F. P. Ramsey
الذي أبدى من المقدرة والذكاء ما استوقف نظر الأستاذ، معترفا كذلك في صراحة أن التلميذ هنا أيضا قد تفوق على أستاذه تفوقا جعل مور على شيء من القلق دائما أثناء المحاضرة التي يكون رامزي أحد مستمعيها، خشية أن يزل في الخطأ أمام ذلك الذهن النافذ المتوقد. ولقد كان يحلو للأستاذ أن يجتمع بالتلميذ على مناقشات لمسائل فلسفية، حتى لقد تواعدا أن يتعاونا على عمل مشترك، لكن الموت عاجل ذلك الشاب النابه قبل أن يبلغ الثلاثين.
ولا نختم الحديث عن حياة جورج مور قبل أن نذكر عنه جانبا هاما في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، وهو توليه رئاسة تحرير مجلة «عقل» التي تعد من غير شك في طليعة الطليعة من المجلات الفلسفية في العالم كله؛ وظل رئيسا لتحريرها منذ عام 1920 حتى ثقل عليه المرض الذي انتهي بموته (1959م).
4
لقد وردت عبارة في السيرة الذاتية التي كتبها مور عن حياته، تصلح - في رأيي- أن تكون مفتاحا لموقفه الفلسفي كله، وهي العبارة التي يقول فيها: «إنني لا أظن أن العالم أو العلوم كانت لتوحي إلي أية مشكلات فلسفية؛ أما ما قد أوحى إلي بالمشكلات الفلسفية فهو أشياء قالها فلاسفة آخرون عن العالم وعن العلوم؛ ففي كثير من المسائل التي أوحي إلي بها عن هذا الطريق، وجدت نفسي - وما أزال أجد نفسي - مشغوفا بالبحث شغفا شديدا. وكانت هذه المسائل من نوعين رئيسيين: النوع الأول منها مشكلات «تدور حول ما يكون الفيلسوف المعين قد قصد إليه بشيء قاله، فماذا عساه يعنى - على وجه الدقة - بهذه العبارة أو بتلك مما ورد في فلسفته؟ والنوع الثاني مشكلات تدور حول هذا السؤال: ماذا يسوغ لهذا الفيلسوف أو ذاك أن يصف هذه العبارة أو تلك من أقواله بأنها حق؟ أحسبني قد بذلت حياتي كلها محاولا حل مشكلات من هذين النوعين المذكورين».»
أعتقد أن هذه العبارة الهامة التي قالها مور ليصف بها عمله الفلسفي تكفيني - وتكفي كل كاتب يتصدى لوضع مور موضعه الصحيح من مجال النشاط الفلسفي - مئونة البحث الطويل؛ فهو لم يبحث في العالم ولا في أي جزء منه بحثا مباشرا. إنه لم يتورط في حكم يطلقه من عنده على الطبيعة أو ما وراء الطبيعة، أو على الإنسان فردا أو مجتمعا مع غيره، إنه لم يتورط في رأي خاص يدلي به في شئون السياسة أو الفن أو التاريخ مما ألفنا أن يتحدث فيه الفلاسفة الآخرون، كلا بل إنه لم يتورط في تحليل القضايا العلمية تحليلا مباشرا، بحيث يتناول ما يقوله العلماء - علماء الرياضة وعلماء الفيزياء بصفة خاصة - ليصب تحليله على ما هو وارد في أقوالهم من مفاهيم وأحكام، أعنى أنه لا هو قد واجه العالم الخارجي بظواهره مواجهة مباشرة وأدلي فيه برأي، ولا هو تراجع خطوة فوقف وراء العالم الذي يتصدى للعالم وظواهره بالبحث المباشر، بحيث جعل أقوال هذا العالم موضوعا لبحثه، بل إنه ترك مثل هذا التحليل - تحليل أقوال رجال العلم - لغيره من الفلاسفة، أما هو فقد وقف وراء هؤلاء الفلاسفة لينظر في معاني أقوالهم عن العلوم وعن العالم. فلو كان العالم هو الذي يصف العالم بقوانينه وصفا مباشرا، ثم لو كان فيلسوف العلم هو الذي يحلل ما يقوله العالم، فجورج مور هو فيلسوف الفلاسفة - كما يقال عنه أحيانا - لأنه يصب تحليلاته، لا على العالم وظواهره ولا على العلماء وقضاياهم ومفاهيمهم، بل يصبها على أقوال الفلاسفة باحثا عن معانيها التي قصد إليها أصحابها، حتى إذا ما اطمأن إلى أنه قد فهم المقصود راح يسأل إن كان عند الفيلسوف ما يبرر له الاعتقاد في صواب ما يقوله.
يتبين من هذا في جلاء أن كل ما يعمله «مور» هو «التحليل»، وليس هو أن يضيف حكما جديدا عن جانب من جوانب العالم، أو عن قضية من قضايا العلم. عمله هو التحليل من أجل فهم المعنى المقصود مما قد ورد على ألسنة الفلاسفة من قبله وفي عصره. فتراه يقرأ كتابا من الكتب الفلسفية القديمة أو المعاصرة ليقف عند فقرة أو عبارة أو كلمة، فيسأل عن معناها الذي يظنه المؤلف أمرا مفهوما مسلما به، فإذا هو أمام تعقيد وغموض يقتضيانه أن يمضي في عملية التحليل، حتى يزول التعقيد وينجلي الغموض، أو يصرح آخر الأمر أنه إزاء شيء غير مفهوم. وما أكثر ما يقول الفلاسفة أشياء يظنونها واضحة وما هي بواضحة حتى تحل وتشرح، ثم ما أكثر ما ينتهي التحليل والشرح إلى أن هؤلاء الفلاسفة إنما قالوا - في حقيقة الأمر - شيئا بغير معنى.
والأداة التحليلية التي يستخدمها مور هي محاولته دائما أن يجد بدل العبارة التي يتصدى لتحليلها عبارة أخرى تساويها معنى لكنها تكون أوضح منها؛ وذلك لأن العبارة الثانية من شأنها أن تبسط ما كان قد تركز في العبارة الأولى، ولهذا وجب أن تكون كلمات العبارة الثانية أكثر عددا من كلمات العبارة الأولى، رغم تساويهما في المعنى. وأبسط مثل نسوقه لذلك هو أن نحلل العبارة القائلة: «الحسن أخو الحسين» بقولنا: «إن الحسن والحسين اسمان أطلقا على ذكرين اشتركا في الوالدين اللذين أنسلاهما، فوالد أحدهما هو والد الآخر، ووالدة أحدهما هي والدة الآخر.»
5
ليست المشكلة عند مور هي ماذا نعرف؟ بل المشكلة هي: ماذا نعني بهذا الذي نقول إننا نعرفه؟ ذلك لأنه يركن في تحصيل المعرفة إلى الذوق الفطري - وهذه هي إحدى خصائصه المميزة - فالذوق الفطري، أو الإدراك الفطري، صادق فيما يهدينا إليه من صنوف المعرفة. ولو جاءك إدراكك الفطري بمعرفة، كأن تعرف مثلا أنك موجود وأنك ذو بدن وأنك تنتقل من مكان إلى مكان وهكذا، أقول إنه لو جاءك إدراكك الفطري بمعرفة كهذه ثم سألت: أهي معرفة صادقة؟ كنت في رأي مور تسأل سؤالا غير مشروع. ومع ذلك فما أكثر ما يسأل الفلاسفة أسئلة كهذه! أهذه المنضدة التي أمامي وهذه الورقة وهذا القلم في يدي موجودة حقا؟ هل أنا اليوم هو نفس الشخص الذي كنته بالأمس؟ هل أنا حر الإرادة في تحريك يدي حين أحركها بكتابة هذه الأسطر الآن؟ وإذا كنت موقنا بوجودي، فهل أوقن كذلك بوجود الأشخاص الآخرين، وبأن لهم مشاعر كمشاعري وخواطر كخواطري، وهكذا وهكذا. نعم ما أكثر ما سأل الفلاسفة أسئلة كهذه يريدون أن يستوثقوا بها إن كان إدراكهم الفطري قد صدقهم النبأ حين أنبأهم بهذه الأمور كلها. أما «مور» فموقفه آخر، وهو أن السؤال لا يكون عن صدق ما يجيء به الإدراك الفطري؛ لأن هذا الصدق لا ينبغي أن يكون موضع تساؤل، وإنما يكون السؤال عن تحليل المعرفة التي يجيء بها الإدراك الفطري لنلم بعناصرها فنفهم مقوماتها ومدلولها فهما صحيحا.
Unknown page