Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
بقامة متوسطة ووجه يتراوح بين استدارة قليلة واستطالة تعلوه سمرة حنطية مشوبة بخوف ووجوم كثير، يلتف عليه شعر أسود فاحم ينسدل بنعومة إلى حد الكتفين تقريبا أو يتجاوزه قليلا، هو كل ما بقي في الذاكرة من نظرة متلصصة طويلة سرقتها من كوة الزنزانة وهم يقتادونها إلى غرفة التعذيب. عرفنا فيما بعد من كلام بعض الحراس الأمنيين الذين عقدنا معهم صداقات دردشة بسبب طول الإقامة كيف أنها عذبت مثلنا تماما. رواياتهم كانت تؤيدها الصرخات المرعبة وهي تشق سكون الليل من على بعد عدة طوابق، تصدع أركان قلوبنا، وننصت لها خاشعين لا ننبس ببنت شفة حين تنزل علينا كالصاعقة. نغيب في الصمت كأنما الطير يقف على رءوسنا وتتجمد مآقينا حتى عن ذرف الدموع، كل شيء يصبح باردا كالموت لا نجسر على النظر إلا إلى أسفل، إلى ما تحت أقدامنا حيث يسكن الذل والهوان.
تتوسل صرخاتها رحمة ورأفة من قلوبهم الأقسى في صلابتها من كل الجدران التي حبست فيها، ومرة أخرى كانت تنادي السماء أن تغيثها وتفك كربتها، الصمم أصاب الكون كله حتى نحن كنا نحاول أن نحشو آذاننا بالصمت بإغماض عيوننا وإخراس ألسنتنا. العجز والعار كان يطوف فوق رءوسنا يظللنا بكومة من سحابه الثقيل من الدهشة لما يجري بإحساس هائل من ضياع وعدم وخواء كامل، خواء لو قرعت فيه كل طبول الاحتجاج لن يسمع لها صوت فيه ولا صدى. مشاعر غطسنا فيها وانتحرت على عتبتها خرافة أخرى من الخرافات التي كنا نأمل أن يكون لبعضها - وليس لكلها - أي نصيب من الصحة أو حظ من الحقيقة. لو كان لذرة رمل تطيح بها رياح خمسينية أي أمل في الثبات بين الكثبان، لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذ فرصة للنجاة بعد هذه الحادثة المروعة.
حرائر وأعراض ماجدات وقبيلة تفخر بسكانها ولو كانوا يملئون المقابر، وحضارة سبعة آلاف عام، ودين سماحة وعفة وشيمة وغض الأبصار، وعروبة وسخافات كثيرة أخرى كلها انتحرت؛ لأني لست جريئا بما فيه الكفاية للقول إنها لم تكن حية في يوم من الأيام لتموت الآن، إنها أساطير لا أصل لها سوى أوهام كبرياء أجوف. وطن يعشق وأد الحرية ويقتل كل من قرر أن يختار إنسانيته باسم أشياء كثيرة؛ دين، شرف ومبادئ الحزب والثورة.
صديقتي التي لم أتعرف عليك ولم ألمح من صورتك ولا قوامك إلا النزر اليسير، لكنه كان كافيا لأن ينقش في ذاكرتي أبدا كما ينقش على الحجر. صديقتي التي لم أرك تسيرين على أرض بلدي إلا وأنت مكبلة بالقيود تحيط بك ذئاب مفترسة جائعة شرهة لشرب دم الضحايا، أقول لك ولكل صديقاتك اللواتي سمعنا بقصصهن كثيرا: إن شرفك وعفتك هي عشقك للحرية الذي صارعت به الوحوش الكاسرة، وبه انتصرت عليهم، أنت ما زلت خالدة في قلب وعقل كل من مررت به ويفخر بمعرفتك حين يذكرك أو ساعة يروي قصتك، أما هم فيكفيهم من العار أنهم لا يجرءون على ذكر أفعالهم معك ويشعرون بالحرج من قصتك، أراهن على ذلك، إنهم يخشون ذكرك ولو كانوا يضطجعون في مخادعهم مع زوجاتهم، فهل هناك عار يلصق بهم أكثر من هذا العار؟!
13
دلف إلينا في نهار شتوي بجسم ضئيل وذقن كث وسذاجة مفرطة تغذيها براءته، وبلغة غريبة عن مسامعنا كما هو دينه مجهول التفاصيل من قبل كثير من الناس ونحن منهم إلا بعنوانه العام. ما إن أخذ وقته حتى راح يحدثنا بحماسة عن أجداده العظام وعن حدة سيوفهم ورهافة نصالها التي حصدوا بها الأعداء، كما يحصد هو سنابل القمح في أرض الجزيرة. كان يحفظ أسماء سبعة أجداد بالترتيب لأحد أبطال حكاياته، وعندما كنا نسأله عن أسماء أجداده، لم يكن بوسعه تجاوز ما هو أبعد من جده الثاني إلا بمشقة وعناء، ويبقى مترددا كثيرا في تأكيد صحة جوابه إن تعدى جده الثالث، بل يعتذر عن الوصول إليه ويقر بجهله.
كان الرجل يعيش في ماض موهوم، يجهل حاضره ويتمسك بأساطير وخيالات ينسبها للدين. يظن بل يجزم أنها حقيقة لا ريب فيها ويحسب أنها محض خير وومضة جمال لن يجود الزمان بمثلها، أما الذي سوف يجري بالغد له ولأطفاله ولأجيال لاحقة لهم، فكانت عنده قصة مفككة تشظت أجزاؤها، لا تماسك فيها ولا تكامل ألبتة. كان الرجل بما يختزنه من بساطة ووضوح في مشاعره وأحاسيسه نموذجا لنوع ليس بغريب عن بيئتنا من قبل ولا من بعد، بل هو النوع الأكثر شيوعا ويمثل في طريقة تفكيره ومعيشته ومعتقداته نوعا يتجسد بمظاهر شتى ولكن بجوهر واحد. جوهر لمشكلة حقيقية وعقبة كأداء لا يقوى الكثير على ارتقائها. نموذج يخال الأوهام التي يحملها بظلمتها والتي يعيش فيها سقف العالم والمعرفة، وما من شيء بعده إلا الهلاك والخراب والضياع وغضب الآلهة والسماء التي تحتويها. والواقع أن البقاء فيها هو الهلاك الحقيقي لا في مغادرتها. أما متى سوف يجرؤ على اقتحام ممنوعاته فلا أحد يدري، لكنه إن عاجلا أو آجلا فسوف يدرك أي ذنب ارتكب بحق نفسه وسيكون على الأغلب قد فات الأوان لإصلاح ما أفسده الزمان.
إلا أن حكايات الرجل القصيرة في سردها، الغريبة في أحداثها والمعجزات الخيالية التي تجترحها شخصياتها الأسطورية، كسرت بعضا من جمود الحياة التي نعيشها وأحدثت خللا في الروتين المهيمن علينا لطرافتها. كان الرجل طيبا جدا إلى حد الإفراط، لم يلامس جسده ماء؛ لا بارد ولا دافئ منذ دهر بعيد لأمر من وحي دينه الغريب. كان يحمل مع طيبته المبالغ بها رائحة أيضا بالغ فيها جدا وأضحت بمنسوب يبعث على الغثيان. وهكذا يفعل إرث العقيدة الفاسدة بالإنسان إن أخذها بلا تعقل وسار بها وراء القطيع واتبع بها من اتبع بلا نظر ولا تدبر، أو أسلم نفسه لأصنام ادعى زيفا أنها ظلال لإله يحتجب وراءها.
ومع أنا كنا نستحم بطريقة مضحكة وتفوح من أجسادنا هي الأخرى رائحة ثقيلة، إلا أنا لم نستطع - رغم ذلك - تحمل رائحته التي كانت عفونة حقيقية، وكان علينا أن نفكر بطريقة للتخلص من هذا المأزق. الأغطية القليلة نتقاسمها بحرج في المنام وإن كنا حصلنا على بطانيات إضافية قبل فترة قصيرة، إلا أن ذلك لم يغير من حقيقة أن يكون شخصان تحت بطانية واحدة هو ذروة في الرفاهية التي ننعم بها عندما يتقلص عددنا في الزنزانة، أما الوضع الطبيعي أن يكون العدد أكثر من ذلك مع أن حجم بعضها مخصص لشخص واحد فقط، فسؤال ملح صار يتردد الآن: من ذا الذي يقدر على مشاركته بلحاف واحد؟ بسبب رائحته، وعذر إضافي تعلل آخرون به لمعتقد ديني خاص بهم، انتهى بنا النقاش إلى قرار عدم محاولة تجربة مساكنة الرجل ولا حتى لليلة واحدة.
كان قرارا صعبا أن يعطى لوحده مستقلا بطانية مع قلة عددها وكثرتنا. وكان علينا أن نتحمل جرعة إضافية من البرد وضيقا في المنام. وهذه هي ضريبة قرار التعالي أو الاشمئزاز. هكذا يكون مجرى الأمور كلما رفض خيار تزداد الحياة مع هذا الاستثناء مشقة وصعوبة؛ فالانتقاء والانتخاب له محصلة تتبعه وليس من العدل للتذمر وإلقاء اللوم على غيره.
Unknown page