إضافة إلى ذلك قمت بتصحيح طبعة المنار، ومقابلة بعض النصوص المنقولة على أصولها، مثبتا الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الهامش. كما خرجت الأحاديث النبوية تخريجا مختصرا، ووضعت فهرسا للمباحث الواردة في الكتاب. أسأل الله تعالى التوفيق والإعانة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتب
عبد السلام بن برجس العبد الكريم
٢/٢/١٤١٧هـ - الرياض
_________
(١) تفضل بتصويرها لي من مكتبة الشيخ سليمان بن سحمان؛ حفيده الفاضل الشيخ عبد العزيز بن صالح ابن سحمان. جزاه الله خيرا وضاعف مثوبته.
1 / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد وصل إلي كتابك المشتمل على بعض المسائل التي قد أوضحناها لك في "إرشاد الطالب إلى أهم المطالب" وذلك في شأن التكفير، وبينا لك فيه: أن المبادرة بالتكفير والتفسيق والهجر من غير اطلاع على كلام العلماء لا يتجاسر عليه إلا أهل البدع الذين مرقوا من الإسلام، ولم يحققوا تفاصيل ما في هذه المسائل المهمة العظام، مما قرروه وبينوه من الأحكام، وذكرنا فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية_ قدس الله روحه_: "إن من عيوب أهل البدع: تكفير بعضهم بعضا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون ولا يكفرون"، وقول الشافعي_ رحمه الله تعالى_: "لأن أتكلم في علم يقال لي فيه: أخطأت، أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه: كفرت".
إذا فهمت ذلك وتحققته فاعلم أن الكفر الذي يخرج من الإسلام ويصير به الإنسان كافرا هو: أن يكفر بما علم أن رسول الله ﷺ جاء به من عند الله جحودا وعنادا، من أسماء الرب وصفاته، وأفعاله وأحكامه، التي أصلها توحيده وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه؛ وقد
1 / 11
قال ابن القيم_ رحمه الله تعالى_:
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما
جاء الرسول به لقول فلان
إلى أن قال:
والله ما خوفي الذنوب فإنها
لعلى طريق العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب عن
تحكيم هذا الوحي والقرآن
ورضا بآرآء الرجال وخرصها
لا كان ذاك بمنة الرحمن
وإنما قدمت لك هذه المقدمة لتعلم أن كثيرا من المتدينين في هذا الزمان لا يعرفون الكفر الذي يخرج عن الملة، والكفر الذي لا يخرج من الملة، خصوصا من ينتسب إلى العلم والمعرفة منهم ممن يذهب إلى البادية، يدعوهم إلى الله وهو لا يعرف تفاصيل ما قرره العلماء وأوضحوه في مسائل التكفير، وما يخرج من الملة، وما لا يخرج من الملة.
وكذلك مسألة الهجرة وأحكامها، ومسألة الهجر وما يترتب عليه من المصالح والمفاسد. ويستدلون على ما ذكروه بكلام بعض العلماء في مسألة التكفير في الأمور الظاهرة الجلية التي لا يمكن أحدا جهلها، ولا يعذر بذلك، مثل الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، مما قد كان يعلم بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول ﷺ قد جاء به،
1 / 12
فيستدلون بذلك على بعض المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها من الكتاب والسنة على كثير من البرية، وذلك بمجرد ظنونهم وآرائهم القاصرة، وأفهامهم الخاسرة.
وهذه المسائل الخفية لا يكفر بها من فعلها أو قالها _على أصح قولي العلماء_ حتى تقوم عليه الحجة الرسالية.
فإذا تبين لك ما قد قدمت لك: انزاحت عنك شبهات كثيرة مما قد تعرض في هذا المقام، ويتكلم فيه من لا معرفة عنده بأحكام الإسلام ومدارك الأحكام، والله المستعان.
1 / 13
مسائل متفرقة
استدلال المتدينين بتكفير البادية الذين في زمنهم بعبارات للشيخ محمد بن عبد الوهاب في البدو الذين في زمانه
...
فصل
المسألة الأولى: قال السائل هنا: هنا مسألة، وهي ذات أنواع، وهي التي أخذ بها هؤلاء المتدينون من البدو، وهي أن من يقرأ عليهم بعض عبارات الشيخ محمد ابن عبد الوهاب_ رحمه الله تعالى_ في البدو مثل الموضع السادس من السيرة، وما ذكر عن الأعرابي الذي يشهد أنه هو وسائر البدو كفار، وأن المطوع الذي ما يكفر البدو كافر، وأمثال ذلك فإذا قرأه عليهم قالوا: نعم، هذا قول الشيخ_ رحمه الله_ في البدو، والمشايخ اليوم يقولون ويقولون (١) .
والجواب: _ومن الله أستمد الصواب_ أن نقول: قد بينا لك في المقدمة أن هؤلاء الذين يذهبون إلى البادية ويدعونهم إلى الله وهم لا يعرفون تفاصيل ما قرره العلماء وأوضحوه في مسائل التكفير، بل يقولون بآرائهم الفاسدة وأفهامهم القاصرة الخاسرة، لعدم علمهم ومعرفتهم لمواقع الخطاب وأحوال الناس ومراتبهم في الإسلام في الأحوال والأزمان، وإذا كان ذلك معلوما مشهورا من أحوالهم وأقوالهم تعين أن نبين لك خطأهم وقلة معرفتهم وعلمهم بما كان عليه أهل نجد _حاضرتهم وباديتهم_ قبل ظهور نور هذه الدعوة الإسلامية التي من الله بإظهارها على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_ قبل دخولهم
_________
(١) يعني: أنهم لا يكفرونهم
1 / 14
في الإسلام، وما هم عليه من الكفر بالله والإشراك به، وما من الله به عليهم بعد ذلك من دخولهم في الإسلام ومعرفته والقيام به، فنقول:
قد كان أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة المحمدية على غاية من الجهالة والضلالة، والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا على غاية من الجهالة في أمر دينهم، في جاهلية: يدعون الصالحين، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران، ويطوفون بقبور الأولياء، يرجون الخير والنصر من جهتها، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلاة ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور، وغير ذلك من جميع الفواحش والمنكرات التي لا تحصى، ولا تستقصى، فهذه هي حال الحاضرة من أهل نجد قبل ظهور الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية.
وأما حال الأعراب من أهل نجد وغيرهم فهم أغلظ كفرا ونفاقا، وأشد إعراضا عن الدين، مع ما هم عليه من قتل النفس ونهب الأموال وارتكاب المحرمات؛ كما قال_ تعالى_: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ (التوبة: ٩٧)
ويصدق عليهم قول الأعرابي الذي وفد على الشيخ في الدرعية_ لما تبين له الإسلام، وعرف أن ما هم عليه قبل ذلك هو الكفر والإشراك بالله_ فقال: أشهد بالله أني وسائر البدو كفار، وأن المطوع الذي ما يكفر البدو كافر.
1 / 15
وكذلك ما ذكره الشيخ في الموضع السادس من السيرة، من حال الأعراب في ذلك الوقت الذين ذكر علماء أهل زمانهم أن هذا هو الشرك، لكن يقولون: لا إله إلا الله. ومن قالها لا يكفر بشيء. وأعظم من ذلك وأكبر: تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، ولكن يقولون: "لا إله إلا الله" وهم بهذه اللفظة إسلام، وحرم الإسلام مالهم ودمهم مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله ... إلى آخر كلامه _رحمه الله_.
فهذا الكلام _الذي قاله الشيخ ﵀ في الأعراب_: إنما هو حال كفرهم وقبل دخولهم في الإسلام. ثم لما فتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث الله به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرم الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وساعده على القيام بذلك آل سعود؛ فنصروه وآووه وجاهدوا معه القريب والبعيد، حتى أظهر الله الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى بما جاء به محمد ﷺ من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفاء، وأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك المنكرات والمسكرات، ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين، في الأصول والفروع ومسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج
1 / 16
الشريعة والسنن، وأقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحُدَّت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته مسير الشمس في الآفاق، وثبت النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمته إخوانا، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور، ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي، والصخور، وفتح الله عليهم الإحساء والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، ودانت لهم عربها وأعطوا الزكاة، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والتمكين، كما قال عالم الإحسان وشيخها_ رحمه الله_:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع
وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع
فهذه هي حال أهل نجد حاضرتهم وباديتهم بعد ما دخلوا في دين الله وتركوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الكفر بالله والإشراك به.
وقد حدثني رجل من أعراب أهل بيشة _وقد كان أدرك زمن الدرعية، ووفد مع من وفد إليها من قومه_ فذكر أنهم كانوا في طريقتهم إذا اجتمعوا بمن قدم من الدرعية من وفود الأعراب يسألونهم ما أفادهم به الشيخ
1 / 17
من الفوائد، وما علمهم من توحيد الله، وما أمرهم به من ذلك، وما نهاهم عنه مما يخالف دين الإسلام مما كانوا عليه في الجاهلية، ويتذاكرون ويحمدون الله على ما من الله به عليهم من الإسلام.
فمن زعم أن حال الأعراب_ بعد ما دخلوا في دين الإسلام والتزموا شرائعه العظام_ هي حالهم قبل أن يدخلوا فيه من الكفر بالله والإشراك به، وأن هذا وصف قائم بهم لا ينفك عنهم، وأنهم على الحالة الأولى: فقد أعظم الفرية على الله وعلى المسلمين ونسبهم إلى ما هم بريئون منه.
ثم لما انقضى زمن الدرعية، وتسلطت عليهم العساكر المصرية، بسبب ما اقترفه أولاد سعود من الذنوب والتقصير في الأوامر الدينية، ونقلوا عبد الله بن سعود إلى مصر، وأتبعوه أولاده وإخوانه وأكابر أولاد الشيخ ثم تشتت الناس وتضعضع أمرهم وانفلت ولاية أهل الإسلام وبقي الناس في مرجة عظيمة لا والي لهم.
ثم رد الله الكرة للمسلمين، وجمعهم الله على الإمام تركي بن عبد الله_رحمه الله تعالى_ وشيخ الإسلام شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن_ قدس الله روحه_ واستقام الأمر على ما كان عليه أهل نجد أولا _باديتهم وحاضرتهم_ على هذا الدين.
ثم حدثت بعد ذلك أمور لا فائدة في ذكرها.
ثم جمعهم الله بعد ذلك بالإمام فيصل بن تركي _رحمه الله_ فاستقامت ولاية الإسلام على ما كانوا عليه أولا.
1 / 18
يوضح ذلك: ما ذكره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن _قدس الله روحه_ في نصيحته للإمام فيصل، قال فيها:
ومن الدعوة الواجبة، والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه من البادية والحاضرة، وأكثر بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين من آل ظفير وأمثالهم: فيجب جهادهم ودعوتهم إلى الله.. انتهى.
فذكر _رحمه الله_ أن أكثر بادية نجد يكفي فيهم المعلم؛ لأنهم ملتزمون بشرائع الإسلام الظاهرة، وإنما يحتاجون إلى تعليمهم ما قد يخفى عليهم من حقوقه اللازمة فيه، بخلاف الظفير وأمثالهم من المشركين فإنه يجب جهادهم.
ثم بعد ذلك: انثلت ولاية آل سعود، ثم صار الأمر بعد ذلك لآل رشيد، وحصل من أهل نجد إعراض عن الدين، وضعف أمر الإسلام فيهم حتى غلب على أكثرهم الجهل ونسيان ما كانوا عليه أولا؛ فنبذوا شرع الله وراء ظهورهم، وصاروا يتحاكمون إلى الطواغيت وسوالف الآباء والأجداد، وفشت فيهم المنكرات والفواحش وأنواع المعاصي التي يطول عدّها.
ثم رد الله الكرة للمسلمين وجمعهم الله بالإمام عبد الرحمن بن فيصل وابنه عبد العزيز حتى استقامت لهم الأمور، وقد كانت الأعراب _الذين هم بين أظهر أهل الإسلام_ ملتزمين بشعائر الإسلام الظاهرة في هذه الأزمان، ولا يمكن أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعمهم جميعهم بالكفر، ويطلق
1 / 19
عليهم لأجل ما غلب على بعضهم من المكفرات، والتلوث بكثير من المنكرات والمحرمات.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال عن من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، وكان غاية أمره ونهاية مقصوده طلب الحق.
فإذا تبين لك هذا، فيقال لهؤلاء الجهلة الصعافقة الحمقى، الذين لا علم لهم ولا معرفة لديهم بحقائق الأمور ومدارك الأحكام، الذين يقرؤون على الناس كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهم لا يفهمون مواقع الخطاب وتوقيع الأمور على ما هي عليه، حيث يقول قائلهم: نعم، هذا قول الشيخ في البدو، والمشايخ اليوم يقولون ويقولون.
فيقال لهم: إن كلام الشيخ الذي تقرءونه على الناس في قوم كفار ليس معهم من الإسلام شيء، وذلك قبل أن يدخلوها في الإسلام، ويلتزموا شرائعه، وينقادوا لأوامره، وينزجروا عن زواجره ونواهيه، وأما بعد دخولهم في الإسلام فلا يقول ذلك فيهم إلا من هو أضل من حمار أهله وأقلهم دينا وورعا، ومقالته هذه أخبث من مقالة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وهؤلاء يكفرونهم بمحض الإسلام. أما علم هؤلاء المساكين أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، بنص رسول الله ﷺ؟
وأما قوله: والمشايخ اليوم يقولون ويقولون، فالجواب أن نقول: نعم المشايخ اليوم يقولون لا نكفر من ظاهره الإسلام، ولا يطلقون الكفر على جميع أهل البادية الذين هم بين أظهر أهل الإسلام، وإنما يقولون: من
1 / 20
قام به وصف الكفر منهم فهو كافر؛ كمن يعبد غير الله، ويشرك به أحدا من المخلوقين، أو يتحاكم إلى الطواغيت، ويرى أن حكمهم أحسن وأفضل من حكم الله ورسوله، أو يستهزئ بدين الله ورسوله، أو ينكر البعث.
فمن قام به هذا الوصف الذي ذكرنا من المكفرات وغيرها مما يخرج من الملة في بادية أو حاضرة: فهو كافر. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من العلماء _رحمهم الله تعالى_ وهذا هو الذي ندين الله به في أي بادية كانت أو حاضرة.
ثم لو ذهبنا نذكر ما أحدثه هؤلاء من البدع والغلو والمجاوزة للحد في الأوامر والنواهي لطال الجواب، والعاقل يسير فينظر، والهداية والتوفيق بيد الله، وإنما عليه الإعذار والإنذار وبيان الحق.
ومن لم يقم به وصف الكفر، وكان ملتزما لشرائع الإسلام الظاهرة فهو مسلم، ولا نكفره بارتكاب الذنوب والمعاصي، ولا بالأعمال التي لا تخرجه من الملة.
ومن لم يسلك طريقة المشايخ في هذه المسائل سلك ولا بد على طريقة الخوارج الذين يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه، فإنهم _ولله الحمد والمنة_ كانوا وسطا بين طرفين، وعلى هدى بين ضلالتين.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية_ قدس الله روحه_: وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته
1 / 21
وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله_ سبحانه وتعالى_ بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب له ولأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه، فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبا الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطي ما يكفيه من بيت المال لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب فقط، أو مستحقا للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة وبفضله ورحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن رسول الله ﷺ والله أعلم. انتهى.
وقال _رحمه الله_ في موضع آخر: ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه آخر، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم كما بسط هذا في موضعه والله أعلم. انتهى.
1 / 22
فانظر _رحمك الله_ إلى ما قرره شيخ الإسلام في مسألة الهجر: أن الرجل الواحد قد يجتمع فيه خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، فيستحق من الموالاة والثواب والعقاب بقدر ما فيه من الخير، ويستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبا الإكرام والإهانة، إلى آخر كلامه، فمن أهمل هذا ولم يراعي حقوق المسلم التي يستحق بها الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، وكذلك يراعي ما فيه من الشر والمعصية والفجور والبدعة وغير ذلك فيعامله بما يستحقه من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فمن ترك هذا وأهمله سلك مسلك أهل البدع المخالفين لأهل الإسلام ومن حذا حذوهم ولا بد.
وتأمل قوله: وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب أو مستحقا للعقاب فقط. فإن هذا مخالف لما قاله أهل السنة والجماعة.
ثم انظر إلى ما يقوله هؤلاء المخالفون للمشايخ، هل هم متبعون لما عليه أهل السنة والجماعة، أو متبعون لمن خالفهم، يتبين لك خطأهم فيما ينقلونه وهم لا يعرفون معناه وما يراد به، بل يحكمون على أقوال أهل العلم بمجرد آرائهم وأفهامهم القاصرة. وما أحسن ما قال القائل:
يقولون أشياء ولا يعرفونها
وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
1 / 23
فإن كان ما كان عليه المشايخ هو الحق والصواب الذي كان عليه أهل السنة والجماعة: فهو المطلوب وعليهم أن يرجعوا عما ارتكبوه من هذه الورطات المفضية بهم إلى المفاوز المهلكات، وإن لم يقبلوا ولم يرجعوا: قيل لهم ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: من الآية١١١)، ﴿هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: من الآية١٤٨) .
فإذا تقرر هذا وتبين لك أنهم لم يفهموا ما ذكره الشيخ محمد _رحمه الله تعالى_ في الأعراب الذين كانوا في زمنه قبل أن يدخلوا في الإسلام، وأنهم وضعوه في غير موضعه، فجعلوه في الأعراب الذين هم بين ظهور المسلمين وظاهرهم الإسلام: فالعجب كل العجب ممن يصغي ويأخذ بأقوال أناس ليسوا بعلماء ولا قرءوا على أحد من المشايخ فيحسنون الظن بهم فيما يقولونه وينقلونه، ويسيئون الظن بمشايخ أهل الإسلام وعلمائهم الذين هم أعلم منهم بكلام أهل العلم، وليس لهم غرض في الناس إلا هدايتهم وإرشادهم إلى الحق الذي كان عليه ﷺ وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.
وأما هؤلاء المتعالمون الجهال فكثير منهم _خصوصا من لم يتخرج على العلماء منهم_ وإن دعوا الناس إلى الحق فإنما يدعون إلى أنفسهم ليصرفوا وجوه الناس إليهم؛ طلبا للجاه والشرف والترؤس على الناس؛ فإذا سئلوا أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
وقد قال بعض السلف: "إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم"، وقال بعض العلماء: إن من سعادة العجمي والعربي إذا أسلما:
1 / 24
أن يوفقا لصاحب سنة، ومن شقاوتهما أن يوفقا لصاحب بدعة" أو كما قال.
ولكن الشأن كل الشأن في معرفة صاحب السنة ومعرفة صاحب البدعة، فأما صاحب السنة فمن علاماته التي يعرف بها: الأخذ بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ في الأقوال والأعمال والهدي والسمت، ويأخذ بأقوال أصحاب رسول الله ﷺ وأقوال التابعين ومن بعدهم من السلف الصالح والأئمة المهتدين، ويعلم الناس أمر دينهم بالأهم فالأهم، ويربى بصغار العلم قبل كباره، ويسلك طريقة التيسير، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص: من الآية٨٦)، وقال ﷺ: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين " (١)، وقد قال ﷺ: " إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " (٢)، وقال ﷺ لما جاء الحبشة يلعبون يوم العيد في المسجد قام ينظر إليهم، ثم قال: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني بعثت بحنيفية سمحة " (٣) ذكر هذا العماد ابن كثير _رحمه الله تعالى_ في تفسيره على
_________
(١) أخرجه الترمذي في "سننه" _أبواب الطهارة_ باب ما جاء في البول يصيب الأرض: (١/٢٧٥) عن أبي هريرة. في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد. وأصل الحديث في الصحيح.
(٢) أخرجه الإمام أحمد والنسائي: (٥/٢٦٨) عن ابن عباس.
(٣) أصل الحديث في "الصحيحين". قال الحافظ في "الفتح": (٢/٤٤٤) عن هذه الزيادة: "رواها السراج من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة".اهـ
وقال الحافظ ابن كثير (٢/٢١٤) والزيادة لها شواهد من طرق عدة قد استقصيت طرقها في شرح البخاري أهـ
1 / 25
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:١٦١) إلى غير ذلك من الأمور التي يتصف بها أهل السنة والجماعة.
ومن ذلك: أن يكون الرجل عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه.
ومن علامات صاحب البدعة: التشديد، والغلظة، والغلو في الدين، ومجاوزة الحد في الأوامر والنواهي، وطلب ما يُعَنِّت الأمة ويشق عليهم ويحرجهم، ويضيق عليهم في أمر دينهم، وتكفيرهم بالذنوب والمعاصي، إلى غير ذلك مما هو مشهور مذكور من أحوال أهل البدع.
فهؤلاء هم الذين نخشى على من سلك طريقتهم أن يوقعوا من تدين من الأعراب ممن لم يتمكن من معرفة الدين وتفاصيل الأحكام فيما يخالف طريقة أهل السنة والجماعة من هذه البدع التي تقضي بهم إلى مجاوزة الحد في الأوامر والنواهي.
ولكن الله _وله الحمد والمنة_ قد من على كثير من الإخوان بمعرفة هذا الدين وقبوله والانقياد له وترك ما كانوا عليه أولا من أمور الجاهلية، فنسأل الله أن يمن علينا وعليهم بالثبات على الإسلام ومعرفته ومحبته وإيثاره، وقبول الحق ممن جاء به، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يتوفانا وإياهم على الإسلام غير خزايا ولا مفتونين.
1 / 26