باليونانية معناها الفعل أو العمل).
ولعل السؤال الرئيسي عند بيرس - وعند فلاسفة غيره كثيرين - هو هذا: ما هي «الفكرة»؟ إنه ما أسهل على الناس أن يقولوا إن لديهم «أفكارا» عن كذا وكيت، أفكارا سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها؛ فمتى تكون «الفكرة» جديرة بهذا الاسم؟ ما طبيعتها؟
هنا ستجد الفلاسفة أحزابا؛ ففلاسفة «مثاليون» يقولون إن «الفكرة» هي تصور عقلي يشترط أن يكون متسقا مع بقية التصورات العقلية ولا شيء غير ذاك. أي إنه لا يطلب من «الفكرة» في هذه الحالة أن تكون مقابلة لشيء في الطبيعة الخارجية، وعندئذ تكون مجموعة الأفكار كالبناء الرياضي، البحت، يقام في العقل خاليا من التناقض الداخلي بين أجزائه، لكنه لا يتوقف على كونه مطابقا لعالم خارجي.
وفلاسفة «واقعيون» لا يرضون بهذا التفسير، ويقولون إن «الفكرة» - مهما تكن - لا بد أن تكون مطابقة لشيء ما موجود في عالم الطبيعة الخارجية، سواء كانت تلك المطابقة تامة كصورة الشيء على صفحة المرآة ، أو كانت مطابقة يدخل فيها شيء من التباين بين الطرفين، كأن نقول - مثلا - إن ذوبان الثلج مطابق لحرارة موجودة خارج قطعة الثلج المذابة.
وأما «البرجماتيون» فيلفتون الأنظار إلى هذا الأمر لفتة جديدة؛ إذ يقولون إن الذي يحدد حقيقة «الفكرة» ليس هو «مقوماتها»، بل يحددها ما تستطيع أن «تفعله» في دنيا الأشياء. فالفكرة أداة تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر إليها في ذاتها. الفكرة كمفتاح الباب، مثلا، ليس المهم فيه أن يكون مصنوعا من حديد أو خشب، بل المهم فيه هو أنه يفتح الباب المغلق، فإذا لم ينفتح به باب لم يكن مفتاحا مهما اتخذ لنفسه من صور المفاتيح.
عند البرجماتية، الذين هم على مذهب بيرس، أن الفكرة خطة العمل، وقيمتها في نجاح تلك الخطة. هي كالخريطة التي قيمتها كلها مرهونة، لا بجمال ألوانها وحسن شكلها وإحكام رسمها، بل بكونها أداة صالحة في يد المسافر يعرف بها أين النهر وأين الجبل. ألا ما أكثر الناس الذين يحسبون أن في رءوسهم «أفكارا»، حتى إذا ما سألتهم: وماذا تستطيع تلك الأفكار أن تؤديه في دنيا العمل؟ لم يحيروا جوابا؛ لأنها ليست في الحقيقة أفكارا بالمعنى الذي يحدده البرجماتيون. بل ما أكثر الفلاسفة الذين يتحدثون عما يسمونه «أفكارا» وهي في الحقيقة لغو لا ينفع ولا يشفع. وإذن فمقياسنا هو: ماذا عساي أن «أصنع» بهذه الفكرة أو بتلك، وبهذا الذي أستطيع أن أصنعه يتحدد «معنى» الفكرة.
فمذهب بيرس البرجماتي هو «قاعدة منطقية» لتحديد المعنى. وجدير بنا في هذا الموضوع أن نفرق بين شيئين لأهمية هذه التفرقة في فهم الفلسفة المعاصرة، بل في فهم الفرق بين برجماتية بيرس، وبرجماتية وليم جيمس، برغم كونهما من مدرسة فلسفية واحدة. والشيئان اللذان أحب أن أفرق لك بينهما هما: «المعنى» من جهة، و«الصدق» من جهة أخرى، فإذا كنت بإزاء جملة قالها قائل، مثل قوله «على سطح القمر جبال ووديان.» فهناك أمران متميزان: أولهما أن يكون لهذا الكلام «معنى» مفهوم، وثانيهما أن يكون هذا المعنى «صادقا» على الواقع . وبالطبع لا يتحقق «الصدق» على الواقع ما لم يكن للكلام معنى. ولكن قد يكون للكلام معنى مفهوم دون أن يكون صادقا على الواقع.
وبعد هذه التفرقة الهامة نقول إن برجماتية بيرس هي نظرية في «المعنى» ولا شأن لها بعد ذلك أصدق الكلام أم لم يصدق على الواقع.
فمتى يكون للعبارة «معنى» عند بيرس؟
تكون العبارة عنده ذات معنى إذا ما كانت ألفاظها دالة على خبرة حسية يمكن اللجوء إليها في عالم التجربة، وليس لأية لفظة من معنى سوى مجموعة تلك الخبرات الحسية المتوقع حدوثها. فمثلا إذا قلت عن شيء إنه «صلب»، فما معنى الصلابة؟ معناها خبرات نخبرها حين نستخدم ذلك الشيء في حياتنا العملية، فنراه يخدش غيره ولا ينخدش بغيره، ونراه يكسر غيره ولا ينكسر بغيره وهلم جرا. اجمع هذه «الأفعال» الممكنة كلها في قائمة ، يكن لك معنى كلمة «صلب» التي نصف بها الشيء الذي وصفناه بها. وأما إذا لم يكن لكلمة ما مثل هذه الإجراءات العملية التي تحدد معناها، فهي عندئذ بغير معنى مهما أكثر الناس من استعمالها في أحاديثهم.
Unknown page