Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
وأشار أحد أصحابه إشارة خفية إلى تلك «الروح السامية» التي ألهمته أغانيه، فبدت على وجهه مثل أمارات الخجل وضحك ضحكة غريبة، ثم رمى صاحبه بنظرة غاضبة، كأنما خيل إليه أن ذلك الصديق يشك وجود تلك الروح، أو يظن أنها بعض ما يجوز أن يجري فيه الكلام في مجالس بني الطين، وما كان شعره فيها إلا صلوات قدسية تتنزل عليه من عليين، وهي كعبقريته، أمر لا يعلق به شك إلا في رءوس الجاحدين والهازلين.
وألح عليه صاحب آخر أن يطربنا ببعض ترانيمه، فتفرس في وجهي يتبين أأنا ممن تبدو عليهم مخايل الفطنة! أم أنا من الذين لا يفهمون ... ولعله كان أقرب إلى الأولى، إذ قد أخذ يسمعنا من شعره ... وأشهد لقد وقعت منه على كلام من السحر الحلال تتقطع دون بلاغته الأوهام ... ولكم وددت لو أني استطعت أن أحفظ شيئا منه، على أني أذكر من أوصافه ما لست أشك لو ذكرتها لك أنك ترى معي أنها آيات من الفن تقصر عنها بدائع ابن هانئ وروائع بشار، ويتخاذل دونها فن الطائي وسحر الوليد ومعجز أحمد وبدع ابن الرومي، وافتنان شيخ المعرة ... دع عنك شوقي وجيل شوقي ومن خلا من قبله في مصر، ومن خلف من بعده من الشعراء ... وليس يهمه أن الأغفال في هذا الجيل لم يفطنوا إلى أسلوبه ومعانيه، فليس عليه أن يفهم من لا يفهمون.
وإنه لينكر على شوقي ما توافى له من ذهاب الصيت، ويستكثر عليه لقبه الذي عرف به، ويعزو ذلك أيضا إلى غفلة هذا الجيل، وتتحرك في نفسه العبقرية، فيتساءل: ماذا يجد الإنسان لشوقي من الشعر الحق، ولقد كان كلامه مرثيات ومدائح لا روح فيما؟ ولعله لم يقرأ فيها أرى شعر شوقي، ولست أدري ، فلعل هذا كذلك سر من أسرار العبقرية. وتوسلنا إلى الشاعر أن يجود على الناس بنشر ما أسمعنا فرفض قائلا إنه يضيق بهؤلاء الناس حتى ليود ألا ينظم بعد اليوم بيتا من الشعر ... فتوسلنا إليه ألا يفعل حرصا على دولة الشعر، وإشفاقا على مكانة العربية.
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكى
المتعاظمون
هذا الفريق من بني آدم أو هذا الصنف كثير شائع، ولكني أقصر الحديث هنا على بعض أصحاب السلطان منهم؛ ولسوء حظك أو لسوء حظي أنا - على أقرب الرأيين إلى الصحة - أن يرى هؤلاء في كثير من المجالس، ولست بحاجة إلى منظار، بل ولا إلى عينين - لا قدر الله - لترى هؤلاء الناس، أو تحس سلطانهم إن صح عندهم أنهم ناس من الناس ... فهم يأبون إلا أن يكونوا فوق الناس.
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم وإن كانوا على رغم أنوفهم الشم ناسا يجري عليهم ما يجري على سائر الخلق، لا يؤمنون إلا بأنهم فوق مستوى البشر، وعسير عليك أشد العسر أن تقنعهم من بعيد أو من قريب بأن لهم مثلك يدين ورجلين وحواس، وما إليها من جوارح وأحشاء، وأنهم يأكلون كما تأكل، وإن لم يكن مما تأكل، وأنهم يشربون وينامون ويفرحون ويغضبون ويمرضون ويموتون، كما يجري عليك من أحكام الطبيعة سواء بسواء.
هذا الفريق الذي أتحدث عنهم هم أصحاب السلطان من أصحاب الديوان، ولعلك لم تنس بعد أحاديثي عن أصحاب الديوان، وإن كنت وقفت بك عند صغارهم لا خوفا من كبارهم علم الله، وما لي أقسم وهأنذا أعرضهم عليك جملة، وأحشرهم أمام المنظار في غير تهيب ولا رفق: ترى الشخص منهم - وهو شخص رضي أو لم يرض - في ردهة من ردهات دور للهو، أو في سيارة عامة، وإن لم تكن له سيارة خاصة، أو في عرض الطريق، فتحييه تأدبا منك وعملا بما يوجبه الذوق وتفرضه الإنسانية، فيدهشك أنه يبدو عليه كأنه يلقى منك إهانة؛ وإلا فما باله وقد كان منبسط الأسارير: يتجهم لك ويشمخ بأنفه ويرميك بنظرة كريهة كأنه يريد أن يخيفك في غير داع لذلك ولا مناسبة، ثم يرد تحيتك الحارة برفع سبابته قليلا تجاه رأسه العالي، أو بإيماءة بسيطة، ويمضي وكأنه لم يكن يرد تحية، وإنما كان يرد على توسل سائل بإلقاء مليمين في كفه المبسوطة!
ولقد تعجب لذلك، ولكن عجبك دليل بساطتك أو طيبة قلبك، والحق أني أريد أن أقول: دليل «عبطك» فاقبلها مني ولا تدعني أموه فأتحايل على الألفاظ، ولخير لك على أي حال أن تكون كما أذكر، وتكون لطيفا، من أن تكون فظا غليظ القلب، وإلا فلك الخيار، ولكن على شرط أن يتوافى لك السلطان قبل كل شيء.
Unknown page