Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
55

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

كان لكل زنزانة اسم خاص حصلت عليه من السجناء على سبيل المزاح والطرفة التي لم تعدم عندهم أبدا في أي لحظة حتى في أشد الظروف قساوة.

زنزانتي الأولى التي سكنت فيها في المحجر تسمى «عباد الرحمن»، وليس لهذه التسمية من سبب ديني كما يبدو للوهلة الأولى، إنما سكان هذه الزنزانة كانوا مرضى جدا ويمشون بتؤدة بالغة بسبب وضعهم الصحي الحرج، وبعضهم قد فارق الحياة لشدة مرضه. اقتبس أحد الظرفاء من آية قرآنية تقول:

وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا

وصفا لطريقة سيرهم. وتلقف الآخرون الفكرة المضحكة وأصبحت تسمية شائعة تطلق على هذه الزنزانة.

الزنزانة الوسطى تسمى «بوليفيا»، ليس لأن فيها أحراشا ولا لأن سكنتها من أمريكا اللاتينية، بل لأنها كانت تشهد تغييرا في موقع المراقب بصورة سريعة، بحيث كانت تنام على اسم مراقب وتصحو على آخر بحركة مفاجئة غير مفهومة، في وقتها كانت بوليفيا تشهد موجة انقلابات كثيرة فأطلق على هذه الزنزانة هذا الاسم لتشابه الأحوال بينهما.

الزنزانة الثالثة تسمى «لبنان»، السجن في الصيف حار جدا لانعدامه من فتحات التهوية وخلوه من أي وسيلة للتبريد، إلا هذه الزنزانة بالذات تقع قرب ممر به مبردة هواء كبيرة مما أتاح لها التمتع بنسيم بارد يتسلل إليها من تلك المبردة، فيما الزنزانات الأخرى محرومة منه. السجناء اعتبروها منتجعا باردا ذا جو معتدل يصلح أن يكون مصيفا كما كان يفعل من يريد السياحة بزيارة ربوع لبنان ومصائفها في موسم العطلة الصيفية.

الزنزانات الصغيرة كانت محاجر انفرادية ليس لها تميز؛ لذا لم تحظ بأسماء خاصة، إلا الزنزانة المخبأ، الخالية من الضوء وفتحة التهوية، سميت «الكهف» لأنها تختلف في كل شيء حتى إنها بلا قضبان، مقدمتها باب حديدي يشبه باب مخزن أو هو كذلك بالفعل.

المكان كله يسمى «المحجر» اشتقاقا من كلمة زنزانة الحجر الصحي، وكان متميزا جدا في السجن، ليس لأن سكانه مرضى بالسل وحسب، بل لأنه كان آمنا من مراقبة رجال الأمن؛ لأنهم يخشون العدوى ويتجنبون الدخول إليه أو التقرب من نزلائه السجناء. وهذه نقطة ضعف حرص السجناء على تعزيزها عند كل رجل أمن يشرف على القسم ويحاول الدخول إليه. في الحقيقة كان المكان مقرفا برائحته لكننا تشبعنا بها ولم نعد نميزها. أذكر مرة حاول رجل أمن أن يبدي أمام رفاقه شجاعة وجسارة محاولا اقتحام المكان، لكنه ما إن دخل مترين أو ثلاثة، حتى خرج راكضا، وما إن وصل الباب تقيأ كل ما في معدته مستفرغا ما فيها. لم يصبر على عفونة المكان ولو لثوان قليلة. الحادث كان مبعث سرور لنا؛ إذ إننا نلنا به مزيدا من الحصانة والأمان، خصوصا أن الحادثة جرت على مرأى ومسمع من رفاقه الذين رأينا بعضهم بالكاد يمسك نفسه عن التقيؤ، وهم يقفلون باب القسم بسرعة ويهرولون هاربين من جحيمه.

هذا الأمان النسبي جعل سجناء عديدين يخاطرون بالوصول إليه مدعين الإصابة بمرض التدرن، تخلصا من وشاية الخونة ومراقبة رجال الأمن ومن التعذيب شبه اليومي النمطي الذي كان مستمرا في الأقسام الأخرى. وبالفعل نجح أكثر من واحد منهم بالوصول إلى المحجر بهذه الحيلة.

وجود ممر مفتوح على مدار الساعة سمح للبعض أن ينام فيه مما خفف شدة الزحام في الزنزانات، كما أن الأبواب المفتوحة تعني حرية لا بأس بها من الحركة مما سمح للبعض بالمشي نهارا في هذا الممر القصير. أما عدد السجناء فيه فكان يعتبر جيدا قياسا إلى أعداد السجناء في الأقسام الأخرى، على الرغم من أن عددنا بلغ مائة وثمانية وستين شخصا، في حقيقة الأمر كان مكانا مكتظا جدا خصوصا مع وجود كثير من المرضى فيه إلا أنه - ورغم كل ذلك - يعد مكانا أفضل من الأقسام الأخرى.

Unknown page