Min Wara Minzar
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
وهو إذ يتكلم تراه يغمض عينه اليمنى ويفتحها، كأنما يتكلم بعينه وفمه معا، وتراه يصعر خده ولكنك لا ترى فيه أثر الكبرياء، وتسمع له نبرة هادئة، إذا أنت أضفت إليها حركة عينه ونحافة عنقه وسعة جبهته، ودقة ذقنه ونتوء وجنتيه، وذبول محياه، خيل إليك أنه شيخ يدلف إلى الستين.
وفارسنا هذا ظريف الحديث، له مقدرة عجيبة على تناول كل شيء مما يدور في المجلس، وله كذلك مقدرة عظيمة على خلق الألفة بينه وبين من يحيطون به، فتراه ولم يرهم إلا منذ دقائق، وكأنه يعرفهم منذ سنين، وهو طيب القلب يكاد يصل في ذلك إلى السذاجة، ولعل طيبة قلبه هي التي مكنته من عقد أواصر الألفة بينه وبين الناس، ثم إن فيه شيئا آخر لا أدري ما هو، يجعلني لا أتمالك نفسي من الضحك لكل ما يبدر منه من إشارة أو حديث، والحق أنه في مجموع شكله يدعو إلى نوع من الضحك، سمه ما شئت إلا أن تربطه بالسخرية بسبب من الأسباب.
ضمتني وإياه حلقة من الرفاق في مقهى، فسرعان ما ظهرت لنا ناحية من فروسيته، فلقد كان أحدنا يتلو صحيفة ونحن نستمع فجاء أحد الباعة وصرخ في حلقتنا صرخة وهو يعلن عما معه، فوثب إليه الفارس وعنفه في لهجة عجبت معها كيف صبر عليها ذلك البائع، وقد كان من الطول والعرض بحيث لو لطم صاحبنا لطمة ما استطعنا أن نقفه من التدحرج مجتمعين؛ وراح الفارس يسمعه درسا في الأدب، وكيف أنه يكون بغيضا بصوته الغليظ، فضلا عن قلة ذوقه، إذ هو يرى الجالسين منصتين إلى من يقرأ لهم، ثم يصرخ فيهم مثل هذه الصرخة المفزعة.
وانصرف الرجل وهو يبتسم، ولكنه لم يكد يبتعد حتى جاء ماسح الأحذية، فما انفك يدق صندوقه بممسحته دقا مزعجا وهو يردد في صوت أشد إزعاجا قوله: «بويه»، «ورنيش»، وشاء له سوء حظه أن يقف أمام الفارس، وينظر إلى حذائه ويدق له الصندوق، وإذ ذاك هب الفارس مغضبا وراح يرجه من كتفه ويقول له: لست بالأصم ولست أنت بالأعمى، وإذا كنت ترى حذائي أنظف من وجهك، ففيم هذا الزعيق البغيض؟ ومضى الرجل وهو يتمتم، ولست أدري مم خاف، ولعله ظن أن جرأة الفارس هذه على نحافته مردها إلى أن ما يحمل تحت إبطه شيء آخر غير آلة التصوير.
ومضى الفارس على هذا النحو يزجر باعة الصحف، وباعة اللب وباعة اليانصيب، إلى أن رأيناه يقفز إلى جماعة من أهل الريف على مقربة من حلقتنا، ولم نتبين أول الأمر ماذا ارتكبوا من ذنب، وقد كانوا خافتي الأصوات إلى أن سمعناه يقول لهم مغضبا: المجلس بكسر اللام هو الصحيح فلم تقولون: المجلس؟ هذا عيب يا ناس، أتموت لغتنا في بلادنا؟ واعتذر أحدهم مندهشا باسما، وعاد الفارس إلى موضعه حيث أخرج دفترا صغيرا وقلما، أظنه أضاف فيه هذا الخطأ إلى ما يضايقه من أخطاء.
ووثب الفارس إلى جماعة كانوا يلعبون النرد، ويضحكون في جلبة ويدقون الصندوق دقات عنيفة بأحجار اللعب، فعنفهم قائلا: ما ذنب الجالسين حتى يعذبوهم بهذا العجيج وهذا الضجيج ... ونظروا إليه وتخاطبوا بأحداقهم ورفع أحدهم سبابته إلى فوده خلسة، وهز الآخرون رءوسهم وتظاهروا بالطاعة، فما استدار الفارس حتى أخرج له أحدهم لسانه في حركة بين الضحك والغضب، وانطلقت ضحكاتهم ولكنهم قطعوها وأخرج الفارس دفتره وأخذ يكتب في غيظ.
ودنوت من الفارس وقلت له إنه يكلف نفسه شططا بما يفعل، فلامني بنظرة وقال: نحن المتعلمين مسئولون عن هذه العيوب الشائعة في المجتمع، ولو أننا حاربناها لما استشرت فيه على هذا النحو المنكر، وهكذا يأبى الفارس إلا أن يقاوم ما يرى من عيوب بيده ولسانه وقلبه جميعا، لا يقنع إلا بأقوى الإيمان، وهذه ناحية كما ترى يا قارئي العزيز من أهم نواحي فروسيته.
وكنا قد تواعدنا عند انصرافنا أن نشهد تمثيل رواية في أحد مسارح المدينة، وجاء المساء فالتقينا في المسرح، وجلس وسطنا الفارس، وسرعان ما اكتظ المكان على سعته؛ ورأيت الفارس قبل بدء التمثيل يدور بعينيه هنا وهناك، وهو لا يفتأ يتوثب في مكانه، ولا تني يده عن الكتابة في دفتره ما يكاد يرده إلى جيبه حتى يخرجه فيكتب، ثم يعيده ليخرجه، وكم وددت لو رأيت ما كتبه، وبلغ به الغيظ أن كان يحدث نفسه بين حين وحين قائلا: «شوف السافل ... شوف المنحط.» وما أشك أنه ما كان يحجم - لو أنه استطاع - أن يذهب إلى هؤلاء السفلة والمنحطين، الذين يراهم من حيث لا يرونه، فيذيقهم بأسه.
وراعنا أن نرى الفارس في فترة الاستراحة يحاول أن يقفز من فوق المقاعد، وهو يصيح بأحد الأفندنة على مقربة منه قائلا: «يا منحط، يا سافل يا وقح.» والأفندي يرد عليه تحياته بأحسن منها! ... وخفنا أن يفلت منا الفارس أثناء التمثيل، فظللنا ممسكين به، وكانت الرواية مضحكة، وكان ما يصنع الفارس الهمام أشد إثارة للضحك حتى لقد آثرته على التمثيل، وظل الناس جميعا يضحكون من القصة إلا فارسنا، فقد كان الدم يغلي في عروقه من الغيظ ، وهو يقول: «مثل هذا الوقح لا يليق به أن يحضر المجتمعات، ألا يرى أن من خلفة سيدات يجلسن؟ ... دعوني من فضلكم، أين البوليس، اتركوني أؤدب هذا السافل ...»
ورأينا ذلك الأفندي يلطم شابا من الباعة مر به لطمة على وجهه دوت في أرجاء القاعة، وتبينا أن ذنبه لم يعد أنه وطئ بقدمه الحافية على غير قصد نعل هذا الأفندي ولم يعتذر، وانهال الأفندي على البائع المسكين وشد شعر رأسه في عنف حتى لوى عنقه، وجعله يصرخ مستغيثا، ولا تسل عن الفارس فقد أخذ يحاول الإفلات منا بكل ما في وسعه، وهو يعض على يديه من الغيظ.
Unknown page