Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
وفيم تعجب وعنده أن التحية توجه إلى مقامه ممن هم دونه، إنما هي ضرب من عدم الاحتشام بين يديه، فهي لذلك ضرب من عدم اللياقة، أو هي جرأة تلحق بقلة الأدب عند بعضهم، وما أردت أنت إلا أن تكون مؤدبا، ولقد يصور له كبرياؤه وغروره أن ذلك منك تحد لذاته الخطيرة والعياذ بالله، وفي ذلك سر تجهمه وتعاظمه وكريه نظراته وتفسيره تأدبك بأنه قلة أدب، وكأني بك، أيها القارئ، تضحك مني وتقول في نفسك: إنما يصور بما يكتب ما وقع له، وأريد أن أكون صادقا، فأسلم لك بصحة هذا، ولكن قل لي بربك: ما ذنبي لتضحك مني يا أخي - سامحك الله - وأينا أجدر بضحكاتك، أنا أم ذلك المتعاظم المتكبر؟ ثم اعلم أني لم أغضب ولن أغضب لما يكون بيني وبين هؤلاء المتعاظمين، لم أغضب؛ لأن ما حدث هو ما كنت أتوقعه، بل إني لأضحك إذ أقع من ذلك على صورة لمنظاري، ثم إني لن أغضب؛ لأني أعرف كيف أكيل لهم بكيلهم متى أردت فأزيدهم غيظا وأزداد منهم ضحكا، ولو علمت الحق لرأيت أني دائما ألقاهم بالعصيان المدني، وهو سلاحي السلبي الوحيد الذي لا سبيل لي إلى غيره.
جمعني بفريق من هؤلاء مجلس من المجالس، أو قل: قادتني الظروف على رغمي إلى المجلس، فما كان لي أن أغشى مجالس أصحاب السلطان مختارا، فانتحيت ناحية وجلست، وقادت الظروف كذلك بعض أصدقائي ممن هم في مثل سني، وفي مثل مركزي الصغير، فحمدت الله وزال عني القلق، فلقد كنت أحس نفسي غريبا قبل مجيء هؤلاء الذين لا جاه لهم ولا سلطان، وانفرجت شفتاي لأول مرة منذ جلست أرد على تحيات هؤلاء الأصدقاء، فما وجه إلي أحد من أصحاب السلطان تحية تنفرج لها الشفاه، فلم تك ثمة إلا إيماءات متكلفة لاذعة قصيرة، أو إشارات باليد آلية لا روح فيها، اللهم خلا رجل منهم تلطف فجاد علي بتحية مناديا إياي باسمي، ولكن بعد أن فعل ذلك من هم على شاكلتي من الخلان.
وجلست صامتا أترقب وأنا أخفي ضحكي مما رأيت على وجوه أصحاب السلطان من معاني الازدراء عند دخول أصحابي، ولقد حياهم هؤلاء السذج في أصوات طلقة، وفي إشارات وانحناءات دمثة جميلة، فما عادوا إلا بإشارات وإيماءات أرستقراطية، فيها تعاظم أصحابها وسماجتهم وتناسيهم نشأتهم الأولى!
واستأنف أصحاب السلطان ما كانوا فيه من حديث، واحتدم النقاش بين هؤلاء السادة، فهذا يعترض على ذاك، وذاك يرى ما يرى جاره وثالث لا يرى الصواب في رأيه، وفي وجوه الجميع بشر أو تحمس أو ضحك من دعابة أو نكتة، يطرد من هاتيك الوجوه شبح الكهولة أو يستمهل الشيخوخة لحظات.
وبدا لأحد السذج من الرفاق - رفاقي أنا - فحشر نفسه في الحديث كما يفعل إذ يكلمني أو يكلم أحد أقرانه، فما أسرع ما بدت الدهشة على وجوه الجميع! ثم تغافلوا عنه بإطراقهم، وقطع عليه أحدهم كلامه فساق الحديث إلى رأي جديد، وذهبت كلمات المسكين هباء أو أقل من الهباء.
ثم تكلم شاب آخر لم يتعظ بما جرى لسالفه، فكان من أحب المناظر عندي - ولا أقول من أبغضها - أن أرى على وجوه أولئك السادة ذلك الاتفاق الذي لم يقصدوا إليه؛ لأنهم اعتادوه كلما تطفل على حديثهم العالي متطفل لم تصل بعد مداركه إليه، ولا هيأه مركزه حتى لمجرد الاستماع له، وهو اتفاق على المقاطعة أو الإغفال لأمر المتكلم، وأحسب أنهم لو نظروا ساعتئذ إلى ذلك الساذج الثاني لأخذتهم الشفقة لحمرة الخجل تتوقد في محياه، فما تقسو قلوبهم مهما بلغ من غلظها إلى حد أن يعرضوا عنه وهو على تلك الحال.
على أن اثنين منهما رمياه بنظرة ولكن بعد أن خفت في وجهه حمرة الخجل، ورأيتهما يزدريانه في صمت، فهو مرءوسهما في الديوان، ولا يجمل به أن يجرؤ مثل هذه الجرأة فيناقش رؤساءه، وكم أتمنى لو يتاح لي من البيان ما أصور به ما ارتسم على محياهما الكريمين من اشمئزاز، وكم يؤلمني ألا تسعفني الألفاظ بما أريد!
وأتى أحدهم بنكتة تصلح لأن تكون نكتة، ولكنه أتى بها لسوء حظه في ضجيج النقاش فلم يفطن إليها غيري فضحكت بصوت يسمع، فالتفت نحوي ضاحكا مسرورا، وصاحب النكتة يبحث دائما عن الضاحكين من نكتته ويسر إذ يجدهم ... على أن هذا ما لبث أن قطع ضحكته بغتة، كأنما أزعجه أن يتبادل وإياي الضحكات، ثم تكلف العبوس ونظر إلي، ولكني لم أقطع ضحكتي، فقد كانت هذه الحركة منه أدخل في معنى النكتة من عبارته وأدعى إلى الضحك.
وما يريد أصحاب السلطان ممن هم أصغر منهم إلا أن يتزلفوا إليهم، فينهضوا وقوفا إذا أقبل أحدهم ويشيعوه إذا انصرف، فإذا تقدم أحد هؤلاء الصغار ففتح باب السيارة حتى يركب «سعادة البك» أو حمل له معطفه حتى يلبسه، فذلك ما يكبر به في عين سعادته؛ ولذلك دخل كبير في قياس كفايته في علمه، وإن لم يكن لعمله صلة بما يعمل «الجرسونات» وكثيرا ما شهدت مثل هذا من وراء منظاري، والعجيب أنك ترى الرجل من هؤلاء يتصاغر، وينكمش كأنما يدخل بعضه في بعض إذا كان أمام من هم أكبر منه، وذلك بقدر ما يتعاظم وينتفخ إذا نظر إلى من هم دونه.
وبعد فقد أفهم أن أرى أصحاب السلطان في دواوينهم متعاظمين وإن عد ذلك مرذولا منهم أينما كانوا، فإن الرجل منهم يكون هناك في «منطقة نفوذه»، وما يذهب إليه في الغالب حيث مقر سلطانه إلا طالب حاجة عنده.
Unknown page