ذكر الكندي، صاحب كتاب فضائل مصر أن أميرا من أمرائها قال يوما، وهو بالميدان الذي يلي الفسطاط: أتتأملون الذي أرى؟
قالوا: وما الذي يرى الأمير؟
قال: أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر، ومنازل، وذروة جبل، ونهرا عجاجا، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، وصائد بحر، وقانص وحش، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومغارة رمل، سهلا وجبلا في أقل من ميل في ميل.
في هذه الرقعة صورة مصر، وفي هذا المركز - الفسطاط القاهرة - قلب مصر، ومصر تتوسط العالم العربي، ومن زاوية القاهرة نطلع فنرى حلقاته وأدواره متناسبة متوازنة، كل حلقة في مكانها، وكل دور في موضعه، لا يطغى شيء على شيء، الضوء موزع التوزيع العادل، والظلال كذلك.
وكانت مصر المركز لأسباب، منها: توسطها الجغرافي الظاهر، ومنها: أنها المرآة الصادقة لظاهرة عربية عامة، ظاهرة التركيب العجيب للأصل والوافد من عناصر الحضارة العربية «وهذه ظاهرة سيزداد تفصيلها فيما يلي بعد قليل»، ومنها ثالثا: أن مصر وحدها، مصر دون سائر الأقطار العربية اتصلت أدوار تاريخها في نسق محكم مسبوك.
أما والأمر كذلك فلنا أن ننظر من زاوية القاهرة، وهذا دون افتئات ودون تجن.
فإذا ما فعلنا ذلك فماذا ينطبع في الذهن بعد نظرة شاملة نافذة فاحصة ...؟ تنطبع حقيقة يمكن التعبير عنها بالقول:
إن تاريخ الأمة العربية هو ملتقى تواريخ الأمم، هو من تلك التواريخ بمثابة النهر الكبير تصب فيه الجداول، وتلتقي في مائه أمواه الفروع. ألا ترى أصحاب الكتب العربية التاريخية العامة يبدءون بشتى الأمم والشعوب، ثم يسيرون بها رويدا رويدا إلى أن يبلغوا زمن الرسالة وقيام الدولة العربية، وحينئذ يسلكون تواريخ الأمم في تاريخ الأمة العربية.
ولنتأمل قليلا تركيب تلك الدولة العربية، وتركيب تاريخها. في هذا التاريخ يندمج كل ما يتعلق بالجزيرة العربية قبل الإسلام، بقبائلها وممالكها وأيامها وأحوالها وآدابها، هذه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة العربية، ثم إذا ما انتقلنا من الجزيرة نحو البلاد التي فتحها العرب، والتي انتشروا فيها، والتي استعربت شعوبها بأقدار متفاوتة من الاستعراب، فإننا نجد تلك الشعوب متحضرة بحضارات، هي في ذاتها تتركب أيضا من عناصر أصيلة وطارئة، وفي مختلف الأقطار التي استوطنها العرب يتنوع امتزاج عناصر الحضارة تنوعا كبيرا.
وتلك العناصر هي: الهندية، الإيرانية، الأرامية، اليونانية، المصرية، الإفريقية، البربرية، اللاتينية، الجرمانية، الكلنية ... إلخ، وتركبت في مختلف الأقطار من هذه العناصر تراكيب متعددة، ففي أقصى الشرق يقل الأثر الإفريقي البربري الجرماني اللاتيني، وفي أقصى الغرب يقل الأثر الهندي الإيراني، ولكنها دخلت جميعا في تركيب الحضارة العربية، وإن تلونت تلك الحضارة في مختلف الأقطار العربية بألوان متأثرة بموقع القطر وبظروفه التاريخية السابقة للفتح العربي.
Unknown page