Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته، وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنونا وانتشاء، ثم لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين، ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ ما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع، واستخزى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس؟!
رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع، فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، ويعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت، وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضا من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى يومه سحر العام كله.
محمد أفندي ...!
قيل وما أكثر ما قيل: إن قلة الذوق في مجتمعاتنا مردها في الغالب إلى خلوها من المرأة، وإلى هذا أشار صاحب «الرسالة» في أكثر من مناسبة، وعنده أن الشباب إذا ازدانت مجتمعاتهم بالأوانس شدوا الشكيمة وكبحوا الجماح، وحرص كل امرئ منهم على أن يظهر على خير ما يحب من دماثة الخلق، ورقة الحاشية، ولطف الحديث.
ولكن منظاري - قاتله الله بل عافاه الله وصرف عنه كل غشاوة - يأبى إلا أن يكشف لي عن موقف لا تتحقق فيه هذه الفكرة بل لقد نقضت فيه من أصولها، وجاء الأمر على عكس ما تفاءل المتفائلون وتمنى الكاتبون.
كنت مسافرا إلى الريف الحبيب في قطار فالتقيت في ممر من ممراته بثلاثة من الشبان تقاربت أعمارهم، وكان كل منهم بادي العافية حسن البزة متهلل القسمات؛ ونادى أحدهم رابعا لهم كان في اتجاهي يسبقني بخطوات فقال له: أمامك في هذه العربة قبل الآخر بديوان تجد محمد أفندي إلا جانب الشباك الأيمن، وقد حجزنا أمكنة فانتظرنا هناك.
ودخل «رابعهم» هذا الديوان المشار إليه، وأحسست كأني أنجذب إلى هذا الديوان نفسه فدخلت واتخذت مكاني، ولكني لم أجد إلى جانب الشباك الأيمن غير آنسة أجنبية لم تقع عيني في نهاري كله على أجمل منها صورة وأملح منها محيا، وبدت لي في منتصف العقد الثالث من عمرها، كالوردة في زمن الورد بلغت أقصى تفتحها ومنتهى ريعانها.
وكانت متجهة ببصرها إلى النافذة، لا تلتفت إلا ريثما ترمق الداخل، ثم تعود فتتجه اتجاهها الأول، وكان على محياها الجميل ما يشبه الهم من فرط سكونها واحتشامها.
وتحرك القطار وجاء الشبان الثلاثة، وجلسوا في ضوضاء بعد أن نظر كل منهم إلى هيئته في المرآة، فأصلح ما تشعث منها، وتشاغلت عنهم بكتاب في يدي، ولكن منظاري لم يغفل عنهم، فرأيتهم يتخاطبون بالأحداق لحظة، وعلى فم كل منهم ابتسامة خبيثة، وكلهم يومئ لصاحبه برأسه نحو النافذة اليمني.
وقطع أحدهم فترة هذه الإشارات اللاسلكية بقوله: «محمد أفندي تقلان علينا يعني قوي.» وضحك الآخرون ضحكات ماجنة مائعة ... وفطنت أن محمد أفندي لم يكن غير تلك الآنسة التي تتجه بنظرها إلى الفضاء الممتد خارج القطار! وليغفر القارئ لي بطء فهمي إلى هذا الحد.
Unknown page