Min Naql Ila Ibdac Tanzir
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
Genres
وكثيرا ما يستعمل ابن رشد ألفاظا عامة لوصف أقاويل الغزالي بالشناعة والركاكة والسخف والتهافت. ولا يقرأ التشهير إلا الجمهور. وهو محرم عليه الاشتغال بالفلسفة. ولا يكترث به العلماء الذين لا يدركون إلا البرهان. ومن يصرح بالحكمة للجمهور كمن يدس السموم في الأغذية. أقاويل الغزالي كلها شناعة وتشويش للمعلوم وإخراج له إلى غير أهله، تمويه وتهافت، زلل من العلماء يطلب ابن رشد مسامحتهم عليه، إبقاء لحسن الذكر، وعدم حجب الدنيا للآخرة، وعدم شراء الأعلى بالأدنى.
وكثير من تشبيهاته باطلة، وعلله كاذبة، وكلامه مخيل. كلها خرافات وأقاويل ضعيفة من أقاويل المتكلمين، هذيان وكلام مختل قد يكون مقنعا للجمهور ولكنه غير صحيح لأهل البرهان. يشبه علم الخالق بعلم الإنسان ويقيس عليه. عيب أبي حامد طلب الدنيا باسم الآخرة. والسعي إلى السلطة باسم العلم، وكأنه لا بد أن يتوب عن مواقفه اللادينية واللاشرعية واللاأخلاقية.
113
أما من ناحية الموضوع فإن خطأ الفلاسفة لا يستوجب كل هذا الهجوم عليهم والتشنيع بهم بل النصح لهم وحوارهم دون تشهير. يكفيهم فخرا وضع المنطق وإخراجه من كتاب الله كما فعل ابن حزم. كما أن الغزالي يستعمله في الرد على إلهيات الفلاسفة. ولا أحد معصوم في الإلهيات. العصمة للأنبياء وحدهم لعصمة الله لهم. وقد تعني أزلية العالم أو أبديته التاريخ المستمر والخلود في التاريخ والزمان ضد ثنائية الله والعالم عند الأشعرية واستردادا للروح في التاريخ. فالعالم باق كتاريخ قبل الإنسان وبعده، وأن ما يبقى هو فعل الإنسان فيه. وقد يعني إنكار علم الله بالجزئيات أنه لا يعلمها عدا وإحصاء بل يعلم بالقوانين الكلية التي تنتظمها. معرفة القانون هي معرفة بتحققاتها معرفة قبلية مما يقوي فينا المعرفة الشاملة. وقد يعني إنكار حشر الأجساد تأويلا للخلود المعنوي الفكري، خلود الآثار الباقية والأفعال العظمى في الروح وفي التاريخ، توسيعا للمفهوم البدني الفردي إلى المعنى الروحي العام. وقد يعني إثبات قوانين الطبيعة وإنكار المعجزات تأكيدا على دور الإنسان في فهمها وتسخيرها له وثقته بالفعل وبالعلم، ولا تتناسب المسائل العشرون من الناحية الكمية. فأطولها الأولى ثم الثالثة عن قدم العالم ثم الرابعة عشر.
114
ويظهر ابن رشد القاضي في الفصل بين الخصمين والتحقق من صدق القولين إما بين المتكلمين أو بين المتكلمين والفلاسفة. فبالرغم من عدم دفاعه عن المعاد الروحاني إلا أنه لا يستبعده، ولا يكفر القائلين به. وبالرغم من أنه لم ينكر حشر الأجساد إلا أنه لم يدافع عنه، واعتمد على حجة التاريخ والأديان والشرائع إقرارا بواقع وما اتفق عليه العقلاء. يطلب الحق مع أهله، ويستغفر لأبي حامد، ورجل واحد خير من ألف، مستشهدا بجالينوس، بشرط أن يكون من أهل الصناعة. يعطي الغزالي بعض الحق ويتهم الفلاسفة أحيانا للتقريب بين الاثنين. فلا أحد يمتلك الصواب المطلق، ولا أحد يمتلك الحقيقة كلها، ولا أحد على حق والآخر على باطل طول الوقت. يعطي ابن رشد بعض الحق لكل من الفريقين وعدم تخطئة واحد منهما على طول الخط. لا يخطئ ابن رشد أبا حامد في كل شيء وإلا كان قاضيا متحاملا ضده ومنحازا إلى الفلاسفة. ويتفق مع بعض معانداته ضد الفلسفة لأن معانداته صحيحة. يريد ابن رشد معرفة الحق ومرتبة الفلاسفة، وأبو حامد منهم. فالحق هو المقصود الأول في «تهافت التهافت» وليس الانحياز إلى أحد الخصمين. على عكس الغزالي الذي يعترف بأن قصده ليس معرفة الحق بل إبطال أقاويل الفلاسفة. فهو متعصب متحيز غير علمي، فقيه السلطان، بالرغم من أنه عالم كبير، مشهور نبيه، يحظى باحترام الناس. استفاد علمه من كتب الفلاسفة ثم انقلب عليهم. لا يتفق مع العلماء بل مع الأشرار. في حين اجتهد الفلاسفة وبذلوا الوسع وارتياض العقل حتى ولو أخطئوا. تكفيهم صناعة المنطق ويشكرون عليه. وشناعات المتكلمين أكثر من شناعات الفلاسفة. ومن عمل الحكيم ذكر شناعات كل فريق وطلب الحجج من الخصمين وإلا انحاز كما فعل أبو حامد. ويبين ابن رشد الدوافع التي حركت المتكلمين إلى اعتقاداتهم في المبدأ الأول وفي سائر الموجودات، والشكوك التي طرأت لهم، ومبلغ حكمتهم من أجل معرفة الحق والفصل بين المتخاصمين. وينتهى ابن رشد إلى حكم القاضي النهائي، وهو تساوي أقوال المتكلمين مع الفلاسفة من حيث الحق ومن حيث الظن وليس أحدهما أولى من الآخر بالظن أو اليقين.
115
ومعظم موضوعات «تهافت التهافت » صورية يسميها ابن رشد جدلية سوفسطائية وليست برهانية، ولم تعد بذي دلالة الآن، على عكس «فصل المقال» و«مناهج الأدلة»، نوع أدبي مستقل، يحفر ويوصل ويدقق ويمحص على درجة عالية من التراكم الفلسفي، بالرغم من تقطيع الحجج مما يؤدي إلى ضياع الموضوع. كان ابن رشد في تفسير ما بعد الطبيعة أوضح، بفصل النص عن الشرح توجها من الخارج إلى الداخل، ومن التبعية إلى الاستقلال، من سلطة أرسطو إلى سلطة الأشعرية ثم من السلطة إلى العقل. ويظهر أبو حامد في أول الفقرة وفي وسطها مما يصعب بعدها معرفة من قال ماذا.
116
وبالرغم من صورية الطابع إلا أن ابن رشد لا ينسى القارئ واشتراكه معه في الحكم بين أبي حامد والفلاسفة والدعوة إليه. بل ويحتكم إليه ابن رشد ويلجأ إلى فطرته السليمة إن كان من أهل الفطرة المعدة لقبول العلوم، ومن أهل الثبات أي اليقين والفراغ أي حب المعرفة لذاتها، من أهل النقل والعقل، من أجل الوقوف على ما في كتب الفلاسفة من حق أو باطل أو أن يلجأ إلى ظاهر الشرع إن لم يكن من أهل الحكمة. أما الذي لا ينتسب إلى أهل الشرع أو إلى أهل الحكمة فهؤلاء هم الذين يخاطبهم الغزالي للتشنيع على الفلاسفة، أهل الشرع والحكمة. وبالتالي يجمع ابن رشد بين الظاهرية للعامة والباطنية الخاصة. ويشرك ابن رشد القارئ في الحكم على ادعاء كل فريق أن ما يقوله هو الحق بنفسه بالرغم من نقصان الأدلة. ويطالبه باستفتاء قلبه، واللجوء إلى ضميره، ويدعو له بأن يكون من أهل الحقيقة واليقين. يشركه معه في ضرورة تحويل الحجج الإقناعية إلى حجج برهانية. والبرهان أشبه بالصناعة العملية التي يمكن تعلمها لأن البرهان عمل الفكر، وصناعة الذهن. ولما كانت الأقاويل غير البرهانية تأتي بغير صناعة ظن الناس أن الأقاويل البرهانية كذلك. وقد استعمل «التهافت» أقاويل غير برهانية أي غير صناعية من أجل بيان «تهافت التهافت».
Unknown page