سؤال قد نستطيع الإجابة عنه إذا أكدنا من جديد الصلة الوثيقة التي تصل بين مجتمع وحياته العلمية، إن المجتمع إذا لم تجد عليه مشكلات تقتضي تجديد حياته، فإنه يبقى على ما هو عليه، ومجتمعنا لم يتسع الاتساع الذي اتسعه المجتمع الأوربي في العصور الحديثة، ومن ثم فلم تجد عليه مشكلات، ولم تجد عليه أسئلة، فبقي على ما هو عليه حتى هذه الأيام، أيام الحضارة العلمية، وها هو ذا مجتمعنا يتحفز لإنشاء صلاته بها؛ ليستفيد ويفيد، يشارك في تقويم معوجها، وفي إشاعة خيرها بإذن الله.
الشعوبية القديمة والشعوبية الجديدة
خصوم العرب بالأمس وحاسدوهم على ما آتاهم الله من فضله عرفوا في الكتب القديمة باسم الشعوبية، وأعداؤهم اليوم وكارهو ارتقائهم لنا أن نعرفهم هم أيضا باسم الشعوبية، فلنميز في هذا الحديث إذن بين شعوبية قديمة وشعوبية جديدة.
والكلمة - في ذاتها - إن دلت على إيمان منتجاتها بحق الشعوب جميعا في البقاء، وبأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، إن دلت على الإيمان بهذا فلا غبار عليها، لكنها قديما ... وحديثا تعبر عن بغضاء وعن حقد، وترمي إلى الحط من قدر العرب، وإلى هدم البناء الذي أقاموه في ماضيهم، والبناء الذي يعملون في حاضرهم في تشييده.
وفي القديم ركز الشعوبيون القدماء مهاجمة العرب في تأكيد ما كانت الحياة في الجزيرة من شظف وخشونة، وفي جمع ما تفرق في دواوين الشعراء من المثالب والنقائض، ومن هذا كله رسموا الصورة التي شفت صدورهم وأطفأت نار حسدهم، من ذلك قول أحدهم، الجيهاني يسب العرب ويتناول أعراضها ويحط من قدرها: يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات، ويتعاورون ويتساورون ويتهاجمون ويتفاحشون، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير، ويقول أيضا: وليس للعرب كتاب أقليدس، ولا أنجسطس، ولا الموسيقى، ولا كتاب الفلاحة، ولا الطبيعة، ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواص الأنفس، ويقول أيضا: ومما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا أن الله أفاض علينا النعم، ووسع لدينا القسم، وبوأنا الجنات والأرياف، ونعمنا وأترفنا، ولم يفعل هذا بالعرب؛ بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم، وحرمهم.
هذه أمثلة من تجني الشعوبية القديمة، ذكروا خشونة العيش في الجزية، وأغفلوا ما كان بأماكن كثيرة فيها من نعومة الحياة وترفها، وأثبتوا التساور والتهاجي والتفاحش، وحذفوا ما كان هناك من طيب الأعراق وصفاء الأحلام والمروءة، وزعموا أن العرب لم يكن لهم كتاب أقليدس وغيره مما عددوا، ونسوا أن استخدمه العرب، وما إليه في النظري والتطبيقي من العلم، فارتقوا بالعلم درجات فوق ما بلغ أصحاب أقليدس، وأغرب من هذا كله ادعاء الشعوبية أن ما أفاض الله عليهم من النعم يدل على شرفهم وتقدمهم وعزهم وعلو مكانهم، وهو لم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذبهم وضيق عليهم وحرمهم، يقولون هذا ويغفلون عما كان من نعمة الله على العرب بإخراجهم من ظلمات الشرك به إلى نور التوحيد، ثم أورثهم المشارق والمغارب، ولأحد البلغاء من الأقدمين وصف جامع لما حدث في جملة رائعة:
وقد رأيت حين هبت ريحهم (أي العرب) وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملة، وعزت ملتهم بالنبوة، وغلبت نبوتهم بالشريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية كيف تحولت محاسن الأمم إليهم، وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم؟
هذا وقد أخذ المنصفون من العرب على أهل تلك النحلة الشعوبية القديمة انصرافهم عن معرفة أخلاق الأمم بالبحث عن علل اختلاف إشارات أبنائها وشمائلهم وهيئاتهم، ولكنهم بدلا من التزام جادة الإنصاف والتحري طاوعوا الهوى، فشقوا به، وطال نصبهم، وقل غنمهم.
بيد أن الشعوبية الجديدة تدبر أمرها وتحبك دسها على وجه آخر، وهذه الشعوبية الجديدة وإن نبعت من منابع البغضاء القديمة، إلا أنها نوعت أساليبها وخططها، وتجنبت الظهور متجمعة في فرقة واحدة، أو تحت راية واحدة، على أن الغاية واحدة وإن تعددت الوسائل، والشعوبية الجديدة عرب وأعاجم، والأعاجم منهم الشرقيون، الذين يناصبون العرب العداء منتسبون للفرنجة، ولنختر أمثلة توضح أساليبهم، وقد يقول قائل : وما الذي يدعو لسوء الظن بهم إلى هذا الحد، ولم لا تختلف النظرات إلى التاريخ، ولم لا تختلف التقديرات؟ والرد على ذلك أن النظر إذا صدر عن البغضاء انكشف أمره، وفقد ما يجب أن يكون للحكم العملي، من حصانة تضمن للعالم احترام اختلاف وجهة النظر، كما أن العالم أو الذي يدعي العلم إذا نطق بما أجمعت القرائن والأدلة على ضده مستجيبا في نطق هذا لنزوات الأهواء والمصالح، ليس له أن يعترض على ضمه لشعوبية اليوم.
وليس يصح في الأفهام شيء
Unknown page