الإهداء
الفصل الأول: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد
أولا: جابر بن حيان، القوهي، ابن سهل، بازبار الفاطمي
ثانيا: ابن الهيثم، البيروني، ابن سينا، علي بن رضوان، ناصر خسرو
ثالثا: ابن باجه، ابن طفيل
رابعا: ابن رشد
خامسا: ابن غيلان، الخازن، القلانسي، الجزري، الفارسي، الكاتب، التيفاشي، الطوسي، شيخ الربوة
سادسا: الكاشي، الشعراني، الصبيري، الداماد، المراكشي، ومؤلف مجهول
سابعا: صدر الدين الشيرازي
ثامنا: الأزرق، الذهبي، القزويني، الدميري، أطفيش، الطباطبائي
الفصل الثاني: تنظير الموروث
أولا: الخصائص العامة للفكر الشيعي
ثانيا: حضور الموروث وغياب الوافد
ثالثا: آليات الإبداع
رابعا: من علم العقائد إلى تاريخ الأديان
خامسا: من تاريخ الأديان إلى فلسفة التاريخ
سادسا: من الفكر الشيعي إلى الفكر السني
الفصل الثالث: الإبداع الخالص
أولا: تجليات الإبداع
ثانيا: الإبداع المنطقي
ثالثا: الإبداع الفلسفي
رابعا: الإبداع الرياضي
خامسا: الإبداع العلمي
الإهداء
الفصل الأول: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد
أولا: جابر بن حيان، القوهي، ابن سهل، بازبار الفاطمي
ثانيا: ابن الهيثم، البيروني، ابن سينا، علي بن رضوان، ناصر خسرو
ثالثا: ابن باجه، ابن طفيل
رابعا: ابن رشد
خامسا: ابن غيلان، الخازن، القلانسي، الجزري، الفارسي، الكاتب، التيفاشي، الطوسي، شيخ الربوة
سادسا: الكاشي، الشعراني، الصبيري، الداماد، المراكشي، ومؤلف مجهول
سابعا: صدر الدين الشيرازي
ثامنا: الأزرق، الذهبي، القزويني، الدميري، أطفيش، الطباطبائي
الفصل الثاني: تنظير الموروث
أولا: الخصائص العامة للفكر الشيعي
ثانيا: حضور الموروث وغياب الوافد
ثالثا: آليات الإبداع
رابعا: من علم العقائد إلى تاريخ الأديان
خامسا: من تاريخ الأديان إلى فلسفة التاريخ
سادسا: من الفكر الشيعي إلى الفكر السني
الفصل الثالث: الإبداع الخالص
أولا: تجليات الإبداع
ثانيا: الإبداع المنطقي
ثالثا: الإبداع الفلسفي
رابعا: الإبداع الرياضي
خامسا: الإبداع العلمي
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (3) التراكم
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (3) التراكم
تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد
أولا: جابر بن حيان ، القوهي، ابن سهل، بازبار الفاطمي
بعد أن بدأ التأليف في ثلاثة أنواع أدبية ابتداء من «تمثل الوافد» حيث كان التعامل مع الخارج وحده وانتقالا إلى «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» حيث كان التعامل مع الخارج والداخل ولكن ما زالت الأولوية للخارج، ونهاية في «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» حيث تساوى الخارج والداخل؛ بدأ التأليف نفسه يتحول إلى تراكم فلسفي عندما ينتهي المكونان الرئيسيان للتأليف الوافد والموروث، الخارج والداخل كمصدرين خارجيين للوعي الفلسفي ويصبحان مصدرين داخليين. فيصبح الوافد موروثا في نهايته بعد أن كان وافدا في بدايته، ويحدث الموروث تراكما داخليا بنقد الداخل بعضه لبعض. الفرق بين التأليف والتراكم أن التأليف يتعامل مع مكونين خارجيين عن الوعي الفلسفي، الموروث والوافد أي الخارج والداخل في حين أن التراكم يتعامل مع مكونين داخليين في الوعي الفلسفي بعد أن أصبح الوافد موروثا عبر الأجيال، وأصبح الموروث ناقدا نفسه بنفسه ومتعاليا بذاته على ذاته بعد خبرة فلسفية طويلة من الكلام إلى الفلسفة، من الفكر الديني إلى الفكر الفلسفي، من الجدل إلى البرهان. يعني هذا النوع الأدبي الرابع «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» بداية التحول من الوافد إلى الموروث بعد أن تم تمثل الوافد واحتواؤه داخل الموروث، في مقابل النوع الثاني «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث». وما النوع الثالث «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» إلا حلقة متوسطة بين النوعين، وممر من النوع الثاني إلى النوع الرابع. الوافد هو المؤقت والموروث هو الدائم. الوافد هو الوسيلة والموروث هو الغاية. الوافد هو المحوي والموروث هو الحاوي. وقد بدأ هذا النوع في مرحلة متقدمة للغاية، منذ القرن الثاني في عصر الترجمة، واستمر حتى القرن الحادي عشر. ومن الطبيعي أن يظهر مبكرا نظرا لقلة الموروث وانتشاره وضعف جذبه وحضوره. يبدأ التراكم الفلسفي بهذا النوع الأدبي الرابع «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» حيث تبدأ الأولوية للداخل على الخارج، وللذات على الغير، وللأنا على الآخر بعد أن اكتسب الوعي خبرات فلسفية كافية وامتلك من علوم الوسائل ما تجعله قادرا على التوجه أكثر فأكثر نحو علوم الغايات. ثم يزداد التراكم شيئا فشيئا فيظهر النوع الأدبي الخامس «تنظير الموروث» حيث يختفي الوافد كلية ويعتمد التأليف الفلسفي على الداخل وحده، انتهى دور الوسيلة وظهرت الغاية تنظر نفسها بنفسها، وفي النهاية يظهر النوع الأدبي السادس «الإبداع الخالص» بفعل التأمل الذاتي واعتماد العقل على ذاته متحدا بموضوعه واستغناء عن المكونات الخارجية نهائيا، الوافد والموروث، والموروث التراكمي بعد تحولها عضويا وذوبانها نهائيا في الوعي الفلسفي التاريخي. (1) جابر بن حيان
مثال هذا النوع الأدبي الأول في «التراكم الفلسفي» وهو «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» «تدبير الإكسير الأعظم» لجابر بن حيان (200ه).
1
وهي أربع عشرة رسالة في صنعة الكيمياء. وهي دائرة معارف تمثل ثقافة العصر مثل رسائل الإخوان بعد ذلك بقرن. والإكسير الأعظم هو جوهر الفلاسفة القادر على تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. فلا شيء يستعصي على صنعة الكيمياء. ولفظ التدبير يعني العناية والتسخير لقوانين الطبيعة. وقد بلغت وفرة إنتاجه إلى حد اعتبار جزء منها منحولا أو إنكار وجود جابر تاريخيا.
2
فالعبقرية تتجاوز حدود التاريخ مثل هوميروس والإسكندر والمسيح وامرئ القيس. والعلم جزء من الحكمة. والحكمة صنعة تجمع بين النظر والعمل. والعلم الطبيعي علم لدني يدونه صاحبه كي يفهمه القارئ حتى اختلطت لغة العلم بلغة السحر مثل الرازي في «الطب الروحاني»، والسهروردي في «حكمة الإشراق». كل ذلك قبل الحديث عن الحجر طبقا لوعي منهجي أكد أولوية الحكمة على الصنعة.
3
ويحيل جابر إلى عشرات من أعماله السابقة مما يبين وحدة مشروعه العلمي.
4
واللغة مدخل لكل العلوم، فالعلم مصطلحات وألفاظ. اللغة مدخل إلى الشيء.
5
وتكثر العبارات التي تصف مسار الفكر والتعريف بالغرض من كل كتاب وتصحيح مسار الفكر الشعبي. ويظهر أسلوب المتكلم المفرد أو الجمع مما يدل على أن العلم تجربة ذاتية، وليس نقلا عن غائب مجهول ومعلوم.
6
وأفعال القول من إضافة الناسخ وليست من المؤلف.
7
والعمل مشترك بين المؤلف والقارئ من أجل تعليم القارئ الصنعة وتدبيره عليها.
8
وتمثل الوافد أقل من تنظير الموروث. يتصدر الوافد سقراط وأمورش ثم آريوس وأندريا وفوثاغوراس ومارية وأفلاطون.
9
يستأنف جابر التراث العلمي من المتقدمين إلى المتأخرين. ولا يهم الوافد التاريخي، فهوميروس كيميائي مصدر للعجائب. والحكماء هم الذين أسسوا التدبير واحدا تلو الآخر.
وتنظير الموروث أكثر من تمثل الوافد فقد كان جابر من تلاميذ جعفر الصادق، فهو من علماء الشيعة. لا فرق في صنعة الكيمياء بين العلم والدين، بين الطبيعة والوحي. توحي عناوين الرسائل بالحكمة الباطنية وبعضها بمصطلحات الشيعة مثل الباب، العهد، الأسرار، الأركان، الفصول.
10
ولفظ عنوان الرسالة الأولى يدل على العلم والدين معا. ويتصدر القرآن الكريم الموروث كله.
11
وبطبيعة الحال من الأسماء يتصدر محمد النبي ثم آل محمد ثم جعفر الصادق (سيدي) ثم جابر ثم أصحاب محمد ثم ابن أميل وعلي بن يقطين.
12
ومن أسماء الفرق يتصدر أصحاب الطبائع ثم أصحاب الأفلاك ثم أصحاب البروج ثم أصحاب الحق وأصحاب الكواكب.
13
وتظهر البيئة المحلية مثل أهل الهند والسند والمغرب ومصر واليمن لوصف اختلاف الأسماء.
14
وتظهر العبارات الإيمانية البسملات والحمدلات على نحو زائد. العلم موجب من الله إلهاما، خاصة منه بناء على شهوة صناعة الفلسفة، ومستمدا من صفوة النبي (جعفر الصادق)، مما يوحي بجو شيعي مغال في الروحانيات، الروح في العالم، ومعرفة أسرار الطبيعة لمزيد من القوة. وكل شيء بتوفيق من الله وبمشيئة وما على الإنسان إلا الاستغفار. والصلاة والسلام على النبي وآله الأطهار.
15 (2) القوهي
وفي «شرح كتاب صنعة الأسطرلاب» لأبي سهل القوهي (335ه) يأتي تنظير الموروث قبل تمثل الوافد.
16
وبطبيعة الحال يتصدر الموروث المؤلف أبو سهل القوهي وأبو سعد العلاء بن سهل الشارح ثم ثابت بن قرة وكتابه في المخروطات. ويبدأ التراكم في الموروث يفسر بعضه بعضا مع التركيز دون الإطالة.
17
ولا يذكر الوافد إلا أبولونيوس وكتابه «المخروطات». والقوهي هو الذي يقول. لذلك تنكر صيغة المتكلم المفرد «أقول».
18
وتكثر أفعال البيان والتفسير والبرهان مع عشرة رسوم توضيحية. ويبدأ المقال بالبسملة والدعوة بالتيسير والعون والتوفيق وينتهي بالحمدلة والصلاة على محمد وآله وحسبنا الله ونعم الوكيل.
19 (3) ابن سهل
وفي «كتاب المسائل التي حللها أبو سعد العلاء بن سهل» يتصدر الموروث الوافد ، ويأتي ابن سهل قبل أرشميدس.
20
وهو تأليف على تأليف، شرح لنص، عرض لموضوع وتوضيح المسألة بنفس ألفاظ المؤلف الأول مع إضافة مقدمات تسهل طرق البرهان.
21
لذلك تكثر تعبيرات «برهان ذلك»، «برهانه». وبعد البرهان تكثر تعبيرات «وهذا ما أردنا بيانه» أو «وهذا ما أردنا أن نعمل» أو أفعال البيان، بالإضافة إلى واحد وعشرين رسما توضيحيا. ويقوم البرهان على اتساق النتائج مقدمات وإلا كان البرهان خلفا «هذا خلف لا يمكن». والمؤلف هو الذي يقول. لذلك تظهر أفعال القول في صيغة المتكلم المفرد «أقول».
22
وبين الحين والآخر تظهر بعض الفقرات التي تدل على عمل العقل في الرياضيات يكشف عن دور العقل البديهي والأساس النفسي للرياضيات وأنها تأتي دائما بتحليل أو اكتساب.
23
وفي نفس الوقت العلم هو أدب العلم وتواضع العلماء.
24
وكما تبدأ الرسالة بالبسملة وتنتهي بالحمدلة والصلاة على محمد نبيه وآله وأصحابه، وتاريخ النسخ.
25 (4) بازيار الفاطمي
و«البيزرة لبازيار المعز بالله الفاطمي» (386ه) من نفس النوع.
26
والبيزرة أو البزدرة ليس البيطرة بل علم أحوال الجوارح من حيث الصحة والمرض، من بيزار الفارسية أي صاحب الباز. وهو ما زال قائما حتى الآن في تربية الصقور في الخليج، وتعتمد على الموروث الشعري، فالشعر قبل الوحي علم العرب وثقافتهم مع حكايات ونوادر وروايات عربية. مثل كتاب «الحيوان» للجاحظ وليس من أرسطو. كما يعتمد على الملاحظات الشخصية، وبالتالي يظهر التنظير المباشر للواقع تدريجيا وهو محك الإبداع بعد اختفاء الوافد والموروث. ويوصف الطير، وزنه ولونه وأمراضه وعلاجه دون طباعه كما يفعل الجاحظ. ويستشهد بالشعر فيما قيل عن العقاب والصيد بالفهد، وابتذال الملك نفسه في الصيد وصفة الظباء ومواضعها وأسنانها وصيدها ومنافعها، والكلاب وخصائصها وصيدها وعللها ودوائها وفي الجوارح بوجه عام، وصيد طير الماء في القمر بالبازي والباشق. ويشعر المؤلف بالجدة والابتكار فهو موضوع لم يسبقه إليه أحد ولم يدونه أحد في الكتب.
27
ولا يظهر الطير فقط كموضوع بل في علاقة الإنسان معا في الصيد. فالإنسان سيد الحيوان. وعقل الإنسان قادر على أن يكمل ما ليس لديه مثل الحيوان من مظاهر القوة. فالحيوان بعد إنساني.
ولا يتجاوز الوافد علما واحدا هو أرسطوطاليس من مئات الأعلام الموروثة. ويزيد الوافد الشرقي على الوافد الغربي خاصة فارس بذكر أنوشروان وبهرام شوبيه وشهرام.
28
ويذكر أرسطو الصيد كصناعة مثل البناء والفلاحة وتولد الفهد من سبع ونمر، وإذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى يأكلها.
29
ومن الموروث تظهر مئات الأسماء للأشخاص والأماكن يتصدر محمد الرسول ثم امرؤ القيس والحسن بن هانئ ثم عشرات آخرون.
30
ومن أسماء الأقوام يتصدر الترك ثم قبيلة كلب وبنو العباس وبنو هاشم والروم.
31
ومن الأماكن يتصدر النيل ثم المشرق والمغرب ثم الإسكندرية والعراق ثم برلس، والشام، اليمن، وعشرات آخرون. وتتضح البيئة المصرية لأن المؤلف من مصر.
32
وقد كان الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل من الرماة. وكان الخليل بن أحمد صائدا وهو صاحب مذهب فيه. ويستشهد بأقوال المفسرين وبالملوك والحكماء وبالأحاديث في الصيد وكذلك الزهاد والعباد الذين يعيشون على الصيد وبالمأثورات الشعبية «كليلة ودمنة». وفي البسملات والحمدلات والصلوات على النبي تظهر صفات الله مستمدة من علم الجوارح. فهو الذي خلق الطيور وأنواعها وطباعها وأجسامها حماية لها ودفاعا عن نفسها، أشواكها وريشها ومخالبها ومناقرها، وللإنسان طعاما وزينة، حكمة الله في الخلق.
33
ثانيا: ابن الهيثم، البيروني، ابن سينا، علي بن رضوان، ناصر خسرو
(1) ابن الهيثم
ويتراكم هذا النوع الأدبي في العلوم الرياضية والطبيعة قبل أن يظهر في الفلسفة على استحياء عند ابن سينا. مثال ذلك «مساحة المجسم المتكافئ» لابن الهيثم (432ه).
1
يهدف ابن الهيثم إلى تجاوز ثابت بن قرة لتكلفه وصعوبته وطوله. فالتراكم استمرار لإصلاح الترجمة. وقد حاول الكوهي ذلك من قبل. يطور ابن الهيثم الموضوع ويفرق بين نوعين لحساب المساحة، الأولى ميسرة عرفها الكوهي، والثانية صعبة، وقد استوفى ابن الهيثم الطريقتين بالبيان والبرهان. فكل قول له هدف ومحرك أي إن كل نص له باعث ودافع.
2
ولا يظهر من الوافد إلا أبلونيوس الفاضل وما بينه في كتاب المخروطات. أما الموروث فيظهر الكوهي ثم ثابت بن قرة.
3
ولا يذكر أرشميدس الذي بدأ الموضوع في قياس الدائرة، الكرة والأسطوانة . وهو نص في منطق البرهان الرياضي، برهان الخلف بالرغم من صعوبة البراهين.
4
ويظهر مسار الفكر في الاستدلال بالرغم من أن النوع الأول لا يحتاج إلى مقدمات، في حين يحتاج النوع الثاني إلى مقدمات عددية. وتظهر أفعال البيان دون القول لبيان ما تم بيانه وما يتم بيانه وما سيتم بيانه في المستقبل. وفي البسملات والحمدلات تظهر العبارات الإيمانية، التوفيق من الله والصلاة على النبي دون مدح للسلطان. (2) البيروني
ويظهر «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» في بعض أعمال البيروني الرياضية والطبيعية. (أ)
ومن العلوم الرياضية «تسطيح الصور وتبطيح الكور» للبيروني (440ه).
5
وهو موضوع تصغير الصور الكبيرة لاستحالة تصورها أو رسمها إذا ما أصابها الخلل والتشويش. وتراجع الأدبيات السابقة عند الكندي والمروروذي الصوفي. والموضوع معروف منذ بطليموس وأهميته في الجانب العملي لمعرفة المناخ والزراعة والسفر والصلاة والحروب.
ولا يتعدى الوافد بطليموس في كتابه عن صورة الأرض في كتاب المجسطي مع جداوله، ومارينوس في إرشاده إلى كيفية تصوير الأرض في سطح.
6
أما الموروث فيتجاوزه. فيذكر أبو الحسين الصوفي ثم أبو العباس الفرغاني في كتاب الكامل ثم محمد بن جابر البتامي ثم آخرون أقل أهمية مثل الكندي والطبري.
7
وينقد البيروني الفرغاني ويصفه بالهذيان. وتظهر البيئات المحلية مثل العرب والهند في مقابل الروم. وتذكر عدة مصادر مدونة.
8
وتبدأ الحمدلات والبسملات بالشعر أي الموروث الثقافي قبل الوحي، ثم الشكر والدعاء لله وللسلطان مولانا الأمير السيد الملك العادل ولي النعم خوارزم شاه، أطاله في العز وأبقاه في النصر وأيد سلطانه. كل شيء يفيض من الله والسلطان. يهدي الصغير إلى الكبير ويتقرب المأمور إلى الأمير إظهارا للعبودية المستكنة في الضمير.
9 (ب)
وللبيروني أيضا «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها».
10
جمع في الرسالة الطرق الهندسية مع نسبتها إلى أصحابها دون الصمت عنهم كما يفعل ابن سينا، ومن أجل تدريب المتعلمين عليها. وبالرغم من أن الرياضيات تبدو صورية الطابع لا مضمون لها إلا أنها أنيس في الغربة للنفس ولها فائدة عملية في الواقع. فالرياضة وسيلة لا غاية. وتتم مخاطبة القارئ أيضا. فالعلم تجربة مشتركة بين العلماء، ومن ثم لا تكون المسافة بعيدة بين الرياضة والتصوف. هناك إذن بعد شخصي في الرياضيات. وتظهر عبارة «خاطر سنح» مما يدل على أن الرياضيات حدسية الطابع دون أن يفقدها ذلك مسارها الفكري المنطقي الاستدلالي مع رسوم توضيحية في كل مسألة.
11
ولا يكتفي البيروني بالرواية عن الرياضيين السابقين والحكاية عنهم بل يصحح الدعاوى ويراجع البراهين، مع استعمال أفعال البيان والذكر وكل أفعال الإيضاح والتعليل. يعرض الدعاوى والبرهان والمثال.
12
ويظهر تمايز شديد بين الأنا والآخر مما يدل على استقلال الشخصية وكما يبدو ذلك من عبارات كثيرة مثل «في حل التعديل» ونسبته إلى نفسه بألفاظ «اتجه لي»، «تهيأ لي»، «أدتني إليه الفكرة» «اتفق لي»، «أنتجه الخاطر لي»، «استخرجته»، «تركيبنا نحن لتحليل لنا في هذه المسألة»، جامعا بين القدماء والمحدثين.
13
يصحح دعوى اليونانيين ويصوب أخطاءهم، كما ينقد الموروث خاصة الرازي واتهامه بقلة الدين والدينونة وابتسار الهندسة. وهي كالمنطق تتعامل مع الأشكال والصور. فالعلم الرياضي ليس خاليا من الفلسفة وموصل للإيمان كما هو الحال عند البيروني العالم الرياضي المؤمن. كما ترتبط النظرية بالشخص نظرا لأن الرياضة اجتهاد. ويشير البيروني إلى باقي مؤلفاته مما يبين وحدة العمل، وذكر الأعمال المجهولة.
14
ويقل الوافد بالنسبة للموروث، أحيانا يظهران معا في تراث علمي واحد وأحيانا يتمايزان في عناوين الفصول. ومن الوافد يتصدر أرشميدس في كتاب الدوائر ثم بطليموس من غير إحالة إلى المجسطي ثم أبلونيوس ثم سارينوس الصابئي في كتاب أصول الهندسة وهيرون بمفرده. ويسمى المجسطي الشاهي تعبيرا عن الوافد بلفظ موروث، وإلى أحد اليونانيين على العموم دون الخصوص أو بعض اليانيين أو اليونانيين. ومن الوافد الشرقي يذكر زيج السند هند الكبير ومذهب السند هند والسند هند.
15
ويشار مرة واحدة إلى اسم المترجم لمسائل أبلونيوس وهو يوحنا بن يوسف.
ومن الموروث يتصدر الخوارزمي ثم السجزي ثم الشتني ثم البتاني ثم السمرقندي والجعدي ثم البصري وحبيش والفزاري ثم الحبوبي والهاشمي والطبري وأبو العلاء ثم حشنش، وأبو نصر وبامشد والخازن ، ثم أبو عبد الله والمصري وأبو الجود والصباح والفرغاني والكاتب ومحمد بن موسى وأبو عيسى وأبو سنان؛ منهم من هو مشهور، ومنهم من هو أقل شهرة. وتتسع رقعة الأعلام ولكن يغلب عليهم الشرق،
16
والإيمانيات قليلة في الرياضيات عنها في الطبيعيات. فمع البسملات والحمدلات، التوفيق والهداية من الله وكل شيء بمشيئته، والصلاة على النبي خير الأنام. وتذكر آية قرآنية
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم
فالرياضيات طريق إلى الإيمان.
17 (ج)
وفي «الجماهر في الجواهر» للبيروني أيضا يتصدر تنظير الموروث على تمثل الوافد.
18
فالموضوع لا ينقل بل يشاهد، ولا يشرح بل يجرب.
19
ومن الموروث يأتي الكندي في المقدمة ثم الدينوري ثم الأصفهاني، ثم الرازي الطبيب. ويكثر الشعراء باعتبارهم مصدرا للعلم بالطبيعة وبالجواهر مثل أبي تمام، وأبي نواس، وابن المعتز، وامرئ القيس، والبحتري، وابن الرومي، ومن المتكلمين الجاحظ، ومن الأطباء ابن جلة ومن الفلاحة ابن وحشية. وإذا كانت أسماء الجواهر وافدة شرقية أكثر منها غربية وأكثر منها عربية فإن أسماء أدوات التعدين ومصطلحاته أكثر منها عربية لأن الأدوات مصنوعة محليا.
20
وكذلك الأمر في أسماء النقود وأسماء أدوات الزينة والسلاح والثياب والآلات. كما أن أسماء الأمم والقبائل والطوائف كلها عربية وفارسية وتركية أي من الشعوب الإسلامية ولا شيء منها تقريبا يأتي من الوافد اليوناني. ومن أسماء الأماكن والبلدان لا يكاد الوافد اليوناني يذكر.
21
والأعياد كلها موروثة. ويحال إلى أكثر من مائة كتاب لا يتجاوز الوافد منها العشر.
22
ويستشهد بالشعر العربي كمصادر للمعلومات عن الطبيعة،
23
ويشار إلى «بلادنا» و«وقتنا».
24
ومن الأصول الأولى تذكر عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأمثال وما يجري مجراها. ويبدأ الكتاب كالعادة بالبسملة والحمدلة. وتبدو صفات الله مشتقة من علم الجواهر، خاصة وعلم الطبيعة عامة، منزل الماء وسير السحاب.
25
فكل شيء بخلقه. وكلها خاصة بالجواهر مثل الذهب والفضة واللؤلؤ والمرجان. فسبحان الخالق لكل شيء والله أعلم والله الموفق، والله المستعان.
ويتصدر الوافد ديسقوريدس ثم جالينوس ثم أرسطو ثم الإسكندر ثم بطليموس، وأريباسيوس، وبليناس ثم أرشميدس، وأفلوطرخس، وأفلاطون، وديوجانس، وهراقليدس وهرمس، وهيرودوت وغيرهم.
26
في حين يبلغ الوافد الفارسي أكثر من النصف مع بعض الأسماء الهندية مما يدل على حضور الوافد الشرقي أكثر من الوافد الغربي. ونظرا لحداثة العرب في الموضوع فلم تتجاوز الأسماء العربية أكثر من الربع.
27
ويتضمن الكتاب مقالات ثلاثة؛ الأولى «في الجواهر» وهي أكبرها، والثانية «في الفلزات»، والثالثة «المعمولات والممزوجات بالصفة» وهي أصغرها.
28
وأكبر الجواهر اللؤلؤ ثم الياقوت. ثم الألماس والزمرد، ثم الذهب، ثم الحديد، ثم البلور وعشرات أخرى من الجواهر والفلزات والمصنوعات.
29
ويظهر أسلوب الجمع والعد والإحصاء. كما تظهر الجداول التوضيحية.
30
وتذكر الخرافات الشائعة حول المعادن وتظهر بعض اللازمات مثل «ترويحة».
31
كما يعتمد البيروني على المشاهدات والتجارب والمعلومات المباشرة ولا يكتفي بالمنقول.
32
وتدرس الجواهر في إطارها الاجتماعي، أسعارها، واستعمالها. فالعلم الطبيعي علم إنساني طالما أن النبات والمعادن للاستعمال «أخبار في اليواقيت والجواهر».
33
ولا يتبع البيروني ترتيبا أبجديا بل ترتيبا طبقا لقيمة الجواهر. ويكون الاعتماد على اللغة لمعرفة اشتقاق الأسماء.
34
فالجوهر له أبعاد عدة؛ جغرافي وتاريخي واقتصادي واجتماعي وفني ولغوي وأدبي وليس مجرد موضوع طبيعي. (3) ابن سينا
و«في السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهر» لابن سينا (428ه) يتفاعل الوافد داخل الموروث كخطوة نحو الإبداع الخالص. السياق هو ذكر آراء القدماء، علماء وحكماء، وإحصاؤها في أمر النفس وقوامها دون البدن. الموضوع موروث وهو المعاد الذي سماه الفلاسفة خلود النفس بعد مفارقتها والآراء المذكورة عن الوافد لمراجعتها على الموروث وقبول المتفق منها ونقد المخالف احتراما للتراث القديم وتقديرا لجهد القدماء. فقد اختلف القدماء في النفس الإنسانية إذا فارقت وهي هيولانية لم تتصور بعد الشيء عن الصور المعقولة التي بها تقوم بالفعل عقلا في قوامها دون البدن.
ويذكر أرسطو والإسكندر وثامسطيوس.
35
فقد رأى الإسكندر مؤولا أرسطو أنها تفنى بفناء البدن في حين يرى ثامسطيوس مؤولا أيضا أرسطو أنها تبقى بعد فناء البدن. وهو القول الأصح الذي يتفق مع رأي ابن سينا. يؤول الإسكندر قول أرسطو ماديا، ويؤوله ثامسطيوس روحيا. وينتصر ابن سينا للتأويل الروحي لثامسطيوس على التأويل المادي للإسكندر. ويرجع اختلاف المفسرين ويحكم بينها بالعودة إلى الأصل، أرسطو، المتفق مع الموروث، بقاء النفس بعد البدن، لا فرق في ذلك بين الجهلاء والعلماء، بين الأطفال والبالغين.
36
وبعد أن يتحدث ابن سينا عن الحكمة يظهر الموروث، آيات قرآنية أربعة تفيد نفس المعنى المختار وفي نفس السياق تأييدا للإشراق، الأولى عن النفس السقيمة النادمة، والثانية عن النفس التي تود العودة إلى ملذات البدن، والثالثة عن النفس الذكية، والرابعة عن النفس التي ترى الملكوت. ويذكر حديث بصرف النظر عن صحته تأييدا للفلسفة الإشراقية.
37 (4) علي بن رضوان
أما «رسالة في الحيلة في رفع مضار الأبدان بأرض مصر» لعلي بن رضوان (460ه) فإنها نموذج فرع جديد من علم الطب هو الطب الجغرافي أو الجغرافيا الطبية.
38
فهناك علاقة بين الطب والجغرافيا. الطب من البيئة وجسد الإنسان في العالم. وهذا ما يتطلب تحديد جغرافية مصر أولا. ونظرا لجوها الحار فإن مزاجها حار وكما لاحظ جالينوس وأبقراط والأطباء الذين عاشوا على أرض مصر مع مقارنة مع البيئات الجغرافية لسائر البلدان. ويقوم هذا الفرع على الحيلة أي الوسيلة وعلى معرفة الأسباب ثم على طرق الوقاية.
39
ويقوم أيضا على القياس والتجربة والحيلة، وتتجاوز أمراض الأبدان إلى الانفعالات مثل الفرح والسرور وتفسيرها فزيولوجيا.
40
والطب أيضا له أخلاق الأطباء وشرف المهنة.
41
ومن الوافد يتصدر جالينوس ثم أبقراط ثم بطليموس وغورس وأرسطوطاليس. وهو ينقد آراء السابقين، وافدة أو موروثة بعد الاطلاع عليها ومعرفتها ومعاناة ذلك بالنفس والبدن ليلا ونهارا.
42
ولا يكتفي ابن رضوان بالنقل بل يقوم بالنقد للوافد والموروث على السواء، وكأنه مصلح اجتماعي مثل نقده للرازي، ونقد استعمال المزاج بالجنس لكسب شهرة طبية، والنقد الاجتماعي للممارسات الطبية، ونقد الجزار بأنه من أهل المغرب وليس من أهل البلد.
وفي الموروث يتصدر أرض مصر ثم مصر ثم المصريون، أخلاق ومزاج وأبدان وأمراض وطبيعة، ثم أهل مصر ثم هواء مصر ثم مزاج مصر وأهل الصعيد وأطباء مصر ثم سواحل مصر وطين مصر وفسطاط مصر وأمراض مصر؛
43
بل إنه تذكر أسماء المدن والبحار والأنهار والأحياء والطوائف والمساجد في مصر مما يدل على حضور البيئة المحلية الخاصة بأدق تفصيلاتها،
44
وتتم مقارنة البيئة المصرية بغيرها من البيئات المجاورة عند الروم في المشرق والمغرب مثل أهل المغرب والفرس والروم والحبشة والحجاز والشام وبرقة.
45
وتأتي أسماء الأعلام في المرتبة الثانية بعد أسماء الأماكن، فالطب مرتبط بالبيئة أكثر من الأطباء. ويتصدر ابن الجزار ثم الرازي أو من تم علاجهم.
46
وفي الإيمانيات مع الحمدلة والبسملة يدخل الله في التفسير الجغرافي، لما خلق الأشياء جعل بعضها مرتبطا ببعض وجعل للصحة والمرض أسبابا كثيرة توفيقا بين الأشاعرة والمعتزلة، بين الفلاسفة وابن رشد. ولا توجد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية. وقد يستعدي ابن رضوان السلطان على الأطباء الذين يتكسبون بالطب وهم غير مؤهلين له.
47 (5) ناصر خسرو
و«جامع الحكمتين» لناصر خسرو (470، 481، 498ه). وهي شرح قصيدة تأليف على التأليف أي تراكم فلسفي، للموروث فيه الأولوية على الوافد في العمق والاتساع بالرغم من قلة أسماء الأعلام حرصا على بنية الحكمة غير المشخصة. ومع ذلك فهو أقرب إلى شرح الوافد بالمورث.
48
ويعني «جامع الحكمتين» الجامع بين الحكمة النقلية والحكمة العقلية. وتشمل الحكمة النقلية الوافد اليوناني والموروث النقلي على حد سواء. المهم التحول من النقل إلى العقل، ومن النص إلى التجربة، ومن ثنائية الحقيقة إلى وحدتها بالرغم من كثرة الحجج النقلية كما هو الحال عند الفقيه الحنبلي. والجامع للحكمتين تراث شيعي أصيل منذ إخوان الصفا في الجمع بين الحكمة والشريعة، والعالم الأصغر والعالم الأكبر وحميد الدين الكرماني في «علم الميزان». لذلك كان موضوعه أقرب إلى موضوعات علم الكلام منه إلى بنية الحكمة.
49
وسبب تأليفه سبب ساذج ومفتعل، علل خمسة، فاعلة وهو المؤلف، آلية وهو القلم، وهيولانية وهو الورق، وصورية وهو الكلام، وغائية وهو القارئ،
50
وأحيانا يغلب عليه أسلوب السؤال والجواب خاصة في الفصول الأخيرة.
51
و«جامع الحكمتين» جزء من مشروع كلي يضم «عجائب الصنعة»، «زاد المسافرين»، «لسان العالم»، «اختيار الإمام واختيار الإيمان»، اعتمادا على الأدلة العقلية والبراهين المنطقية، وضعا للسؤال مع جوابه.
52
وينقسم «الجامع» إلى أربعة وثلاثين فصلا دون نسق محكم بينها، يتداخل فيها النسقان الكلامي والفلسفي. يبدأ بإثبات الصانع ثم شرح الأحدية. ثم تبرز بعض الموضوعات المنطقية في الهيئة الخاصة والرسم والحد، ثم الجنس والنوع ثم النطق والكلام والقول ثم الكل والجزء. ثم تبرز بعض الموضوعات الطبيعية مثل الآنية، والأنوار السبعة، والدهر والحق والشرور، والطبيعة الكلية، والملائكة والجن والشياطين، وبعض خواص الجمادات والحيوانات والملائكة، وفي خواص القمر، وظهور الأنواع من الشخص، والإبداع وخلق السماء والأرض، والدائرة والطائر والبيضة، وزحل وأصل الربيع ومنازل الشمس والقمر والسيارات الأخرى. وواضح مصدر الطبيعيات على المنطق والإلهيات. ثم تظهر الموضوعات الإلهية بداية بالنفس، في الجسد والنفس والعقل، والعقل والعلم، والفرق بين المدرك والإدراك. ثم تظهر الموضوعات الإلهية الأزل والديمومة والخلود والأبد، ثم الموضوعات الأخلاقية مثل السعد والنحس، واحتياج الناس إلى التربية، وتأثير الكواكب، السعد والنحس في النفس والجسد، والأب والأم النفسانيين، وحياة العالم وموت الجاهل.
53
ويتصدر الموروث الأصلي القرآن والحديث على باقي الموروث.
54
ثم يأتي الرازي الفيلسوف في العلم الإلهي، وابن الراوندي، وأحمد بن حسن الجرجاني ثم الشيخ النسفي، والشيخ النخشبي، والشيخ النجاشي وكتابه «المحصول». ويضرب المثل بالشافعي وأبي حنيفة، وبفاطمة وزوجها، وجعفر الصادق، والفيلسوف الإيراني. والشواهد القرآنية تأتي في نسيج الخطاب، جزءا منه ومكملا وسندا له. ويغلب عليه الشعر؛ بل إن «الجامع» كله شرح لقصيدة شعرية فلسفية نظمها السيد أبو الهيثم أحمد بن الحسن الجرجاني والتي يعرضها في الفصل الثاني.
55
ومن الأنبياء يذكر آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد. ومن الفرق الكلامية المتعلمون والحشوية، والمعتزلة، والكرامية. وهناك ثلاث عشرة حرفة تدل على مذاهب ومناهج وطرق نظرية مثل: أهل الاستجابة، أهل التأويل، أهل التأييد، أهل التعطيل، أهل التفسير، أهل التقليد، أهل الحقائق، أهل الحكمة، أهل الدعوة، أهل الظاهر، أهل الظاهر والباطن، أهل المنطق، أهل النظر. ولا يقتصر لفظ الحكماء على الوافد فحسب بل يمتد إلى الموروث في حكماء أهل التأييد، حكماء الدين، حكماء الدين الحق. وتظهر اللغة العربية ومصطلحاتها مثل الوحدة، مقارنة بالمنطق العربي والفارسي والهندي أو باللسان العام.
56
وتظهر بعض الرسوم التوضيحية للعلاقة بين الجوهر الطبيعي والأجناس وكذلك للعين وللأفلاك والأبراج.
57
ويبدأ «الجامع» بالبسملة والحمدلة ووصف الله بأوصاف الحكمة مثل خلق السماء والأرض، وموجد المكان والمكين ومرسل رسوله الأمين.
58
ومن الوافد يظهر أرسطو ثم ألقابه بعد إسقاط شخصه مثل الفيلسوف، الحكيم اليوناني، الحكيم الفيلسوف، ثم سقراط وأفلاطون، ثم أنبذقليس ثم فيثاغورس سيد الأرتيماطيقا وهو الحكيم الفيلسوف، والدهريون وأصحاب الهيولى، وحكماء الدين، وأصحاب الطبائع.
59
الحكماء الإلهيون القدماء حكماء الفلاسفة، حكماء الفلسفة. ويذكر أرسطو بمفرده عنوانا لفصل «في قول أرسطاطاليس».
60
وما زالت به بعض الألفاظ المعربة عن اليونانية مثل السقمونيا أرتماطيقا، الهيولى. ولكن تظل المصطلحات وأسماء الفرق في مجموعها موروثة ولا يمثل الوافد إلا النزر اليسر.
61
ثالثا: ابن باجه، ابن طفيل
(1) ابن باجه
ويستمر هذا النوع الأدبي، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، عند ابن باجه وابن طفيل. (أ)
ففي ملحق رسالة الوداع «لابن باجه».
1 (533ه) يظهر أرسطو (مرة واحدة)، في حين يظهر ابن باجه على لسان ابن الإمام، وعلى لسان الناسخ، والفارابي وابن حزم، ومالك بن وهب الإشبيلي، وابن سينا، والغزالي مما يدل على أولوية تنظير الموروث شبه الكلي على تمثل الوافد. ويحال إلى رسالتي «الوداع» واتصال الإنسان بالعقل الفعال مما يدل على التراكم الفلسفي من الفارابي حتى ابن باجه مثل التراكم الفلسفي من ابن سينا حتى الغزالي، وهما اللذان استمرا في الاشتغال بالفلسفة بعد الفارابي في المشرق فهما وتدوينا وحسنا لفهم أقاويل أرسطو. فقد ساهم الجميع في إحداث التراكم الفلسفي وتكوين الوعي التاريخي السابق يمهد للاحق، المتقدم يبذر والمتأخر يحصد، أسوة بالأنبياء في تطور الوحي منذ بداية النبوة حتى نهايتها. وابن الإمام لا يهاجم أحدا؛ بل هو عند الناسخ جزء من التراث الفلسفي تدوينا. لا يوجد سلف أفضل من خلف، أو خلف انحرف عن سلف كما هو الحال عند ابن رشد. ابن سينا والغزالي فيلسوفان مثل الفارابي. والعجيب عدم ذكر الكندي. ربما لم يكن معروفا في الأندلس بالرغم من إشارة ابن رشد له في «تهافت التهافت» أو كان أقرب إلى الترجمة والشرح والتعليق والعرض منه إلى التأليف أو كان أقرب إلى العلم منه إلى الفلسفة.
2
وابن باجه فيلسوف أندلسي هكذا يصفه الإمام ذاكرا التاريخ السابق عليه ومؤلفاته وناشدا شعرا في تأبينه ومبينا تأليفه في المنطق والطبيعيات والهندسة وليس في الإلهيات. وهناك قليل منها في رسالة «الوداع» ورسالة «الاتصال» مما يدل على أن فلسفته إنسانية أكثر منها إلهية. حول الطبيعة إلى منطق ثم حول المنطق إلى لغة كما فعل أستاذه الفارابي.
3
يراه الوزير ابن الإمام صاحب نظرة فائقة، ارتسمت الحقائق من نفسه على أطوار حياته وعند أهل زمانه، جمعا بين الفرد والمجتمع، بين النفس والعصر. وترجع أهميته في بيان اتفاق النقل مع العقل، والدين مع الفلسفة، وجعل الفلسفة إسلامية والإسلام فلسفة ضد هجوم الفقهاء على العلوم العقلية في الأندلس.
4
ويتجاوز التراكم الفلسفي فلاسفة المغرب وحدهم، ابن باجه وابن طفيل وابن رشد إلى المشرق. فابن باجه تلميذ الفارابي، وابن طفيل تلميذ ابن سينا، وابن رشد محاور الغزالي سلبا في «التهافت» وإيجابا في «الضروري في أصول الفقه»، على عكس نعرة القطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب التي يروج لها بعض المفكرين المغاربة المعاصرين تحت أثر الفكر الفرنسي والغرب الجغرافي من الغرب. ولا يهم الأشخاص والتركيز على عبقريتهم الفردية بل التراكم الفلسفي من المشرق إلى المغرب وبلورة الوعي التاريخي.
ويظهر الأسلوب العربي لديه مثل ضرب المثل بزيد وعمرو على الفعل العرضي، التقاء زيد وعمرو في الطريق. كما تظهر البيئة الإسلامية في البسملات والحمدلات والصلوات على الرسول خاتم النبيين. فالله هو الميسر والمعين، به العون والقوة. خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وألهم الحكمة. ابن باجه شيخ حكيم له ألقاب ووطنه ... مبدع غير مقلد رضي الله عنه. وقد يبلغ الإطراء عصره. فقد اطلع على أفق الحكمة، وأباد ظلمة الجهل، ونال غايتها، وأظهر محكمها، وبين متشابهها بلغة الأصوليين. قيل في مدحه الشعر، والمدح في ذاته إقلال من الإبداع في التاريخ ومصادرة عليه. فالمستقبل أكثر غنى من الماضي. ولا يتوقف التاريخ عند أحد.
5 (ب)
ويعيد ابن باجه في رسالته «في الفاعل القريب والفاعل البعيد وخلود العقل» موضوع الكندي، الفاعل القريب الحق والفاعل الذي هو بالمجاز. ويقول بخلود العقل الكلي قبل ابن رشد.
6
إذ لا تتمايز نفوس السعداء ولا تتكاثر بالعدد كما يقرر في رسالة «الاتصال». ويخلد العقل بفيض الصور العقلانية.
ومن الوافد لا يحيل إلا إلى كتاب «السماع» لإثبات أن الفاعل الأول هو الفاعل الحقيقي، وأن الفاعل القريب لا فعل له وكأن أرسطو قد تحول إلى صوفي مثل الغزالي في «المشكاة»، إعادة إنتاج الوافد لصالح الموروث.
7
ومن الموروث يتصدر الفارابي في «عيون المسائل» والغزالي في «المشكاة» وآية قرآنية واحدة. فقد صرح الفارابي بوجود نسبة بين الأشياء ومبدعها في الإدراك أو في الوجود أو في القيمة نظرا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة. وإذا كان الشر في الوجود ذا منفعة فإن الشر على الحقيقة لا وجود له في الترتيب الإلهي كما هو الحال عند المعتزلة. ويرجع إلى الفاعل الأول مثل الملك العادل المدح والذم. ويستشهد بقول الغزالي في أن الأول حظر جميع الفاعلين أن يفعلوا والمنفعلين أن ينفعلوا. ويستشهد بآية قرآنية
فتبارك الله أحسن الخالقين
على نظام الكون دليلا على الحكمة والقدرة والفضل.
8 (ج)
ويدافع ابن باجه «في السعادة المدنية أو السعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر» لابن باجه عن المتقدمين ضد تهمة إنكار المعاد ونفي الوجود غير المحسوس وإرجاعه إلى قول إخوان الصفا الضالين. فصواب الوافد أفضل من خطأ الموروث. وقد أصاب المتقدمون بالرغم من خفاء الشريعة عليهم.
9
ومن الوافد لا توجد إلا إحالة واحدة إلى أرسطو من أجل إكمال السعادة الدنيوية لديه بالسعادة الأخروية. ومن الموروث يتصدر الفارابي في شرح الأخلاق، ومقالة «العقل والمعقول» ثم إخوان الصفا. ويدافع عما ينسب إلى الفارابي من إنكار المعاد. فهي خرافات عجائز مثل صدور الحيوان عن الحيوان أو عن النبات، وأقوال باطلة مكذوبة على أبي نصر. يذكر الفارابي هذا القول على جهة التوبيخ للرد عليه راويا عن الآخرين وليس معبرا عن رأيه، ويعرض آراءه البرهانية في إثبات وجود غير الوجود المحسوس. قد يكون مدسوسا عليه ومنسوبا إليه. ونسبة هذا القول إلى إخوان الصفا غير صحيحة أيضا بل إنهم يركزون على المعاد أكثر مما يجب بحيث ينسون الحياة المدنية، ويشاركون ابن باجه في النزعة الإشراقية. والبصيرة قوة إلهية فائضة عن العقل الفعال ذكرها أبو نصر في مقالة العقل والمعقول، وهي هداية تتجاوز الشرح الذي قد يفسد. ولا يخفى على الشريعة ما أتت به وهو الكمال الإنساني عن المتقدم الذي يختص بشرف الوجود من بين سائر الحيوان وهو ما خص به الإنسان وهو العقل. وتنحو الرسالة نحوا دينيا إشراقيا، وتبين أن التدبير المدني معونة عظيمة في وجود عقل الإنسان ولا سيما المدينة الفاضلة والتدبير الفاضل الذي غايته الأخيرة وجود العقل بمعلومات كثيرة أولها الله وملائكته وكتبه ورسله ومخلوقاته. ولها درجات بحسب مراتب العلم حتى يكون لكل من في المدينة قسط منه طبقا لقوته. ويستعمل ابن باجه لفظ الشريعة. كما يستعمل وسائل التعبير العربية مثل زيد أو عمرو كفاعل أو مبتدأ أو خبر في النحو أو كموضوع ومحمول في قضية في شرح صدق البصر ودور العقل. (2) ابن طفيل
وتمثل رسالة «حي بن يقظان» لابن طفيل (581ه) هذا النوع الأدبي، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد. والعجيب أن يكون موضوعا لثلاث رسائل من ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، فقد استطاع الموضوع المثالي أن يكون محملا بالدلائل عند ثلاثة من الفلاسفة. وتختلف الصياغات الثلاث كما، السهروردي أقصرها، وابن سينا أوسطها، وابن طفيل أطولها. وقد عرف ابن طفيل رسالة ابن سينا ونسج على منوالها كما يوحي بذلك العنوان من ألفاظها مميزا معانيها ومستخرجا موضوعها. وتدل ألقاب ابن طفيل على نزعته الصوفية مثل الكامل والعارف.
وهو تأليف يجمع بين الموروث والوافد في موضوع جوهري هو الصلة بين الدين والفلسفة، بين الوحي والعقل، بين أصل الموروث وأصل الوافد، والانتهاء إلى التوحيد بينهما من خلال الفطرة. الفطرة عالمة خيرة بطبيعتها، لا فرق بين العقل والطبيعة. والوحي كمال للفطرة من احتمال فسادها. الطريق الأول للخاصة والثاني للعامة. لذلك كانت الدلالة العامة للقصة أن الفيلسوف مؤمن وأن المؤمن فيلسوف. ولا فرق بين طريق الحكمة وطريق الوحي ضد سطوة الفقهاء الذين يهاجمون الفلسفة باسم الشريعة. وبهذا المعنى يكون ابن رشد وريث ابن طفيل في التوحيد بين الحكمة والشريعة بالرغم من الإشراقيات السينوية عند ابن طفيل. ولا يعتبر ذلك يأسا من العامة بل دفعا لها على أن تتحول إلى خاصة طلبا للرقي والكمال. فالعمل العقلي لا يقوى عليه إلا أهله سواء كان متكلما أو فيلسوفا أو فقيها، وهو العمل القلبي عند الصوفي وليس عمل الجوارح عند العامة. والتراكم على هذا النحو مستمد من الواقع مباشرة وليس من الكتاب، ترجمة وتعليقا أو شرحا وتلخيصا وجامعا أو عرضا وتأليفا وتراكما. هو أقرب إلى التراكم الصوفي الذي يصل إليه الصوفي بنفسه عن طريق الكشف، المضنون به على غير أهله، مخالفة لطريق السلف الصالح في هتك الستر. الغاية منه نقد الآراء الفاسدة لمتفلسفة العصر والدفاع عن العامة الذين طرحوا تقليد الأنبياء إلى تقليد السفهاء، ومساعدتهم على اكتشاف الحقيقة بفطرتهم. وقد توحي بعض الألفاظ بالاتجاه الشيعي مثل الأسرار والحجاب والدعوة والدعاة والإمام وأثر الغزالي في المضنون به على غير أهله. يكشف ابن طفيل الأسرار بحساب حتى لا يزيد الناس إيهاما بها والإبقاء على البعض الآخر لمن هو أهل لها. ترك الباب مواربا دون فتح أو غلق، ترهيبا وترغيبا.
10
والعجيب ألا تكون لابن طفيل مؤلفات معروفة إلا هذه الرواية، وتكون كافية ليصبح صاحب مشروع فلسفي لأنه بدأ من نقطة أصيلة هي الصلة بين الدين والفلسفة أي الموروث والوافد، والتي نشأت بعد عصر الترجمة وظهور مصدرين للمعرفة. قد تكون له مؤلفات أخرى ضاعت من أجل تدعيم رؤيته بأسلوب برهاني وليس فقط بأسلوب روائي. ربما كان عازفا عن التأليف مكتفيا بهذه الرواية بالرغم من نسبة بعض الاكتشافات في علم الفلك له. ومع ذلك يتضح التراكم الفلسفي لديه، ويظهر الوعي التاريخي من ثنايا الوعي الفلسفي. ربما كان صوفيا لا يحب التدوين ويعتمد على التجربة والمشاهدة دون البحث في المصادر والشروح والحواشي على المتون.
ويطرح موضوع الوافد سؤالا عاما: هل هناك مصدر وافد لحي بن يقظان؟ المشهور أن قصة «سلامان وأبسال» التي نقلها حنين بن إسحاق كانت النموذج الوافد السابق. ثم تحول سلامان وأبسال إلى الظاهر والباطن، الفقه والتصوف، ثنائية صوفية وتاريخية في آن واحد، الصراع بين الفقهاء والصوفية في الأندلس بيئة محلية صرفة، وليست أفلاطونية محدثة. ويصرح ابن طفيل في الخاتمة بأن هذه القصة هي قصة حي بن يقظان وسلامان وأبسال، ضاما الموروث والوافد في رؤية واحدة. ويستعمل ابن طفيل اسمي سلامان وأبسال من ابن سينا، الوافد من خلال الموروث. فابن طفيل وريث تصوف ابن سينا والغزالي في الفلسفة المشرقية مع أن القصة موضوعها الفطرة التي تجمع بين العقل والطبيعة قبل المعارف اللدنية. وهناك أيضا النموذج الإسلامي في القصص القرآني، قصة موسى وإلقائه في اليم وتربيته في منزل فرعون ثم اكتشاف الحقيقة بوحي من الله. ويشير ابن طفيل إلى الرواية عن السلف الصالح.
11
ومن الوافد يتصدر أرسطو وحده. ومن الموروث ابن سينا ثم ابن باجه ثم الغزالي ثم الفارابي والمسعودي والجنيد. ويتصدر القرآن ثم الحديث. ومن أسماء المؤلفات تتصدر مؤلفات الغزالي ثم الفارابي ثم ابن سينا. ولا يذكر أرسطو مباشرة من الوافد بل من خلال كتبه أو من خلال عرض الفارابي أو ابن سينا له، الوافد من خلال الموروث.
12
لم تعد مؤلفات أرسطو ولا شروحها وتلخيصها وعرضها والتأليف فيها وافية بالغرض في مرحلة التحول إلى الإبداع الخالص. «الشفاء» مجرد عرض لأرسطو وأحيانا يتم تجاوزه كما لأن فيه أشياء ليست عند أرسطو. أما تجاوزه كيفا ففي «منطق المشرقيين» الذي به أسرار الحكمة لأن كتب أرسطو والشفاء ما زالت على مستوى الظاهر. فهل الفلسفة المشرقية هي منطق المشرقيين؟ إذا كانت كذلك فهي نية عبر عنها ابن سينا في المقدمة ولكنها لم تتحقق في الكتاب نفسه الذي أتى أقرب إلى عرض منطق أرسطو منه إلى تجاوزه. وهنا يأتي ابن طفيل لإبراز أسرار الحكمة المشرقية متجاوزا أرسطو وابن سينا معا، وتكتمل الحقيقة على يديه كما اكتملت عند أرسطو في الفلسفة اليونانية . وما زال لفظ «أسطقس» المعرب مفردا وجمعا شائع الاستعمال.
13
ويبدو تاريخ الفلسفة في بداية القصة، أسماء أعلام ومؤلفات مما يدل على بداية الوعي التاريخي وبزوغه في علوم الحكمة، وهو يؤرخ لنفسه. لقد حدث التراكم التاريخي الكافي في القرن السادس بحيث تبلور الوعي التاريخي، يرصد مساره، ويكمل تطوره، ويحقق بنيته. لقد تحول التاريخ إلى مشكلة فلسفية مستقلة عنه، وهي المشكلة الجوهرية، الصلة بين العقل والنقل أو العقل والسمع بلغة المتكلمين أو بين الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة بلغة الحكماء.
14
لقد حدث التراكم في المشرق الإسلامي من الفارابي وابن سينا والغزالي أكثر مما حدث في المغرب الإسلامي عند ابن باجه. لم يذكر ابن طفيل من المشرق الكندي والرازي والعامري والبيروني وأبا حيان، ربما لندرة كتبهم في المغرب، وربما لغلبة التيار العقلي العلمي الذي تمت إزاحته من التيار الصوفي الإشراقي. فقد وضع التيار العقلاني العلمي الوحي معادلا للعقل والطبيعة بينما جعله التيار الإشراقي الصوفي معادلا للقلب ولما بعد الطبيعة. والعجيب ألا يذكر ابن طفيل ابن رشد وقد كان معاصرا له وهو الذي قدمه لأبي يعقوب، ربما لأنه الإشراقي الذي لم يعجب بشارح أرسطو. ذكر ابن طفيل الحكماء بين الفلسفة والتصوف نظرا لأنه من النزعة الإشراقية الصوفية والمؤرخ لحكمة الإشراق، ولا يذكر إلا ممثليها مثل ابن سينا والغزالي وابن باجه مادحا وليس ناقدا. يقدم ابن طفيل قراءة لتاريخ الفكر من وجهة نظر حكمة الإشراق. ولا يقدم وصفا موضوعيا بل ابتسارا لأحد مكوناته وهي حكمة الإشراق، ربما على سبيل التشويق. كما يظهر الوعي التاريخي كأداة ربط بين أجزاء الخط الروائي، انتقالا من الذات إلى الموضوع، ومن العقل إلى التاريخ. ففي وصف حالات الصوفية ومقامات حي يخرج ابن طفيل إلى التاريخ ويحيل إلى الجنيد.
15
صحيح أن الفلسفة في المغرب ظهرت متأخرة عنها في المشرق لأسباب مادية، عدم وصول الكتب من المشرق إلى المغرب أو وصولها متأخرة أو لسطوة الفقهاء وسيطرتهم في نظم سياسية تستمد شرعيتها من الدين، وربما لظروف الحرب والجهاد والفتح والدفاع عن الدولة ضد هجمات الشمال، وربما البعد الجغرافي عن المناطق الحضارية في المشرق التي تم فيها نقل الوافد من اليونان وفارس والهند. ويعترف ابن طفيل أنه في الأندلس لم تصل كثير من كتب الغزالي، وما وصل ظنه الناس أنه من المضنون به على غير أهله.
16
وابن سينا عند ابن طفيل مؤسس الحكمة الإشراقية التي تعني الفلسفة الإشراقية. ولا يكاد يذكر ابن طفيل السهروردي ربما لأن حكمة الإشراق لم تصل إليه. وقد تعني المشرقية ما يأتي من المشرق، اليونان والرومان. وهذا هو المعنى الجغرافي الحضاري. وقد تعني ما يأتي عن طريق الذوق في مقابل ما يأتي عن طريق العقل، وهو المعنى المعرفي الخالص. وقد انتقلت الحكمة المشرقية من ابن سينا إلى الغزالي إلى ابن طفيل. وهي رد فعل على منتحلي الفلسفة في عصره. وهم الحفاظ الشراح لأرسطو، أصحاب المعارف المنقولة، أنصار الوافد المشروع الذين ينقلون دون فهم أو يعلقون دون تجربة. يستبدل بها ابن طفيل طريق البحث والنظر وطريق الذوق والمشاهدة تحولا من النقل إلى الإبداع. ومع ذلك ينقد ابن طفيل ابن سينا بأن «الشفاء» ليس على مذهب أرسطو بل نقلة نوعية فيه، والفرق بينهما واضح يقينا. «الشفاء» معقد غامض لا يفطن إلى مقصده إلا عند بلوغ أسرار التأويل. أرسطو عقلي، والشفاء إشراقي. ابن سينا نموذج الحكيم الإشراقي صاحب الذوق وليس صاحب النظر سواء كان ذلك بالفعل أم قراءة من ابن طفيل. ويستشهد على ذلك بنصين من ابن سينا دون تحديد مكانهما. يصف ابن طفيل حالة حي كما وصفها ابن سينا، وهي حالة العرفان التي يصل إليها الصوفي بعد الرياضة والمجاهدة، حالة المرآة المزدوجة بين الذات الإلهي والذات الإنساني، كل منهما يرى ذاته فيها، ذاتا لنفسه وموضوعا لغيره سواء عرف ابن طفيل هذه الحالة ثم قرأها عند ابن سينا أو عرفها عن ابن سينا قبل أن يحصل عليها بالتجربة.
17
وقد ذكر ابن باجه نموذجا ثانيا للفلسفة المشرقية مع اقتباس نصوص منه لدرأ المسافة بين طريق النظر وطريق الذوق، بين البحث والتصوف. فيمكن الوصول إلى الحقيقة إما عن طريق البحث وهو طريق ابن باجه وإما عن طريق ابن سينا وهو طريق ابن سينا والغزالي وابن طفيل. ويختار ابن طفيل نظرية الاتصال عند ابن باجه ليبدأ منها لعله يمكن ضمها إلى التراث الإشراقي وأسرار الحكمة المشرقية. العلم الحاصل بالاتصال هو علم المعاني أو التصورات العقلية المباينة للمادة وأقرب ما تكون إلى الأمور الإلهية التي يهبها الله لمن يشاء من عباده. وهي رتبة ينتهي إليها ابن باجه عن طريق العلم النظري والبحث الفكري دون أن يتخطاها إلى الذوق والمعاينة. وحال الناظر دون المعاينة كالأعمى الذي يعرف اللون عن طريق الاسم والشرح وليس عن طريق النظر. أما ابن سينا والغزالي وابن طفيل فقد اختاروا طريق الذوق. والطريق الأول أقل قدرا وقيمة من الطريق الثاني على عكس اللقاء الشهير بين ابن رشد وابن عربي حين قال ابن رشد: إنه يشاهد ما يعلم، وقال ابن عربي إنه يعلم ما يشاهد. يصف ابن طفيل تطور الوعي الفلسفي التاريخي لحظة ابن باجه، جيلا وراء جيل، كل جيل لاحق أحذق وأكمل من الجيل السابق. ولكن ابن باجه شغلته الدنيا حتى وافته المنية. ولم يظهر خزائن علمه، ولم يبث خبايا حكمته. وما بقي من كتبه مخرومة من أواخرها مثل كتاب «النفس» و«تدبير المتوحد»، وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. أما كتبه الكاملة فهي وجيزة، رسائل مختلسة أي سريعة كما صرح هو بذلك في رسالة الاتصال بأنه لا يمكن العثور على معناها إلا بعد عسر شديد، وأن ترتيب عباراته ليس على الوجه الأكمل. ولو اتسع له الوقت لقام بتعديلها. اطلع ابن طفيل على كتابات ابن باجه ولم يتعرف على شخصه بالرغم من التقارب بينهما في الزمان (533ه / 581ه). وأما من عاصره وكان في مرتبته فلم يكن له تأليف. فهل كان ابن رشد وغياب تأليف في الحكمة الإشراقية عنده؟ وأما غيرهم من المعاصرين له فهم كثر بغير كمال أو لم تصل لابن طفيل حقيقة أمرهم.
18
ويذكر الغزالي بعد ابن باجه وكأن التصوف التأملي لديه أقرب لابن طفيل من التصوف العملي عند الغزالي. ويستشهد ببيت له على المعارف الإلهية والعلوم اللدنية تعجز اللغة عن التعبير عنها وانتقاء العبارات والصياغات لها. فبعد أن طوف بالفلسفة انتهى إلى التصوف طريقا لليقين. وكفر الفلاسفة في «التهافت» لإنكارهم حشر الأجساد وإثبات الثواب والعقاب للنفوس. وقد تخبط مثل الفارابي في أمر المعاد، وهو الموضوع الرئيسي عند ابن طفيل. ويشير إلى مؤلفاته أكثر من الإشارة إلى شخصه مستشهدا بنصوص منها، من «التهافت» و«الميزان» و«المنقذ» و«الجواهر» و«المعارف العقلية» و«النفخ» و«التسوية» و«مسائل مجموعة»، و«المقصد الأسنى»، و«المشكاة». والعيب الرئيسي عند الغزالي هو تغيير خطابه بحسب الجمهور. للعامة خطاب هو الخطاب الفقهي، وللخاصة خطاب آخر هو الخطاب الفلسفي، ولخاصة الخاصة خطاب ثالث هو الخطاب الصوفي. الأول يشارك به الإنسان الجمهور، والثاني بحسب كل سائل ومسترشد، والثالث بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من كان شريكا له في اعتقاده. وهذه بداية خلط الغزالي؛ إذ صرح بالحكمة إلى الجمهور فاضطرب. ربط في محل، وأحل في ربط. ونشأ الاضطراب لديه لتأرجحه بين المستويات الثلاثة للخطاب. والبداية بالشك من أجل النظر، والنظر من أجل البصر، وإلا وقع الإنسان في العمى والحيرة والضلال. التصوف إذن ممثلا في الحركة الإشراقية هو بداية التحول من النقل إلى الإبداع، ومن العقل إلى القلب، ومن النظر إلى الذوق، ومن الكتاب إلى التجربة، ومن الفهم إلى المشاهدة. وقد وصل الغزالي إلى هذه المرحلة، فهو الذي يفصل تاريخ الفلسفة إلى مرحلتين. تحدث بالرمز والإشارة لأنها «المضنون به على غير أهله». ومن هو مؤهل لها صاحب البصر والبصيرة القادر على فهمها بأبسط إشارة. لم يصل إلى الأندلس منها شيء باستثناء «المعارف العقلية» و«النفخ والتسوية» و«مسائل مجموعة» و«المقصد الأسنى». بها أقل الإشارات، وليست ضمن المضنون به على غير أهله. وقد توحي «المشكاة» بأنها من المضنون به على غير أهله. أساء فهمه الناس، أنه يقول بالكثرة في الواحد وليس بالوحدانية. ومع ذلك فهو من الواصلين السعداء .
19
ويشير ابن طفيل إلى الفارابي شارحا أرسطو وعارضا له، ومنتسبا إلى نفس التيار، وهو النظر، بضرورة تجاوزه لعدم كفايته في الإبداع الفلسفي الذي يحتاج إلى الذوق والمشاهدة. معظم مؤلفات الفارابي في المنطق بالرغم مما يذكره ابن طفيل من كتبه الأخلاقية مثل «الملة الفاضلة» و«السياسة المدنية» وشرح كتاب الأخلاق. وما ورد فيها من الفلسفة كثير الشكوك فيما يتعلق ببقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام وبقاء إلى الأبد كما بين ذلك في «الملة الفاضلة». ثم عاد وقال إنها سائرة إلى العدم في «السياسة المدنية»، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم بين في «شرح كتاب الأخلاق» أمر السعادة الإنسانية وأنها تكون في هذه الحياة. وكل ما سوى ذلك هذيان وخرافات عجائز بنص الفارابي دون تحديد لمكانه. لذلك أيأس الفارابي الخلق جميعا، وجعل الفاضل والشرير في رتبة واحدة بعد أن جعل مصير الكل إلى العدم. كما جعل النبوة بقوة خيالية وفضل الفلسفة عليها. فهل هذا التأويل للفارابي صحيح أم أنه قراءة ابن طفيل له؟ هل صحيح أن الفارابي تخبط في أمر المعاد وتناقض في موضوع بقاء النفس بعد الموت، وساوى بين النفوس الشريرة والنفوس الخيرة في البقاء أو الهلاك؟ وإذا كان الموضوع الغالب على الفارابي هو المنطق فكيف يكون نقد ابن طفيل له في معظمه منصبا على الأخلاق، بقاء النفس بعد الموت؟ هل قدم ابن طفيل الفارابي اللغوي المنطقي أم الإشراقي الصوفي طبقا لفلسفة ابن طفيل؟ هل يرفض ابن طفيل أن تكون النبوة من فعل القوة الخيالية وأن تكون الفلسفة تجاوزا للخيال إلى العقل ذاته؟ هل صحيح أن الفارابي أيأس الخلق جميعا وجعل الفلسفة والدين للخاصة دون العامة وأن مهمة ابن طفيل العودة إلى العامة لخلاصها؟
20
وقد استشهد ابن طفيل بعدة آيات قرآنية في المقدمة والوسط والنهاية حيث تختلط العواطف الدينية بالعواطف الأدبية.
21
يظهر السجع كإيقاع موسيقي يجمع بين الدين والأدب. فبعد البسملة والحمدلة ووصف الله بالعظم الأعظم والقدم الأقدم، والعلم الأعلم، والحكيم الأحكم، والرحيم الأرحم، والكريم الأكرم، والحليم الأحلم ، تظهر آيات العلم والقلم والفضل والقصص والقلب والمشاهدة ووحدة الشهود، ووحدة الوجود ، والظاهر والباطن، والختم والطبع، وسنن الله في الكون، وتكثر الآيات أوقات الاستغراق الصوفي في المرحلة الخامسة ووقت مخاطبة العامة في المرحلة السادسة والأخيرة. كل ذلك أثناء سطوة الفقهاء الذين ينكرون مواجيد الصوفية ونظرياتهم في الحلول والاتحاد. وتظهر التعبيرات القرآنية غير المباشرة. فالقرآن إعجاز أدبي، مخزون نفسي، يفرض نفسه على الأسلوب. تغيرت الناس من سداد الرأي إلى فساده، ومن الفطر الفائقة إلى الفاسدة، ومن الكمال إلى النقص. فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا. ويظهر الحديث القدسي الشهير الذي يوحد بين السمع الإلهي والسمع الإنساني، والبصر الإلهي والبصر الإنساني في حالة الاتحاد. كما يظهر حديث خلق الله آدم على صورته، المرآة المزدوجة بين الله والإنسان، كل يرى الآخر ذاتا وموضوعا.
22
وتنتهي القصة بالصلاة والسلام على الرسول صاحب الخلق الطاهر والمعجز الباهر والبرهان القاهر والسيف الشاهر وكأننا في المدائح النبوية وعلى آله وصحبه والتسليم عليهم.
والأدب الصوفي أو الفلسفي الرمزي معروف قبل رواية حي بن يقظان «رسالة الطير» لابن سينا كنماذج للتصوف الفلسفي أي الفلسفة الصوفية. في الفلسفة بعض الجوانب الصوفية كما هو الحال في «الإشارات والتنبيهات» وفي التصوف بعض الجوانب الفلسفية كما هو الحال في الفلسفة الإلهية عند ابن عربي وابن سبعين مما يبين وحدة العلوم بالرغم من تمايزها، وكما اتحد الكلام بالفلسفة في علم الكلام المتأخر. ويظل التمايز في الفلسفة قائما بين تيارين، تيار عقلاني طبيعي عند الكندي والرازي وابن رشد، وتيار عقلاني إشراقي عند الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل، ويبدو المنحى الصوفي في الإحالة إلى ضيق الألفاظ واتساع الحقيقة والتلويح والإشارة والظاهر والباطن، والمقامات والأحوال، والقلم والعقل، والمشافهة والمعاينة. لذلك يذكر ابن طفيل الهند. فآسيا موطن الحكمة المشرقية. فهو أقرب إلى البيروني منه إلى مسكويه وأنصار حكمة فارس. ولم يظهر عند القدماء أنصار حكمة الصين لبعد المكان.
ويبدو الإشراق من العنوان «حي بن يقظان» حي من الحياة، ويقظان أبوه. فالحياة بنت اليقظة، والحياة دون اليقظة موت ، وحياة الكائن الحي بنت حياة الشعور أساسه في الوعي وليس في العضو . تلك دلالة أسماء الأعلام وليس شخصياتها المطابقة لها في الواقع أو الخيال، مثل أن يقظان هو الأب الذي تزوج سرا من الأم بعد أن رفض أخوها تزويجها للأكفاء. ذلك هو الحامل الاجتماعي، الزواج بين الأكفاء. ويمكن تفسير العنوان، الاسم بأن حي هو العقل ويقظان هو الله، والنطق من الله. وتختلف الدلالات باختلاف أعماق الفهم في الداخل وليس في الخارج.
وتبدأ القصة بتفسير كيف نشأ حي بن يقظان. هناك مذهبان في نشأة الإنسان في الكون: الأول الولادة الطبيعية التي هي منشأ توالد الإنسان من الإنسان بعد الإنسان الأول. والثاني التطور الطبيعي ونشأة الإنسان من اجتماع درجة معينة من الحرارة ودرجة معينة من الرطوبة كما هو الحال في آدم الذي خلق من طين أي الأرض ثم نفخت فيه الروح أي الحرارة. وتلك أهمية الجمع بين الطب والفلسفة، بين البدن والنفس. وقد تم التوالد الذاتي في الهند تحت خط الاستواء حيث الحرارة والمطر. ثم تتحول القصة من الجغرافيا إلى التاريخ بمجرد بدايتها، وذكر الخلاف بين المسعودي مؤرخا. خط الاستواء (جزر الهند) أعدل الأجواء وبين الفلاسفة والأطباء واعتبارهم الأعدل الإقليم الرابع ومعارضة ابن طفيل لهم وانتصاره للمسعودي. فهل صحيح ذكر المسعودي هذا التعليل أم أنه مجرد خيال لمتطلب القص؟ وهل التعليل بالنور والاستواء حقيقة أم مجازا، طبيعية أم إشراقا؟
23
وتتداخل عدة خطوط في القصة تبدو في أقسامها الأربع غير المتساوية كما وغير المتسقة كيفا. أولا، الافتتاحية الدينية التي توحي بالجو الديني العام الذي كتبت فيه القصة، ثانيا، تاريخ الفلسفة الإسلامية مع ذكر أسماء الحكماء وأعمالهم، ثالثا نشأة حي بن يقظان وعرض المذهبين، الخلق والتولد الطبيعي، رابعا التعليم الفلسفي والرقي الروحي حتى سن الثالثة والستين، عمر آخر الأنبياء. يبدأ الوعي الفلسفي في السابعة ويكتمل في الخمسين. وأطول سنوات العمر كشف الخامسة والثلاثين. وتوجد ست مراحل للعمر، سنوات الحسم فيها الثانية، والسابعة، والحادية والعشرون، والثامنة والعشرون، والخامسة والثلاثون، والخمسون. وتكشف الرواية بعد الخلق أو التولد الذاتي وكلاهما من الوحي والطبيعة عن مراحل الوعي بالذات وبالعالم عن تقليد الإنسان للأصوات ونشأة اللغة، وتسخير العقل في فهم الطبيعة، واكتشاف الموت، والنار والطاقة، والسمك، والجهات الأربع، والروح والنفس، والأبعاد الثلاثة. والإنسان في المعرفة متوحد بالطبع، وفي المجتمع مدني بالطبع. يعرف حي الحقيقة بمفرده، يعبر عنها ويبلغ بها ويؤسسها إلى آخر. ويكتشف الشريعة أيضا بالعقل مثل الصوم، فقد صام أربعين يوما.
24
وتقوم الرواية على شخصية واحدة، حي. ثم يظهر أبسال (الباطن) رجلا هاربا من سلامان (الظاهر). وهو أول تحول دلالي من اليونان إلى المسلمين، من قصة سلامان وأبسال، ثنائي الرجل والمرأة إلى ثنائي الظاهر والباطن، الشخصية الأولى هي المحورية والثانية هامشية. ولا توجد شخصية نسائية كما هو الحال في الأصل اليوناني بل توجد شخصيتان حيوانيتان، الظبية أم حي، والغراب الذي تعلم منه دفن الموتى. الشخصية الأولى واحدة، مع الحيوانات، وسط الطبيعة ثم يظهر أبسال وسلامان.
25
وتتداخل عدة خطوط روائية وتتمايز، تتواصل وتنقطع. فمنذ البداية يخرج ابن طفيل عن الموضوع إلى الطبيعيات متنقلا من التاريخ إلى الجغرافيا. يضع رواية داخل رواية، التولد الذاتي والخلق داخل حي. ثم يترك التولد الذاتي والخط الروائي ويعود إلى الطبيعيات من جديد ثم تعود القصة إلى وصف استغاثة الطفل لجوعه بعد التولد الذاتي. ثم تأتي فقرة في التشريح والطب بمناسبة التولد الذاتي بعد التاريخ والجغرافيا. ويتم الخروج عن الخط الروائي ويرد ابن طفيل على تعجب حي من الشرح المادي وتنبيهه إلى تغير الناس والزمان وأنهم لم يعودوا أصحاب الفطر الفائقة والأذهان الثاقبة والنفوس الحازمة بل أصبحوا من ذوي البلادة والنقص وسوء الرأي وضعف الحزم. ويتضح الربط المفتعل بين أجزاء القصة خاصة في البداية وكثرة تطويع الخط الروائي باستطراد، وتذكر ابن طفيل بضرورة العودة إلى الخط الروائي الأصلي ورفض الاستطراد بالرغم من أهميته. وأحيانا تكون الانتقالات للتذكير بما فات والتنبيه على الحاضر والوعد بما سيأتي في المستقبل تذكيرا بالمسار الروائي كله، وربطا للأجزاء بعضها بالبعض. وأحيانا تكون عبارات الربط البيان والتوضيح والشرح والتفصيل.
26
ويتبع ابن طفيل أسلوب مخاطبة القارئ سواء بضمير المخاطب أو بضمير الغائب أو بضمير المتكلم الجمع، ومخاطبة المؤلف لنفسه مع الاعتذار له في الكشف عن الأسرار وبيان أن القصد هو تقريب الكلام إلى الأفهام على سبيل الترغيب والتشويق لدخول الطريق. بدايتها تكشف عن أنها جواب عن سؤال بأسلوب الفتاوى كما هو الحال في «فصل المقال». القارئ هو السائل، والمؤلف هو المجيب سواء كان السؤال حقيقيا بالفعل أم كان محض خيال. كما ينبه ابن طفيل القارئ حين الخروج عن الخط الرئيسي للرواية. وتصبح مخاطبة القارئ إحدى وسائل الربط بين أجزاء القصة، ويصبح المؤلف راويا والقارئ مستمعا. وتكثر هذه الانتقالات في المرحلة الخامسة وكأننا في قصة الخضر مع موسى.
27
رابعا: ابن رشد
وتمثل مؤلفات ابن رشد الثلاثة في الكلام والفلسفة «فصل المقال»، «مناهج الأدلة»، «تهافت التهافت»، هذا النوع الأدبي، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد سواء من حيث الشكل في تحليل المضمون وأولوية الموروث على الوافد أو من حيث المضمون والموضوع. في «فصل المقال» رد الاعتبار لوحدة الحكمة والشريعة وضرورة الاعتبار وهو النظر في علوم الحكمة والقياس الشرعي في علوم الشريعة، وفي نهايته «ضميمة في العلم الإلهي» مثل قانون التأويل في مناهج الأدلة. وفي «مناهج الأدلة» رد الاعتبار لاستعمال العقل في النقل استعمالا برهانيا ضد الاستعمال الخطابي والجدلي عند الأشاعرة وتجاوز علم الكلام كله إلى الحكمة والقول البرهاني. وفي «تهافت التهافت» رد الاعتبار للوافد دفاعا عن الحكمة ضد استبعاده أو تكفير الحكماء.
1
تأليف ابن رشد إذن تأليف ملتزم يقوم على إثبات قضية أو نفيها وليس تأليفا عارضا على الأقل من حيث الشكل كما هو الحال عند ابن سينا. يثبت «فصل المقال» الصلة بين الحكمة والشريعة. ويخلص «مناهج الأدلة» علم الكلام من براثن الأشعرية. ويدافع «تهافت التهافت» عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي عليها، وهي في مجموعها قليلة كما ولكنها ملتزمة كيفا. وتنتظم هذه المؤلفات الثلاثة في إطار واحد، وضع النظرية في فصل المقال وتطبيقها في «مناهج الأدلة» تطهيرا من الكلام وإيجابا في «التهافت» دفاعا عن الفلسفة . ويهم معرفة تواريخ هذه المؤلفات لا لمعرفة تطور ابن رشد الفكري بل لمعرفة اهتمامات الحضارة وبواعثها من خلاله. وفي الغالب أن المؤلفات بعد الشروح. فتمثل الوافد قبل تنظير الموروث، والنقل قبل الإبداع. (1) فصل المقال
في «فصل المقال» يذكر أفلاطون ثم أرسطو والقدماء. وذكر أفلاطون من خلال المتكلمين في القول بتناهي الزمان، وهي قضية أسماء. فأفلاطون يسمي العالم محدثا أزليا لأنه متناه في الماضي وإن لم يكن متناهيا في المستقبل. وما يهم المسلمين هو التناهي في الماضي من أجل الخلق، أما التناهي في المستقبل فلا يهم نظرا للخلق وفي الثواب والعقاب والجنة والنار. وهو استمرار عرض تاريخ الفكر من خلال الخاص والمحلي، وهي قضية خلق العالم. الخاص معيار التاريخ العام، والموروث أساس قراءة الوافد.
2
ويبدو الموروث الأصيل في القرآن ثم الحديث مع ذكر البخاري محدثا، وإبراهيم نبيا.
3
وقد وردت الآيات لإثبات أن الفلسفة هي الاعتبار المذكور في القرآن واعتبار الموجودات والنظر في ملكوت السموات والأرض وخلق الإبل ورفع السماء وخلق السموات والأرض بالعقل. وقد خص الله إبراهيم بذلك، النظر في الموجودات، والنظر أو الاعتبار هو أيضا النص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي الشرعي أي النظر في جميع الموجودات واستنباط الفقيه من الآية وجوب معرفة القياس الفقهي. والأولى استنباط المعارف بالله وجوب معرفة القياس العقلي.
4
الراسخون في العلم يعلمون التأويل الجامع بين الظواهر المتعارضة، والقراءة تستلزم الوقوف بعد الله، والجواب على الأسئلة عن الموضوعات الغامضة التي لا يفهمها الجمهور مثل الروح تحال إلى الله. والأمانة هو التأويل الصحيح، الأمانة التي حملها الإنسان واشتقت منها الموجودات.
5
ظاهر الآيات يدل على قدم الوجود والزمان وبقائه، الاستمرار من الطرفين، من الأول والآخر.
6
وعلم الله بالكليات علم محيط شامل.
7
صاحب البرهان لا يشرك لأن البرهان يؤدي إلى التوحيد.
8
وتتضمن الشريعة طرق الدعاء إلى الله.
9
وطلب التقوى بالأفعال الشرعية صراحة في الكتاب مثل الصلاة والصيام والأضاحي.
10
كما استعمل ابن رشد عدة أحاديث لإثبات أن التشبيه بمنفعة علوم الحكمة أصلا دون عرض، فشرب العسل ضد الإسهال بالرغم من تزايد الإسهال بالتجربة لسبب عارض، فالنص مع التجربة أصل.
11
والمختلفون على المسائل النظرية إما مصيبون مأجورون أو مخطئون معذورون. والصدق بالخطأ من أجل شبهة عرضت لأهل العلم تجعلهم مقدورين.
12
والإيمان من أي طرق الإيمان الثلاث، الخطابة أو الجدل أو البرهان.
13
والتأويل محجوب عن العامة مثل تأويل آية الاستواء وحديث النزول ومن ثم ضرورة حبس الباطن عن الجمهور وترك الظاهر لهم، والباطن للخاصة أهل التأويل.
14
ويستشهد ابن رشد بعلي بن أبي طالب وبجماعة من أهل السلف على استحالة الإجماع على الأمور النظرية.
15
والتأليف خطاب مشترك بين المؤلف والقارئ، وقضية مشتركة يدعو فيها المؤلف للقارئ بالتوفيق. فالحضارة عنصر موحد جامع بين الكل. المؤلف ناصح للقارئ ومنبه له. ويدعو له المؤلف بالقرة والبركة والحفظ من المخاطر وحجب النوائب ثم إلقاء السلام قبل نهاية الكتاب. كما يطلب الناسخ رضاء الله على المؤلف ورحمته وكرمه. (2) «مناهج الأدلة»
وفي «مناهج الأدلة» لم يذكر من اليونان إلا أفلاطون وأرسطو وجالينوس. واليونانيون والحكماء والحكيم في مقابل الموروث الغالب الأصلي، آيات القرآن ثم الأحاديث النبوية ثم العرب.
16
فالموضوع داخلي وليس خارجيا في صلب التأليف، الصلة بين الفلسفة والدين أو بين العقل والنقل بلغة المتكلمين أو بين الحكمة والشريعة بلغة ابن رشد. وهو نفس موضوع «فصل المقال» ولكن سلبا، نقد الأشاعرة. «فصل المقال» الإيجاب، الصلة بين العقل والوحي في النظر وهو القياس الشرعي و«مناهج الأدلة» هو السلب، سوء استخدام العقل في الوحي كما تفعل الأشاعرة.
وقد تحدث ابن رشد عن أفلاطون وأرسطو في سياق واحد، في حديثين عن فلاسفة المسلمين، ابن سينا والجويني، حصارا للوافد بالموروث. فقد ذكر أفلاطون وأرسطو قضية خلافية، الجائز محدث، اختلف فيها. فهي مقدمة غير بينة بنفسها، أجازه أفلاطون أزليا، ومقدمه أرسطو. ولا حل له إلا في الموروث عند أهل البرهان الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادته بشهادتهم وشهادة الملائكة. يبدو أفلاطون ميتافيزيقيا شاعرا يجمع بين نقيضين في الظاهر. في حين يبدو أرسطو عقليا عالما لا يذهب إلى ما وراء الاتساق الفعلي والتصور المنطقي. وهنا يبدو ابن رشد أشعريا صوفيا لاعتبار أهل البرهان هم العلماء الذين خصهم الله بعلمه، أنصار العلم اللدني.
17
وقد ذكر جالينوس مع سائر الحكماء لتأييد موقفه في عناية الله بالعالم ووضع جالينوس القوى في الأجسام لتدبير الحيوان. هي قوى من وضع الله في الأجسام للتغذي والإحساس وإلا لبطلت الأجسام ولما تبقت ساعة واحدة بعد إيجادها. لا فرق إذن بين الوافد والموروث بين جالينوس وابن رشد في القول بالعناية الإلهية.
والوحي عند العرب مثل الحكمة عند اليونان. أعطى الوحي الشريعة لبيان طريق السعادة والمعرفة، لا بصناعة ولا حكمة بل بوحي من الله على لسان النبي. جاء الوحي لنبي أمي في أمة أمية لم تزاول العلم ولا الحكمة ولم تفحص في الموجودات كما فعل اليونان وغيرهم من الأمم. فلم تكن الحكمة قاصرة على اليونان وحدهم بل كانت عادة عند الكثير من الشعوب، ووصلت إلى ما وصلت إليه من كمال. وظيفة الوحي وغايته مثل وظيفة الحكمة وغايتها. ويستشهد ابن رشد في ذلك بآيات ثلاث.
18
وقد ذكر الحكيم تحولا من الشخص إلى الرمز، ومن الاسم إلى اللقب استشهادا بقوله عن ارتباط الرؤية بالعين في كل عمر في سياق ضرب المثل بفساد الآلة أي النفس في حالة النوم.
و«مناهج الأدلة» أكثر مؤلفات ابن رشد إن لم تكن المؤلفات الفلسفية على الإطلاق اعتمادا على الموروث الأصلي للقرآن الكريم والحديث النبوي حتى يمكن دحض الأشعرية بالنص، نصا بنص، ونقلا بنقل، وسلطة بسلطة. ولأنه فقيه يعود إلى الأصل سواء كان في الوافد أو في الموروث. ويمكن تجميعها في عدة موضوعات رئيسية بالرغم من تناثرها.
اعتراف العرب كلها بوجود الله لأنها معرفة فطرية بديهية في النفس لا تحتاج إلى دليل لإقناع النفس بها. ومع ذلك يدعو القرآن الناس إلى النظر بأدلة عقلية منصوص عليها والتصديق بوجود الباري. وهو طريق إبراهيم، طريق الخواص لمعرفة الله يقينا، من الحركة إلى السكون، ومن التغير إلى الثبات نفيا للألوهية عن الأجرام والكواكب. ومع ذلك لم يتحقق الشرع مع الجمهور في قدم الإرادة أو حدوثها بل صرح بألا تظهر أنها حادثة لأن الجمهور لا يفهم صدور الحادث من القديم. وفي نفس الوقت يحتج الصوفية لإثبات طريق الذوق بظواهر الشرع فيهدمون النظر من أساسه. فالمعارف الضرورية من علم الأقل كما هو وارد في النص.
19
ودليل العناية ودليل الاختراع نموذجان للأدلة القرآنية على وجود الله. وهي أدلة في الفطرة منصوص عليها في الشرع. فالشرع منبه على الفطرة، والفطرة تأكيد على الشرع. والفطرة عند ابن رشد هو عهد الذر الأول الذي أخذ الله فيه على بني آدم عهد التوحيد، وأشهدهم على أنفسهم بوحدانية كما يقول الصوفية. هو دليل عملي يتطلب الطاعة والامتثال، تشارك في كل مظاهر الكون بالتسبيح كل بلغته. ومن سلك هذه الطريق يكون من العلماء الذين يشهدون لله بربوبيته مع شهادة الله لنفسه مع الملائكة ومثل تسبيح الموجودات له. والتعليم الشرعي نافع للأكثر ضار للأقل الذين في قلوبهم مرض وزيغ ويتبعون المتشابه ابتغاء التأويل والفتنة.
20
ومع ذلك يقوم كل من دليل العناية ودليل الاختراع على مقدمات ونتائج كما هو الحال في الدليل المنطقي. فمثلا يقوم دليل الاختراع على مقدمتين. الأولى أن الموجودات مخترعة. وهي مقدمة معروفة بنفسها من ملاحظة النبات والحيوان. والثانية أن كل مخترع له مخترع لأن من لم يعرف حقيقة الشيء، لم يعرف حقيقة الاختراع. وهناك بعض الآيات تتضمن دليل العناية وحده، وآيات أخرى تتضمن دليل الاختراع وحده، وآيات ثالثة تجمع بين الدليلين وهي الأكثر. والدليلان في النصوص بمعنى الحكمة والتدبير تحولا إلى دليل دافع به المسلمون عن العناية ضد اليونان. وفي كلتا الحالتين حكمة الطبيعة عند المسلمين من الله وعند اليونان من الطبيعة. فقد خلقت الطبيعة لمنفعة الإنسان، الجبال لسكون الأرض، وموافقة الليل والنهار لدورة النوم واليقظة عند الحيوان والنبات، وموافقة كل شيء على الأرض في حياة الإنسان، السماء والشمس والقمر والكواكب والنجوم والماء والنبات والزرع والهواء. ويثبت القرآن العناية ضد الجواز، جواز أن يكون الشيء على غير ما هو عليه أو الاتفاق وهو الأقل ضرورة. والجواز لا يسمح بالإتقان . فالجائز ليس أولى بالشيء من ضده.
21
ويستعمل ابن رشد لفظ دلالة وليس «دليل»، أي إنها مجرد إشارة أو علامة وإن لم تكن دليلا في صياغة منطقية، مقدمات ونتائج. ويلاحظ كثرة النصوص كما هو الحال عند الأشعري في «الإبانة» أو الرازي في «أساس التقديس». والعذر في ذلك أنه يريد أن يكون أشعريا مع الأشاعرة كما أراد الغزالي أن يكون متكلما مع المتكلمين، فليسوفا مع الفلاسفة، أصوليا مع الأصوليين، صوفيا مع الصوفية.
22
ويثبت ابن رشد وحدانية الله بعديد من الآيات ونفيها عمن سواه بنص الشرع بنفس الآيات التي صاغ بها الأشعري دليل الممانعة، استحالة وجود إلهين في وقت واحد. ويعلم العلماء هذا الدليل من إيجاد العالم وكون أجزاء بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد أكثر مما يعلم الجمهور. ويبرهن ابن رشد على كل مقدمة من مقدمات الدليل بالنص فأصبح تأويل النص هو تحليل للعقل وتحقيق الطبيعة. وينتهي من مجموع الآيات إلى استحالة وجود إلهين متفقين أو مختلفين في الأفعال. وأحيانا يعرض صفة القيام بالنفس مع الإنسانية. فالله لا يقوم بالعرش بل العرش الذي يقوم به.
23
ثم تثبت صفة العلم بالأشياء الحادثة دون أن يكون العلم قديما. العلم بالمحدثات حين حدوثها. لا يعلم حادث بعلم قديم. فهذه بدعة. وهو حكم شرعي من ابن رشد الفقيه. وتثبت صفة الإرادة بأن الله يريد كل شيء وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه. وتثبت صفة الكلام بالطرق الثلاث التي تحدث عنها القرآن. الأولى الوحي بغير واسطة لفظ بل بانكشاف المعنى، والثاني من وراء حجاب بواسطة ألفاظ مثل موسى. والثالث يرسل رسولا بواسطة ملك مثل محمد. وبهذه الجهة صح أن القرآن كلام الله. وقد يكون من كلام العلماء ما يلقيه الله لهم. فهم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين. وهنا يبدو ابن رشد صوفيا مغرقا، لا فرق بين كلام العلماء وكلام الأولياء. وتثبت صفتا السمع والبصر. فمن العبث عبادة الإنسان من لا يدرك. هذا هو الحد الشرعي لمعرفة التوحيد وكأن ابن رشد ينظر إلى علم الكلام من منظور شرعي. ابن رشد الفقيه يحكم على ابن رشد المتكلم.
24
وبعد إقرار ما يجب لله، يقرر ابن رشد ما يستحيل عليه. فبعد آيات الوجود تأتي آيات الأسلوب. ويبدأ ابن رشد بتكفير قول النصارى في الأقانيم الثلاثة، الوجود والحياة والعلم، بناء على القول بتعدد الصفات الزائدة على الذات عند الأشاعرة. ثم يثبت التنزيه في النص وفي الفطرة. وينفي صفات المخلوق وهي صفات النقص مثل الموت والنوم والغفلة والسهر والنسيان والخطأ، وهي الصفات المشتركة عند الأشاعرة. أما صفة الجسمية فلا يصرح الشرع بنفي أو إثبات. الله ليس كمثله شيء. يؤدي نفي الجسم إلى شكوك كثيرة في الشرع الذي يتحدث عن نزول الوحي من السماء والملائكة وصعودها. كما يؤدي نفي الحركة إلى نفي كثير من مظاهر المعاد. الشريعة متشابهة. ولم يصرح الشرع بنفي الجسمية ولا إثباتها. لا يذهب ابن رشد مثل المعتزلة إلى نفي الجسم والجهة وجميع صفات التجسيم والتشبيه بل يتوقف فيها فيصبح بين الأشاعرة والمعتزلة أقرب إلى موقف الفقهاء. كذلك لم يصرح الشرع بماهية النفس لأنه يصعب عند الجمهور إثبات صفة القيام بالنفس أو القيام بالذات ولم يصرح الخليل بنفيها بل وصف فعلها عندما وصف الله بأنه يحيي ويميت.
25
وتقتضى ظواهر الشرع إثبات الجهة كما هو الحال عند الأشعرية والظاهرية والحشوية. فقد يكون غرض ابن رشد جدليا خالصا، إعطاء الخصم ظاهريا بعض الحق حتى يمكن نقده بعد ذلك والاعتراف له ببعض الصدق حتى يمكن تفنيده بعد ذلك، الاقتراب من أجل سهولة التصويب إذ يمكن فهم الجهة على ضرورة نسبة الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف أي السموات. فالجهة تحدد غير الله وليس الله، تحدد الأقل شرفا بالأشرف وكأن ابن رشد هنا يسقط حكم الواقع على حكم القيمة، ويحدد الجهة بالمطلب. ويحال موضوع الرؤية إلى الجهة لما يوجبه النص. وحين تعارض أخبار الآحاد التي تثبت الرؤية ظاهر النص القرآني يرجح القرآن كما تقول الظاهرية.
26
وبالإضافة إلى طريق الإيجاب، إثبات صفات الكمال لله، وطريق السلب، نفي صفات النقص عنه، هناك طريقة تشبيه. فالصورة الفنية أفضل من التصور العقلي، والتعبير البلاغي أكثر إيحاء للمعنى من الدليل البرهاني. وهو طريق الشرع أيضا عندما وصف الله بأنه نور السموات والأرض.
27
والعالم مخلوق في الزمان، وأنه خلقه من شيء قياسا على الشاهد. وبالتالي لا يجوز التأويل على خلاف ذلك. ويؤول ابن رشد آيات القرآن لإثبات أن الخلق من شيء والتي اعتبرت خطأ أدلة نقلية قليد على قدم العالم. ويظل سؤال العامة قائما عن الخلق من عدم أكثر قدرة من الخلق من شيء.
28
وهناك آية تدل على القضاء والقدر وآيات أخرى تدل على الاكتساب. وقد يقع التعارض في الآية الواحدة. ويريد الشرع التوسط بين الأمرين كما يقول الأشاعرة الكسب توسط بين الجبر والاختيار. وعلم الله بالأسباب هو العلة في وجودها. لذلك فإنه وحده هو الذي يحيط بها. وهو العالم وحده بالغيب على الحقيقة. معرفة الأسباب هو العلم بالغيب لأن الغيب هو معرفة وجود الموجود في المستقبل. مفاتيح الغيب هي أسباب الموجودات في المستقبل. هذه الأسباب هي القوى الطبيعية في الأجسام الحيوانية والنباتية والسارية في هذا العالم. والطبيعة هي الحافظة للموجود وقوانين الطبيعة لخدمة الإنسان وتسخيرها له، وهي أحد مظاهر الحكمة والنعمة التي على الإنسان أن يشكرها. والله خالق الجواهر والأعيان. وهو مخترعها وما يقترن بها من أسباب تؤثر في الأعراض لا في الجواهر. فلا خالق إلا الله إذا كانت المخلوقات في الحقيقة هي الجواهر. وهذا ما يشهد به السمع والعقل. الخالق يعني الفاعل المخترع للجواهر، لا يشاركه في فعله مخلوق وهنا يبدو ابن رشد أشعريا تجاوزه أصحاب الطبائع من المعتزلة القائلين بالطفرة والكمون. خلق الله الجواهر عند الطبائعيين ثم خلقت الجواهر الأعراض نظرا لعدم تعري الجواهر عن الأعراض.
29
وما ظهر على يد الرسول من الكرامات والخوارق إنما ظهرت أثناء أحواله وكأنه ولي أو صوفي دون أن يتحدى بها أحدا. إنما تحدى بالكتاب وحده. وهو تجاوز للموقف الأشعري التقليدي الذي يرى المعجزات خرقا للعادات ولقوانين الطبيعة وكأدلة على صدق النبي، وتثبت النبوة بمقدمتين. الأولى وضع الأنبياء الشرائع العامة للناس جميعا، وهم أميون. والثانية كل من فعل ذلك فهو نبي. والآيات التي يذكرها ابن رشد لإثبات المقدمتين غير مطابقتين تماما. هناك آيات أخرى أكثر مطابقة تتحدث عن النبي الأمي وماذا عن الاعتراض بأن حياة الأسفار قد علمته في ثقافة شفاهية وليست مدونة بالإضافة إلى التعلم الذاتي أو قدرته على الإبداع الذاتي كما يفعل الأبطال والقادة؟ أين تصديق الكلام في الواقع وإثبات صحته وفعاليته وقدرته على التغير الاجتماعي والسياسي أي التحدي الفكري والسياسي؟ وإذا كانت كل هذه العلوم والمعارف وكل هذه الشرائع والفضائل من الوحي فأين حكمة الشعوب التي تناقلتها الحضارات والأجيال؟ يبدو ابن رشد هنا فقيها حنبليا أكثر منه فقيها مالكيا. يختار النص ويجعل دليلا بنفسه دون تعقيله أو تحقيقه في الواقع للمصالح العامة، كما أنه يتحدث عن أصلين أكثر من حديثه عن مقدمتين وكأنه لا يصوغ برهانا كفيلسوف منطقي بل يتحدث عن أصول كفقيه. لقد غلب الفقيه على الفيلسوف في نقده الكلام الأشعري مثل باقي الفقهاء المتأخرين وعلى رأسهم ابن تيمية.
30
وفي مسألة الجور والعدل يرفض ابن رشد موقف الأشاعرة بإنكار الحسن والقبح والعدل والجور العقليين لأنه خلاف المسموع والمعقول. فقد وصف الله نفسه في كتابه بالقسط، ونفى عن نفسه الظلم، أما الآيات التي تشير إلى الإضلال والهداية والختم والطبع والتوفيق والسداد والخذلان فإنه لا يمكن أن تحمل على ظواهرها لأنها معارضة بظواهر آيات أخرى منها تلك التي نفى الله فيها عن نفسه الظلم والتي تجعل الإيمان والكفر والإضلال والهداية من فعل الإنسان. ويعرف ذلك الإنسان بفطرته منذ عهد الذر الأول. لذلك وجب الجمع بين هذه الظواهر المتعارضة للنصوص على نحو ما يوجبه العقل. فإذا كانت الهداية والضلال من الله كان ذلك بالمشيئة السابقة. وإن كان من الإنسان فإما من طباعهم المخلوقة (الداخل) أو من الأسباب (الخارج) أو من كليهما معا. ولما كانت الطباع مختلفة فقد تكون الآيات مضلة للبعض هادية للبعض الآخر دون تصد مباشر من الله في كلتا الحالتين. الهداية والضلال من الله ليست مباشرة بل من خلال توسط الطبائع الخيرة أم الشريرة. فيكون الشر أحيانا ما خفي على الإنسان بل على الملائكة من الحكمة الإلهية. وفي نفس الوقت يرفض ابن رشد الواجبات العقلية عند المعتزلة. فالله لا يفعل فعلا لأنه واجب عليه. ولما ظن الجمهور أن جميع الموجودات بريئة من الشر إلا أن الخواص يفهمون ذلك فإنه لا يجب على الله أن يخلق خلقا مقترنا بالشر. بل لو شاء لخلق خلقا لا يقترن بالشر. بل خلق الخلق المقترن بالخير وبالتالي يكون لكل نفس هداها. وواضح من هذا النقد للأشعرية أن ابن رشد لم يستطع الحسم لتوسطه بين الأشعرية والاعتزال. فما زال القول بالطبائع والأسباب واقعا تحت تهمة الشرك سواء كانت في الداخل أم في الخارج. كما أن تحول الوجوب العقلي عند المعتزلة إلى أماكن يجعل إرادة الله احتمالية نظرية ويجعل علمه غير متحقق. والحقيقة أن حل هذه القضية ليس في النص بل في قراءة النص. وقراءة النص تخضع للمواقف الفكرية والأوضاع الاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية للعصر. المشكلة خارج النص وليست داخل النص. والداخل يتأقلم مع الخارج. وهذه هي الحضارة إلى أن تأتي فترة يتم فيها تطهير النص من شوائبه والعودة إلى الأصول. ويكون الخارج قد ضعف وانهار. فتنشأ ظروف أخرى وحضارة جديدة وتكيف جديد. وكل «مناهج الأدلة» تفسير وتفسير مضاد. وكل مفكر يرى أن الظاهر موقف الخصم ولا بد من تأويله وأن المؤول هو الخصم ولا بد من إبقائه على ظاهره. فالنص مجرد سلاح يتم توجيهه بيد المحارب وليس محاربا بذاته. والمجتمع هو الذي يوجه المحارب طبقا لوضعه الاجتماعي والطبقي. هذا هو الملاحظ على جدل ابن رشد ضد الأشاعرة في «مناهج الأدلة».
31
وقد نبه القرآن على موضوع المعاد، وأثنى على العلماء الذين انتهوا إلى غاية الإنسان من الوجود، وخلق الإنسان لفعل مطلوب منه، ثمرة وجوده، رسالته في الحياة.
32
نبه القرآن على معنى يدركه العلماء بالفعل والتجربة، موجود في الطبيعة كواقع وفي الفعل كمعنى. ووجود الغاية في الإنسان أظهر فيه من جميع الموجودات. وتشتد حسرة النفس على ما فاتها من التزكية بعد مفارقتها البدن لأن الاكتساب مع البدن والسعي في هذه الحياة. وهناك دليلان على إثبات المعاد. الأول قياس المساوي على مساويه، البعث على الخلق. والثاني قياس الأكثر على الأقل، العودة على البدء وهو قياس الأولى بتعبير الفقهاء. والعجيب عدم الإشارة إلى الكندي أول من قال بهذا القياس والتراكم الفلسفي في القرن السادس الهجري عند ابن رشد قد وصل الذروة في «تهافت التهافت» وعند ابن طفيل معاصره في «حي بن يقظان»! وصحة إخراج الضد من الضد غير دقيقة لأن النار لا تخرج من الشجر الأخضر بل من الشجر اليابس وهو أسهل وليس أصعب. أما الدليل على بقاء النفس فهو قياس الموت على النوم، قياس الأكبر على الأصغر، والأصعب على الأسهل، والأكثر على الأقل، كما هو الحال من جديد في قياس الأولى. فالموت والنوم تعطيل لفعل النفس فلو تعطل فعلها في الموت لفسادها لا بتغيير آلتها لكان تعطل فعلها في النوم لفسادها. ولما كانت تعود بعد النوم ثبت أن تعطل فعلها ليس لفساد جوهرها وإنما هو تعطل آلتها فحسب، ولا يلزم من تعطل الآلة تعطل النفس. فالموت تعطل الآلة كالنوم. وربما كانت الآيات ببلاغتها أكثر إقناعا من هذا الاستدلال المنطقي الذي صاغه الفقهاء حول أقيسة القرآن وأقيسة الرسول.
33
والغاية من تمثل الوافد في وعاء الموروث: (1)
القضاء على الاغتراب ووجود ثقافة مستقلة خارج الإطار الثقافي العام منعا لجذبه وشق الثقافة إلى قسمين أقلية وأغلبية. (2)
إكمال الوافد، فالعقل لا يكتمل إلا بالشرع. (3)
تنشيط الموروث وتنظيره واتساعه حتى يشمل الوافد والخروج من دائرة الفقه والكلام إلى دائرة الفلسفة. (4)
تأكيد وحدة العقل الإنساني عبر الحضارات وقدرته على الوصول إلى الحكمة الخالدة، ما يتفق عليه الحضارات جميعا. (5)
تجاوز الألفاظ والتعبير عن الوافد بلغة الموروث وعن الموروث بلغة الوافد بحثا عن وحدة المعنى وتعدد الألفاظ طبقا لمنطق التشكل الكاذب وجدل اللفظ والمعنى والشيء.
ويستعمل ابن رشد تسع أحاديث في نفس الموضوعات الكلامية. منها قدسية ومنها نبوية دون الشك في صحتها، تجعله أقرب إلى الصوفية منه إلى الحكماء وهي: (1)
خلق الله الإنسان طبقا لصورته ومثاله، وبالتالي يمكن الاستدلال على صفات الخالق من صفات أشرف المخلوقات وهو الإنسان مثل العلم والحياة والقدرة والإرادة وهو أساس التشبيه، تشبيه الإنسان بالله في الصفات أو إسقاط الإنسان صفاته على الله، ومن ثم يكون الله من خلق الإنسان معرفيا كما أن الإنسان من خلق الله وجوديا.
34
وكل عقائد التأليه والتجسيم والتشبيه في علم العقائد الإسلامية تخرج من هذا الحديث، وهو شبيه بما يروى في التوراة «أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله» ودون أن يتعرض ابن رشد لصحته. هو حديث غيبي تشبيهي صوفي وليس عمليا تشريعا واقعيا وهي الغاية من الأحاديث، بيان المجمل وإحكام المتشابه، وتقييد المطلق. ولا يوجد في القرآن الكريم ما يؤيد هذا التصور. وقد وصف الله نفسه إيجابا وسلبا وتشبيها بالنور، وهو ما يعتمد عليه الصوفية مما يدل على تجاوز تصورات العقل وبراهينه بصور الخيال، والتحول من الخاصة إلى العامة، وإدخال الغيبيات ضمن الشرعيات، خاصة وأن الحديث ضمن المرويات من الإسراء والمعراج وبها قدر كبير من الخيال الشعبي. ولا يذكر ابن رشد درجة صحة الحديث خاصة وأنه يذكر عدة روايات له. ويحيل إلى «كتاب» مسلم الذي حولناه نحن إلى صحيح مسلم زيادة في الثقة به والتقديس له.
35 (2)
استعمال الفرقة الناجية وهي الظاهرية التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صريحا للناس. ولا يتشكك ابن رشد في صحة الحديث أو يلاحظ سوء استخدامه سياسيا لتكفير فرق المعارضة وإضفاء الشرعية على فرقة السلطان بل يعينها بالظاهرية بالرغم مما فيها من حشوية وتشبيه يصل أحيانا إلى حد التجسيم، في حيث يشكك ابن حزم الأندلسي، ومن موطن ابن رشد، فيه. كما يعتمد عليه ابن رشد في «تهافت التهافت» ويستشهد به على تمزيق الشرع وتشتت الفرق. لذلك ينصح ابن رشد مستشهدا بحديث رابع على ضرورة الالتزام بحد الشرع في التعليم وعدم التصريح بالتأويل لغيره وخلط تعليم الخاصة مع تعليم العامة. وهنا يتغلب ابن رشد الفقيه على ابن رشد الفيلسوف في تحريم الفلسفة على الجمهور وإباحتها للعلماء.
36 (3)
الإسلام خاتمة الرسالات، والشريعة عامة للناس، والأنبياء والرسل السابقون كلهم مسلمون، ولو كانوا أحياء لاتبعوا شريعة الإسلام لأنها أكثر الشرائع عمومية وشمولية للبشر جميعا بصرف النظر عن أجناسهم وأقوامهم. وهذا فضل النبي في الوحي واستحقاقه اسم النبوة. وهذا هو ابن رشد الفقيه الذي تغلب على ابن رشد المتكلم.
37 (4)
وتتعارض بعض الأحاديث الخاصة بالقضاء والقدر مثل خلق كل مولود على الفطرة ثم التهويد والتنصير من الأبوين، وفي نفس الوقت خلق الله الناس وأعمالها، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. ومع ذلك يختار ابن رشد الحديث الأول، حديث الفطرة إثباتا للكسب ورفضا للجبر دون أن يحل التعارض عقليا أو نصيا عن طريق التأويل. كما أن حديث الفطرة يجعل الكسب للآباء وليس للأبناء. فهو أقرب إلى الحتمية التربوية الاجتماعية منه إلى الكسب أو حرية الاختيار.
38 (5)
ضرب أمثلة في قانون التأويل بأربعة أحاديث مع أن القرآن هو الموضوع الأول للتأويل، وذكر الأحاديث الأربعة في الصنف الثالث وهو العلم بأن قريب أنه مثال الشيء، ولماذا هو كذلك بعلم بعيد من القسم الثاني المنقسم وهو ألا يكون المعنى المصرح به في الشرع هو المعنى الموجود وإنما أخذ بدله على جهة التمثيل. والسؤال الآن: لماذا وضع ابن رشد قانون التأويل بعد عبارة الختام والكتاب كله مبني عليه؟ وآخر عبارة في «مناهج الأدلة» ملة الإسلام وبالتالي تكون للكتاب خاتمتان، قانون التأويل والغرض من الكتاب.
39
وبتحليل مضمون الألفاظ الموروثة في «مناهج الأدلة» يتصدر لفظ التأويل ثم الشرع ثم القياس ثم البرهان ثم الله ثم النظر ثم الإجماع ثم الحكمة ثم الإسلام ثم الرسول، مما يدل على أن الموضوع الرئيسي هو التأويل بمعيار الشرع وفي إطار القياس البرهاني دفاعا عن مناهج النظر والإجماع والفقه، وجمعا بين مناهج النظر وطرق الشرع. وهذه هي الحكمة والإسلام وما أتى به الكتاب والرسول. ثم تأتي بعد ذلك ألفاظ أقل أهمية مثل العقل والتحليل والفلسفة والوجوب والشريعة والندب. ويتم تخصيص النظر بالشرعي، كما يتم تخصيص الألفاظ الشرعية مثل: إجماع، مأمور، متواتر ، أحكام شرعية، أصول فقه، نظر شرعي.
40
ويتم أيضا تخصيص القياس إلى عقلي وشرعي وبرهاني وجدلي وخطابي ومغالطي وظني ويقيني.
41
وبتحليل الألفاظ الشرعية يتصدر لفظ «الله» غير الباري تبارك وتعالى، والخالق وسبحانه وغيرها من الألقاب، ثم الشرع، ثم الشرائع، ثم الشريعة، ثم الشارع ثم الكتاب العزيز والكتاب وكتابه ثم الرسول والرسل والرسالة ثم النبي والنبوة والأنبياء ثم الإسلام والمسلمون ثم العقل ثم السمع والوحي والملائكة، مما يدل على الغوص في الموروث.
42
ثم تظهر ألفاظ الفرق الإسلامية، ويتصدر المتعلمون وصناعة الكلام والكلام ثم الأشعرية ثم المعتزلة ثم الصوفية والحشوية ثم الجبرية ثم الباطنية والخوارج والدهرية.
43
ثم تظهر ألفاظ أخرى أقل ترددا مثل الملة والتواتر.
44
وتظهر ألفاظ قصص الأنبياء مما يضع الإسلام في إطار الديانات السابقة، موسى ثم محمد وإبراهيم وعيسى.
45
ويظهر الأسلوب الإسلامي في التأليف الفلسفي، الأسلوب الفقهي الذي يرد على الاعتراض سلفا من أجل إحكام الموضوع نظريا وتناوله من كل جوانبه مثل «وليس لقائل أن يقول»، فإن قال قائل، «فإن قيل»، ويرد عليه «بل نقول»، «فنقول»، «فإنه يقال لهم» مما يدل على طابع الفكر السجالي الكلامي.
46 (3) «تهافت التهافت»
وفي «تهافت التهافت» يظهر الوافد والموروث واضحا بالرغم من أولوية تنظير الموروث على تمثل الوافد. (أ) الوافد
ومن الوافد يتصدر أرسطو مع الحكيم ومن كتبه النفس والسماع والبرهان ثم الكون والفساد، ثم السفسطة والسماء والعالم والمقولات والحيوان والحروف والتدبيرات الفلكية والجزئية والحيوان والمبادئ. كل ذلك فيما يتعلق بأرسطو. ثم يذكر أفلاطون ثم جالينوس ثم الإسكندر ثم فيثاغورس، وانكساجوراس وبارميندس، ومالسيس، وأبقراط، وفرفوريوس الصوري، وسقراط، وثامسطيوس. ومن الفرق يذكر السوفسطائيون ثم القدماء ثم الحكماء ثم الفلاسفة القدماء ثم القدماء من الفلاسفة. ثم يذكر الحكماء ثم الدهرية مع الدهريين، ثم المشاءون ثم المتأخرون والمترجمون ثم المتقدمون واليونانيون والأوائل.
47
وقد سمى أرسطو الرئيس الأول للفلاسفة. فابن رشد هو الذي يهب اليونان ألقابهم وليس الذي يأخذ من اللاتين ألقابه مثل «الشارح الأعظم». فاللقب يدل على رؤية الأنا للآخر. ويعتمد عليه ابن رشد للبرهان. فبرهانه معقول مثل إثبات أنه لو أن للحركة حركة لما وجدت الحركة. وأحيانا يبدأ ابن رشد ذكر أرسطو بأفعال مثل «يرى»، «يصرح»، أو بأسماء إشارة «كذلك» وليس بأفعال القول. فالمضمون هو الهدف وليس الصورة، المعنى وليس اللفظ، الشيء وليس القول. ويزيد ابن رشد برهان أرسطو، برهانا على برهان، ويدلل على صحة رؤيته مثل جهات السماء الأربع أو تعريف الزمان بأنه عدد الحركة. قول أرسطو صحيح ولكنه بالنسبة للأفلاك وليس على الإطلاق أو استعماله لقياس شيء آخر عليه لأن الشيء الآخر تصور في الشرع والآيات القرآنية. ابن رشد نفسه هو الذي يدرس ويحلل ويستنتج وينتهي. ثم يذكر أرسطو لبيان اتفاقه معه. فأرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح. أرسطو هو القارئ وابن رشد هو المقروء. لقد صرح أرسطو في غير مكان من كتبه بأن كل ممكن الوجود فهو محدث. وهو بذلك يشرح إحدى مقدمات المتكلمين. هنا يصبح الآخر شارحا للأنا وليس الأنا شارحا للآخر. يبدأ ابن رشد بفكرة أرسطو وهو استنتاج الحدوث من التدوير ثم يوضحها ابن رشد قارئا إياها إسلاميا من أجل إثبات خلق العالم. فالنقل مقدمة للإبداع. ويستعمل ابن رشد قضية كل تركيب فاسد عند أرسطو تأييدا لتحليله العلمي الجزئي لإثبات اتفاق العلماء على الحقائق العلمية وللارتباط بتاريخ الفكر والعلم، ولتأكيد أقوال السابقين أو لتأكيد أقوال السابقين له منعا لازدواجية الثقافة بين الوافد والموروث، ولتقوية الحجة بإجماع العلماء ونزع سلاح الوافد من أيدي الخصوم لضربه. بعد أن يصل ابن رشد إلى الحق يستشهد بأرسطو، ويوضح مكان استشهاده بذكر اسم مؤلفه مثل كتاب البرهان. بل إن ابن رشد يدخل في مسار الفكر الأرسطي، مقدماته ونتائجه، استدلالاته وبراهينه، خطوة خطوة حتى يبين معقولية فكره واتفاقه مع التجربة والمشاهدة وإن اختلفت العبارة أو التصور أو طرق التشبيه نظرا لاختلاف الحضارات وتمايز الثقافات. فإذا أراد إثبات أن الأرض مستديرة جعلها محدثة معلولة حتى ينقلها إلى الأزلية بعد ذلك.
48
ويدرك ابن رشد حقيقة مذهب أرسطو وينقد تأويلات المشائين له. وقد أخطأ الفلاسفة المسلمون مثل ابن سينا باتباعهم هذه التأويلات دون العودة إلى الأصل. وابن رشد الأصولي يعود إلى الأصل ليس فقط في دراسة الموروث بل أيضا في دراسة الوافد. المنهج واحد. كما ينسب المشاءون لأرسطو أقوالا لم يقلها مثل جعلهم السبب في أن الواحد علة هو التوسط وأنه لم ينقل هذا إلا عن فرفوريوس صاحب مدخل علم المنطق «ايزاغوجي» ولم يكن من حذاقهم. كما أن العقل عند أرسطو مسئولية الكل وليس كما تقول عليه أبو حامد. لذلك يراجع ابن رشد مذهب أرسطو، ويميز بينه وبين تأويلات المشائين. ويتفق مع أرسطو في عدة أقسام العلم الطبيعي الثمانية وليس باقي فروع العلم الطبيعي مثل الطب وأحكام النجوم والفراسة والطلسمات والحيل والكيمياء. كما يعتمد عليه كشاهد خارجي بعد البرهان الداخلي على مفارقة العقل عن قوى النفس، وعلى أن كمال القوة في الآلة.
ويضع ابن رشد أرسطو في إطار أنصاره من المشائين المسلمين مثل ابن سينا إحساسا بالتمايز بينه وبينهم. ابن رشد ليس هو الشارح الأعظم لأرسطو كما سماه اللاتين بل المراجع الأعظم لمذهب المشائين وامتداداته داخل الحضارة الإسلامية، ونقد ممثليه مثل ابن سينا في النفس. وهو مذهب في غاية الركاكة من أرسطو. وكان على ابن سينا أن يراجعه ويصححه. كذلك لم يفهم المشاءون كيف يكون الواحد علة. ولا يلزمه تأويلاتهم. فالفاعل الواحد يصدر عنه فعل واحد طبقا للشاهد.
49
ولا يقال ذلك على الفاعل الأول إلا باشتراك الاسم. وذلك لأن الفاعل الأول في الغائب يقال بإطلاق، والفاعل الأول في الشاهد يقال بتقييد. لذلك جعل أرسطو الفاعل للمعقولات الإنسانية متبرئا من المادة. والمطلق والمقيد أحد مباحث الألفاظ في علم الأصول. لذلك جمع أرسطو بين الوجود المحسوس والوجود المعقول. وقال إن العالم واحد صدر عن الواحد، وأن الواحد سبب الوحدة من جهة والكثرة من جهة أخرى. كما أن الخلق يكون بالعلة الغائية أيضا وليس فقط بالعلة الأولى، بالمبدأ الأول وليس فقط بالعلة المباشرة. فأسباب الكثرة عند أرسطو من الفاعل الأول ثلاثة: العلة الفاعلة، والعلة الغائية، والعلة الصورية.
50
ويضم ابن رشد أرسطو في إطار تاريخ الفلسفة بمقارنته بأفلاطون أو بالمشائين آل أرسطوطاليس بطريقة المسلمين في عمل التسمية بإضافة «آل» وهو ما يعادل
OI
باليونانية علامة الجمع ل
OS
فيما يتعلق بقدم العالم وحدوثه كما فعل الفارابي من قبل ودون أن يشير ابن رشد إليه. فالخلاف في الأصل عند اليونان قبل أن يكون عند المسلمين. فقد قال أفلاطون بحدوث العالم ولم يكن لديه شك في أن للعالم صانعا طبقا لقراءة المسلمين. فلما قال أرسطو بقدم العالم شك أصحاب أفلاطون عليه، واتهموه بإنكار وجود الصانع. فرد أنصار أرسطو بأن أرسطو يرى أن للعالم صانعا وفاعلا. فهذه قراءة إسلامية للخلاف بين أرسطو وأفلاطون، وإعادة بناء الموقف اليوناني طبقا للرؤية الإسلامية، وانتهاء الخلاف بتبرئة أرسطو كما فعل الفارابي، وجعله يرى أن للعالم صانعا، أرسطو الإسلامي وإن لم يكن أرسطو اليوناني، أرسطو الكامل وإن كان في ثقافته ناقصا. وإن اتفاق أرسطو وأفلاطون على شيء هو اتفاق العقول الإنسانية جميعا. كل منهما يمثل أحد جوانب العقل.
51
ويضم ابن رشد صوت أرسطو مع صوت برمنيدس ومالسيس من القدماء واضعا أرسطو في تاريخ ثقافته ليبين أنه ليس موقفا خاصا بل موقفا عاما للقدماء مثل الحديث في مسألة الوحدة والكثرة. وقد ظن الإسكندر أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى لم تخرج في الحقيقة عن المبادئ التي عرضها أرسطو. وكلا الطريقتين صحيحة. والأشهر طريقة أرسطو ولكنها عامة في حاجة إلى تفصيل. وهي طريقة واجب الوجود ويقول بها ابن رشد. فهو لا يفضل فقط طريقة أرسطو على طريقة الإسكندر ولكنه يفضل طريقة أرسطو ويطورها. فأرسطو والإسكندر يتفقان مع ابن رشد ولكن الفرق في العموم والخصوص، في نقاء تصور التوحيد. يقول الإسكندر بالقوة الواحدة (خاص)، ويقول أرسطو بالجسم البسيط (عام). ويقول ابن رشد بالوحدانية (الأعم). كما يضع ابن رشد أرسطو مع فيثاغورس في وضعه المحرك الأول عقلا أي صورة بريئة من الهيولى. لذلك لا ينفعل بشيء من الموجودات. فأرسطو موحد يمدح فيثاغورس موحدا. فقد بلغ اليونان قمة التوحيد العقلي قبل الإسلام. وقد أتى الإسلام بعد اليونان مصححا المسيحية وعقائدها ومؤكدا التوحيد اليوناني العقلي. ومن ثم يفهم ابن رشد اليونان والإسلام في إطار تاريخي، أرسطو تاريخ ثقافته والإسلام في تاريخ الثقافات القديمة.
52
فأرسطو الذي يحيل إليه ابن رشد ليس أرسطو اليوناني التاريخي بل أرسطو الإسلامي الفلسفي. ليس أرسطو المكتوب بل أرسطو المقروء على مستوى التصورات، وحدانية الله وخلق العالم أو على مستوى الألفاظ والعبارات. كل شيء في الطبيعة متقن الصنع بتدارك الله النقص فيه، لا فرق في ذلك بين قول أرسطو وتصور الإسلام. بل إن ابن رشد يعيد قراءة أرسطو مستعملا الخالق تعالى. وبالرغم من نقد ابن رشد لابن سينا إلا أنه يشعر بالتمايز بين حكمة أهل المشرق وحكمة اليونان، أهل الغرب بتعبير المحدثين. عند أهل الشرق الأجرام السماوية إلهية. ومع ذلك يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول عن طريق الحركة. فأرسطو أكثر توحيدا على نحو عقلي خالص من أهل الشرق الذين يقعون في التجسيم والتشبيه والتشخيص إن لم يكن الشرك باعتبار الأجرام السماوية آلهة.
ويمكن فهم مذهب أرسطو على وجهه الصحيح بمعرفة نوع الأقاويل التي يستعملها. فكثيرا ما يستعمل ابن رشد الصور والتشبيهات التي تدل على معاني لا أن تؤخذ حرفيا لمعرفة المذهب. فتحديد نوع الأقاويل قراءة رشدية لأرسطو رؤية الآخر من خلال الأنا. وما زالت تظهر بعض المصطلحات المعربة عند ابن رشد مثل «أسطقس» بعد أن تحول إلى لفظ عربي.
53
ويشير ابن رشد إلى كتب أرسطو ومواضعها مما يدل على معرفته بالمذهب في أصوله الأولى وليس فقط عن طريق السماع والأفكار الشائعة. ويحيل إلى كتب المنطق والطبيعيات والنفس وكتاب الحروف أي الميتافيزيقيا.
54
المنطق مثل الفطرة عاملان مصححان إذا وقع الخلاف بين البشر، الفطرة الفائقة السليمة أو العلامات والشروط في المنطق التي بها يتم التمييز بين الظن واليقين. وبالتالي يتجاوز ابن رشد ابن سينا الذي جعل المنطق مرادفا للوحي. فكلاهما يعصم الذهن من الخطأ. عند ابن سينا يتأسس المنطق من أعلى في الوحي وعند ابن رشد من أسفل في الفطرة. بل إن الحديث عن المنطق يعني العلم نفسه لا منطقا بعينه. كما يحيل ابن رشد إلى كتب السفسطة والمقولات والبرهان. فلو كان الغزالي قد قرأ كتاب السفسطة ما كان وقع في مغالطاته. فالغزالي جاهل بقواعد المنطق. في البرهان يتم التمييز بين المقدمات المشهورة مثل الأقوال والمقدمات اليقينية مثل أوائل العقول. بل إن المقدمات اليقينية تتفاضل فيما بينها. كما يحال معنى ما قيل إلى كتاب المقولات، من أن كليات الأشياء المعقولة إنما صارت موجودة بأشخاصها، وأشخاصها معقولة بكلياتها. كما تم التمييز في كتاب النفس بين القوة التي بها يدرك الشيء والقوة التي بها تدرك ماهية الشيء، وكذلك التمييز بين العلوم الذي في مادة والعلم الذي ليس في مادة. كما يحال إلى «السماع» و«الكون والفساد»، بل وتعيين المقالة الثانية من «السماع» والثانية من «السماء والعالم».
55
ثم ينتهي أرسطو الفرد ويبدأ الحكيم وأحيانا الحكيم الأول. فقد تحول أرسطو إلى نمط مثالي، إلى حكم العقل ذاته. فبعد دراسة الموضوع يحيل ابن رشد إلى الحكيم الذي درس نفس الشيء، وانتهى إلى نفس النتيجة كنوع من احترام القدماء وإعطاء الحق لأهله، وتأييد الحق للحق، وتكوين جماعة الحق بصرف النظر عن الزمان والمكان والدين والحضارة والقوم مع تحديد الموضوع في كتبه أو كلامه أو نصه مثل «السماع» أو «التدبيرات الفلكية الجزئية» وهو أحد المنتحلات لما كان الانتحال إبداعا فلسفيا جماعيا يمكن الإحالة إليه من الفيلسوف باعتباره فيلسوفا ناشدا الكمال وليس باعتباره مؤرخا.
56
وقد ذكر ابن رشد أفلاطون من خلال ذكر أبي حامد له. فالصراع بين أفلاطون وأرسطو هو نفسه الصراع بين الأشعرية والفلاسفة، بين الفلسفة الإشراقية والفلسفة البرهانية. والأشعرية هم المتكلمون وليس المعتزلة، حكم الأغلبية على الأقلية، والقوي على الضعيف، وتراث السلطة على تراث المعارضة. وقد ظن الأشاعرة وأفلاطون أن دورات الفلك لا نهاية لها في المستقبل وإن كان متناهيا في الماضي بناء على أن ما يقع في الماضي متناهي، وما يقع في المستقبل لا يتناهى. وهذا حكم خيالي وليس حكما برهانيا. والأقرب إلى العقل أنه إذا كان العالم له بداية تكون له نهاية كما هو الحال عند المتكلمين. وقد رد أبو حامد على رأي أفلاطون في وحدة النفوس وتعدد الأبدان بقدم النفوس وحدوث الأبدان، وانقسام النفوس في العالم. فإذا فارقت عادت إلى وحدتها الأولى. وقد فند ابن رشد حجج الغزالي دفاعا عن موقف أفلاطون بأن زيد وعمر اثنان بالعدد وواحد بالصورة. ثم ينتهي بأن هذا الموضوع، تعدد الأبدان ووحدة النفوس سر مع أنه هو التصور الذي يمكن به الدفاع عن خلود النفس الكلية والوحدة النوعية للصور، وأنه لا يمكن إنشاء هذا السر وكأن ابن رشد قد جمع بين الظاهرية والتأويل. ويراجع ابن رشد أدلة القدماء على بقاء النفس مثل وجود جوهر في الأشخاص، من الميلاد إلى الموت، والوحدة الثانية في إطار التغير. لذلك اضطر أفلاطون إلى إدخال الصور وجعلها هي المخلقة للبدن والمصورة له. ويضيف ابن رشد أقوال أفلاطون لمعرفة إلى أي حد هو برهاني أم أقل من ذلك. وهو نقد منهجي أكثر منه نقدا موضوعيا. يستعمل أفلاطون قولا سوفسطائيا أراد به مداهنة أهل زمانه بعيدا عن قصده خاصة بعد محنته في كتبه مثل محنة ابن رشد وكأنه يقرأ فيها نفسه. وهو قول لا يفيد اليقين. ويذكر أفلاطون في موضوع الوحدة والكثرة، وكيف تخرج الكثرة من الوحدة ورأي أفلاطون في المتوسطات، وما هو المبدأ الأول، الفلك أو النفس أو العقل أو جميعها أو الله، وإلى أي حد يميز أفلاطون بين العقل والمبدأ الأول. وهي كلها مسائل تدخل كعناصر جزئية في التصور الكلي للتوحيد.
57
وأكثر فلاسفة اليونان ذكرا بعد أرسطو وأفلاطون جالينوس ثم الإسكندر. وجالينوس هو الفيلسوف والطبيب مثل ابن رشد في شخصية الحكيم. يحدد ابن رشد أولا نوع أقواله الإقناعية لا البرهانية، وهي الرؤية المنطقية اللغوية مثل رجل واحد يقول الحق خير من ألف. ثم يتعرض ثانيا لتحليل القوى الطبيعية في الحيوان مثل التغذي وتدبير البدن. وبهذا التدبير يسمى حيا، وبدونه يكون ميتا وبه القوة المصورة. تصورها البعض مبدأ مفارقا، عقلا أو نفسا أو جرما سماويا أو الأول. ويسميها جالينوس الخالق سواء كان الله أو غيره، يرتبط ابن رشد بالتراث العلمي الإنساني منعا لازدواجية مصادر المعرفة بين الوافد والموروث، واعتمادا على سلطة العلماء والإجماع العلمي. كما يستشهد بأبقراط بأن فساد الإنسان وآلامه وحدوثه أنه من شيئين، روح وبدن وليس من شيء واحد. فلو كان روحا فقط، شيئا بسيطا، لما طرأ عليه الحدوث، ولو كان مادة فقط لما تألم.
ويأتي الإسكندر بعد جالينوس. فالإسكندر بالنسبة لأرسطو هو انتقال أكثر تقدما من الكثرة إلى الوحدانية وتصور المشائين لجسم بسيط غير مركب من مادة وصورة تلته وحدانية الإسكندر. لذلك سهل تمثله. هناك إذن ثلاثة طرق: الأول الإسكندر وهي متفقة مع أرسطو (الأصغر). والثاني أرسطو وهو الأكثر شهرة (الأوسط)، والثالث ابن رشد وهو مجمل (الأعم). الطريق إذن من البسيط إلى الواحد إلى الوحدانية. وعند الإسكندر من الواحد صار العالم واحدا. هناك ثورة روحانية سارية في أجزاء العالم كالقوة في أجزاء الحيوان تربط أجزاءه بعضها ببعض. وهي نفس طريقة أرسطو دون الخروج عليها. إنما الأشهر طريقة أرسطو. والأصح طريقة واجب الوجود، طريقة ابن رشد. ويتفق ابن رشد مع الإسكندر ضد ابن سينا في أن الأجرام السماوية ليس بها خيال بل الخيال للحيوان والإنسان.
58
ويذكر ابن رشد فلاسفة يونان آخرين مثل انكساجوراس في معرض ذكر الأجوبة الثلاثة لتفسير خروج الكثرة عن الوحدة، الكثرة من قبل الهيولى وهو رأي انكساجوراس ومن قبل كثرة الآلات أو من قبل المتوسطات. وهو نفس الموضوع الذي تكلم فيه برميندس ومالسيس وأرسطو. رأى ثامسطيوس أن الأجرام السماوية صور. وجعل فيثاغورس المحرك الأول عقلا أي صورة بريئة من الهيولى لا ينفعل بشيء من الموجودات، اقترابا من التوحيد.
59
ويظهر الوعي التاريخي عند ابن رشد قدر ظهوره عند ابن طفيل وذلك بمدى ذكره للقدماء.
60
ويعني اللفظ التراث الماضي الوافد وما سماه الفقهاء الأوائل. وأحيانا يحدث التمايز بينهم. فقد اتفقوا في أشياء واختلفوا في أشياء أخرى، وحدة المذهب في الأصول والاختلافات في الفروع. وأحيانا يتم التخصيص بأنهم الفلاسفة القدماء أو القدماء من الفلاسفة. ولا يعني بالضرورة قول القدماء أي معنى قدحي. فقد استطاعوا البرهنة على مقالاتهم. وفهم القدماء يخضع لشروط الفحص. ويختلف الفحص من حضارة إلى أخرى. ولا بد للإنسان أن يكون من أهل الحق دون تحيز أو هوى حتى يكون حوار الحضارات ممكنا. أما ابن سينا وغيره ممن ينتسبون إلى الإسلام فلم يتبع براهين القدماء خاصة براهين الحكيم الأول مسيئا تأويلها لسوء استخدامها في الدين، فلا هو فهم العقل الوافد وزايد في الوحي الموروث. وهؤلاء هم المتأخرون من أهل الإسلام لقلة تحصيلهم مذهب القدماء، فالقدماء لا يخطئون، ولا الفلاسفة المتقدمون بل المتأخرون لسيادة الأشعرية والتصوف. وتلك أهمية ابن رشد في جرأته على الغزالي والأشعرية وتوجيه الضربة المضادة التي أثرت في الغرب ولم تؤثر في العالم الإسلامي لأن الفكر بلا سياسة لا يؤثر. غاب التنظيم الشعبي المساند وغابت الحركة الحضارية ومسار التاريخ. وربما يكون ابن رشد الآن أكثر دلالة وقدرة على النهضة العربية الثانية.
وإن دور ابن رشد مع التراث الفلسفي اليوناني الإسلامي قبله مثل دور أرسطو في التراث الفلسفي اليوناني قبله. أرسطو مؤرخ وابن رشد مؤرخ. وكان الوعي التاريخي عند كليهما نذيرا بنهاية الحضارة. لقد بحث القدماء في المسائل تفصيليا مثل المحرك والمتحرك، وعرضوا المسائل العويصة، وعبروا عنها بعدة أقوال منها السوفسطائية. ومهمة التراكم الحضاري هو التحول من الأقوال قبل البرهانية إلى الأقوال البرهانية. فالتطور ليس فقط في الموضوع بل في القول. ويلجأ ابن رشد إليهم لأنه لا جديد بلا قديم. والحضارات في سلسلة متتالية، يأخذ اللاحق عن السابق من أجل تجاوزه حتى تكتمل الحقائق ويتحول التطور إلى بناء. ولا يعني ذلك تقليد اللاحق للسابق بل اقتطاف الثمار من الجذور. القدماء في مقابل الفلاسفة وقدماء اليونان قبل فلاسفة الإسلام. الأول للوافد والثاني للموروث.
61
ويتفق ابن رشد ويختلف مع القدماء في موضوع الحكمة وأقسامها الثلاثة: المنطق والطبيعيات والإلهيات. وأحيانا تبدو القسمة وكأنها القسمة الكلامية إلى إلهيات ونبوات أو عقليات وسمعيات. فكلاهما علم واحد، مرة مقلوبا إلى أسفل ومرة إلى أعلى. ونظرا لأن المنطق ليس موضوع خلاف بين العقلاء بقيت الطبيعيات والإلهيات هي محور الخلاف. ولقد وضع القدماء الألفاظ مثل الجوهر والعرض. وحاول المترجمون إيجاد المقابل لها في لسان العرب. فابن رشد يؤصل الحكمة في عصر الترجمة. ويبحث عن أصولها في مبحث الألفاظ كما يفعل الأصوليون. وكانت القضية الرئيسية إلى أي حد توجد الأشياء من تلقاء نفسها دون فاعل أو وجود أسباب لا نهاية لها لا ترتقي إلى سبب أول. وهي قضية في الوافد تأتي في تصور لموروث يقوم على الخلق، وجود الأشياء المتناهية من سبب أول، علة أولى لا متناهية. أما الأوائل من القدماء، وأغلب الظن أنهم الطبيعيون الأوائل، فقد أنكروا الفاعل. وينقدهم ابن رشد لأنه ليس فقط ناقلا لأقوال القدماء بل ناقدا، وممحصا لها. كما يرفض أن تكون الموجودات في سيلان دائم؛ لأنه يلزم ألا تتناهى، وهو محال. وأغلب الظن أنه يقصد هرقليطس. كذلك القول بدورات لا نهاية لها قول فاسد لأنه يستحيل وجود قديمين.
62
ويستمر التفاعل بين الوافد والموروث، بين نظرية القدم ونظرية الخلق في إشارات ابن رشد إلى القدماء في عدة تصورات فلسفية مثل الواحد والكثير وربط الوافد بينهما في حين فصلهما في الموروث. وتظهر بعض مصطلحات علم الكلام باعتباره المخزون النفسي الرئيسي في الموروث. مثل الذات وهل الصفات زائدة عليها أو مساوية لها. فإذا لم تكن الصفة في الذات مثل القوة في الجوهر كان الجرم السماوي بالضرورة جسما ذا كمية. ولا يجوز وجود قسم قديم من ذاته بل من غيره وبالتالي لزم وجود قديم بذاته هو الذي صار به الجسم القديم قديما. لذلك أثبت القدماء موجودا ليس بجسم بل هو مبدأ الكل من أمور متأخرة هي الحركة والزمان والنظر في الموجود بما هو موجود. وقد اتفق القدماء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وأن العالم كله يؤم إلى غاية واحدة، وينتظمه نظام واحد كما هو الحال في نظام العسكر والمدن، وكذلك الأجرام السماوية الأربعين ترد إلى سبع ثم إلى واحد هو الأمر الأول من الله سبحانه.
63
ويظهر القدماء في موضوع النفس . إذ يطلقون اسم المخيلة على هذه القوة في الحيوان. وفي الإنسان تسمى المفكرة. ثم يظهر موضوع الأدلة على بقاء النفس، ما توصل إليه القدماء وما أبدعه المسلمون. فقد توصل القدماء إلى بقاء الجوهر في الشخص ثابتا بالرغم من تغيره من الميلاد وحتى الوفاة، وأن الأشياء ليست في سيلان دائم، مما جعل أفلاطون يفترض الصور الثابتة. ومن ثم أثبت القدماء المفارقات. ثم يظهر موضوع النبوة والإلهام والمعجزات من الموروث ليصب فيه الوافد مع أنه أصل في الموروث فرع في الوافد. لذلك لم يتكلم أحد من القدماء في المعجزات بالرغم من انتشارها وظهورها في العالم، وهي مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل.
64
ثم تظهر ألفاظ مقاربة للقدماء مثل الأوائل والمتقدمون الأوائل مثل القدماء ولكن أقل تاريخية وأكثر مثالية. قد يكون القدماء على حق أو على باطل. ومن ثم يمكن نقدهم في حين أن الأوائل حكم قيمة، على حق دائما، لهم الفضل على الأواخر. أما المتقدمون فهم القدماء أو الأوائل ولكن في الموروث وليس في الوافد، الأسبقية في الزمان واقعا دون الفضل في الحكمة مثالا. لا يقول المتقدمون إن لكل فعل فاعل. والفارابي وابن سينا من المتقدمين ولا يقولون ذلك إلا تبعية للمتكلمين من أهل الملة. يريد ابن رشد استقلال الحكمة عن الكلام، والحكماء عن المتكلمين.
65
ثم يخص ابن رشد بالذكر أربعة من الطوائف طبقا للأهمية: الدهرية أو الدهريون والمشاءون والحكماء والسوفسطائيون. ليس الدهريون فقط فرقة بل تيارا، الدهرية، واتجاها فلسفيا. الدهريون في طرف والحكماء في طرف آخر. إذ لا يجوز الحكماء وجود أسباب لا نهاية لها كما يجوزه الدهريون فيستلزم وجود حسيب بلا نسيب، ومتحرك بغير محرك. فيؤدي إلى نفي الصانع، نفي سبب هو سبب الأسباب، وافتراض موجودات لا علة لها أو افتراض علل إلى ما لا نهاية أو افتراض وجود عالم لا علة له أو له علة هو العالم نفسه، الفلك الكلي وليس شيئا خارج الفلك في حين أن الفلك معلول كما يقول الحكماء. كل ما يظهر ليس له سبب ظاهر إلا الحار والبارد والرطب واليابس. وبامتزاج هذه الأسطقسات تحدث الأشياء تبعا لتلك الأمزجة. الزمان عند الدهريين قديم، متقوم بأزمنة محدثة، وحركة قديمة، ودوراته غير متناهية. والمجموع أزلي من غير علة واجب وممكن في نفس الوقت. وهذه صورة الحكماء عند الغزالي في «تهافت الفلاسفة» مع أن موقف الدهريين وليس موقف الحكماء، تشويه مقصود ومتعمد. والحقيقة أن الأمر يتعلق بإنكار أو إثبات بل بالاختيار بين تصورين للعلاقة بين العلة والمعلول، التصور الطولي حيث لا تتسلسل العلاقة ما لا نهاية وضرورة الوصول إلى علة أولى وهو التصور الذي اختاره المتكلمون، والتصور الدائري، لكل معلول علة هي نفسها معلول للعلة، وهي نفسها المعلول كالعلة بين السحاب والماء، السحاب علة الماء والماء علة السحاب، وهو تصور الدهريين الذي يعتمد على الحس. وقد حاول الحكماء الجمع بين التصويرين وعلى رأسهم ابن رشد بالقول بتقدم الزمان وبالتالي قدم الحركة دفاعا عن الحكمة ضد المتكلمين والأشاعرة.
66
وأما المشاءون فهم أتباع أرسطو اليونان أولا والمسلمون ثانيا. يتفقون ويختلفون فيما بينهم. يحسنون فهم أرسطو ويسيئون تأويله أحيانا أخرى كما فعلوا في معنى العقل ومعنى الجسم البسيط. وقد زاد ابن سينا الطين بلة في أنه أخطأ في فهم المشائين وبالتالي في فهم أرسطو. فارتكب في حق أرسطو خطأ مزدوجا. ثم جاء الغزالي فطم الوادي على القرى وأخطأ في فهم المشائين وابن سينا فارتكب خطأ مضاعفا ثلاثا. مهمة ابن رشد تخليص أرسطو من هذه الدوائر الثلاث، سوء فهم المشائين وابن سينا والغزالي له لمعرفة أرسطو الحقيقي. المشاءون هم أتباع أرسطو على وجه العموم يونان ومسلمون. والفلاسفة هم المسلمون فحسب الذين أصابوا وأخطئوا في فهم أرسطو. أما الحكماء فهم المشاءون الفلاسفة، يونان ومسلمين، الذين أصابوا في فهم أرسطو ومنهم الإسكندر وابن رشد. الحكماء هم المشاءون الفلاسفة في الذروة عندما يكون الصواب أكثر من الخطأ ومنهم أرسطو وابن رشد. وهذا لا يمنع من وجود ضعاف الحكماء الذين لا يحسنون التعبير أو البرهان فيضطرون الناس إلى سؤالهم هل المبدأ الأول يعقل ذاته أو يعقل شيئا خارجا عن ذاته؟ هم الذين يتركون الفرصة للمعارض للسؤال دون أن يقدروا على إيصال الحقائق بوضوح اعتمادا على بداءات العقول. لذلك حمل الغزالي عليهم بالرغم من موافقته لهم في أكثر آرائهم، والحكماء هم أهل التأويل كما تنبه عليه كل شريعة، الخاصة من الجمهور. لذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام بما عرفوا من الحق. كما تنصروا ببلاد الروم لما عرفوا شريعة عيسى. الحكماء في كل ملة أهل الحق والتأويل وأنصار الفضيلة والخير.
67
والسوفسطائيون لا هم اليونانيون أو المسلمون بل هم نمط مثالي من المجادلين، يقلبون الحق باطلا والباطل حقا. فهم أشرار الناس. ويتمثل هذا النمط في الخروج من مسألة إلى مسألة، الشك والحيرة دون الوصول إلى حلول، تبديل مواضع الكلام وتطبيق ما يصدق على المركب على البسيط، وما يصدق على البسيط على المركب، ونقل الكثرة من الوجود إلى العلم، ومن العلم إلى الوجود. ويذكر ابن رشد لسان اليونانيين في تقابل اللسان العربي تمايزا بين الآخر والأنا. فكل لغة لها خصوصيتها.
68
وما زال لفظ «الأسطقسات» مستعملا حتى هذا العصر المتأخر. (ب) الموروث
أما الموروث فيتصدره بطبيعة الحال أبو حامد ثم ابن سينا ثم بعد مسافة طويلة الفارابي ثم ابن حزم ثم أبو الهذيل العلاف ثم البلخي.
69
ومن أسماء الفرق يتصدر بطبيعة الحال الفلاسفة ثم المتكلمون ثم الأشعرية ثم الحكماء ثم المعتزلة ثم أهل الإسلام والإسلام ثم فلاسفة الإسلام ثم الظاهرية ثم الكرامية والصوفية وأهل فلاسفة الإسلام ثم المترجمون ثم المسلمون علماء الإسلام.
70
ومن الأنبياء يتصدر إبراهيم وعيسى ثم سليمان وموسى، ومن الأقوام والشعوب يتصدر العرب ثم بنو إسرائيل ثم النصارى ثم الصابئة والكلدانيون والأمم السالفة.
71
وعلى هذا النحو يكون حضور الموروث أكثر من الوافد خاصة في أسماء الفرق، وعدد مرات الحضور عند الفلاسفة.
72
والهجوم على ابن سينا وليس الفارابي. والمسافة بين الأشعرية والمعتزلة والكرامية كبيرة لصالح الأشعرية. ولم يذكر إلا أبو الهذيل العلاف من المتكلمين. كما يظهر النصارى دون اليهود وابن رشد يعيش وسطهم في قرطبة . والمسافة بين القرآن والحديث كبيرة.
73
كما يتحدث عن شريعة الإسلام وصناعة الكلام .
74
ينقد ابن رشد الغزالي وابن سينا والفارابي في قضية أن الواحد لا يصنع إلا الواحد بأنها قضية كاذبة كما فهمها أبو حامد في «المشكاة». ومع ذلك يعتمد ابن رشد على الغزالي في هجومه على الفلاسفة، ويحيل إلى «المشكاة»، ويتصدر أبو حامد في الأقوال المقتبسة من «تهافت الفلاسفة». ويحيل ابن رشد إلى بعض مؤلفات الفارابي مثل «كتاب البرهان» و«كتاب الحروف». والعجيب عدم ذكر الكندي فيلسوف العرب مع أنه البداية في وضع العقل في مواجهة الطبيعة، الذات في مقابل الموضوع باسم الدين كما فعل ابن رشد في النهاية وكأن ابن رشد آثر التوجه إلى الانحراف بين البداية والنهاية، الإشراق كما مثله الفارابي وابن سينا والدين النفسي في مواجهة الله الذي يشرق عليها، والتحول من العلم إلى التصوف، ومن الأفقي إلى الرأسي. ويضع ابن رشد الوافد في تصورات الموروث، جواز الكون والفساد على المادة الأولى على جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية. ولم يكتف ابن رشد فقط بالدفاع عن الفلاسفة بل تحول من الدفاع إلى الهجوم، ويجعل الدفاع عن الفلاسفة مناسبة للهجوم على الأشعرية. ولا يقول الأشاعرة بعد أن تحول الأشاعرة من مجموعة من الأشخاص أنصار الأشعري إلى نمط فكري مثل تصور فاعل أول أو فاعل أول قديم، فاعل قديم وفعل حادث، ما يتطلب تصور حالة متجددة مستمرة في الفاعل أو في الفعل. وفي رأي الأشعرية أيضا كما تأخر وقوع الطلاق في اللفظ إلى وقت حدوث الشرط كذلك تأخر وقوع العالم على إيجاد الباري إلى وقت حدوث الشرط وهو الوقت. ويهاجم ابن رشد الأشاعرة في شخص الغزالي والمقصود الأشاعرة.
75
ويذكر ابن رشد الأنبياء ويأخذ معجزة إبراهيم نموذجا للسببية والعلية. ويخص بالذكر النصارى في جعلهم الصفات ذاتية وليست زائدة على الذات كما تفعل الأشاعرة لتبرير الأقانيم المتكثرة بالقوة وإن كانت واحدة بالفعل. ولا ينسى باقي الشعوب الشرقية مثل الكلدانيين الذين برعوا في علوم التنجيم نموذجا للأمور الكلية. فكل ما ظهر في السماء موضوع حكمة غائية. وإذا كانت الغائية في الحيوان فالأولى أن تكون في الأجرام السماوية. وإذا كان قد ظهر في الإنسان والحيوان نحو عشرة آلاف حكمة في ألف عام فلا يستبعد أن تظهر آلاف الحكم الأخرى في الأجرام السماوية في آلاف السنين القادمة، غائية في الماضي وغائية في المستقبل. وقد تكون العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة.
76
ويضع ابن رشد الشريعة الإسلامية في إطار الشرائع المقارنة اليهودية والمسيحية وشرائع الصابئة والكلدانيين. فموقف الشريعة الإسلامية السكوت عن المسائل النظرية الخالصة، والتنبيه على ضرورة اتباع الجمهور ظاهر الشرع. في حين أن الحكماء لهم حق المعرفة، والتأويل ليس فقط في الشريعة الإسلامية بل في كل شريعة. وهناك جوامع بين الشرائع كلها مثل القول بحشر الأجساد منذ آلاف الأعوام وكما أقر بذلك ابن حزم عالم الأمة بتاريخ الأديان. وهناك أيضا خصوصيات لكل شريعة عبر عنها أبناء بني إسرائيل بعد موسى كما هو واضح في الزبور وبعض الكتب المنسوبة إليهم. وقد كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون كما تشهد بذلك كتبهم المنسوبة إلى سليمان، وكما ورد في الإنجيل، وتواتر عن عيسى، وهو أيضا قول الصابئة أقدم الشرائع. وهم أكثر الناس تعظيما وإيمانا بها. وهو الدين الطبيعي الذي يقوم على التوحيد الطبيعي. وواضح ظهور الوعي التاريخي في نهاية «تهافت التهافت»، وكما هو الحال في الأعمال الفنية من خلال ابن حزم مؤرخ الأديان، واستعمال الإجماع التاريخي لإظهار الحقائق التي تتفق على كل الشعوب دون استعمال الحجج الشرعية العقلية أو النقلية ودون الرد على حجج الخصوم كما يفعل المتكلمون، والإيمان لدرجة القطع، ونفي أي احتمال للرأي المعارض.
77
ومع ذلك يوجد عند ابن رشد إحساس قوي بالتمايز بين الأنا والآخر، بين ملة الإسلام وعلماء الإسلام وفلاسفة الإسلام والمسلمين والإسلام من ناحية وبين باقي الملل الأخرى مثل اليهود والنصارى والصابئة والكلدانيين أو الشعوب مثل اليونانيين من ناحية أخرى. وأهل الإسلام منهم المتقدمون ومنهم المتأخرون. والمتأخرون هم الفلاسفة الذين هم أقل تحصيلا لمذاهب القدماء من المتقدمين. فقد انفردوا ببعض الأقوال، وخرجوا على مذهب المتقدمين. أما الفلاسفة من أهل الإسلام فهم أبو نصر وابن سينا والذين سلموا لخصومهم بأن الفاعل في الغائب كالفاعل في الشاهد. ولما كان الفعل الواحد لا يكون منه إلا مفعول واحد اضطرهم الأمر ألا يجعلوا الأول هو محرك الحركة اليومية. وهذا من خطأ أصولهم. يسميهم من ينتسبون إلى الإسلام خاصة ابن سينا. وينزع عنهم صفة الفلاسفة ويخرجهم من الإسلام كدين وليس من ملة الإسلام أو أهل الإسلام كأمة لأنهم خرجوا على الأقاويل البرهانية لأرسطو. وقد استفاد الغزالي أيضا من كتب الفلاسفة حتى فاق أهل زمانه وعظم حديثه في ملة الإسلام. وفي نفس الوقت يذم الفلسفة وأهلها وكأنه شيخ قديم أو فقيه من فقهاء السلطان.
78
ويشير ابن رشد إلى دائرة أوسع هم المتكلمون في الإسلام أو بعض علماء الإسلام أو أهل الإسلام المشتغلون بالعلم. للمتكلمين طرقهم الخاصة غير طرق الحكماء، وهي الأقاويل الخطابية والجدلية في حين أن أقاويل الحكماء برهانية. أما بعض علماء الإسلام فإنهم أصحاب الآراء في الفروع. وأهل الإسلام هم علماء الأمة على العموم، الإجماع الشعبي العام الذي لا يسلم بقدم العالم وإن لم يكن ذلك رأي الخاصة. ويذكر لفظ الإسلام أو المسلمين على الإطلاق دون تحديد. ويعني العقائد الشائعة، والإجماع العام في مقابل الكفر والزندقة، وإنكار المعاد الروحاني والنبوات. والحقيقة أن كل رفض للفلاسفة باسم الدين إنما هي مزايدة عليهم في الدين وكأن كل زيادة في الإيمان هو نقص في العقل بالضرورة. وإن مدح السلطان وتأييد الفكر الذي يعتمد عليه هو عدم قدرة على معارضة السلطان. وإن كل مزايدة على الفلاسفة باسم العقل أقرب إلى البحث عن العقل الخالص؛ إذ إن كثيرا من أخطاء الفلاسفة ناشئة عن التسليم بمقدمات خصومهم المتكلمين.
79
ويشير ابن رشد إلى الصوفية أرباب التأويل العلم الراسخ. وهو ليس العلم الشرعي. إتيانه في غير موضعه ظلم، وكتمانه عن أهله ظلم. ويربط بين تراث الحكماء وتراث الصوفية في عنصر مشترك هو التأويل وعلوم الخاصة. لذلك قال الصوفية لا هو إلا هو. بل يمتاز الصوفية على الأشعرية بأن الله ماهية يدل عليها اسمه الأعظم في حين أن الله على مذهب الأشعرية لا ماهية له أصلا ولا ذات لأن وجود ذات لا ماهية لها لا يفهم، في حين ذهب البعض الآخر أن له ماهية خاصة تتميز الذات بها عن سائر الموجودات. كما أن الصوفية تشارك الفلاسفة في القول بالمعاد الروحاني لا المادي ولم يكفرهم أحد. لا يهاجم ابن رشد الصوفية بل يهاجم الأشاعرة. هل لوجوده في الأندلس أم أن الهجوم على الأشعرية هو نقد مبطن للصوفية، أم أن ذلك توزيع أدوار، فقد قام الفقهاء من قبل بنقدهم والهجوم عليهم، أم لعدم خطورتهم بالأندلس، وربما لصداقته لابن عربي فيلسوفا وليس درويشا طبقا للقاء الشهير بينهما واتفاق المنهجين، النظر والذوق «أني أعلم ما يشاهد» «هي نفسها» «إنه يشاهد ما أعلم»، وربما لأن ابن رشد صوفي باطني مؤول في قراءة له؟ والأقرب إلى الصواب أن نقد الأشعرية هو نقد الأساس النظري للتصوف كما وضح عند الغزالي، يغذي كل منهما الآخر. فنقد ابن رشد للأشعرية صراحة وللتصوف ضمنا هو القضاء على رأس الثعبان دون ذنبه. والعجيب أن الفقيه ابن رشد لا يشير إلى الفقهاء كثيرا إلا مرة واحدة عن اختلافاتهم، وابن رشد الأصولي يبحث عن الأصول التي تجمع وليس عن الفروع التي تفرق.
80
وبالرغم من أن «تهافت التهافت» نقد للنقد في علوم الحكمة إلا أن حضور الموروث فيه يجعله أساس النقد خاصة ألفاظ الشريعة والشرع ومصطلحاته وعباراته وكأن ابن رشد يتعامل مع الحكمة بمنطق الفقيه. ويحيل ألفاظ الحكمة إلى ألفاظ الشرع، وألفاظ الوافد إلى ألفاظ الموروث ما دامت المعاني واحدة. فما سماه الوافد القوة الفاعلة سماه الشرع الإرادة. لقد أتى الشرع بألفاظ لمعاني وحقائق موجودة سلفا مثل القوة الطبيعية والعلل الفاعلة. ومن ثم يتفق الشرع والفلسفة في المعاني وإن اختلفا في الأسماء والمصطلحات، بداية التشكل الكاذب. كما أطلق الوافد اسم الموروث على ما عناه الشرع باسم الخلق والاختراع والتكليف. ألفاظ الشرع خاصة وألفاظ الحكمة عامة. ومن ثم يمكن فهم الحكمة فهما صحيحا عن طريق معرفة مصطلحاتها. فالألفاظ الموروثة استعمالها شرعي كما هو الحال عند ابن حزم، واستعمال المتكلمين عامة والأشاعرة خاصة وأبي حامد بوجه أخص استعمال غير شرعي.
81
ويستعمل ابن رشد ألفاظ الشرع والشرائع والشريعة والصفات الشرعية وشرعي بمعان متقاربة وإن اختلفت الصياغات بين المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، والاسم والصفة.
82
ويستعمل ابن رشد الأمثلة الشرعية لشرح المسائل الفلسفية مثل استعمال موضوع الطلاق والشروط لشرح علاقة الله بالعالم. فقد رفض ابن رشد مثال أبي حامد والأشعرية من ورائه في الطلاق لقياس العالم قدما وحدوثا، وتأجيل الخلق حتى حدوث الشرط مثل تأجيل وقوع الطلاق بعد إطلاق اليمين لحين دخول الدار. فعند أهل الظاهر يقع الطلاق في الحال لأن الأمر في الوضعيات غير الأمر في العقليات. وهنا يبدو ابن رشد ظاهريا في الأندلس أكثر منه عقليا في المشرق. كما يضرب الأمثلة بالشفع والوتر في صياغة حجج لبيان استحالة الموقف الفلسفي، فهم حركات الأفلاك في معرض الدليل الأول على قدم العالم. وأحيانا تكون الأمثلة الفقهية غاية في ذاتها، مجرد بناء عقلي يفيد على نحو غير مباشر في علوم الحكمة مثل أفعال الصلاة ومقارنتها في عديد من الشرائع.
83
وهناك حكم شرعي في تناول هذا الموضوع عرضه ابن رشد في «فصل المقال» ونبه عليه في «تهافت التهافت»، ومارسه بالفعل في «مناهج الأدلة». ومن أفتى فيما لا يعلم أو من أتى بفعل بغير شرط يكون فسادا في الأرض. ويظل الموضوع الغالب على استعمال لفظ الشرع معنى النقل في الموضوع الكلامي من العقل والنقل الذي يسميه ابن رشد الحكمة والشريعة أو ما سماه الفلاسفة قبله الفلسفة والدين، وهي المسألة المنهجية في الكلام والفلسفة والتصوف والأصول. وهنا يبدو ابن رشد فقيها ينظر إلى الموضوع نظرة الفقيه لمعرفة حكم الشرع في المسألة وكأنها مسألة فقهية صرفة وكما بين ذلك في «فصل المقال». وهنا لا تبدو المسافة بينه وبين أبي حامد كبيرة. فهو يوافق على قوله إن كل ما قصرت على إدراكه العقول الإنسانية يرجع فيه إلى الشرع، وأن الوحي جاء متمما للعقل، وكل ما عجز عنه العقل أكمله الوحي سواء كان هذا العجز بسبب نقص الفطرة أو بسبب نقص التعلم. وكيف يكون ابن رشد عقلانيا وهو يقول بقصر العقول في مدارك الشرع مما أوجب إكماله به؟
84
ويؤكد ابن رشد موقف الحكماء في قسمة الناس إلى عامة وخاصة، حكماء وجمهور. حق الخاصة وحدهم التأويل، وللجمهور ظاهر الشرع. الخاصة تقدر على المسائل النظرية البرهانية في حين أن العامة في حاجة إلى الأقوال الخطابية والتوجهات العملية. عند الخاصة الإيمان برهان وعند العامة يقين. وترجع هذه الثنائية إلى طبيعة التلقي ومستوى التعليم وليس إلى النص في ذاته. ترجع إلى القارئ وليس إلى المقروء. ظاهر الشرع يغني عن كل الوافد الذي لا يقوى عليه الجمهور. وفرق بين وضوح الشرع وغموض الوافد. وإن الفلاسفة الذين حاولوا اتباع الوافد أضاعوا اليقين الفلسفي، وفقدوا ظاهر الشرع. لقد تحدث الشرع عن الحدوث بالمعنى الشائع، تغير الكائنات وحدوثها من عدم. أما كيفية خروج الممكن من الضروري فقد سكت الشرع عنه لبعده عن أفهام الناس، وبالتالي فإن معرفتها ليست ضرورية لسعادة الجمهور. وأما محاولات الأشعرية فإنها خارجة عن شريعة المسلمين ولا تقوم على برهان. وحكم الشرع في ذلك هو النهي عن الدخول فيما سكت عنه الشرع، وبالرغم من أن القياس هو إيجاد حكم على ما سكت عنه الشرع، قياس للفرع على الأصل.
85
والحقيقة أنه لا فرق بين «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت». فالنظرة الشرعية الفقهية متضمنة داخل الدفاع عن علوم الحكمة. عقول البشر قاصرة. لذلك سكت الشرع عن بعض الأمور وأكملها من عنده. لا يتعرض لها الجمهور بل الحكماء وحدهم. الشرع كالطب له غاية نفعية، وهو مقدار ما يحتاجه الجمهور لنيل سعادتهم في الأمور العملية مثل مقدار ما يحتاجه الطبيب للعلاج وليس للبحث النظري. لذلك نفت الظاهرية القياس في العمليات وهو أفضل من نفيه في الأمور النظرية وكما نبه عليها الشرع. ومن لم يكن من أهل البرهان عليه الإيمان بالشرع والكلام فيه حرام. وإن كان من أهل البرهان دون إيمان يمكن لأهل البرهان حجاجه. هذا هو موقف الشرع بل كل شريعة ، سكوت الشرع عما لا يجب على الجمهور الخوض فيه، ويحق ذلك لأهل البرهان وحدهم. فهل هذا هو الموقف الظاهري الذي كان سائدا بالأندلس أم أنه تعبير عن سطوة الفقهاء وسيطرتهم على الحياة العقلية؟
ويذكر ابن رشد ابن حزم في معرض الدلائل على النبوة. ويرفض نسبة بعض الصنائع إلى الجن أو الأنبياء كما زعم ابن حزم. فابن رشد أكثر عقلانية من ابن حزم. أحكام العقل عند ابن حزم جائزة ويمكن أن يخلق الله صفات مختلفة. كما يستشهد به في القول بأن الصابئة التي تقول بحشر الأجساد من أقدم الشرائع. ومع ذلك فابن حزم بشخصه ليس حاضرا بالقدر الكافي وإن كان حاضرا بظاهريته. وفي نفس الوقت يتحدث ابن رشد عن الظاهرية وأهل الظاهر في سياق شرعي خالص ويستعمل رأيهم في موضوع الطلاق لحظة إطلاق اللفظ دون انتظار الشرط كقياس لإثبات قدم العالم عند الفلاسفة بدليل عدم حدوث العالم مع الله بعد استشهاد الغزالي برأي الأشعرية في تأخير وقوع الطلاق لحين حدوث الشرط بعد إطلاق اللفظ.
86
فعلاقة الطلاق بشرطه احتمال عند أهل الظاهر وضرورة عند الأشاعرة مثل علاقة قدم العالم بدليل عدم حدوثه مع الله. فالبنية واحدة، أفعال الشرع أو أفعال الله. العلاقة بين الإنسان وفعله أو العلاقة بين الله وخلقه. والظاهرية كنفي للقياس قد تكون أسعد حظا في الأمور العملية عنها في الأمور العلمية.
وبالرغم من إدراك ابن رشد أهمية التأويل، والانتقال من الصور الفنية إلى دلالتها، ومن المعاني الحرفية إلى المعاني المجازية، اللوح المحفوظ هو العقل الفعال والعقول المفارقة أو النفوس التي تحرك الأفلاك هي الملائكة إلا أن هذا تأويل الحكماء وليس موقف الشرع الذي يتطلب الطاعة أكثر مما يتطلب البرهان. والحكماء أنفسهم لا يجوزون التكلم أو الجدل في مبادئ الشرائع إلا بأدب شديد. فكل صناعة لها مبادئ يتم التسليم بها دون التعرض لها بنفي أو إبطال. والصناعة العملية الشرعية كذلك تتطلب تمثل الإنسان الفضائل الشرعية من حيث هو إنسان عالم وتقليدها دون المناظرة فيها أو جحدها لأن المناظرة والجدال يبطلان وجود الإنسان لدرجة قتل الزنادقة. مبادئها إلهية تفوق العقول الإنسانية. يتم الاعتراف بها وإن جهلت أسبابها. لذلك لم يتكلم أحد من القدماء في المعجزات بالرغم من انتشارها وظهورها في العالم لأنها مبادئ تثبت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل. ولا يتم الحديث فيها بعد الموت. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا على الإطلاق. فإن استطاع التأويل لمبادئها فإنه لا يجب التصريح به للجمهور. والغريب هذا الموقف الفقهي الصرف لابن رشد وكأنه ابن حزم قبله وابن تيمية بعده. فكيف لا يجوز الكلام في مبادئ الشرع على الإطلاق؟ وإن كان الجدل معيبا منطقيا إلا أنه مفيد في الحوار وإثارة العقول. كيف يجوز التسليم بمبادئ الشرع ولا يتم التساؤل حولها والحكمة فيها بما في ذلك الأمور العملية؟ وكيف يجوز اتهام من يفعل ذلك بالزندقة وإجازة قتله؟ كيف يمكن تقليد الشرائع دون معرفة عللها وأسبابها، والعلة أساس علم الأصول؟ كيف تكون أمور إلهية وهي شرائع وضعية تقوم على رعاية مصالح الناس؟ كيف تفوق الأمور الشرعية العقول والعقل أساس النقل؟ وهل المعجزات أمور شرعية وقد تعرض هو نفسه لها؟ وهل الشرائع تقوم على المعجزات أم على أدلة باطنية، تطابقها مع حياة الناس وتلبيتها حاجاتهم؟ كيف يتفق ذلك كله مع عقلانية ابن رشد؟ صحيح أن الشرائع مبادئ الفضائل ولكنها وسائل والفضائل غايات. وعند الحكماء يمكن معرفة الغايات مباشرة أو بوسائل أخرى.
87
وقد وصف الشرع الله بالسميع والبصير تقريبا للجمهور، والمقصود العلم عند الحكماء، وبالتالي تصور المتكلمون الله باعتباره إنسانا أزليا. ومن ثم يكون الفلاسفة أكثر تنزيها منهم، بالإضافة إلى أن الفلسفة قول برهاني والكلام قول إقناعي. ويبحث الحكماء في أمور الشرع، والشرع متفق مع العقل من حيث المبدأ، ومن ثم يكون طريق المعرفة واحدا. فإن ظهرا مختلفين يؤول الحكماء الشرع ليتفق مع العقل ويصبح أيضا طريق المعرفة واحدا. لا خلاف إذن بين موقف المعتزلة وموقف الحكماء في منهج التأويل. وإن اعتراض الغزالي على الحكماء لا موضع له لأن الصوفية يقومون بالتأويل حتى يتفق الشرع مع الخبرة الصوفية الذاتية.
88
وقد أضاف الحكماء ما لم يتكلم فيه القدماء، باب النبوات والمعجزات. فقد تركها القدماء دون فحص. هي مبادئ الشرائع والباحث فيها معرض للعقوبة كمن يفحص المبادئ العامة التي تقوم عليها الشرائع مثل وجود الله والعمل بالفضائل والسعي نحو السعادة. ومع ذلك فقد جعلوا الوحي والرؤية من الله بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، واهب العقل الإنساني. يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، وفي الشريعة يسمى ملكا طبقا لعملية التشكل الكاذب. أما تصديق الخواص بالأنبياء فطريق آخر نبه عليه أبو حامد، وهي الصفة الصادرة عن النبي، الإعلام بالغيب ووضع الشرائع الحقة الموافقة للحق والمفيدة من الأعمال التي بها سعادة جميع الناس. فالمعجزات أدلة خارجية على النبوة وليست داخلية. وهي موضوع للعلم الطبيعي وليست موضوعا للشرائع مثل الصلاة والصيام. كانت موجودة في الماضي ولم تعد كذلك بعد استقلال الفكر وحرية الإرادة. ولا عقوبة على الفاحص فيها.
والقول بحشر الأجساد منتشر في كل الشرائع منذ أكثر من ألف عام، منذ عصر ابن رشد بداية من بني إسرائيل بعد موسى، وواضح في الزبور وفي كثير من صحفهم المنسوبة إليهم. وقد تواتر في أقوال عيسى في الإنجيل بالرغم من نفي الصديقيين ومجادلة المسيح لهم. وهو أيضا رأي الصابئة. وهي أقدم الشرائع، الدين الطبيعي القائم على التأمل في الكواكب. والحجة في ذلك سعادة الإنسان في الدنيا بالعمل وفي الآخرة بالنظر، وذلك لا يتأتى إلا بمعرفة الله سواء كانت حجة مقنعة أو غير مقنعة أم مقنعة في الدنيا دون الآخرة. كما أن الشرائع بمعنى الصنائع الضرورية للمدينة وإن اختلفت في صورها تتحدد في قصدها، وهو وجود حياة بعد الموت. وتقصد الشرائع تعليم الجمهور وتنبيه العلماء دون تأويل العامة. ومع ذلك يمثل الدين مرحلة أعلى من الفلسفة في تطور البشرية. فقد تنصر حكماء الروم ثم أسلم حكماء الإسكندرية. وشرائع الوحي والعقل أعلى من شرائع العقل وحده مثل شرائع اليونان والرومان أو شرائع الوحي وحده مثل الشرائع اليهودية والمسيحية. والعجيب أن ابن رشد يرى أن من ينكر الأجساد ويكون زنديقا يجب قتله! يستعمل ابن رشد تواتر الحقائق في تاريخ الأديان وما أصبح حكمه لكل الشعوب، إجماعا للبشرية كلها عبر التاريخ.
89
والعجيب أن ينتهي ابن رشد إلى أن المبادئ التي تقوم عليها الشرائع أمر إلهي معجز، تعجز العقول عن إدراكها مثل هل الله موجود، وهل السعادة موجودة، وهل الفضائل موجودة لأن الشرائع وضعية تقوم على وضعية المصالح العامة. والعجيب أيضا أن يجعل تصديق النبوة بالمعجزات مثل الكتاب ولكن إعجازه ليس عن طريق الرواية بل عن طريق الحس والتجربة إلى يوم القيامة. ومن ثم فاق إعجاز القرآن باقي المعجزات بمعنى خرق قوانين الطبيعة والعقل والإنسان. أما الخواص فلهم طريق خاص في تصديق الأنبياء. لذلك لم يقتصر الشرع فقط على تعليم الجمهور وتفهيمه هذه الأشياء. ولا يعصم أحدا من الخطأ إلا ما كان مؤيدا من الله مثل الأنبياء. وهنا يبدو ابن رشد تقليديا بل وشيعيا يقول بالعصمة، عصمة الأنبياء، وبالحقيقتين، الأولى للعامة والثانية للخاصة.
وتبلغ قمة استعمال الموروث في الموروث الأصيل، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالإضافة إلى أقوال الصحابة ولو أنها أقل من «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» سواء كمصادر للبرهان على صحة العقائد أو على تصورات العقائد للعالم والله والإنسان ذاتها.
90
تشير كل الآيات القرآنية إما على طرق البرهان أو نسق العقائد الكلامية، الذات والصفات والأفعال لب علم الكلام أو أقسام الحكمة، المنطق والطبيعيات والإلهيات لب الفلسفة. يستعمل القرآن البرهان للإقناع. لذلك استطاع المتكلمون تحويل الآيات إلى براهين عقلية على وجود الله ووحدانيته وحشر الأجساد. فالآية برهان عقلي وطبيعي. وهذا هو ثباتها في الذهن والواقع. وهي لغة تستعمل في الماضي للدلالة على الحاضر وربط الخبر بالمخبر. وتتضمن الاستعارة من أجل التأثير والإقناع. وتشخص الأشياء في نظرة حيوية إرادية للعالم. الجدار يريد أن ينقض. وقد استعمل الشرع الصورة الفنية لتعليم الجمهور في تفهيم الذات الله وصفاته وأفعاله نظرا لوجودها في الإنسان، قياسا للغائب على الشاهد. أما الخاصة الراسخون في العلم فهم الأقدر على علوم التأويل على طريق البرهان نظرا لفطرهم الفائقة بالرغم من قلتها في الناس. وقد نهى الشرع عن الدخول في الأمور الغامضة وسكت عنها. وما لم يصرح به الشرع يؤمن به كالراسخين في العلم. وقد استعمل ابن رشد حديثين لنفس المعنى، الحث على التفكير في خلق الله وليس في ذاته. وإن بلوغ الجمهور إلى مثل هذا الطلب هو من باب الوسوسة، ومن ثم يؤخذ ذلك بمحض الإيمان.
91
ويستعمل عديد من الآيات أكثر من مرة لنفس المعنى ونفس السياق لوضع تصور ذهني ورؤية للعالم، فالنص والعقل والطبيعة نظام واحد، وتذكر الآية بعد عرض رأي أرسطو العلمي المتفق مع العلم والعقل والطبيعة. يبدو القرآن أكثر إقناعا ووضوحا وأسهل فهما وأعمق تأثيرا وأقرب تعيينا من التجريد والاستدلال والبحث العويص الفهم الأقل وضوحا وتأثيرا والذي لا يفهمه إلا الخاصة من المناطقة والعلماء. القرآن هو البرهان الشامل. والحقيقة أن القرآن يبدو صورة تفرض مضمونها دون تحقيقه ثم يأتي المتكلم أو الفيلسوف أو الصوفي أو الأصولي أو المفسر فيحقق مناطها. وقد تختلف المناطات وتتعدد وتظل البنية التي يتحد فيها الوحي مع العقل والطبيعة واحدة مثل
الأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
الفكرة واحدة والمواضع متعددة.
92
وتصعب التفرقة بين الطبيعيات والإلهيات، بين نظام العالم والقدرة الإلهية والدعوة إلى التأمل والنظر في الخلق لإثبات الخالق. فأقسام الحكمة واحدة، العلم والمعلوم والعالم. ولقد اطلع إبراهيم على الأجرام السماوية فأيقن بوجود الخالق، وخضوع الكون لنظام، كل شيء في وضعه، السماوات والأرض محدثة بل أول المحدثات كما هو ظاهر في الكتاب في غير ما آية، وأن السماء والأرض كانتا رتقا قبل فتقهما. ولما ارتبطت الأسباب بعضها ببعض انتهى الأمر إلى موجود غير محسوس، علة العلل ومبدأ الوجود المحسوس. تتحدث الآيات عن خلق الإنسان من الطين وانتقال الصفات النفسية من موجود إلى موجود مخالف له بالجوهر والحد والاسم والفعل، جمع بين التطور والانكسار، بين التواصل والانقطاع.
93
تتركب الأسطقسات حتى تكون منها النبات ثم الحيوان ثم الإنسان. الحيوان يتغذى بالنبات فيتكون منه دم ومني. ومن المني والدم يتكون حيوان آخر. فالحدوث في القرآن ولكن بألفاظ ومصطلحات وتعبيرات أخرى موروثة وليست وافدة. والخطورة في ذلك ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن حيث يرتبط الثابت بالمتحول، واليقيني بالظني، والدين بالعلم. ثم تأتي الآيات الخاصة بالتوحيد ذات الله وصفاته، علمه وقدرته ووحدانيته. ويذكر ابن رشد الآية التي يثبت بها الأشاعرة الوحدانية عن طريق دليل التمانع. الوحدانية صفة لله وللطبيعة والمجتمع في توحيد شامل، وعلمه محيط وشامل. وهو علم بالشخص وعلم بالكلي أو علم على الإطلاق دون تحديد بالشخص أو بالكلي. وقد نبهت الآيات على عناية الله بالعالم وبالإنسان لتسخير جميع السموات له. الله حافظ لكل شيء، وكل شيء مطيع له بالأمر، والله هو الآمر.
94
والإنسان هو الوحيد من بين سائر الموجودات المكلف على الأرض والمؤتمن عليها، والأمر الإلهي ليس موجها للإنسان بالطبيعة بل بالإرادة، ليس بالضرورة بل بالحرية. ويعترض ابن رشد على تصور ابن سينا لحركة الأفلاك وأنها طاعة لله وليس لاستكمال آنيات متناهية، مقابلا النظرة الكونية بالنظرة الشرعية ومعتمدا على الآية. وينهي ابن رشد استدلالاته النصية بإثبات معاد النفس، وتشبيه الموت بالنوم، وتمثيل المعاد بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية. ويستعمل حديثا وقولا مأثورا عن ابن عباس. وفي النهاية الروح سر من أسرار الله، ولم يؤت الإنسان من العلم إلا القليل وما زال المثل الفقهي هو أفضل تصور للفلسفة مثل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
95
ولفظ «الله» هو اللفظ المفتاح، والمفهوم الرئيسي في «تهافت التهافت» بل وفي الموروث كله لأنه محور التصور الجديد الذي على أساسه يتم فهم الوافد. وقد ذكر اللفظ أكثر من مائة مرة وكأن الكتاب في علم أصول الدين وليس في علوم الحكمة. فلا ثمة فرق بين الكلام والفلسفة من حيث إثبات وجود الله ثم ذاته وصفاته وأفعاله ثم ما يتعلق بالنبوة والمعجزات والشرائع. ويظهر اللفظ كصفة في عدة معان مثل الذات ووحدانيتها والعلم والعقل والمبدأ الأول والجود والنظام والخلق والصنع والإرادة والطبع والنبوة والشريعة. لقد تجاوزت علوم الحكمة البراهين على وجود الله عند المتكلمين. فالله أصبح واجب الوجود، وتحول علم الذات إلى علم الوجود. ومع ذلك فالصنعة تدل على الصانع. ويظل إثبات التوحيد ونفي الاثنينية متواصلا من علم الكلام إلى علوم الحكمة اعتمادا على دليل الممانعة عند الأشعري بالرغم من ضعف الدليل عند الفلاسفة. وهذا هو السبب الذي جعل الفلاسفة يقولون بقدم العالم نفيا للأثنينية والتعددية والشرك وافتراض وجود كائنين، الله والعالم منذ القدم. فالقديم واحد. ومع ذلك هي طريقة صعبة لإثبات الوحدانية إذ كان الواحد بسيطا غير مركب من مادة وصورة. أما إذا كان مركبا من أجزاء بالفعل فوحدته تأتي من ذاته بالقوة في الحيوان. إنما الفرق أن القوة في العالم قديمة وفي الحيوان حادثة. ويقال على كليهما إله باشتراك الاسم إن تباينا في النوع. كما يقال عليهما حياة أيضا باشتراك الاسم في حين أن الحياة الأولى أزلية والثانية فاسدة وإلا كان الإله إنسانا أزليا والإنسان إلها كائنا فاسدا.
96
ويمثل العلم الإلهي المكانة الأولى في استعمال الصنعة. لقد جعل ابن سينا مع غيره من الفلاسفة صفة العلم ظنية مغيرين بذلك مذهب القدماء. يمكن إثبات العلم الإلهي بالبرهان كما هو الحال في الأمور الهندسية خاصة وفي العلوم التعليمية عامة. بل إن إثبات العلم الإلهي بالبرهان أولى. كل قول في العلم الإلهي له مقدمات تؤدي إلى نتائج وإلا فلا اعتقاد. بل ويمكن تجريب هذه المقدمات الجدلية في البرهان. الجدل نافع في بعض العلوم وليس في العلم الإلهي. يلجأ بعض المتكلمين إلى الجدل للتكيف مع الجوهر الذي لا يكيفه العقل لأنه لو فعل لكان عقلا أزليا، ولكن العقل الأزلي والكائن الفاسد شيء واحد. الحديث عن الله إذن حديث برهاني وليس جدليا وإلا تحول الحديث إلى ظني كما لاحظ أبو حامد. ومع ذلك فاجتهادات الفلاسفة والمتكلمين يمكن مراجعتها وإزالة ما بها من شكوك، والانتقال من الجدل إلى البرهان، ومن الظن إلى اليقين. فلا عجب أن يخطئ الفلاسفة في العلوم الإلهية وألا يقولوا فيها قولا مفيدا. والعلم الإلهي غير العلم الإنساني. فالله لا يعلم بالجهة ولكن الإنسان يعلم بها وإلا لوقع الاشتراك بين العلمين. علم الله يتعلق بالأشرف وليس بالجهة. وهو علم مرتبط بالسمع والبصر للتأكيد على صفة العلم التجريبي بالأشياء. علم الله واقع، وكل شيء يقع بعلمه. ويعرف الفلاسفة الموجودات بعقولهم واعتمادا على البراهين المتفقة مع المحسوسات. ومع ذلك عقل الإنسان غير العقل الإلهي. ولا يقال عليهما عقل إلا باشتراك الاسم.
97
لذلك اختلف الفلاسفة في الصلة بين الله والعالم، بين الإرادة والطبع، بين المباشرة والتوسط. فالأشاعرة والغزالي يقولون بالمباشرة وبالتدخل في العالم بالإرادة. والفلاسفة والمعتزلة خاصة أصحاب الطبائع يقولون بالتوسط عن طريق الأسباب أو الطبع. وهي القوة التي تعطي الحيوان وحدته. وعلى هذا يمكن القول بأن الله خالق كل شيء، ممسكه وحافظه. والخلاف فقط بالإرادة أم بالأسباب. وبهذا المعنى يكون القديم علة للحوادث. ويكون كل ما في العالم بحكمته، وإن قصر العقل في فهمها، وأن الحكمة الطبيعية أساس فهم الحكمة الصناعية. فإن كان العالم مصنوعا في غاية الحكمة فإنه لحكيم صنعه، يفتقر إليه كل شيء في السماوات والأرض. المصنوع ليس علة لنفسه. ويمكن بدعوى تنزيه الخالق إبطال حكمته وسلب صفاته. والخلق والحكمة والعناية موضوعات موجهة لدفاع ابن رشد عن الفلسفة والفلاسفة ضد هجوم أبي حامد. بل إن البعض ذهب إلى حد القول بقدرة الله على اجتماع المتقابلين. فجعلوا الإرادة ضد قوانين العقل كما هي ضد قوانين الطبيعة. لم يأمر الله بالعادات، ولم تنشأ في الموجودات ولكن اكتسبها البشر فأصبحت لديهم طبيعة ثانية.
والكون يخضع لنظام لا يؤثر فيه اضمحلال الأجرام السماوية كما ظن الفلاسفة وأن هذا النظام صدر عن المبدأ الأول، وهو الله، وأنه كما يفعل الملك في المدينة. هذا الأمر الإلهي هو الأصل في التكليف والطاعة اللذين وجبا على الإنسان باعتباره حيوانا ناطقا. وقد فاض الجود الإلهي عليه الحياة والإدراك. ويتم هذا الأمر من خلال المبادئ والقوانين التي تنتظم الكون في سلسلة متتابعة من الأسباب والمسببات. ومن ثم لا فرق بين إرادة الله والكون والعلل والأسباب إلا التوسط. ولقد أخطأ أبو حامد في تزييف العلم الطبيعي بعلم إلهي مزيف أيضا. العلم الطبيعي الصحيح يؤدي إلى العلم الإلهي الصحيح. ويبدو هنا التشكل الكاذب واضحا. فالله هو المبدأ الأول، العلة الأولى، السبب الأول، العقل الأول ... إلخ.
98
ويتوجه ابن رشد بالنقد للتصور الأشعري الذي يجعل علاقة الله بالعالم علاقة إرادة، الأمر بالمأمور، والتي تؤدي إلى إنكار وجود الأسباب والقوى الطبيعية التي بها تتحرك الأشياء والمعقولات والتي بها يستطيع الإنسان فهم العالم، وكأن الله حارس مدينة يلف حولها بآيات متناهية دون الدخول فيها. وهو قول يفترض في الله السكون لا الحركة. والله ليس بمتحرك ولا ساكن، وإن كان لا بد من التفضيل فإنه إلى الحركة أقرب. والحقيقة أنه بالرغم من رغبة ابن رشد في تجاوز التصورين، الإرادة والطبع، إلا أنه إلى الطبع أقرب، وتجاوز المتكلمين والفلاسفة ولكنه إلى الفلاسفة أقرب، وتجاوز الأشاعرة والمعتزلة ولكنه إلى المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع أقرب. والعجيب أن يستعمل ابن رشد وهو البرهاني الأمثلة الخطابية الشعبية للشرح والبيان. والصراع بين الإرادة والطبع هو في الحقيقة صراع بين المتكلمين والفلاسفة، بين التشبيه والتنزيه. يثبت المتكلمون الأشاعرة تدخل الله في العالم بالإرادة كما يفعل الملك أو القائد، في حين يرى الفلاسفة هذا التدخل من خلال قوانين الطبيعة وسنن الكون. والحقيقة أن الفلاسفة لا ينفون الإرادة عن الله بل الإرادة المحدثة. هاجم المتكلمون الفلاسفة ظانين أنهم ينفون إرادة الله مع أنهم يتصورون الله إنسانا ويشخصونه كما يتصورون البشر فيجعلون الله إنسانا يسقطون تصورهم لأنفسهم على الله مع أن المعرفتين معرفة الإنسان بنفسه ومعرفته بغيره تقال باشتراك الاسم. والباري منزه عن نقائص البشر أو يصدق عليه الأمران معا مثل معرفته بالجزئيات، يعلمها ولا يعلمها، يعلمها كليا ولا يعلمها تجريبيا بالعدد الإحصاء. علمه بها سابق على وجودها. والحقيقة أن الله لا يفعل طباعا لأن الطباع قسر، ولا إرادة لأنها حركة، وهو منزه عنها. ولهذا وحد البعض بين الباري والموجودات، وتجاوز افتراض الاثنينية.
99
لا تصدر الأشياء عن الله بالإرادة كما يريد المتكلمون ولا بالطبع كما يريد الفلاسفة إنما على نحو أشرف لا يعلمها إلا الله وكأن السكوت الشرعي علم كما هو الحال في الموقف الظاهري.
100
ولا يتعلق الأمر بالموروث الديني وحده بل أيضا بالموروث اللغوي، تمايزا بين لسان العرب ولسان اليونانيين. فإن كانت المعاني في الفلسفة واحدة بين الشعوب والثقافات فإن اللسان بينها مختلف. وقد أدى ذلك إلى وضع المصطلح الفلسفي سلبا أم إيجابا، تعريبا أم نقلا. لفظ «الأسطقسات» معرب ولفظ عنصر منقول. وقد يتغلب أحيانا المعرب على المنقول، وتدخل الألفاظ الأجنبية في اللسان العربي وتتعرب بكثرة التكرار والألفة مثل جغرافيا وموسيقى وفلسفة وسفسطة. فاللغات ليست عوالم مغلقة بل متداخلة نظرا للتداخل الحضاري بين الشعوب عبر الاتصال والترجمة والتبادل المشترك، ولكل لغة طريقتها في التعبير، تدل على تصورها للعالم وفكرها الذاتي. وقد لاحظ الفارابي ذلك من قبل فيما يتعلق بالرابطة بين الموضوع والمحمول، واستعمال الضمير المنفصل في اللغة العربية كمقابل لفعل الوجود في اليونانية. وكرر ابن سينا ذلك أيضا. وإنما غلطه عندما رأى اسم الجوهر يدل على الصادق في كلام العرب. كذلك وضع المتكلمون ألفاظا تعادل الجوهر والعرض. كما يبدو الأسلوب العربي في «ليت شعري»، «اللهم» من المخزون اللغوي العربي.
101
وتنتهي ثلاثية ابن رشد «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» كما بدأت بالإعلان عن البيئة الدينية التي كتبت فيها والتي تكشف عن بؤرة الحضارة ومصدرها ومقصدها وإطارها وجوها، بدءا بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على الرسول وآله. وقد تكفي البسملة وحدها. وقد تقرن بالدعاء وطلب العون. وقد يكون ذلك مختصرا مطولا مثل الخطب الدينية أو المقالات الوعظية والتركيز على اصطفاء الرسول واصطفاء الله من يشاء لحكمته وشريعته واتباع سنته والاطلاع على مكنون العلم وفهم الوحي ومقصد الرسالة ضد زيغ الزائغين وتحريف المبطلين وتأويل المتأولين لما سكت عنه الشرع على طريقة الفقهاء في دق نواقيس الخطر والتنبيه على الاغتراب الحضاري الذي يؤذن بانطفاء البؤرة وضياع المركز. كما تدعو هذه المقدمات والنهايات، وأحيانا في منتصف الرسالة إلى التوفيق إلى الصواب والإرشاد إلى الحق، والله أعلم بالصواب، وقبول العذر وإقالة العثرة بمنه وكرمه وجوده وفضله. ولما كان التأليف وثيقة فإنه يذكر تاريخها، زمانها ومكانها ومكتبتها ومؤلفها، وطنه ومذهبه ولقبه، والأصل الذي تم النسخ منه، والتعرف على خط الناسخ في الأصل وفي النسخة. فإذا كان التأليف في مصر توصف بأنها المحمية أو المحروسة في العصر الحديث مثل حيدر أباد-الدكن مما يكشف عن طمع الطامعين فيها من الغرب الحديث، ويعبر عن هموم الفكر والوطن. ويكشف تعدد المكان بين المؤلف والناسخ عن وحدة الأمة. ولا يعيب المؤلف أن يكون ناسخا مثل طاش كبرى زادة.
102
كما أن تغير الأسماء من القسطنطينية إلى استامبول يكشف عن العصور والأزمان وقيام الدول وسقوطها وتداول الأيام بين الناس ودورات التاريخ. (4) آليات الإبداع
وتتجلى آليات الإبداع في ثلاثية ابن رشد. يتم وصف مسار الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل وبيان مراحله وخطواته الاستدلالية على نحو منطقي، مما يدل على أن ابن رشد يتعامل مع أفعال الفكر وليس صياغات الكلام. وتتم إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق دليلا على وحدة الموضوع وتصوره. ويحيل الفكر إلى نفسه، من موضع إلى موضع منعا للتطويل والخروج على الموضوع والاستطراد للمقارنة بين الكلام الخطابي والإقناعي مثل «الله إنسان أزلي» وبين الفلسفة البرهانية أو في الشرع وحكمه على الموضوع بالسكوت عنه. ويعني الاستطراد أو «فتح القوسين» أن الحاضر هو الحامل والموجه للماضي، وأنه هو هم الفيلسوف، والماضي مجرد وسيلة وأنه لا بد من الربط بين الوسيلة والغاية. قراءة للتراث، واستمرارا للماضي، وحماية للنفس من قهر السلطة في الحاضر، وتعميقا لفهم الحاضر الذي يقبع الماضي فيه، ومنعا للازدواجية بين الاثنين، وقسمة الثقافة بين السلفية والعلمانية بلغة العصر. وتتم الإحالة إلى باقي المؤلفات والعلوم لبيان وحدة الفكر. ويتم إشراك القارئ في المراجعة والتحقق حتى يكون بينا لكل من اختبر الأمر بنفسه. فالوضوح تجربة ذاتية فردية لا تنتقل عبر وسائل الإيصال بشرط أن يكون شاهدا عدلا وقاضيا منصفا مثل ابن رشد. ويستعمل الأسلوب الإسلامي في الرد على الاعتراض مسبقا بتخيله وافتراضه حرصا على الاتساق في صيغة «فإن قيل ... قلنا»، فالفكر له مراحله الموضوعية، جزء ينتهي إلى جزء، وموضوع يصب في موضوع في خطوات منطقية متتالية. ويظهر الجو الديني أيضا بالرغم من القول البرهاني والخطاب العقلاني.
103
وتتجلى آليات الإبداع في «تهافت التهافت» في مراجعة ابن رشد لأحكام الغزالي على الفلاسفة والتحقق من صدقها ودفاعه عن الفلسفة ضد الهجوم عليها باسم الدين على يد الغزالي ممثل الأشاعرة. كما تم في «مناهج الأدلة» الدفاع عن الكلام ضد تشويهه باسم الفلسفة على يد جمهور الأشاعرة بعد أن تم تقنين العلاقة بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة، وكلاهما لفظان موروثان في «فصل المقال» هناك علاقة جدلية إذن بين المؤلفات الثلاثة. المعيار في «فصل المقال» وهو التوحيد بين الدين والفلسفة والتطبيق الأول في «مناهج الأدلة»، الهجوم على الكلام الأشعري باسم الفلسفة أي على سوء استخدام العقل في الدين. والتطبيق الثاني في «تهافت التهافت»، الدفاع عن الفلسفة باسم الدين أي على سوء استخدام الدين في الفلسفة. الموضوع في «فصل المقال»، ومركب الموضوع، السلب والإيجاب، في «مناهج الأدلة» سلبا وفي «تهافت التهافت» إيجابا. «فصل المقال» دفاع عن الفلسفة ضد الفقهاء، وجعل النظر واجبا بالشرع. و«مناهج الأدلة» دفاع عن الكلام باسم النظر، و«تهافت التهافت» دفاع عن الفلسفة ضد المهاجمين لها باسم الدين. وكما هاجم الغزالي الفلسفة دفاعا عن الكلام الأشعري في تهافت الفلاسفة هاجم ابن رشد علم الكلام الأشعري في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلسفة. ثلاثية ابن رشد إذن موضوعها واحد، الصلة بين الفلسفة والدين. «فصل المقال» إثبات أن الدين والفلسفة شيء واحد. و«مناهج الأدلة» نقد الإساءة إلى الدين باسم الفلسفة. و«تهافت التهافت» نقد الإساءة إلى الفلسفة باسم الدين. «فصل المقال» إثبات النظرية إيجابا. و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» الدفاع عنها سلبا، ونقد غيابها في تناول الكلام أو في تناول الفلسفة.
الأعمال الثلاثة إذن حوار بين المتكلمين والحكماء، بين الأشاعرة والفلاسفة، أيهما أصدق في التعبير عن وحدة الفلسفة والدين. لقد أساء الأشاعرة فهم الدين في العقائد الأشعرية لأنهم أساءوا فهم الفلسفة ووظيفة العقل . وجعلوا التبرير تبرير العقائد وليس فهمها. وأساءوا فهم الحكمة لأنهم ظنوا أنها ضد الدين وهي دفاع عنه باسم العقل، ووظيفته الفهم لا التبرير، أراد الأشاعرة مخاطبة العامة فبرروا لهم العقائد باسم الإيمان الساذج. وأراد الحكماء مخاطبة الخاصة فأولوا لهم العقائد باسم العقل الصريح. لذلك تتكرر نفس المسائل في «الثلاثية» ولكن على أنحاء مختلفة بطريقة متصلة في «فصل المقال»، ومتصلة منفصلة في «مناهج الأدلة»، ومنقطعة في «تهافت التهافت». ويتوه القارئ، ويمل التكرار. فتختفي البنية الموجودة في الكتابين الآخرين. «تهافت الفلاسفة» نفسه قراءة ل «مقاصد الفلاسفة»، وتهافت التهافت قراءة ل «تهافت الفلاسفة»، مما يجعل القراءة كلها نصا على نص، ويقع الفكر في لعبة النصوص، الانتقاء والتأويل والإخراج عن السياق.
وقد اعتمد ابن رشد في رده على الغزالي على اقتباس فقرة منه، بداية فكرة ثم الرد عليها مسألة مسألة. النقد معتمد على النصوص حتى يسهل تحليلها وكشف زيفها سواء في خطأ الرواية عن الفلاسفة أو في سوء تأويل أقاويلهم أو في التجني عليهم والطعن في إيمانهم. ومن ثم يتعامل ابن رشد مع نص الغزالي على ثلاثة مستويات: (1)
إلى أي حد رواية الغزالي عن الفلاسفة رواية صحيحة (التاريخ)؟ وينتهي إلى أنها روايات غير صحيحة، كاذبة أو مؤولة. وما دام النقل عن الفلاسفة غير صحيح فهو غير ملزم لهم بالرغم من كتاب «مقاصد الفلاسفة». ليس الغزالي من الثقات في الرواية عن الفلاسفة. هو موكل سيئ يقر على موكله بما لم يأذن له فيه. أخطأ الرواية عن الفلاسفة، وأساء تأويل أقاويلهم عمدا أو عن غير عمد. ليس التلبيس في قول الفلاسفة بل في نسبة أقوال لهم ليست بأقوالهم. وذلك مثل ما حكاه عنهم في قولهم بالكثرة دون الوحدة، وبالتعدد دون المبدأ الأول وهو غير صحيح، فلا كثرة في العقول. (2)
إلى أي حد فهم الغزالي نص الفلاسفة إذا كانت الرواية صحيحة (الفهم)؟ فإذا كانت الرواية صحيحة يسيء الغزالي فهمها عن عمد لتشويه آراء الفلاسفة عن قصد. (3)
إلى أي حد توجد أخطار على الدين إذا فهم الغزالي نص الفلاسفة (الفعل)؟ وإذا كانت الرواية صحيحة والتأويل صحيحا يدعي الغزالي أن هناك خطرا على الدين من الفلسفة مما يتطلب مراجعة فهمه للدين إذا كان فهمه للفلسفة صحيحا.
كما يقوم ابن رشد بإعادة كتابة نص الغزالي على عدة مستويات: (1)
إعادة عرض دليل الفلاسفة كما يعرضه أبو حامد ولكن بطريقة صحيحة. (2)
إعادة عرض اعتراضات أبي حامد بطريقة واضحة. (3)
الرد على اعتراضات أبي حامد ردا فلسفيا وشرعيا.
ومن ثم أتى نص ابن رشد على عدة مستويات: (1)
نص الفلاسفة الأول (حالة افتراضية)؛ لأن الغزالي لم يأت به نصا. (2)
إعادة تركيب أبي حامد له من أجل تفنيده بعد روايته تشويها للنقل والفهم. (3)
اعتراضات أبي حامد رواية عن ابن رشد بعد فهمها فهما صحيحا. (4)
رد ابن رشد على أبي حامد فلسفيا وشرعيا.
رد ابن رشد إذن رد توثيقي ابتداء من نص أبي حامد، قراءة على قراءة، قراءة ابن رشد على قراءة أبي حامد للفلاسفة. وهو على نفس مستوى رد أبي حامد على الفلاسفة. لذلك يصعب اقتباس نصوص من «تهافت التهافت» مهما كانت القراءة خاضعة مدققة؛ لأنه نص مركب أو «تناص» بلغة النقد المعاصر. انتقل ابن رشد في «تهافت التهافت» إلى أرضية الغزالي كما انتقل الغزالي في «تهافت الفلاسفة» إلى أرضية الفلاسفة بعد «مقاصد الفلاسفة». وكما انتقل ابن رشد من «مناهج الأدلة» إلى أرضية المتكلمين، وفي «فصل المقال» إلى أرضية الأصوليين الفلاسفة، وفي الشروح والملخصات والجوامع إلى الوافد اليوناني، وفي «بداية المجتهد» إلى أرضية الفقهاء، وفي «الكليات» إلى علم الأطباء. يتعامل ابن رشد مع كل علم لتصحيحه وإعادة بنائه وتأسيسه على نحو علمي اعتمادا على العقل والتجربة بعيدا عن سوء استخدام العقل والبرهان باسم الدين أو سوء تأويل الدين باسم العقل.
وقد يقبل ابن رشد عرض الغزالي لحجج الفلاسفة وهو عرض في غاية البيان. ولكنه يرفض أمثلته التي تشوش عليه. يعطيه حقه في الفكر والاعتراض ويعترض على أمثلته الشارحة. يقول أبو حامد شيئا في غاية البيان ثم يضرب المثل فيشوش على القول. لذلك يرفض ابن رشد قياس العالم على الشرع وأخذ المثال الوضعي من الطلاق. كذلك لا يصح في الموجودات قياس الله على العالم. ويضرب الغزالي المثل بعلاقة الله بالعالم عند الفلاسفة بعلاقة الرئيس بالمدينة الفاضلة.
104
وبالإضافة إلى المنهج الجدلي الذي يستعمله ابن رشد ضد الغزالي، البحث عن الحقيقة سلبا عن طريق إيقاع الخصم في التناقض هناك أيضا المنهج البرهاني، البحث عن الحقيقة إيجابا اعتمادا على العقل وطلب اليقين ولجوءا إلى الفطرة السليمة. يعتمد ابن رشد على الذوق السليم وهو مرادف للعقل. فلا يعني العقل والمنطق الاستدلال فقط بل أيضا الحس السليم والفهم المشترك والبداهة. والفطرة هي السبيل إلى معرفة المعروف، مثل حاجة المريض إلى الدواء. ويتصف بها الفلاسفة وهم العلماء والراسخون في العلم الذين اطلعوا على الحقائق بالطريق البرهاني. والقول البرهاني أشبه بالمقدمات الهندسية التي يتسق بعضها مع بعض إن لم تكن لها شهرة الأقاويل الجدلية والإقناعية التي يتضارب بعضها مع بعض. وهما أضعف أنواع الكلام. ويستعمل ابن رشد ضرورة العقل والحس مثل ابن حزم. يزيح الشكوك، ويطلب اليقين، ويبتعد عن المشهور وأقوال الجمهور لأنها بعيدة عن البرهان. ومقدمات الجمهور قد تكون محمودة. ولكن سرعان ما يكتشف العقل أنها من قبل المستحيل مثل الأقاويل عن الخرافات والجن والمعجزات. والفرق بين الظن واليقين أدق من الشعر عند البصر.
105
وينقل ابن رشد العلم على مستوى النفس. ويميز بين ما هو داخل النفس وما هو خارج النفس. فالعدد موجود خارج النفس أو داخلها للأشياء الواقعة. أما الممكنة فلا عد فيها. والحقيقة أن العد داخل النفس وليس خارجها. الأشياء خارج النفس لا يعلمها أحد لأنها مدركة ولا توجد إلا كإدراك. وقد يقع الخطأ إذا ما توهم الإنسان أن ما بالنفس يوجد خارجها بالفعل مثل توهم النفس أن كل ما وقع في الماضي متناه وأن كل ما يحدث في المستقبل لا متناه. الزمان نفسه وهم أي في النفس وليس خارج النفس. القبل والبعد في المكان، والماضي والمستقبل في الزمان . يحلل ابن رشد الشعور لمعرفة ما هو داخل النفس وما هو خارج النفس، ما هو في عالم الأذهان وما هو في عالم الأعيان. الفوق والأسفل وهميان، والقبل والبعد حقيقيان. وقد أخطأ أبو حامد عندما انتقل من لفظ الفوق والأسفل إلى الوراء والخارج، وكذلك النهاية في الزمان غير النهاية في العظم. الأولى في النفس، والثانية خارج النفس. وهو أيضا من فعل الوهم، توهم أن العالم أكبر أو أصغر عما هو عليه.
106
وينقد ابن رشد الغزالي على ثلاثة مستويات: النقد الشخصي فيما يتعلق بنواياه ومستوى علمه، والنقد المنهجي لطرقه في التفكير وأنواع أقواله، والنقد الموضوعي في التصورات الفلسفية ذاتها. الأول أشبه بالمقدمات والثاني بطرق الاستدلال، والثالث بالنتائج.
وبالرغم من تسمية الغزالي بكنيته أبي حامد، والدعاء له «رضي الله عنه» سواء من المؤلف أو الناسخ إلا أن فكره كله يرجع إلى شخصيته ودوافعه ومقاصده وغاياته غير البريئة، وأحيانا يتحول النقد الموضوعي إلى سب في بيان الدوافع والأسباب وتحليل الشخصية ومزاجها وطريقة تفاعلها مع الظروف السياسية والاجتماعية. ونقد الفكر بنقد الشخص ناتج من أن العالم هو العلم، والعلم هو الدافع عليه. فالغزالي لا أخلاقي. علمه من الفلاسفة. فاقت شهرته، وعظم صيته ولكنه لم يراع مكانته كعالم في المجتمع. نابه موهوب ولكن ليس لخدمة الحق. قصده ليس معرفة الحق بل إبطال أقاويل الفلاسفة متعصب متحيز، مجادل متغرب، شتام هجاء سليط اللسان.
وهو إما شرير أو جاهل أو كلاهما معا. أحيانا يكون أقرب إلى الشر منه إلى الجهل. والعالم مبرأ من الصفتين. ومع ذلك قد يصدر عن غير الجاهل جهل، ومن غير الشرير شر. هو جاهل يسيء التأويل، وهو ما لا يليق بمثله. قد يكون فهم الأشياء على حقائقها وعبر عنها على غير حقائقها كما يفعل الأشرار. وربما لم يفهمها على حقائقها فيتحدث عما لا يعلم كما يفعل الجهال. فأبو حامد لا يخلو من احتمالين، شرير أو جاهل. ولما كانت قيمته أعلى من ذلك فإن لكل جواد كبوة. وكبوة الغزالي «تهافت الفلاسفة». ولعل السبب في ذلك عرض الدنيا ونزوات الزمان والمكان أي السلطة والمنصب. يرد ابن رشد الكتاب إلى ظروفه النفسية والاجتماعية والسياسية للكاتب. فالموضوع هو الدافع، والحقيقة في النفس. ليس الغزالي عالما مدققا. مهمته التشنيع على الجميع والتشهير بهم وكأننا في قضية إعلامية بلغة العصر. لم تكن غايته البرهان بل استثارة غضب الجماهير على الخصوم واستدعاء السلطان عليهم استثارة لحفيظة العامة والفقهاء. تتحكم في الغزالي أهواء البشر. أراد أن ينفي عن نفسه تهمة الانتساب إلى الحكماء فهاجمهم. ولم يستطيع مخاطبة الخاصة فتملق العامة. لم يستطع المعارضة فتقرب إلى السلطان، خضوعا لأهل الزمان ومصالح العصر. هو ملبس مدلس. يقصد الغلط لا الحق في حين أن الفلاسفة يطلبون الحق. أراد التشويش على الفلسفة فشوش على نفسه، والتشويش ليس من شجاعة العلماء. يكيل بمكيالين. إذا كان الفلاسفة موحدين يتهمون بالكثرة وإذا قالوا بالكثرة اتهموا بأنهم من أنصار الوحدانية. وفي كلتا الحالتين الفلاسفة متهمون، والاتهام قائم. نقد الغزالي للفلاسفة ليس بريئا لوجه الله. بل الباعث عليه هو الدفاع عن السلطة الدينية، سلطة الأشاعرة تدعيما للسلطة السياسية بالرغم من ادعائه أنه لا ينصر مذهبا مخصوصا على طريقة «يكاد المريب يقول خذوني».
107
هجوم الغزالي على الفلاسفة لم يكن نقدا للفلسفة بل دفاعا عن السلطة كما فعل من قبل في الهجوم على كل فرق المعارضة العلنية مثل المعتزلة في «الاقتصاد في الاعتقاد» والسرية مثل الشيعة في «فضائح الباطنية». سلطة العقائد الفرقة الناجية في الظاهر، وسلطة الدولة في الحقيقة. ومن ثم كان دفاع ابن رشد عن الفلسفة دفاعا عنها في الظاهر، وعن المعارضة في الحقيقة، ونقد السلطة القائمة. المعركة في ظاهرها فكرية وفي حقيقتها سياسية. يتجلى مشروع ابن رشد الثلاثي إذن في التوحيد بين الدين والفلسفة أي بين السلطة والمعارضة في «فصل المقال»، ثم الدفاع عن الدين باسم الفلسفة أي عن السلطة باسم المعارضة في «مناهج الأدلة»، ثم الدفاع عن الفلسفة باسم الدين أي عن المعارضة باسم السلطة في «تهافت التهافت». يبرز مشروع ابن رشد في نقد السلطة، سلطة الدين الممثلة في الأشعرية والتصوف والشافعية، والتي جسدها الغزالي دفاعا عن العقل الذي مثلته المعتزلة والحنفية وعن المصلحة التي مثلتها المالكية اعتمادا على ظاهر الشرع وتأويله الصحيح كما هو الحال عند الحنابلة.
108
ونقد ابن رشد للغزالي نقد منهجي صرف، يتعلق بنوع الأقاويل التي يذكرها الغزالي. فإذا سقط الشكل سقط المضمون. وإذا انهار المنطق فسد الموضوع كما هو الحال عند القاضي في رفض الدعوى لفساد في الشكل قبل النظر في المضمون. لذلك كان الأولى بالغزالي تسمية كتابه «التهافت» بإطلاق وليس «تهافت الفلاسفة». وتعني مراتب الأقاويل درجات البرهان أي مراتبها في التصديق والإقناع كحجج خطابية أو جدلية وسوفسطائية أو حتى شعرية. أقوال الغزالي ركيكة أشنع من الجدل والسوفسطائي والخطابي، إنكار الضروري وجعل الممكن ضروريا والضروري ممتنعا في إطار الجدل مع الخصوم بالرغم من التمييز بين الاثنين. وهو ما يسمى في المنطق بالمعاندة الخطبية الضعيفة أو السوفسطائية. والتعاند ذاتي وليس موضوعيا، في المجادل وليس في الشرط طبقا لتمييز ابن رشد بين القول والشيء، الخطاب وموضوعه.
109
لقد نقل أبو حامد مذاهب الفلاسفة في تهافته وفي سائر كتبه دون أن يراعي شروط أقاويلهم كي يصرف الناس عنها. فشره أكثر من خيره. نقل الظن دون اليقين، والجدل دون البرهان. أبرز الحكمة لغير أهلها، ونهى عن المنكر بمنكر أعظم منه مع أن الحكمة النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان. وخلط بين الضروري والممكن والممتنع. هناك أشياء ضرورية يراها الخصم ممتنعة وأشياء ممتنعة يراها ضرورية. والحقيقة أن كليهما ممكن وليس أحدهما بأولى الممكنين. السلطة والمعارضة كلاهما ممكن طبقا لمنهج الحد الأدنى وادعاء الضرورة عند الخصمين واحد، ليس أحدهما أولى من الآخر. وعندما يتساوى موقفان احتمالا، لا يكون أحدهما أولى من الآخر، وهو نوع من قياس الأولى سلبا.
110
وقد وقع الغزالي في التصور الأشعري الساذج للعقائد، وأنكر على الفلاسفة تأويلاتهم المجازية وهو أول المتأولين، وكثير من ملاحظاته على أقوال الفلاسفة - خاصة ابن سينا - جعلت بعض أفكاره الجزئية وكأنها مذهب كلي. وأحيانا يجيب عنهم بجواب لا يطابق السؤال. ولا يدافع ابن رشد عن الفلاسفة ولكن يبين أن نقد الغزالي لهم ضعيف، وأن ابن رشد قادر على نقدهم نقدا صحيحا أكثر من نقد الغزالي لهم. ومن ثم كانت دلالة الحوار، أي الطرفين صاحب الحجج الأقوى أهم من مضمونه وحججه. لا يدافع ابن رشد عن الفلاسفة المسلمين على طول الخط بل ينقدهم خاصة إذا كان ممثلهم ابن سينا. وقد أتت عيوبهم من معركتهم مع المتكلمين. فقد تسلموا بعض مقدماتهم منهم. وبالتالي يكون نقدهم هو نقد للمتكلمين. العيب في الكلام أساسا قبل أن يكون من الفلسفة. الكلام أصل الداء. والهجوم على الفلسفة هو في الحقيقة هجوم على الكلام. وابن سينا ليس نموذجا للفلاسفة ولا أقواله نموذجا لأقوالهم، فكثير من أجوبة ابن سينا عن الفلاسفة أقوال سوفسطائية. وكثير من الغلط على الحكماء في اعتبار ابن سينا ممثلا لهم. مع أنه غير مذاهب القدماء في العلم الإلهي حتى صار ظنيا. ولا يوجه إليه ابن رشد أي نقد سياسي كما يفعل مع الغزالي، ولا يرجعه إلى ظروف زمانه وعصره، ولا يفترض إبداعه من خلال القراءة، ويفهمه من خلال ضرورة المطابقة بين الشارح والمشروح.
111
لذلك تصور أن أقاويل الفلاسفة من جنس أقاويله، أقاويل جدلية من جنس أقاويل المتكلمين؛ لأنه لا يعرف ماذا يعني البرهان، وأن الخلاف بين أقوال الفلاسفة وأقوال المتكلمين هو في جنس القول، الخلاف بين القول البرهاني والقول الجدلي. لم يكن الغزالي قاضيا بل كان منحازا. انحاز إلى المتكلمين ضد الفلاسفة أي إلى الجدل ضد البرهان. فجاءت أقاويله أقرب إلى التهافت والتناقض. الجدل أقل من البرهان وقصور عن المعاني التي يدركها العقل. وهو أقصى ما وصل إليه الغزالي من برهان. فنفي الكثرة عن العلم الإلهي لا ينفيه عن المعلومات إلا عن طريق الجدل. وأقل من الجدل الأقاويل المشهورة أو المنكرة أو الغريبة، وكلها أقاويل غير برهانية بل إن معظم أقاويل الغزالي سوفسطائية ناتجة عن اشتراك الاسم، وهي أبعد الأقاويل عن البرهان، ولم تصل بعد إلى مرتبة الجدل.
112
وكثيرا ما يستعمل ابن رشد ألفاظا عامة لوصف أقاويل الغزالي بالشناعة والركاكة والسخف والتهافت. ولا يقرأ التشهير إلا الجمهور. وهو محرم عليه الاشتغال بالفلسفة. ولا يكترث به العلماء الذين لا يدركون إلا البرهان. ومن يصرح بالحكمة للجمهور كمن يدس السموم في الأغذية. أقاويل الغزالي كلها شناعة وتشويش للمعلوم وإخراج له إلى غير أهله، تمويه وتهافت، زلل من العلماء يطلب ابن رشد مسامحتهم عليه، إبقاء لحسن الذكر، وعدم حجب الدنيا للآخرة، وعدم شراء الأعلى بالأدنى.
وكثير من تشبيهاته باطلة، وعلله كاذبة، وكلامه مخيل. كلها خرافات وأقاويل ضعيفة من أقاويل المتكلمين، هذيان وكلام مختل قد يكون مقنعا للجمهور ولكنه غير صحيح لأهل البرهان. يشبه علم الخالق بعلم الإنسان ويقيس عليه. عيب أبي حامد طلب الدنيا باسم الآخرة. والسعي إلى السلطة باسم العلم، وكأنه لا بد أن يتوب عن مواقفه اللادينية واللاشرعية واللاأخلاقية.
113
أما من ناحية الموضوع فإن خطأ الفلاسفة لا يستوجب كل هذا الهجوم عليهم والتشنيع بهم بل النصح لهم وحوارهم دون تشهير. يكفيهم فخرا وضع المنطق وإخراجه من كتاب الله كما فعل ابن حزم. كما أن الغزالي يستعمله في الرد على إلهيات الفلاسفة. ولا أحد معصوم في الإلهيات. العصمة للأنبياء وحدهم لعصمة الله لهم. وقد تعني أزلية العالم أو أبديته التاريخ المستمر والخلود في التاريخ والزمان ضد ثنائية الله والعالم عند الأشعرية واستردادا للروح في التاريخ. فالعالم باق كتاريخ قبل الإنسان وبعده، وأن ما يبقى هو فعل الإنسان فيه. وقد يعني إنكار علم الله بالجزئيات أنه لا يعلمها عدا وإحصاء بل يعلم بالقوانين الكلية التي تنتظمها. معرفة القانون هي معرفة بتحققاتها معرفة قبلية مما يقوي فينا المعرفة الشاملة. وقد يعني إنكار حشر الأجساد تأويلا للخلود المعنوي الفكري، خلود الآثار الباقية والأفعال العظمى في الروح وفي التاريخ، توسيعا للمفهوم البدني الفردي إلى المعنى الروحي العام. وقد يعني إثبات قوانين الطبيعة وإنكار المعجزات تأكيدا على دور الإنسان في فهمها وتسخيرها له وثقته بالفعل وبالعلم، ولا تتناسب المسائل العشرون من الناحية الكمية. فأطولها الأولى ثم الثالثة عن قدم العالم ثم الرابعة عشر.
114
ويظهر ابن رشد القاضي في الفصل بين الخصمين والتحقق من صدق القولين إما بين المتكلمين أو بين المتكلمين والفلاسفة. فبالرغم من عدم دفاعه عن المعاد الروحاني إلا أنه لا يستبعده، ولا يكفر القائلين به. وبالرغم من أنه لم ينكر حشر الأجساد إلا أنه لم يدافع عنه، واعتمد على حجة التاريخ والأديان والشرائع إقرارا بواقع وما اتفق عليه العقلاء. يطلب الحق مع أهله، ويستغفر لأبي حامد، ورجل واحد خير من ألف، مستشهدا بجالينوس، بشرط أن يكون من أهل الصناعة. يعطي الغزالي بعض الحق ويتهم الفلاسفة أحيانا للتقريب بين الاثنين. فلا أحد يمتلك الصواب المطلق، ولا أحد يمتلك الحقيقة كلها، ولا أحد على حق والآخر على باطل طول الوقت. يعطي ابن رشد بعض الحق لكل من الفريقين وعدم تخطئة واحد منهما على طول الخط. لا يخطئ ابن رشد أبا حامد في كل شيء وإلا كان قاضيا متحاملا ضده ومنحازا إلى الفلاسفة. ويتفق مع بعض معانداته ضد الفلسفة لأن معانداته صحيحة. يريد ابن رشد معرفة الحق ومرتبة الفلاسفة، وأبو حامد منهم. فالحق هو المقصود الأول في «تهافت التهافت» وليس الانحياز إلى أحد الخصمين. على عكس الغزالي الذي يعترف بأن قصده ليس معرفة الحق بل إبطال أقاويل الفلاسفة. فهو متعصب متحيز غير علمي، فقيه السلطان، بالرغم من أنه عالم كبير، مشهور نبيه، يحظى باحترام الناس. استفاد علمه من كتب الفلاسفة ثم انقلب عليهم. لا يتفق مع العلماء بل مع الأشرار. في حين اجتهد الفلاسفة وبذلوا الوسع وارتياض العقل حتى ولو أخطئوا. تكفيهم صناعة المنطق ويشكرون عليه. وشناعات المتكلمين أكثر من شناعات الفلاسفة. ومن عمل الحكيم ذكر شناعات كل فريق وطلب الحجج من الخصمين وإلا انحاز كما فعل أبو حامد. ويبين ابن رشد الدوافع التي حركت المتكلمين إلى اعتقاداتهم في المبدأ الأول وفي سائر الموجودات، والشكوك التي طرأت لهم، ومبلغ حكمتهم من أجل معرفة الحق والفصل بين المتخاصمين. وينتهى ابن رشد إلى حكم القاضي النهائي، وهو تساوي أقوال المتكلمين مع الفلاسفة من حيث الحق ومن حيث الظن وليس أحدهما أولى من الآخر بالظن أو اليقين.
115
ومعظم موضوعات «تهافت التهافت » صورية يسميها ابن رشد جدلية سوفسطائية وليست برهانية، ولم تعد بذي دلالة الآن، على عكس «فصل المقال» و«مناهج الأدلة»، نوع أدبي مستقل، يحفر ويوصل ويدقق ويمحص على درجة عالية من التراكم الفلسفي، بالرغم من تقطيع الحجج مما يؤدي إلى ضياع الموضوع. كان ابن رشد في تفسير ما بعد الطبيعة أوضح، بفصل النص عن الشرح توجها من الخارج إلى الداخل، ومن التبعية إلى الاستقلال، من سلطة أرسطو إلى سلطة الأشعرية ثم من السلطة إلى العقل. ويظهر أبو حامد في أول الفقرة وفي وسطها مما يصعب بعدها معرفة من قال ماذا.
116
وبالرغم من صورية الطابع إلا أن ابن رشد لا ينسى القارئ واشتراكه معه في الحكم بين أبي حامد والفلاسفة والدعوة إليه. بل ويحتكم إليه ابن رشد ويلجأ إلى فطرته السليمة إن كان من أهل الفطرة المعدة لقبول العلوم، ومن أهل الثبات أي اليقين والفراغ أي حب المعرفة لذاتها، من أهل النقل والعقل، من أجل الوقوف على ما في كتب الفلاسفة من حق أو باطل أو أن يلجأ إلى ظاهر الشرع إن لم يكن من أهل الحكمة. أما الذي لا ينتسب إلى أهل الشرع أو إلى أهل الحكمة فهؤلاء هم الذين يخاطبهم الغزالي للتشنيع على الفلاسفة، أهل الشرع والحكمة. وبالتالي يجمع ابن رشد بين الظاهرية للعامة والباطنية الخاصة. ويشرك ابن رشد القارئ في الحكم على ادعاء كل فريق أن ما يقوله هو الحق بنفسه بالرغم من نقصان الأدلة. ويطالبه باستفتاء قلبه، واللجوء إلى ضميره، ويدعو له بأن يكون من أهل الحقيقة واليقين. يشركه معه في ضرورة تحويل الحجج الإقناعية إلى حجج برهانية. والبرهان أشبه بالصناعة العملية التي يمكن تعلمها لأن البرهان عمل الفكر، وصناعة الذهن. ولما كانت الأقاويل غير البرهانية تأتي بغير صناعة ظن الناس أن الأقاويل البرهانية كذلك. وقد استعمل «التهافت» أقاويل غير برهانية أي غير صناعية من أجل بيان «تهافت التهافت».
117
وقد استمرت المعركة بعد ابن رشد في عصر محمد الفاتح في القرن التاسع الهجري للتحكيم بين التهافتين كطرف ثالث بتوجيه منه مما يدل على أهمية العقيدة للدولة، والسلطة الدينية للسلطة السياسية، ربما للانتصار لأحد الفريقين أو لتجاوزهما معا.
118
ومع ذلك لم تستطع ضربة ابن رشد المضادة أن تؤدي الغاية منها، رد الاعتبار إلى الفلسفة وإثبات وحدتها مع الدين ضد سوء فهم الفلسفة وسوء تأويل الدين. ربما لأنه كان قريب العهد بالغزالي بعد قرن من الزمان. وكان الغزالي ما زال مسيطرا على الثقافة والحضارة السياسية، عقائد السلطة للحكام وعقائد الطاعة للمحكومين. وبالرغم من إحساس ابن رشد بالنهاية، وأن التاريخ ينقسم إلى مرحلتين، ما قبله وما بعده، القدماء والمحدثين إلا أن الغلبة كانت للقدماء منذ ابن رشد وربما حتى الآن. فهو كثير الإحالة إلى القدماء، يونان أو مسلمين. لذلك ارتبط بأرسطو آخر قدماء اليونان وأول محدثيهم كما أن ابن رشد آخر قدماء المسلمين وأول محدثيهم.
خامسا: ابن غيلان، الخازن، القلانسي، الجزري، الفارسي، الكاتب، التيفاشي، الطوسي،
شيخ الربوة
(1) ابن غيلان
و«حدوث العالم» لعمر بن علي بن غيلان (القرن السادس الهجري) رد على قدم العالم عند ابن سينا. فالتراكم الفلسفي يحدث في صورة شرح كما هو الحال في الأعمال الرياضية لأبي العلاء بن سهل أو مناظرة مثل مناظرة فخر الدين الرازي والغيلاني أو رد ونقض مثل «تهافت التهافت» لابن رشد ردا «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«حدوث العالم» لابن غيلان ردا على «الحكومة في حجج المثبتين للماضي مبدأ زمانيا» لابن سينا، و«مصارع المصارع» لنصير الدين الطوسي ردا على «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني. فلم يسلم الفلاسفة من هذه الردود التي ابتدعها المتكلمون مثل «الرد على ابن الراوندي الملحد» للخياط، والفقهاء مثل «الرد على المنطقين» لابن تيمية، بل والأدباء في مناقضات الجرير والفرزدق.
ويشتمل على مقدمة «في بيان أن هذه المسألة من أمهات أصول الدين» وقسمين: الأول «في الاحتجاج لإثبات حدوث العالم ومناقضة كلام ابن سينا»، والثاني «في ذكر شبههم المؤدية إلى القول بقدم العالم». وقد لفق ابن سينا حججه ومن ثم فإنها لا تصمد للنقد.
1
يهدف الكتاب إلى إثبات حدوث العالم ومناقضة كلام ابن سينا في رسالة الحكومة في حجج المثبتين للماضي مبدأ زمانيا.
2
ومن ثم تحولت الفلسفة إلى كلام، والبرهان إلى جدل.
وهناك إحساس بتقدم التاريخ من المتقدمين إلى المتأخرين. فالفلسفة ليس لها نمط ثابت.
3
ولكن التقدم أقرب إلى النكوص نظرا لتكفير المؤلف الفلاسفة كما فعل الغزالي من قبل، ومن ثم ضاع ابن رشد ولم تنجح حملته في الدفاع عن الفلسفة، والهجوم مستمر عليها مع الغزالي في القرن السادس.
4
ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق إثباتا لوحدة الموضوع والقصد.
5
وهناك بعض الرسوم التوضيحية لنقض الحجج.
6
ويتصدر ابن سينا الموروث ثم أبو البركات البغدادي ثم حجة الإسلام ثم الفارابي. وقد خالف ابن سينا أقاويل أرسطو التي لا تقول بقدم العالم كما يقول. كما أن النفوس ليست متعددة على رأي أفلاطون. فابن سينا يسيء تأويل الوافد اليوناني.
7
ومن الفرق الفلاسفة على العموم دون تخصيص بالوافد أو الموروث ثم النظار المنطقيون والمتكلمون والمعتزلة والدهري والفيلسوف.
8
ومن الأماكن المدرسة النظامية، بلخ، نيسابور. ومن المؤلفات «الإشارات والتنبيهات» ثم «المعتبر» ثم «الشفاء» و«التهافت»، و«نهاية الأقدام»، و«الأيام والشكوك»، و«رسالة الحكومة». وتدل أولوية «الإشارات» على المنحى الإشراقي عند شراح ابن سينا وتلاميذه. يراجع ابن غيلان إلى مجموع مؤلفات ابن سينا للرد عليه في موضوع قدم العالم ولا يكتفي بواحد منها ولإثبات أنها نظرية ثابتة ودائمة في فكره وليس في عمل واحد.
9
ومن الوافد أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط، وبرقلس، وجالينوس. وكلهم أساطين الحكمة عند اليونان. تحدثوا عن المبدأ الأول وعنوا به الله تعالى، لا يعلم إلا ذاته، علم ذاته وذاته علمه توحيدا بين الذات والصفات كما هو الحال عن المعتزلة. وهي قراءة إسلامية لليونان، ووضعا للوافد في قالب الموروث. وقد استنكف الفارابي وابن سينا إظهار هذا الاعتقاد. وهو ما نقله أيضا أبو البركات عن أرسطو.
10
كما يحال إلى «طبائع الحيوان» و«منافع الأعضاء» بين الموضوعات والكتب.
11
وينتهي الكتاب بآية قرآنية واحدة
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
تعبيرا عن انحراف ابن سينا وحاجته إلى الهداية والرجوع عن القول بقدم العالم إلى القول بحدوثه. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة وبه نستعين وتتخلل الفقرات تعبيرات إن شاء الله ينتهي بالدعوة للتوفيق للصواب واسم الناسخ ونسبة النسخ.
12
وفي «المناظرة بين فخر الدين الرازي وفريد الدين الغيلاني في مسألة حدوث العالم» التي تمت في القرن السادس الهجري عود إلى الموضوع ذاته، تكفير ابن سينا الذي بدأه الغزالي.
13
وتبدأ المناظرة بوصف المكان، سمرقند، والسمات الفاضلة للمناظر الأول مثل استقامة الخاطر وحسن القريحة وعظم التواضع وحسن الخلق الفريد للغيلاني بالرغم من أنه كان قليل الحاصل بعيدا عن النظر تباطأ في الخروج للقاء الرازي الذي اعتبرها إهانة فرد له الإهانة بأخرى. كان قد قرأ تصانيف الرازي «الملخص»، «شرح الإشارات»، «المباحث المشرقية». وهو صاحب رسالة «حدوث العالم» للرد على ابن سينا وهي رسالة ضعيفة. فالمناظرة بين سينوي وهو الرازي وغير سينوي وهو الغيلاني أو ابن غيلان. والرازي هو الذي يبدأ بالهجوم والغيلاني دفاعه ضعيف. ويرفض الكلام في المسألة إلا مع ابن سينا! وحسمت المناظرة لصالح الرازي. وتوقف الغيلاني طويلا وتلون وجهه واضطربت أعضاؤه وبقي عاجزا عن الكلام. ولكن ذلك لم يبعث ابن سينا من جديد بعد هجوم الغزالي بالرغم من دفاع ابن رشد، وهجوم الغيلاني بالرغم من دفاع الرازي، وهجوم الشهرستاني بالرغم من دفاع نصير الدين الطوسي.
ومن الموروث يتصدر بطبيعة الحال ابن سينا ثم الغيلاني ثم الرازي الطبيب. ومن الوافد لا يظهر إلا أرسطو.
14
ويستعمل أرسطو في الجدل في وجوه احتمالية، أن الجسم في الأزل كان متحركا وهو رأي أرسطو وابن سينا، والثاني أنه كان ساكنا ثم تحرك فإذا بطل الأول صح الثاني. وبطبيعة الحال تظهر أفعال القول بين المتناظرين لأنها ليست خاصة بأرسطو وحده، والرازي هو الذي يتكلم «قلت» والغيلاني أقل «قال».
15
وتنتهي المناظرة التي هي من تحرير الرازي بالحمدلة والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين.
16 (2) الخازن
وفي كتاب «ميزان الحكمة » للخازن (القرن السادس): يقوم تنظير الموروث قبل تمثل الوافد على التجميع من مؤلفات سابقة مما يكشف على أن شعور الجامع أقرب إلى الموروث منه إلى الوافد في هذه العصور المتأخرة. ويستمر هذا التجميع حتى قبل التأليف الحديث منذ القرن الماضي. ويعترف الخازن بأن الكتاب تجميع وليس تأليفا.
17
وقد قام بذلك عام 515ه. ويدل العنوان على الموروث. فاللفظان قرآنيان: «ميزان الحكمة» وفوق العنوان آية
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وتكشف المقدمة الإيمانية بعد البسملة والاستعانة والتوفيق أن الله هو الحكيم العدل. أقام الكون على نظام عادل، والمعاد على قانون عادل. فبالعدل قامت السموات والأرض، جسم الإنسان لذلك ذكر القرآن القسط والاستقامة. والعادل والقسط من صفات الله. والعدل في النفس والمجتمع، في الأخلاق وفي السياسة، ومصادر العدل ثلاثة: الكتاب، والثاني الأئمة المجتهدون والعلماء الراسخون نواب الرسول وخلفاؤه في كل عصر، حماة الدين «السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم». والثالث الميزان، لسان العدل وترجمان الإنصاف.
18
وتتعدد فوائد الميزان المطلق ومنافعه مثل الدقة والتمييز الصحيح والمغشوش وتداخل الفلزات وتجاورها وجوهر الشيء الموزون والشعر ومعرفة حقيقة الجواهر.
ويتضمن الكتاب ثلاثة أقسام: الأول الكليات والمقدمات مثل الثقل والخفة والنسب. والثاني صنعة الميزان وامتحانه والتحقق من أعماله. والثالث التفصيلات، ميزان الدراهم والدنانير والمسطحات والساعات ويقوم على البراهين الهندسية في الأوزان والمقادير. وهو صناعة لها قواعد ومبادئ.
ومن الموروث يتصدر الموروث الأصلي القرآن والحديث ثم البيروني ثم الرازي والاسفزاري ثم الخيام ثم الخازني الطبيب ثم أحمد بن الفضيل المساح ثم سند بن علي، ويوحنا بن يوسف وابن سينا وابن الهيثم وآل ناصر الدين والمأمون والكرماني لا فرق بين العلماء والملوك. وقد ورثوا اليونان أيام السامانية. لا فرق بين المتقدمين والمتأخرين. ففي المقالة الأولى عن المقدمات الهندسية والطبيعية سبعة أبواب يختلط فيها الموروث بالوافد، ابن الهيثم المصري وأبو سهل القوهي أولا ثم أرشميدس وأوقليدس ومانالاوس وقوقس الرومي ثانيا. وفي المقالة الثانية عن بيان الوزن يظهر أولا الاسفزاري وثابت بن قرة. وفي المقالة الثالثة عن النسب يظهر البيروني. وفي الرابعة عن موازين الماء يذكر المتقدمون مثل أرشميدس ومانالاوس قبل المتأخرين مثل الرازي والخيام. وفي الخامسة عن ميزان الحكمة، يذكر الاسفزاري وحده. وفي السادسة عن الصنجات المخصوصة يذكر البيروني من جديد.
19
وقد كتب الرازي الميزان الطبيعي وسماه الاثني عشر، ونظر فيه ابن العميد أثناء الدولة الديلمية، وابن سينا أيام آل ناصر الدين، والبيروني استخرج نسب الفلزات وعمر الخيام وكان معاصرا لأبي حاتم الاسفزاري. وفي الباب الأول يذكر أبو سهل القوهي وابن الهيثم المصري في مركز الأثقال. وفي القسم الأول من المسألة الثانية يذكر صفة الوزن واختلاله لثابت بن قرة ومراكز الأثقال وصنعة القبان للأسفرايني. وفي النسب بين الفلزات والجواهر يذكر البيروني ورصدها بالتنبك وفي صنعة الآلة المخروطة ونسبة الوزن الهوائي إلى الوزن المائي بالميزان وفي رصد الجواهر الحجرية وفي مقياس الماء لتحصيل نسب الأثقال لتقدير المساحة، وحرز المال، وفي قيم الجواهر اعتمادا على «الجماهر في الجواهر». ويذكر حروف الجمل عند القاسم الكرماني، وعمر الخيام في ميزان الماء والعمل به والبرهان عليه إذا كانت الكفتان أو إحداهما في الماء. ويذكر أبو حامد أبو المظفر إسماعيل الاسفزاري في صنعة أعضاء ميزان الحكمة واتخاذ عاموده.
20
ويذكر بعض أسماء فلاسفة الهند مثل صعصعة في دراهم تضاعيف بيوت الشطرنج والعمر الذي يتفق فيه وشعرائهم مثل سمع وذكره العمر الذي تتفق فيه الدراهم وهو شعر منقول إلى العربية.
21
ويستعمل الشعر العربي كمصدر للعلم.
22
في العمر الذي تنفق فيه الدراهم. وتستعمل مقدمات الفكر ومساره ويظهر اتساقه مع نتائجه ووحدة الموضوع.
23
كما تستعمل كثير من الرسوم التوضيحية والجداول. وتظهر الأماكن المحلية مثل جيجون وخوارزم بل والهند وسرنديب لقربها وأسماء الدول مثل الدولة القاهرة المغيثة السنجرية.
24
وتظهر الآيات القرآنية حول العدل والقسط والاستقامة والميزان وعدم الطغيان والخيران فيه والوزن بالقسطاس المستقيم في الدنيا والآخرة. فالتوجه نحو الميزان من القرآن وتعميمه من الميزان في الموضوعات إلى الميزان في العقول كما هو معمم إلى الميزان في الكون.
25
بل تصبح بعض الآيات القرآنية موضوعات لفصول مثل ملأ الأرض ذهبا .
26
ويستعمل القرآن للاعتراض على حصة الفيلسوف الهندي في البقاء في الدنيا والآخرة والمبالغة في وصف الدنيا بأنها منزل الممدوح والدر على أنه عمره وكما هو معروف في «خاويد زياد».
27
وهناك تواصل بين المتأخرين والمتقدمين فقد ورث المسلمون اليونان.
28
لم يبرز من اليونانيين إلا مانالاوس ثم بزه محمد بن زكريا الرازي. ومن الوافد يتصدر مانالاوس ثم أرشميدس ثم إياورن، وقوقس الرومي، ثم الإسكندر، وأوقليدس ثم ذو ماطيانوس، وملاوس يختلط في الأسماء أيضا العلماء والملوك. مينالاوس هو الذي وضع علم الميزان في رسالة إلى ذو ماطيانوس. كما استنبط أرشميدس المهندس للملك حيلة يعرف بها قدر الذهب والفضة. وكان مانالاوس بعد الإسكندر بأربعة قرون استخرج طريقة حسابية للموازين.
29
وتذكر في الباب الثاني مسائل أرشميدس في الثقل والخفة، وفي الثالث مسائل إقليدس في الثقل والخفة أيضا وقياس الأجرام، وفي الرابع مسائل مانالاوس في الثقل والخفة، وفي السابع مسائل الحكيم قوقس الرومي في صنعة قياس المائعات في الثقل والخفة.
30
ويذكر ميزان أرشميدس وكيفية العمل به. وتفسير مانالاوس الحكيم في أوزان الفلزات بالميزان المطلق الهوائي والمائي. ويذكر لفظ «الأسطقس» معربا.
وبعد البسملة في البداية والاستعانة والتوفيق في أول الكتاب تظهر الحمدلة في آخر كل مقالة والصلاة على النبي محمد وآله الطاهرين. وتتخلل الفقرات عبارات إيمانية مثل إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق ويختتم الكتاب بالحمد والشكر واسم الناسخ (أبو نصر محمد بن محمد) وزمان النسخ (585ه).
31 (3) القلانسي
لم يتوقف التراكم الفلسفي عند ابن رشد بل استمر في عصره وبعد عصره. ففي القرون الثلاث التالية ازدهر الطب والعلوم الرياضية والطبيعية بل والفنية مثل الغناء. ففي «أقراباذين» القلانسي (590ه) وهو لفظ يعني الأدوية المركبة أو دستور الأدوية يظهر النقل والتجميع. فالأدوية يكثر فيها النقل، ويقل الإبداع.
32
الصيدلة جزء من الطب، والطب تشخيص وعلاج. وهي أقرب إلى العلم الدقيق. وتقل المسائل الفلسفية باستثناء الزمان الموضوعي في تركيب الأدوية وليس الزمان النفسي وإلا ضاع الدواء. كما يتم ترتيب الأدوية على ترتيب العلل.
33
وترجع المادة إلى أصلها ومرجعها. وتفسر الأسماء باليونانية والعربية بالرغم من استقرار المصطلحات، وتذكر خواص العقاقير، ويعمم رأي جالينوس بالإضافة إلى الإبداعات الخاصة .
34
ويوضع النص بين قوسين احتراما لجمهور القدماء. وقد يذكر المصدر والمؤلف أو المصدر وحده نظرا لشهرته. ولقد أضاف المسلمون على أدوية ديسقوريدس أدوية جديدة من البيئة المحلية.
ويظهر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد.
35
من الوافد يتصدر جالينوس ثم بليناس ثم الإسكندر، ثم ديسقوريدس، وأركاغينس، وأطهورسقس، وقسطس ثم ثاوفرسطس، وماريوس، وأنتلس.
36
ومن الموروث يتصدر الرازي الطبيب ثم الطبري الطبيب ثم ثابت بن قرة ثم ابن هندو ثم أحمد بن مندويه الأصفهاني، ويوحنا بن سرافيون، وسلمويه، وحنين بن إسحاق، وابن سينا ثم أبو نصر، والكندي، والبيروني، والقلعي، والقلانسي، والبلاذري الصغير.
37
ومن أسماء الأدوية تتصدر الأدوية المشرقية الهندية والفارسية على اليونانية والرومية والمصرية.
38
وتكثر الإيمانيات في البسملة والحمدلة، والاستعانة بالله الذي بيده كل شيء، الحكيم القاهر المعز دون ربطها بالطبيعيات.
39 (4) الجزري
وفي «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» للجزري (602ه) تزدهر الرياضيات العملية في علم الحيل مع استمرار طريقة التجميع من المصادر السابقة. وقد استمر علم الحيل من القرن الثالث (بنو شاكر) عبر السادس (الجزري) حتى العاشر (تقي الدين).
يكثر النقل، ويقل الإبداع، وتكثر الألقاب.
40
وبالإضافة إلى النقل من السابقين هناك بعض التجارب الشخصية. يغلب الطابع العملي بالرغم من اعتماد العلم على بعض الأفكار الفلسفية في الخلاء والملاء والمكان، يجمع بين الخبر والعيان، بين الأدبيات والممارسة. ويتم توضيح الأدبيات بالصور ومراجعة البعض منها. وتكشف المادة المعروضة على درجة عالية من الرقي الحضاري والفن الرفيع.
ويتصدر الموروث الوافد. من الوافد يتصدر أرشميدس ثم أبلينوس النجار وحده.
41
ومن الموروث يتصدر الجزري نفسه ثم أرسلان وهبة الله بن الحسين ثم آل أرنق وبنو موسى والحصفكي.
42
وتظهر الإيمانيات في البسملة والحمدلة وطلب اليسر والرحمة من الله المبدع الصانع الحكيم مع الدعوة إلى السلطان.
43 (5) الفارسي
وفي «تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر» للفارسي (آخر السادس وأوائل السابع) يظهر التراكم الفلسفي ليس فقط مع الوافد بل أيضا مع الموروث.
44
فهو شروح وإضافات على كتاب المناظر لابن الهيثم بطليموس الثاني، يجمع بين المناظر وتشريح العين أي بين الرياضيات والطبيعيات. ويتصدر الموروث الوافد. ومن الوافد يظهر جالينوس وإقليدس وأبولونيوس في المخروطات على نحو نقدي. فكتاب المناظر لإقليدس به بعض القصور أكمله ابن الهيثم. وكتاب أبولونيوس في حاجة إلى تنقيح. وكتاب منافع الأعضاء لجالينوس شرح ابن أبي صادق بعد تراكم الوافد في الموروث.
45
ومن الموروث يتصدر ابن النفيس ثم الطبري ثم الرازي الطبيب ثم الشيخ الرئيس ثم ابن الهيثم ثم ثابت بن قرة ثم ابن أبي صادق، وابن خف المسيحي، وابن هبل، وإسحاق بن حنين، والجوهري، وابن عباد. ويذكر من الموروث «الكليات في القانون»، و«الشفاء»، والطب الكبير للرازي، و«الذخيرة» لثابت، و«تذكرة الكحالية» لعلي عيسى الكحال، و«كامل الصناعة» لعلي بن العباس، و«المعالجات البقراطية» للطبري.
46
ويعتمد الكتاب على القياس والاستقراء، المعرفة والأمارات. لذلك تبدأ فقراته بألفاظ المعرفة والتحقيق.
47
وتكشف أفعال القول عن مسار الفكر والتراكم الفلسفي وأسلوب الاستدلال. وفي الإيمانيات تشتق صفات الله من علم المناظر مثل مكور الليل والنهار والشمس والقمر والأفلاك، نور الأنوار، جعل الشمس ضياء والقمر نورا، لا فرق بينه وبين نور العقل والنفس مع الدعاء إلى السلطان. فالله هو الذي خلقه ورزقه وهداه وعلمه كما فعل بموسى.
48 (6) الكاتب
ويظهر الغناء كأحد العلوم الرياضية مثل الموسيقى. ففي «كمال أدب الغناء» للحسن بن أحمد علي الكاتب (625ه) يظهر ارتباط الموسيقى بالطب عن طريق الأثر على النفس وكذلك ارتباط الموسيقى بالفلك في نغم الكون، وارتباطها بالحساب في الذبذبات. ويكشف عن ذلك كله جمال العنوان مثل موسيقى الشعر، والعروض والموسيقى. ويعتمد على التراكم الفلسفي بإيراد نصوص القدماء مثل الفارابي بطريقة التناص كما يعتمد على الروايات الشفاهية.
49
ويتصدر الموروث الوافد. ومن الوافد يتصدر فيثاغورس ثم ليصوماخوس ثم أسادقليس، وايسليوس، ونيقوماخوس ثم ثاطس، وأدوسوس، وسقراطيس، وأرخوطس.
50
ومن الموروث يتصدر إسحاق الموصلي ثم الفارابي ثم السرخسي، وإبراهيم الموصلي ثم مالك بن السمح ثم الكندي، وأبي سريع وعشرات أخرى.
51
ويظهر القدماء إحساسا بالتراكم وببعض الفلاسفة والحكماء واليونان وملوك العرب وملوك الفرس. كما تظهر آلات الموسيقى مثل الطنبور العربي والبغدادي.
52
وتضرب النماذج من الشعر المغنى في أبيات كاملة أو مقاطع.
53
ويبدو مسار الفكر وحدة العمل في الإشارة إلى ما قبل وما بعد، ثم شرحه وبيانه مع الإحالة إلى باقي الأعمال.
54 (7) التيفاشي
وفي «أزهار الأفكار في جواهر الأحجار» للتيفاشي (651ه) يظهر علم المعادن كجزء من العلوم الطبيعية. فجواهر الأحجار هي الأحجار الكريمة. ويقوم أيضا على التجميع من التراث العلمي السابق بالرغم من الحروب والمخاطر في الأندلس وفي المشرق، والمنصور في الأرك، وصلاح الدين في حطين. وبالرغم من التجميع في عصر الموسوعات إلا أن المنهج يكشف عن نزعة واقعية، المعرفة التجريبية دون خرافات وأساطير، ومعاناة في تقصي الحقائق والتجربة والمشاهدة الشخصية الدقيقة ودقة الوصف والقدرة على التصنيف وابتكار المصطلحات العلمية وتأصيل البحث في أصل المعادن. فالنقل عن القدماء لا يعني التخلي عن القياس أو التجربة.
55
والجوهر اسم فارسي معرب يعني كل ما يخرج من البحر. وبالرغم من التجميع، فللفكر مساره، مقدماته ونتائجه، إحالاته واستدراكاته.
ويتصدر الموروث الوافد. من الوافد يظهر أولا أرسطو ثم بلينوس ثم الإسكندر ثم دياسقوريدس، وليانوس الأنطاكي، وجالينوس، وأوفرسطس. ومن الكتب يذكر الأحجار لثافرسطس، والحيوان لأرسطو، وسر الطبيعة لبلينوس.
56
ومن الموروث يتصدر أحمد التيفاشي ثم الكندي ثم ابن الجزار ثم يوحنا بن مسويه والمسيحي ثم المسعودي، والطبري، والرازي، والشريف الجوهري، وابن صهاربخت، وأبو الفتح أحمد بن مطرق، وحنين، وعشرات الأسماء من الأمراء والقواد والوزراء.
57
وتذكر عديد من المصادر الموروثة.
58
كما تذكر عشرات من أسماء البلدان والأماكن تدل على البيئة المحلية.
59
وتتصدر الصين ثم الهند ثم فارس. ويذكر من الفرق بعض الحكماء الأوائل وحكماء الفلاسفة. وفي الإيمانيات تذكر الأماكن المقدسة مع البسملة والحمدلة وتفويض العلم والصواب إلى الله. كل شيء بمشيئته، وكل ما في الأرض حكمته وآثار صنعته، مع الدعاء إلى السلطان الأعظم الملك الكامل.
60 (8) الطوسي
ومن نفس النوع الأدبي «المناظرة»، «مصارع المصارع» لنصير الدين الطوسي (672ه) ردا على «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني، محاولة لإحياء الفلسفة التي بدأها ابن رشد ضد هجوم الغزالي عليها.
61
والمناسبة شغف الطوسي بالعلوم العقلية والمعارف اليقينية والنظر في كتب علمائها في أوقات الفراغ واقتفاء كلام الناظرين للتمييز بين الحق والباطل حتى تسكن النفس ويطمئن القلب. فوجد مصارعة الفلاسفة مملوءا بالأقوال السخيفة والنظر الضعيف والمقدمات الواهية والمباحث غير الشافية وتخليط في الجدل، وتمويه في المثال، وسفه مازح يحترز منه العلماء، ورفث قوله لا يستعمله الأدباء. ولا يتوجه إلا إلى العوام. وخرج من مصارعته مهزوما. فأراد الكشف عن هويهاته دون الانتصار لمذهب ابن سينا. فالطوسي هو القاضي النزيه بين خصمين، ابن سينا والشهرستاني كما فعل ابن رشد القاضي من قبل بين ابن سينا والغزالي، والرازي الفيلسوف بين ابن سينا والغيلاني. وينقد الطوسي انتقال الشهرستاني من الثناء على الله إلى مدح السلطان وهو السيد مجد الدين أبو القاسم علي بن جعفر الموسوي نقيب ترمذ ووصف الشهرستاني نفسه بأنه أصغر خدمه، يعرض بضاعته عليه وخدمته له، مطالبا السلطان بالحكم بينه وبين خصمه وكأنه من أهل العلم والمبرزين من الحكماء. ويرد الطوسي على المسائل السبع التي نقض فيها الشهرستاني ابن سينا وهي: حصر أقسام الوجود، وجود واجب الوجود، توحيد واجب الوجود، علم واجب الوجود، حدوث العالم، حصر المبادئ، ومسائل مشكلة وشكوك معضلة. وهو جزء صغير من إلهيات الشفاء مع غفل للمنطق وهو آلة العلوم اليقينية والطبيعيات التي لم يجارها من أحد، والنفس والأدلة على تميزها عن البدن ومعادها، ثوابا وعقابا. هنا يقود الفلسفة إلى الكلام الذي خرجت منه ويرجع البرهان إلى الجدل والذي أراد تجاوزه، يقرأ الطوسي الشهرستاني قارئا ابن سينا، عدسات ثلاث لآليات القراءة.
62
ولما كان الموضوع هو نقد ورد فقد كثرت صيغ أفعال القول بين «قال» أي الشهرستاني، «أقول» أي الطوسي، قوله غير مشخص بالضمائر. قد يأتي «قال» مقرونا بالفاعل «المضارع» تهكما. كما تظهر صيغ المبني للمجهول «قيل» تركيزا على القول وليس على القائل. كما تظهر صيغ الشرط كحالات افتراضية «إن قيل»، «لو قال قائل»، «إن قال» ... إلخ. كما يظهر فعل «اعترض»، ومخاطبة القارئ لإشراكه في الحوار «اعلم». فصيغ أفعال القول ليست خاصة بأرسطو وحده.
63
ولما كان ابن سينا هو نموذج الفلاسفة الذي يتم توجيه سهام النقد له فإنه بطبيعة الحال يتصدر الموروث ثم الشهرستاني ثم أحمد بن حنبل والفارابي ومحمد بن كرام السجستاني ويحيى بن عدي.
64
ويعتمد الطوسي على شروح الفارابي لكتاب العبارة والبرهان والمغالطات. فالوافد أصبح موروثا، ويحيل إلى «الشفاء» والنجاة لابن سينا.
65
كما يعتمد على قياس الفقهاء، القياس الشرعي وهو أكمل من القياس الأرسطي. ويظهر المنطق الإسلامي الذي يعتمد على الفطرة.
66
ومن الفرق تذكر الكرامية ثم الأشعرية ثم الباطنية والحشوية والرافضة والمعتزلة.
67
والكرامية نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني الذي كان في أيام الطاهر أثبت مكانا وزمانا للأول تعالى بطريق الأدلة الكلامية وأثبتها السلف بالنقل وحده. ومن الموروث الأصلي يستشهد بالآيات القرآنية أكثر من الحديث.
68
ويبدأ الكتاب بالبسملة والحمدلة والصلاة على محمد وآله الطاهرين وتتخلل الفقرات «إن شاء الله تعالى»، وبعض أدعية الصالحين.
69
ومن الوافد يتصدر بطبيعة الحال أرسطو الذي ينتسب إليه ابن سينا ثم فيثاغورس، ثم الإسكندر الأفروديسي، وبطليموس، وجالينوس، وفرفوريوس. ولا يذكر الوافد إلا في إطار الموروث وداخل وعائه. فإذا كان ابن سينا قد ادعى على أرسطو منطقا لم يضعه فإن الشهرستاني قد ادعى على ابن سينا أيضا منطقا لم يضعه. وقد رجع الطوسي إلى إيساغوجي فرفوريوس للتحقق من صدق نقد الشهرستاني.
70
ويبين الطوسي أن جميع ما فعله أرسطو ليس من الأحكام والإتقان الموجودة في الأعيان، المفارقة والمادية والأشياء المتجهة إلى غاياتها، وأحوال الأجسام البسيطة والمركبة وخواص المعادن وأفاعيل النفوس، وما ذكره جالينوس في كتب التشريع ومنافع الأعضاء وما أورده بطليموس من رصد الأجرام العلوية وحركاتها، ومع ذلك يمكن الاستدلال بها على علم الله وإتقان الصنع كما يريد المتكلمون. فكيف يخرج ابن سينا عن حظيرة النظار؟
ومن الفرق الطبيعيون والمشاءون، الملطية، وأصحاب الرواق.
71
وفرق بين المتقدمين منهم والمتأخرين. ويصنف الطوسي الآراء في العالم إلى ثلاثة: الأول حدوث العالم بعبادتها ومركباتها وهو رأي جماعة من الأوائل، أساطين الحكمة من الملطية وجماعة من المسلمين. والثاني قدم المبادئ مثل العقل والنفس والمفارقات والبسائط لأنها فوق الدهر والزمان، بخلاف المركبات في الزمان فهي حادثة وهو رأي جماعة من المسلمين يقولون بقدم المعاني وحدوث الحروف. والثالث قدم العالم وسرمدية الحركة وهو رأي أرسطو وأتباعه من فلاسفة الإسلام.
72
ويستشهد الطوسي في بيان معاني الألفاظ المشككة بالإسكندر الأفروديسي في شرح قاطيغورياس نقل يحيى بن عدي.
ومن الوافد الشرقي يتصدر زرادشت ونمرود. الأول للقول بإلهين يزدان وأهرمن. والثاني عندما حاججه الخليل في إثبات وجود الله من التغير إلى الثبات.
73 (9) شيخ الربوة
وفي «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» لشيخ الربوة (727ه) يظهر علم الجغرافيا وكأنه هو العلم الشامل للتاريخ والحيوان والنبات والمعادن والكيمياء والفلك والحساب وتاريخ الأديان والحضارة والتصوف واللغة والأدب والوحي والشعر. فهو أقرب إلى الجغرافيا البشرية منه إلى الجغرافيا الطبيعية لا فرق بين علم الجغرافيا البشرية وعلم العمران والتاريخ والسياسة. فالتاريخ جزء من العلوم الطبيعية لارتباطه بالجغرافيا كما هو الحال عند ابن خلدون. والتجارة في الأحجار جزء من العلم أي الاقتصاد مع الجغرافيا.
74
ويضم العمران بناء المدن من قواد الجيش الفاتح للاستقرار. وتشتق الأسماء إما من مضارب العسكر أو من مذهب السكان مثل الكوفة الصغرى لكثرة ما فيها من التشيع، والقدس لقدسيتها. ونقلت عواصم المشرق إلى المغرب مثل حوض دمشق ونقل إلى الأندلس شام جديدة تنافس الشام القديمة. وتم تدمير المدن على أيدي التتار.
ويؤرخ للتاريخ بالإسلام قبله وبعده، مركزية المكان مثل مركزية الزمان، وقلب الجغرافيا مثل قلب التاريخ، والفرق بين العلمين ليس كبيرا. تاريخ الأرض هو تاريخ البشر من خلال العمران وتعمير الأرض. وكما أن الجغرافيا بشرية التاريخ بشري، الناس والموضوع الساكن والمسكون.
75
ويتضمن تسعة أبواب: الأرض وهيئتها، المعادن وطبائعها، المياه الجوفية مثل العيون والآبار والينابيع والأنهار وهي المياه العذبة السيارة، المياه السطحية وهي المحيطات وهي المياه المالحة، البحر الأبيض المتوسط وهو بحر الروم ومساحته وسط العالم القديم، البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر الصين انتقالا من أفريقيا وأوروبا إلى آسيا، وأخيرا أنساب الأمم على الأرض والانتقال من الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا البشرية، والتحول من الجغرافيا إلى أخلاق الشعوب وتقسيمها حسب البقاع والأمزجة، وذكر صفات سكان الأقاليم المنحرفة والمعتدلة.
76
ويتم الحديث عن الغرب الحديث، الصقالبة في أوروبا الشرقية بعد فتح العثمانيين لها والإحساس بوجود الإفرنج في الشمال بعد الحروب الصليبية. مع التفرقة بين اليونان والرومان. ويتم الحديث عن الشرق الهند والصين وآسيا، وتشمل الصين كل ما وراء الهند شرقا. ويبرز العالم الإسلامي في قلب العالم القديم، وسطا بين الغرب والشرق والشمال والجنوب. فقد انطلق مركز القلب في عصر الفتوحات، من شبه الجزيرة العربية شرقا نحو آسيا، وغربا نحو شمال أفريقيا وأوروبا، وشمالا نحو تركيا والبلقان، وجنوبا نحو أفريقيا. والفراعنة عرب، والعروبة أصل الشعوب القديمة. وقد شارك الإسكندر الأكبر في الفتوحات موحدا العالم القديم، إرهاصا للإسلام، نبيا من أنبياء الله ومبلغا رسالة التوحيد للغرب والشرق. وأحيانا يعني لفظ الإسكندر صفة العظمة، انتقالا من الشخص إلى الدلالة.
77
تنقص العلم مقدمة نظرية تضعه ضمن العلوم الطبيعية كما هو الحال في علم الطب ونظريات العناصر الأربعة والأخلاط والاعتدال. ومع ذلك يقوم علم الجغرافيا القديم على تقسيم العالم إلى أقاليم سبعة شمال خط الاستواء وكأنه في جنوبه لا يوجد عمران، نظرا لارتباط العمران بالبرد أكثر من الحر، مما يفسر عمران الشمال وخراب الجنوب، أوروبا في مقابل أفريقيا. ويظل الدين موجها للتاريخ الجغرافي أو الجغرافيا التاريخية، بل والدين في نزعته الصوفية التي تمكن من رؤية عجائب البر والبحر أو الحكمة في مخلوقات الله عز وجل بتعبير الغزالي.
يعتمد على التراث القديم والموروث التاريخي ووصف الجغرافيا المحلية على اتساع رقعة العالم الإسلامي في آسيا وأفريقيا للاستدلال على أن شكل الأرض كروي قبل الغرب. المعرفة عن طريق الروايات والحكايات والمقابلات الشخصية بما في ذلك الشعر العربي كمصدر للأخبار. ويحال إلى المسعودي وصاعد وغيرهم من المؤرخين.
78
ويرد على أصحاب الكيمياء، ولا يكتفي بالنقل، ويبين أن الذي يصنعونه ليس بذهب بل هو معدن مصنوع.
79
ولا يكفي الاعتماد على المصادر المكتوبة بل يضاف إليها التحقق بالتجربة والمشاهدة كما هو الحال في علم الطب ووصف الوقائع المشاهدات تكمل الروايات، والعين تكمل الأذن. والبصر يضيف إلى السمع. لذلك تستمد المعارف التاريخية من السياحة والأسفار.
وقد تتداخل الأساطير في فهم التاريخ رواية. إذ يقال إن أهرام مصر من بناء الجان وكذلك تكوين بعض جزر البحر، وكذلك الاعتماد على جالوت ويأجوج ومأجوج كرواية وهرمس والمسيح الدجال، مضافا إلى ذلك قصص الأنبياء وما نقل عن نوح. التاريخ تاريخ أديان، مجوس وصابئة ويهود ونصارى وهنود مع الحكم على ماهية كل دين. فإذا اجتمع في طريق مسلم ويهودي وسامري ونصراني رافق السامري المسلم لقربه من الإسلام في العقيدة والشريعة.
وبالإضافة إلى الواقع المحلي الجغرافي التاريخي يظهر المصدران الرئيسيان الوافد والموروث. وفي الوافد يتصدر أرسطو ثم الإسكندر ذو القرنين ثم بطليموس ثم قسطنطين بن هيلانة ثم جالينوس ثم هرمس وهيلاني، وأبقراط ثم أغاذيمون (سيت)، وأغسطس، وأفلاطون، وإقليدس، وإيلاوس، وأقليمون، وفيثاغورس، وقرطيانس. ومن الفرق اليونان. ومن أسماء الكتب المجسطي لبطليموس ثم الحيوان، ومنتحلان، الأحجار والمياه المالحة والعذبة وكلها لأرسطو.
80
ويكثر أرسطو تباعا في مكان واحد وفي موضوع واحد ومن نص منتحل عن الأحجار، وتبدأ أوروبا في الظهور، أوروبا وأراجون والأوروبيون وملك فرنسا وشرلمان.
81
ومن الموروث يتصدر المسعودي ثم البكري ثم الطيني وأخو ابن الأثير ثم ابن الأثير وابن قدامة والإدريسي ثم ابن حشية والبلخي والخوارزمي ثم ابن الكلبي وابن عبد البر وصاعد، وعز الملك ثم ابن دريد، وابن العربي، وابن لهيعة، وابن واضح، والسيرافي، وأبو اليقظان، وبديع الزمان، والزنجاني، والسمرقندي، والسمعاني القزويني. ومن الوافد المشرقي أنوشروان.
82
وتفوق أسماء المؤلفات أسماء المؤلفين. وغالبيتها في التاريخ.
83
ومن الأنبياء إسماعيل وإسحاق ثم إبراهيم.
84
ومن أسماء الفرق الإسماعيلية ثم الإباضية والقرامطة والصابئة والأحمدية والدروز.
85
وبالرغم من كثرة المصادر من الوافد أو الموروث إلا أن مسار الفكر يتضح من خلال المقدمات والإحالات المستمرة إلى السابق واللاحق مما يدل على حضور الفكر وراء التجميع.
86
ولما كان التنظير المباشر للواقع الذي يتحقق فيه تفاعل الوافد والموروث هو مناط الإبداع فقد يتضخم ويتجاوز الرافدين الحضاريين. فتبرز الصين وأولها أقصى الأرض في الشرق ثم الروم لقربها من المركز في المغرب ثم الشام في الشمال ثم مصر في الجنوب الغربي ثم الهند في الجنوب الشرقي ثم خراسان في الوسط ثم الأندلس في أوروبا في أقصى الغرب. ثم تدور الأماكن في الجهات الأربعة الرئيسية وجهات أربعة أخرى غير رئيسية. تتداخل أسماء المناطق والمدن، المحيطات والبحار والأنهار، الشعوب والأقوام، الخلجان والأحجار، الجبال والوديان،
87
الأديان والمذاهب، الفرق والطوائف، الوقائع والخيالات، قارات وجهات، توابل وبخور بلا نظام أو ترتيب. وقد يذكر المكان بأكثر من اسم ويمكن تجميع هذه الأسماء التي تربو على ثلاثة آلاف اسم إلى مجموعات أصغر تتصدرها آسيا ثم مصر ثم إسبانيا ثم شمال أفريقيا ثم العراق ثم الهند ثم آسيا الصغرى ثم فارس والشام ثم أفريقيا السوداء ثم أرمينيا ثم فلسطين ثم الغرب واليمن ثم الصين والبحر الأبيض المتوسط وصقلية ثم لبنان والروس والنوبة وتركيا والأردن ثم الصقالية والسودان وكريت ثم عشرات من أسماء الأماكن المتفرقة المفردة.
88
ويذكر الموروث الأصلي، الآيات القرآنية المستعملة بالجغرافيا، والقصص القرآني كمصدر للأخبار، والأحاديث النبوية النصية أو المعنوية لوصف القبائل.
89
تذكر آيات القرآن مرسلة كأسلوب عربي مثل
فتبارك الله أحسن الخالقين ،
وهذا ملح أجاج .
وتتجلى الحكمة الإلهية في الأرض، في الحيوان والإنسان والتاريخ، فلولا اقتضيت طبخ الماء العذب بمخالفة الأرض المحرقة لأنتن وأجن وأفسد الحيوان. وخلق الله البحار ملحا أجاجا لمصالح العالم، مفيضا للأنهار ومعبرا للسيول والأمطار ومركبا للبحار. وأرسل الله زلزلة في أيام الصيف فخرجت العيون وزادت الأنهار. ولا يمنع أن يكون في الأرض جنات بنعمة الله. وخلق الأرض مقرا للحيوان بمنزلة التضاريس وجعل البارز منها مقرا للحيوان البري. وجعل الله للفيل عدوا سلطا عليه. وبث في الأرض القنفذ وسلطه على الحيات يقتل ويأكل وكذا النمس المسمى العزيزا. وأرسل الله طائرا أبلق دون الحمام، وخلق في رأسه شوكة وفي كتفيه شوكتين ويقال له القطقاط. وخلق الله الإنسان واخترعه اختراعا من الطين. وتكون الجنين بإذن الله. وجعل الله السرة موطنا للمسك . وألهم الله الإنسان والأقوام سبعا وثلاثين لغة. واقتضت العناية الإلهية اللطف بالعالم الإنسي فأبرز له الماء. وأصاب رجل امرأة في السفينة فقدما على نوح أن يغير الله نطفة فجاءت بالسودان مكون حام ومبارك سام ويكثر الله يافث. ولما كثر نسل نوح شاء الله أن يقسم الأرض بين أولاده الثلاثة فسجد نوح لله شكرا لسام جهة يكون فيها ثلاثة مساجد يعبد الله فيها.
90
ويتدخل الله في التاريخ في قيام الدول وسقوطها، ونصرة المؤمنين وهلاك الكافرين وكما هو واضح في قصص الأنبياء. والله هو فاتح البلدان وباقي المدن المقدسة مكة والقدس وملك المسلمين البلاد ثم استخلف الله من بني عباس السفاح، ومصر إسلامية إلى يوم الدين حماها الله وحرسها بعينه التي لا تنام وجعلها دار الإسلام إلى يوم القيامة. وفسطاط مصر بناها عمرو بن العاص يحميها الله ويحرسها. وأنقذ جيشا من الديار المصرية من الترك وأيدهم بنصره، وهم العصابة المحمدية الظاهرون بالحق المؤيدون إلى يوم القيامة.
وأغرق الله فرعون. وأرسل على الكافرين صيحة في جوف الليل. ولما عبدها دون القمر من دون الله بعث إليهم هودا فكذبوه فمنعهم الله القيت ثلاث سنين فخرجوا يستسقون فأنشأ الله تعالى ثلاث سحائب بيضاء وحمراء وسوداء. فاختاروا السوداء فسخرها الله سبع ليال وثمانية أيام حسوما حتى جعلهم الله صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. ثم كفروا بنعمة الله فأرسل إليهم صالحا رسولا. وضرب الله الصرع في بلدة بصيمة تبلبلت بها ألسنة الناس من الدهشة وسميت أرض بابل من ذلك التاريخ.
ومن المباني العجيبة إرم ذات العماد والتي لم يخلق مثلها في البلاد وأخفاها عن أعين الناس. دون السد تحقيقا للوعد. وأصاب بالصواعق. ولم يعمر الأرض بعد أهلها إلا الجن.
91
ولا يفعل الله في الطبيعة والتاريخ بمفرده بل من خلال رسله الملائكة. إذ يرسل الله السحاب والملائكة فتخرج السمك من البحر. ومنه سمكة طولها نحو شبرين مكتوب على ظهرها بالعربية «لا إله إلا الله»، ومكتوب بين أذنيها من خلف «محمد رسول الله»، حول مياه قسطنطينية. يتبارك بها الصيادون ولا يأكلونها ويعتبرونها من نسل موسى ويوشع. فيرتبط الفعل الأهلي في الطبيعة والتاريخ بمظاهر الخرافة والخيال الشعبي، والإسقاط من النفس على الطبيعة والتاريخ.
ويدعو المؤمنون الله. وإذا أراد لهم النجاة والنجاح من الشدة أراهم على رأس البغل طائرا أبيض. وعلى هذا النحو تبدو الحكمة في مخلوقات الله عز وجل، ويتجلى التوحيد في الجغرافيا والتاريخ. لا فرق بين الإنسان والطبيعة ما من صورة من صور العالم إلا من معاني الإنسان فهو صورة الصور، معنى المعاني، المركز والمحيط، الأول والثاني. العالم صورة وجسده وهو روح العالم وحيويته. والشعر خير دليل على ذلك.
92
وتستعار صفات الله من الطبيعة التي أودع الله فيها قوى العالمين، وجعلها سكن الدارين، وجعل الإنسان فيها مركز الكون، كالحيوان في الشهوة والغذاء لعمارة الأرض، وكالملك في العلم والعبادة والاهتداء. رشحه الله لعبادته وخلافته وعمارة أرضه وهيأه لمجاورته في جنته. وتظهر الحكمة الإلهية في تخليقه. ركب الله بدن الإنسان من المني والدم. فإذا صار إلى الكمال جلس مع الملائكة في حضرة الرب. الإنسان الكامل خليقة الرحمن وزبدة الأكوان والقابل من المحسن أنواع الإحسان ولنعرف في الأزمان والمعلم والقرآن والبيان والمراسل بالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان والله أعلم، وكل شيء بإذنه ومشيئته. خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وأوصى في كل سماء أمرها، وأدار الفلك وفرش الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات، من كل زوجين اثنين ومشى الأنهار وجعل فيها قطعا متجاورات، ونخيل وأعناب وبث فيها من كل دابة وقدر الأرزاق.
93
سادسا: الكاشي، الشعراني، الصبيري، الداماد، المراكشي، ومؤلف مجهول
(1) الكاشي
ويستمر هذا النوع الأدبي من القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر في العلوم الرياضية مثل الحساب والموسيقى والطبيعة مثل الطب والنبات أو الفلسفية مثل الإلهيات. ففي «مفتاح الحساب» للكاشي (القرن التاسع) يقل الوافد والموروث، من الوافد لا يذكر إلا أرشميدس لتجاوزه إلى حساب أدق من حسابه.
1
ويظهر الوافد الشرقي من الهند. فقد وضع حكماء الهند تسعة أرقام للعقود التسعة المشهورة. ومن الموروث لا يذكر إلا أشرف الدين المسعودي الذي استخرج التسعة عشر، ثم عماد الدين الخوام البغدادي صاحب الرسالة البهائية من كتاب ميزان الحكمة ونسخها غير صحيحة دون أن يلاحظ ذلك أحد من شارحيه. وكمال الدين الفارسي شارح البهائية لعماد الدين الكاشي الذي رأى صعوبة تصحيح الجداول مع أن الكاشي قد صححها من كتاب ميزان الحكمة، وذكر كيفية استخراجها لمن أراد امتحانها، وأبو علي الخوارزمي وطريقته في استخراج هذه المسائل التي يحصل منها المطلوب بأسهل تأمل. ويتضح تراكم الموروث واستئنافه.
2
ويتضح أيضا مسار الفكر ووحدته، وتكرار عبارات إثبات المطلوب والتقديم والتأخير. ويتم الاعتماد على القياس للبرهان. ويوصف الله في الإيمانيات الأخيرة بصفات حسابية بعد البسملة والحمدلة. فهو الذي توحد بإبداع الآحاد، وتفرد بتأليف صنوف الأعداد. ومع الدعاء إلى الله الثناء على السلطان وطلب العفو والمغفرة. ازدهار في الرياضيات، ووله بالسلاطين.
3 (2) الشعراني
وقد استمر هذا النوع الأدبي تنظير الموروث قبل تمثل الوافد حتى القرن العاشر في المختصرات مثل «مختصر تذكرة الإمام السويدي في الطب» للشعراني.
4
فالعلم في لحظات توقف الإبداع عند المشايخ إما من الوافد إحساسا بالدونية أمام الآخر وإما من الموروث إحساسا بالعظمة أمام النفس. يغلب عليه التجميع من المصدرين دون تمثيل للوافد أو تنظير للموروث. كما يغلب عليه الطابع العملي، الوصفات الشعبية دون الوقوع بالضرورة في خرافات الوصفات «البلدية». ويقوم الجمع على الاستحسان من مجربات الحكماء والاختيار من معالجات العلماء وما تم تجريبه مرارا فعم نفعه.
5
والاختصار مسئولية المختصر وهو الشعراني وليس المؤلف صاحب النص الأصلي وهو السويدي. وفي عصر الشروح والملخصات والمتون والتخريجات أصبحت هذه الزيادات أهم من النص الأصلي. ويأتي ذكر الأطباء في مجموعات خمسة أو سبعة سواء في النقل أو في التجربة. ويبدو أن الوافد أكثر حضورا في الاتساع وفي العمق أكثر من الموروث في النص. ويتصدى الوافد جالينوس ثم بقراط ثم أرسطو ثم أفلاطون، وهرمس، وأسطوخورس، ورفوس، وأرطاميوس، وغاريقون.
6
ويتم التعامل مع هرمس وكأنه شخص، لا فرق بين الأسطورة والواقع. ومن الموروث يتصدر الرازي ثم ابن سينا وليس ابن رشد ثم السويدي المؤلف يأتي في الدرجة الثالثة مع ابن ماسويه وابن عربي وابن البيطار والتميمي مما يدل على تداخل التصوف مع الطب واختفاء ابن رشد في العصور التالية له.
7
ولأول مرة في تاريخ النصوص تذكر المصادر والمراجع في آخر الكتاب كأسانيد تتضح فيها أولوية تنظير الموروث على تمثل الوافد بفارق ضئيل، منهم المعروف ومنهم غير المعروف، منهم المكتوب على نحو صحيح ومنهم أقل من ذلك. ويدخل الأطباء النصارى مترجمين ومؤلفين ضمن الموروث. كما يختلط الأنبياء بالمحدثين بالأطباء بالحكماء بالصحابة بالصوفية.
8
وقد كانوا في الأصل أكثر من ذلك ثم اختصارهم إلى الربع. ومن تحليل أسماء الأدوية والأماكن يتضح حضور الشرق أكثر من الغرب، والهند والصين أكثر من اليونان والرومان، والعرب والأرمن واليهود وفارس وخراسان والإسكندرية ومصر أكثر من الصقالبة.
9
وفي الإيمانيات، لا توجد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية باستثناء آية واحدة، من المؤلف أو الملخص أو الناسخ مع البسملة والحمدلة.
10 (3) الصبيري
وكما بدأ الطب مبكرا استمر أيضا إلى القرون المتأخرة. فهو أوسع العلوم الطبيعية امتدادا في التاريخ. ولم يعد لفظ مختصر يعني اختصار نص مؤلف بل قد يكون نصا مؤلفا على نحو مختصر. فالاختصار لمادة العلم غير المدونة وليس النص مدون. مثال ذلك «مختصر كتاب الرحمة في الطب والحكمة» للصبيرى.
11
وهو مختصر مفيد وسهل وواضح يعتمد على النقل والعقل، يخاطب القارئ كالعادة. وتدل كثرة الألقاب في العصور المتأخرة على تبجيل العلماء كسلطة علمية وأهمية الأخلاق كشرط للعلم. والحكماء هم الأطباء.
ويطغى الموروث على الوافد بطريقة واضحة؛ إذ لا يذكر من الوافد إلا بقراط في ذكر قولين له عن الثوم كشفاء من السموم.
12
ويتصدر في الموروث الأحاديث النبوية قبل الآيات القرآنية، وعلي بن أبي طالب قبل الرسول، وعمر بن الخطاب والأحنف بن قيس قبل أبي عبيدة والشاطبي والكسائي وابن عباس، مما يدل على العودة إلى الطب النبوي قبل الطب العلمي، بل وطب الطلسمات.
13
وتصف أحاديث الرسول أنواع الأدوية من البيئة مثل ألبان البقر وأسمائها ولحومها، والحبوب شفاء للداء الكامن في الجوف. والخل سيد الأدوية به منافع كثيرة . كما يتم الشفاء بالعسل. وماء الكمأة شفاء للعينين. وتتعادل الأدوية فيما بينها مثل تعادل التمر والقثاء. وقد تضاف العمليات الجراحية الصغيرة مثل الشرطة من حجام أو الكية من النار وعدم تفضيل الرسول الكي لمزاج شخصي أو لقانون طبي عام. وقد يكون العلاج وقائيا. فالبطنة أصل الداء، والحمية أصل الدواء، وأشر وعاء البطن، وخيره في الثلث للطعام، والثلث للماء، والثلث للنفس. ويدخل الطب النفسي مع الطب البدني، ويكون العلاج بالصبر. ولا يمكن علاج السأم. وقد يتحول الطب النبوي في الاستعمال الشعبي إلى طلسمات وأحجية بها آيات قرآنية أو أدعية نبوية.
14
وتروى بعض الأحاديث الحرة المروية في الآداب الشعبية كعلاج حيواني أو نباتي.
15
ويظهر علي بن أبي طالب كمصدر للطب. فالبطل الشعبي مصدر للطب الشعبي. مداواة العرب بالسمن والسكر. وللهم والغم دواء في حين تركهما الرسول دون دواء.
16
وتجمع وصية الأحنف بن قيس بين العمل والصنعة والطب، وتشير أقواله المأثورة إلى أربعة حكم من أربعين ألف حكمة طبقا للخيال الشعبي:
17
عدم الثقة بالناس، عدم تحميل المعدة ما لا تطيق، عدم الاغترار بالمال وإن كثر، وتعلم ما ينفع من العلم. ويصبح الصحابة أطباء مثل عمر بن الخطاب في منافع المصائب في الدنيا لا في الدين ثوابا يوم القيامة، فيختلط الطب البدني مع الطب الروحاني منذ الرازي. بل إن الديني له الأولوية على الدنيوي عندما يرفض عمر ألا يكون الناس في عمل ديني أو دنيوي كنوع من الدواء أي الهدوء النفسي الضروري لصحة البدن. ويتداخل الشعراء مع الأطباء قبل الإسلام وبعده كما هو الحال في أراجيز الطب.
18
وطب الشعوب واحد. فقد اجتمع أربعة من الحكماء عند كسرى، عراقي ورومي وهندي وسوداني، لوصف الدواء. وما زال الخطاب موجها إلى القارئ في هذه العصور المتأخرة، فالقارئ جزء من الخطاب.
وفي الإيمانيات والبسملات والحمدلات الأخيرة يظهر اتحاد الله بالطبيعة، والدين بالطب، والإيمان بالصحة. فقد أودع الله في الطبيعة الحكمة. وهو خالق الطباع وخالق العلل المزدوجة، الحرارة والرطوبة، الجدل في الطبيعة الذي أشار إليه القرآن في النص، الليل والنهار، الظلمات والنور، الحركة والسكون، الشر والخير، الشيطان والملاك، الجنة والنار، الثواب والعقاب ... إلخ. الخلق منوال ونموذج يتحد فيه الخالق بالمخلوق. خلق الله ما تحت اللسان وما في أسفل المعدة والكلى والمرارة كي تفعل بطباعها. والله أعلم وكل شيء بمشيئته. والدواء نافع مجرب بمشيئة الله، والصلاة والسلام على الرسول وأحاديثه في برء العلل.
19 (4) الداماد
ولم تتوقف الإشراقيات في العصور المتأخرة بل زادت وترسخت في المشرق والمغرب وأصبحت الوعاء الذي تصب فيه كل العلوم الرياضية والطبيعية. مثال ذلك «كتاب القبسات» لباقر الداماد الحسيني (1041ه). فقد ازدهرت الإشراقيات في إيران في العصور المتأخرة وعرفت باسم مدرسة أصفهان. وهو أستاذ صدر الدين الشيرازي المعروف باسم مللا صورا. ولإيران فضل على الفلسفة المتأخرة في الجناح الشرقي، بعد أن ضعفت في الجناح الغربي.
وقد ازدهرت المدرسة السينوية؛ إذ إن ابن سينا يعتبر فيلسوف الإشراق وصاحب الحكمة المشرقية ومنطق المشرقيين. وهي مدرسة السهروردي صاحب «حكمة الإشراق». وربما ازدهرت كثقافة وطنية في حين اختفى ابن رشد في المغرب والمشرق. وهو مثل ابن سينا في «التعليقات» كنوع أدبي. بل قد يشتد الإغراق في الخيال والوجدان الصوفي كرد فعل على أوضاع الاضطهاد ومن أجل خلق عالم أفضل كما هو الحال في نشأة «اليوتوبيا». وفي مجتمع مثالي تغلب عليه علاقة الشيخ بالمريد، ومجتمع الرياسة الفاضلة.
ويتضح الإشراق في المصطلحات المستعملة كعناوين مثل «القبسات، الومضات»، وأخرى مثل: تعليق، تذنيب، وهم وتنبيه، فالعلم في النفس، وتعود مصطلحات قديمة مثل الأيس منذ الكندي. والمفكرون نوعان، أصدقاء وهم الإشراقيون نموذج ابن سينا وأعداء وهم المشاءون والمتكلمون، العقليون الجدليون، نموذج الرازي إمام المتشككين.
وهو فكر قطعي إيماني صوفي وجداني يبعث جو إخوان الصفا وأبي يعقوب السجستاني، وهو ما يميز الفكر الشيعي الفلسفي كما هو الحال عند الكرماني. يخطئ الكل لنقص في الإيمان والوجدان واليقين وزيادة في الشك والتكلف. ولا ذكر لابن رشد لا في الفلسفة ولا في الكلام ولا في الفقه ولا في الطب. هل لبعد المسافة الزمنية أو المكانية أو لحرق كتبه أو لاختلاف التيار؟ والمؤلف مثل أبي حيان التوحيدي في «الإشارات الإلهية»، و«المقابسات» من نفس اللفظ «القبسات».
وبطبيعة الحال يتم نقد الكلام، معتزلة وأشاعرة. فالإشراق شيء، والأدلة النقلية والعقلية شيء آخر، وهو الفرق بين اليقين والظن، بين العقل والقلب، بين الخارج والداخل. ويسمى الرازي «إمام المتشككين» بالرغم من «المباحث المشرقية» لأنه عقلاني غير استشراقي.
يغلب عليه طابع التجميع كما هو الحال في المؤلفات المتأخرة، نصوص مقتبسة مثل الشراح المتأخرين عند أهل السنة، ويظهر الإشراق في قراءتها وتأويلها. فالتجميع أيضا عند الشيعة وليس فقط عند أهل السنة في العصور المتأخرة. ومع ذلك يظهر مسار الفكر، المقدمات والنتائج، وإحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، وبيان بداية الكلام ونهايته.
20
ويخاطب القارئ ويدعوه إلى العلم والعمل، ويرجو أن يكون من المستبصرين، ثابتا على الحق بعيدا عن التوهم والغرور والجهل.
21
والدعوة له بالخير والبقاء.
22
ومن الوافد يتصدر أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط ثم أبرقلس وثامسطيوس وفرفوريوس ثم الإسكندر الأفروديسى وذو القرنين وهرمس القدم ثم الإسكندر بن فيلفوس، أنباذنليس، أنكساجورس، انكسمانس، أميرس المقدم، بقراطيس، ناليس، الشيخ اليوناني أفلوطين، فيثاغورس، فيلفوس.
23
وألقاب أرسطو أنه أرسطاطاليس الحكيم، الحكيم المعلم، المعلم الأول، معلم الصناعة، معلم المشائين، معلم المشائين ومفيدهم، معلم المشائين اليونانيين، معلم اليونانيين، مفيد الصناعة، مفيد الصناعة ومعلمها، مفيد المشائين ومعلمهم. وتعطي صورة أرسطو أنه الحكيم والمعلم الأول وواضع المنطق، ورئيس فرقة المشائين ومعلم اليونانيين. أما ألقاب أفلاطون فهو الشريف، الإلهي المتأله، إمام الحكمة، وواضح الفرق بين الصورتين كما عرضها الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم». وما زالت أثولوجيا تنسب إلى أرسطو حتى هذا الوقت المتأخر بالرغم من تنبيه أرسطو على خطئها. أرسطو وأفلاطون هما إماما اليونانيين وإماما الفلسفة. وهرمس المقدم أي القديم الأول وأفلاطون الشيخ اليوناني تحولا للشخص الوافد إلى الصورة الموروثة. تحول الوافد إلى مثال، وقرأت الأنا صورة نفسها في الآخر، ورأت الآخر في مرآة ذاتها. لا فرق بين الوافد والموروث في حكمة خالدة تجمع بين الاثنين.
ومن الفرق يذكر الأرسطوطاليسية ثم الأفلاطونيين ثم المشائين ثم أهل ملطية، والديموقراطيسية، ورواقية الفلاسفة، والرياضيين من الفلاسفة.
24
ومن أسماء الكتب يذكر أثولوجيا ثم السماء والعالم ثم سمع الكيان، والسماع الطبيعي، وما بعد الطبيعة، وطيماوس ثم سوفسطيقا.
25
وفي الموروث يتصدر ابن سينا ثم الرازي والطوسي ثم الفارابي ثم الكليني ثم الرسول ثم أبو عبد الله الصادق ثم أبو جعفر الصدوق وبهمنيار بن المرزبان والشهرستاني ثم أبو الحسن الرضا وعلي أمير المؤمنين ثم أبو البركات البغدادي والغزالي والنبي موسى ثم ثعلب اليماني. وهناك عشرة أسماء يذكر كل منها مرتين مثل البلخي والنظام وهشام بن الحكم. ومن الأنبياء نوح وإبراهيم. وأسماء أخرى تتجاوز الأربعين يذكر كل منها مرة واحدة منها الأشعري والفارابي والبيضاوي، والرومي والزمخشري.
26
ولكل حكيم صورة في تراثه. فابن سينا شريكنا السالف، شريكنا في الرئاسة، الشريك، الشريك الرئيس، الشريك الرئاسي، الشريك في الرئاسة، وكاتب قزوين، رئيس فلاسفة الإسلام الشيخ، شيخ فلاسفة الإسلام. أما الرازي فألقابه تدل على نقده ورفضه لأنه من المتكلمين. الإمام، إمام المتشككين، علامة المتشككين وإمامهم، شارح الإشارات. في حين أن ألقاب الفارابي الشريك التعليمي، الشريك في التعليم، شريكنا في التعلم، الشريك المعلم. والغزالي الإمام، حجة الإسلام. والشهرستاني بالرغم من أنه متكلم إلا أنه إمام المتكلمين، علامة المتكلمين، صاحب الملل والنحل. وعلي أمير المؤمنين. والطوسي بارع المحصلين، بارع المحققين، خاتم البرعة، خاتم البرعة المحصلين، خاتم برعة المحققين، خاتم المحصلين، خاتم المحصلين البرعة، خاتم المحققين، خاتم المحققين البرعة، الشارح البارع، الفاضل الشارح، شارح الإشارات، المحقق البارع الناقد. وبهمنيار بن مرزبان التلميذ. وهي نفس ألقاب التعظيم التي للرسول، محمد مثل خاتم الأنبياء، خاتم الأنبياء والمرسلين، خاتم النبيين، سيد البرايا، سيد المرسلين. والقليني رئيس المحدثين والشيخ الأقدم. وقطب الدين الشيرازي الشارح، شارح حكمة الإشراق. وابن كمونة شارح التلويحات، والجرجاني الشارح الشريف، والشهرزوري شيخ الإشراق، شيخ أصحاب الذوق، شيخ أصحاب الذوق والتغريد، شيخ حزب الذوق، صاحب الإشراق، صاحب الإشراق والمطارحات، صاحب المطارحات، صاحب التلويحات! وكلما تكثر الألقاب يزداد التعظيم ويعظم التقليد. والشهرزوري صاحب الشجرة الإلهية، وابن بابويه القمي الصدوق ، والزمخشري علامة زمخشر، وعلامة ملى حسن يوسف بن مطهر، علامة فقهائنا، والتفتازاتي فاضل تفتزان. وواضح من تعاظم الألقاب سيادة التيار الإشراقي بداية من ابن سينا وإخوان الصفا وهم من الشيعة أيضا والهجوم على العقلانيين ومنهم الرازي زعيم المتشككين وأبي البركات البغدادي من المشائين. فالكلام نقيض الإشراق. ويخص بالذكر المعتزلة ثم الأشاعرة ثم بنو هاشم ثم آل سام، أصحاب الكمون وأهل السنة والرافضة والمعطلة. فالمعتزلة تزيغ أبصار عقولهم فيخالفون حزب الحقيقة. والمتكلمون متكلفون مزيفون جدليون مقلدون.
27
تصورهم للطبيعة مادي وليس روحيا. والأشاعرة ينفون الغائية والتعليل. وهم أبعد خلق الله عن مسلك الحكماء، قليلو التحصيل. ومع ذلك يدافع عن الفلاسفة ضد هجوم الغزالي دفاعا عن ابن سينا.
وتتجاوز أسماء مؤلفات الموروث مؤلفات الوافد عشرات المرات.
28
ومن الأصول، تذكر الآيات القرآنية ضعف الأحاديث النبوية. وكلها يغلب عليها طابع الإشراق وإمكانية التفسير الإشراقي.
29
ومعظمها في القبس الرابع عن النقل. وتدور الآيات كلها حول ذات الله وأوصافها مثل الوجود والبقاء والتنزيه وصفاتها مثل العلم والقدرة. ويستعمل القرآن على نحو حر داخل الخطاب لتقوية الأسلوب ومخاطبة القارئ بنفس قوة الخطاب القرآني.
30
وتستعمل الأحاديث النبوية إما شرحا للقرآن أو مبينة للعقائد. وتدور معظمها حول عقيدة القضاء والقدر وأقلها حول الفطرة والعمل والمغفرة والرحمة. وكلهم الرسول والأئمة عليهم السلام. فكل شيء مقدر من قبل. ومكتوب في الصحف.
31
وتضم الإيمانيات البسملة والحمدلة والتسبيح والمشيئة والإذن والفضل والأمر.
32 (5) المراكشي
ولم يقتصر التراكم على العلوم الطبية والرياضية بل شمل أيضا علوم التغذية بين الطب والنبات، كعلم طبيعي والأنغام كعلم رياضي. فالعلوم أساس للحضارة، والنظر بداية العمل، والفكر يتحول إلى حضارة، والإبداع نمط حياة. ففي «أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية» للمراكشي (1065ه) هناك وصف لأنواع الفواكه وميزات كل فاكهة وآثارها على البدن ومواعيد أكلها ونباتها في فصول السنة ومواسمها، مع دفاع عن الطعام ونقد هجوم الناس عليه. وقد تمت كتابة عديد من العلوم شعرا، فالشعر خطاب العرب ومدونهم بعد أن عاد الشعر في العصور المتأخرة كخطاب يتجاوز الشروح والملخصات. والموضوع قرآني طبيعي أندلسي ، توجه نحو الطبيعة والزرع والخضرة والماء.
33
فقد ذكر الرمان والتين وغيره من الفواكه في القرآن. كما يتم الحديث عن الفواكه واستعمالاتها الاجتماعية وأثمانها وقدرة الطبقات الاجتماعية على شرائها، اعتمادا على الملاحظة والتجربة.
ولا يتجاوز الوافد اليوناني جالينوس مرة واحدة تصحيحا لقول له في ما يورثه البطيخ من سموم دفاعا عن قيمته الغذائية اعتمادا على ابن زهر. ويتعامل مع الوافد الشرقي في ذكر السند هند. ويتصدر الموروث النبي والغزالي وابن زهر.
34
وفي الإيمانيات بعد البسملات والحمدلات يتم الدعاء إلى الله والدعوة إلى السلطان الملك المعظم الوليد المنصور على الأعادي والرحيم بالعباد. (6) مؤلف مجهول
وفي الموسيقى «الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام» لمؤلف مجهول من القرن الحادي عشر يظهر ارتباط الموسيقى بالفلك في نغم الكون وبعلم النفس في انسجام الروح، وبعلم الأخلاق في التوازن والاعتدال، وأثر معاني الفضائل والحث على الشجاعة في الحروب، وبالطبيعة في الأخلاط والأصواب، كما ترتبط الموسيقى بالطب في العلاج النفسي، وبالدين في سماع الصوفية والوصول إلى نعيم الدنيا والآخرة، وباللغة في موسيقى الشعر، وبالرقص في الايقاع. وهناك ماهية النغم المطلق مثل الشعر المطلق عند ابن سينا. وبالرغم من أن النص أقرب إلى الإبداع الخالص إلا أن الوافد والموروث يظهران على استحياء.
35
فمن الوافد يذكر أفلاطون واعتباره الموسيقى معشوق النفس. وبها يستدرج أبناء الفلسفة إلى عالم العقل لما تحدثه في النفس الفاضلة وإخراج ما بها من قوة إلى الفعل كالصقال للثوب، وفيثاغورس وأن فضل الغناء على الكلام كفضل الناطق على الأخرس. كما تذكر آراء الفلاسفة في الموسيقى ولفظها اليوناني.
36
فهي حكمة يونانية ومعناها علم الألحان. كما أشار اليونان إلى نغمات خمس وأعطوها أسماء يونانية وألف اليونان فيها. وانتقلت من المتقدمين إلى المتأخرين.
37
ومن الموروث يتصدر صفي الدين عبد المؤمن عازف العود الذي طرب الطير لنغمه حتى وقع على الأرض، ومخارق مغني المعتصم رواية عن أحمد بن أبي داود. ويقال إنه غنى لهولاكو عندما اقتحم التتار بغداد فأعجب به.
38
وقد أورد الجوزي أن أبا يوسف القاضي كان يحضر مجالس الغناء عند الرشيد فيبكي ويتفكر في نعيم الآخرة. وقد سخر لداود النغم. فهو صاحب المزامير. وللسيد شرف الدين بن العلاء المضلع كما يذكر صفي الدين. ويتجلى الإبداع في ارتباط الأنغام بالبلدان، أقلها يونانية وأكثرها من الترك والعرب والكرد والمشارقة والمصريين والإفرنج. ومقاماتها مشتقة من أسماء مدن الفرس مثل أصفهان ونهاوند أو العرب مثل الحجاز أو من الأشخاص مثل الرهاوي والحسيني أو من المستمعين مثل العشاق. وتختلف أسماء المقامات بين العجم والعرب والترك.
39
ويبدو مسار الفكر في الإحساس بالاستطراد والعودة إلى الموضوع، فالإبداع مشروط بالتركيز ويدعى القارئ للاشتراك في التجربة والتحقق من صدقها، فالمتلقي جزء من العمل الفني.
40
وفي الإيمانيات بعد البسملة والحمدلة يوصف الله بصفات من علم الموسيقى. فهو الذي أبدع وأودع في الأنغام أسرارا خفية، وأجرى على القلوب حياتها الأهلية. وغرس في الألباب أصولها، فاهتدوا إلى فروعها، وهو الذي أودع الأصوات في الغصون حين اصطكاكها.
41
سابعا: صدر الدين الشيرازي
(1)
وتقع ست رسائل لصدر الدين الشيرازي (1050ه) في هذا النوع الأدبي. ففي رسالة «اتحاد العاقل والمعقول» يتصدر الموروث بطبيعة الحال الشيخ (ابن سينا) وكتاب الإشارات ثم «الشفاء» ثم «المبدأ والمعاد»، مع شرح الطوسي للإشارات.
1
وكثيرا ما يعرف المؤلف بالتأليف فيذكر صاحب التلويحات وهو السهروردي المقتول. كما يحيل الشيرازي نفسه إلى أعماله مثل الأسفار الأربعة.
2
وسبب التأليف عدم فهم الناس للموضوع، من المتقدمين أو المتأخرين وشنعوا على بعضهم البعض جهارا. لذلك إحقاق الحق، والحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون، وهو أحد مظاهر التراكم الفلسفي. ومن الفرق يذكر المشاءون والمتأخرون ثم المتقدمون، والأقدمون، والمحققون وسائر الحكماء.
3
وتضم مقالتين الأولى في اتحاد العاقل والمعقول نفس عنوان الرسالة والثانية في أن العقل البسيط كل المعقولات، يتحد بالعقل الفعال عند تعقلها.
4
برز الشيرازي على القول بالاتحاد بين العاقل والمعقول ويحل الشبهة المذكورة في كتب الشيخ وغيره اعتمادا على الإشارات و«التنبيهات». ملخصا كلامه ومستشهدا بنصوصه.
5
ويعتمد على صاحب التلويحات في تعريف الوجود. فالفلسفة الإشراقية وحكمة الإشراق فلسفة واحدة.
وتظهر أفعال القول مع أولوية صيغة المتكلم المفرد «أقول» أو الجمع «نقول» أو الاسم «قوله» نظرا لاستقلال القول عن القائل.
6
ويبدو من الأسلوب اتجاه الفكر ومساره من خلال عدة ألفاظ مثل «بالجملة» التي تعني القصد الكلي، «ينبغي» مما يبين أن الفكر اقتضاء مثالي ومطلب عقلي.
7
كما يظهر اتساق المقدمات مع النتائج في منطق الاستدلال منعا للخلف والامتناع. وتتم مخاطبة القارئ بلفظ «علم»، «قد علمت».
8
ويتم اللجوء إلى الجمهور كمخاطب من أجل الوصول إلى تجربة مشتركة أو إجماع علمي. وينتهي الاستدلال إلى المطلوب إثباته، فقد ثبت وتحقق «أن».
9
ويحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق دون إطناب.
10
ويستعمل الشعر كدليل على الوحدة مثل:
ليس من الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
11
ويضرب المثل بزيد وعمرو للإشارة إلى الفاعل المجهول وتتخلل الرسالة بعض التعبيرات الإيمانية مثل إن شاء الله، وبالله التوفيق.
12
وتنتهي بالحمدلة والمنة والصلاة على محمد الطاهرين.
ومن الوافد يتصدر أثولوجيا وأرسطو تقديما للعمل على الشخص مع لقب المعلم الأول والفيلسوف المقدم، والفيلسوف، والإسكندر الأفروديسي، وإيساغوجي، تقديما للتأليف على المؤلف.
13
ففي كيفية الإبصار وإنشاء الصور الإدراكية يتفق الشيرازي مع صاحب أثولوجيا فالشيرازي هو الذي يدرس وأرسطو هو الذي يوافق ويتفق، وذلك مدعم بالنصوص. وقياس العقل الفعال كما يقول أرسطو هو قياس الضوء ويقتبس من أثولوجيا في صيغة «قال المعلم الأول» ويذكر أرسطو بكتبه «الفيلسوف المقدم» اعتمادا على أثولوجيا فسهل بذلك تعشيقه مع شيخ الإشراق.
14
وتتفق درجات العقل النظري مع ما ذكره الإسكندر.
15
وسبب الخطأ فرفوريوس وكتابه في العقل والمعقولات الذي يثني عليه المشاءون وكله حشف. لم يفهموه وناقضه رجل من أهل زمانه على ما يذكر ابن سينا.
16
وهو الذي صنف إيساغوجي وكان حريصا على استعمال الأقاويل المخيلة الشعرية. وهو مذهب باطل. (2)
وفي «أجوبة المسائل الكاشانية» يتصدر كالعادة الشيخ الرئيس والشفاء الموروث ثم صاحب التلويحات وأبو نصر.
17
ويتصدر الموروث الأصلي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكأن الرسالة من أحد الفقهاء.
18
وهي مسائل عويصة خمس سئل عنها وأجاب عليها أشبه بالنوازل الفقهية تتعلق بالنفس والحواس والإدراك والصور والمخيلة. والمسألة الأولى عن الوعي الذاتي هل من الحواس أم أنه شرط الحواس؟ والشيخ الرئيس والشيخ الإشراقي صاحب التلويحات مع الرأي الأول وكذلك المسألتان الثانية والثالثة . أما المسألة الرابعة عن استحالة أن يكون الوهم والخيال أقل شرفا من القوى الغاذية والنامية والمصورة كما هو الحال عند الشيخين أبي نصر وأبي علي في الأصول المشرقية.
ويذكر المتكلمون والأشعرية، والمتأخرون من المتكلمين، والمتأخرون من حكماء الإسلام والمولوي والمثنوي في النشأة الثانية.
19
فعند المتكلمين أن الأفعال إما بالطبع وإما بالقصد. وعند الأشعرية يتم الفعل ترجيحا بين أحد طرفين وهي نظرية الكسب الشهير.
20
ويعتمد الشيرازي على البرهان.
21
ولديه إحساس بالجدة في بعض الموضوعات التي لم يسبقه فيها أحد.
22
وعبارات الربط وعناوين الفقرات إشراقية الطابع مثل: تحصيل حكمي، تتمة تنبيهية، تخلص قدسي.
23
وتتم إحالة السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق والعودة إلى المطلوب.
24
ويحيل الشيرازي إلى باقي أعماله مثل «شرح الهداية الأبهرية». وكما تبدأ الرسالة بالبسملة وصفات الله الفلسفية مثل يا رب كل عقل ونفس وغاية كل حياة وحركة وحس والصلاة على محمد وآله المطهرين وسلام الله عليهم أجمعين. وتتخلل الفقرات إن شاء الله، وتنتهى بهدى الله للحق، بيده مقاليد الوصل والفصل، والسلام على من اتبع الهدى ونهى النفس عن الهوى.
ومن الوافد يتصدر أرسطوطاليس الفيلسوف مع لقب المعلم والإسكندر الأفروديسي.
25
فالمعلم والشيخان لا يتناقضان. ويعرض الشيرازي آراء اليونان في صلة النفس بالبدن. فالنفوس التي لم تتصور بعد بالصور العقلية التي بها تقوم بالفعل جوهرا روحانيا مستقلا تفسد بفساد البدن عند الإسكندر الأفروديسي من تلاميذ أرسطو الفيلسوف ويؤول قول أرسطو في هذا المعنى. ويخالف ثامسطيوس الذي يرى أن القوة الباقية أبدا ويقول أيضا قول الفيلسوف. وهو القول الصحيح، وعليه اعتمد المتأخرون من حكماء الإسلام وهو المطابق للشريعة الحقة مثل الشيخ الرئيس. فثامسطيوس أقرب إلى الإسلام من الإسكندر لأنه أقرب إلى عهده سابقا عليه والسلام تال له بقرنين.
ومن الفرق يتصدر الحكماء ثم المتقدمون من الحكماء، والأقربون مما يدل على وعي تاريخي بالتقدم والتراكم الضروري التاريخي كخطوة نحو الإبداع الخالص.
26
ومن الوافد الشرقي يذكر حكماء الفرس ورأيهم في أن سبب التصويرات العجيبة والتشكيلات القريبة في الأجسام النباتية والحيوانية فاعل عالم حسن. وبلغة حكماء الفرس وكثير من الأقدمين بسبب أرباب الأنواع وملائكة الطباع.
27
فحكمة الفرس جزء من الثقافة الوطنية، كثقافة حقيقة، تحت الثقافة الإسلامية كثقافة فوقية. (3)
و«شواهد الربوبية» مجموعة من المسائل المتفرقة التي لا يجمعها نسق معين.
28
ولكنها خليط من الطبيعيات والإلهية الإشراقية. تدور كلها حول التوحيد وتجلياته، كما يدل عليه اسم الرسالة. فالتوحيد للخاصة وللعامة ولخاصة العامة أو عامة الخاصة على طريقة المثل الأفلاطونية. هي إشارات إلى جواهر نفيسة، وتلميحات إلى فوائد ثمينة بإمداد من فضل الله. ترسخت في النفس الصادقة، واتضحت بالقوة الفكرية فهي فيض رباني وتأمل باطني. وينقد الفلاسفة بإلهام من الله. وفي نفس الوقت يصف نفسه بأنه الفقير محمد الشهير بصدر الدين الشيرازي.
29
هو أقرب إلى ساعات بين الكتب، قراءة على قراءة، ومراجعة أدبيات في موضوعات جزئية متناثرة تبين مواقف صدر الدين المعروفة سلفا في كتبه الأخرى. لذلك تكثر الإحالة إلى «الأسفار الأربعة».
ويستعمل لازماته الإشراقية كعناوين فرعية مثل: تنبيه، تنبيه ينبه على معرفة فناء الدنيا وبقاء الآخرة، وارد قدسي، تأكيد عرشي.
30
فقد ألهم الله صدر الدين الحقيقة التي وجد لمعات منها في كتب أكابر الصوفية.
ومن الموروث بطبيعة الحال يتصدر ابن سينا ثم السهروردي ثم الطوسي الدواني والرازي والفارابي وبهمنيار والغزالي وابن عربي، وعلي أمير المؤمنين والمحقق الخفري روضة الجنان.
31
وموقفه من ابن سينا موقف مزدوج. فهو يدافع عنه ضد شراحه مثل الطوسي والدواني والشيرازي وفلاسفة المسلمين والمتكلمين والحكماء وصاحب حكمة الإشراق، فابن سينا هو الحكيم الكامل الذي لا يخطئ. ويستعمل نصوص الشفاء خاصة الإلهيات لإثبات ذلك. ويوفق بين ابن سينا وشراحه مثل الطوسي حتى يظل المذهب السينوي متسقا والتوفيق بينهما مثل جعله تعلق النفس بالقلب بالروح البخاري وهو عند ابن سينا تعلق يجمع البدن. وينقد الدواني في شروحه على ابن سينا وتزييف مقالته في العرض الذاتي. بل ويضرب الشراح بعضهم ببعض مثل ضرب الرازي بالطوسي في تعريف الجسم بالجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، ومن ثم يسقط اعتراض الرازي.
ومن المؤلفات الشفاء، شرح الإشارات، الأسفار، التلويحات، التحصيل، الحكمة القدسية، الهداية الأثيرية، التعليقات، شرح الكليات، المبدأ والمعاد، التجريد، الشارح، نهج البلاغة. وأحيانا يتحقق صدر الدين من أقوال ابن سينا ويراجعها من أجل توضيحها دون أخذ موقف منها إيجابا أم سلبا مثل تحقيق ما قاله في «التعليقات» وتوجيهه إلى غير المشهور الذي عليه الجمهور، وتحقيق ما قاله عن نفي الحركة في مقولة متى.
32
ويدافع صدر الدين عن ابن سينا مؤسس المدرسة الإشراقية مثل قوله في «القانون» إن اللذة البصرية والسمعية وما يقابلها من ألم تقع في النفس وهو ما لم يفهم الشراح، ودفاعه عن العلم الإلهي عنه ضد نقد الطوسي له في «شرح الإشارات». فكل اتهام لابن سينا بالتناقض إنما يقوم على سوء فهم له. وقد أفاض صدر الدين في ذلك في «شرح الهداية الأثيرية». ويستشهد في إلهيات الشفاء على العلة الفاعلة وأيضا في رسالة العشق. ويثني على أستاذنا «أدام الله ظله» وهو ميرداد ويدافع عنه ضد سوء تأويل الشراح له كما فعل صاحب روضة الجنان.
33
وينقد صدر الدين ابن سينا مما يدل على استقلاله. فيرفض عذره في إلهيات الشفاء، أن المبادئ ليست لجميع الموجودات بل لبعضها فقط، وهو الوجود المطول، وفي جعله الوافد غير الموجود، وفي جعله الشيء يتشخص بالوضع مع الزمان.
وينقد صدر الدين كل ممثلي المدرسة الإشراقية وفي مقدمتهم صاحب حكمة الإشراق، ووقع قوله في كون الجنس والفصل غير متحدين. وفي دفع نفس الاشتباه صاحب روضة الجنان في اعتراضه على شارح التجريد ويتهم صاحب التلويحات بالتناقض. وينقده في قوله إن الوجود معنى انتزاعي لا صورة له في الأعيان وأن الماهية لا تقبل التقدم والتأخر والشدة والضعف. ومع ذلك يعتمد صدر الدين عليه أحيانا في نقد المشائين.
كما ينقد آراء تلاميذه مثل بهمنيار في «التحصيل» ويبطل قوله بأن الوجود الخاص يتقدم بإضافته إلى موضوعه. كما ينقد الشيخ الأعظم محيي الدين ابن عربي في التمييز بين البرزخ في الآخرة والبرزخ في الدنيا، وينقد الغزالي لجعله النفس تتعلق بمادة البدن الأول باقيا للنفس خشية القول بالتناسخ.
34
ومن الموروث الأصلي يتصدر القرآن ثم الحديث.
35
يستشهد صدر الدين بالآيات القرآنية لإثبات أن طبيعة الوجود واحدة وبسيطة بسبب الحقيقة ولكنها مختلفة بحسب الماهيات المتعددة.
36
وتجوز الحركة من مقولة الجوهر لا عن طريق الكون ولا فساد بل عن منهج الاستكمال.
37
وينقد الأعيان الثابتة الوهمية التي لا وجود لها
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم . وتنتهي الحركات الطبيعية إلى الخير الأقصى
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها .
38
وينقد الحنابلة والمجسمة والمشبهة
سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا
وعبدة الأصنام
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
ويثبت صفات الرحمة
ورحمتي وسعت كل شيء
قطيعة السماء والأرض. وكل شيء بإرادته ومشيئته بالرغم من استشهاده بقول علي لا جبر ولا تفويض بل الأمر بين الأمرين.
كل يوم هو في شأن ،
سنفرغ لكم أيها الثقلان .
39
وتتم معرفته بحدة البصر الباطني
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد . والإنسان ينبوع باطنه
بل هم في لبس من خلق جديد . والشاهد والمشهود طريقة الصديقين. والعقل واحد وهو عالم الروح. وهو الذي يعلم بالقلم. والكتاب ينطق بالحق،
لا يمسه إلا المطهرون .
40
وبطبيعة الحال تكثر الآيات في البعث ومشاهد القيامة والساعة. فالدنيا والآخرة مفهومان متضايفان.
41
ويوم البعث تبدل الأرض غير الأرض. ولكل مؤمن جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وهو تأويل
ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وتسير الجبال كالسحاب ويراها الإنسان ثابتة. والدار الآخرة هي دار البقاء.
42
تعود الروح إلى بارئها. وكل شيء يتجه نحو الله عائدا إليه. فيتم نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين
صم بكم عمي فهم لا يعقلون . بأيدي المؤمنين وتحويلهم قردة وخنازير، أعداء الله وملائكته ورسله.
43
وتستشهد بعدة أحاديث كلها أيضا في أمور المعاد والملائكة والنار والجنة.
44
وتظهر الفرق ممثلة للتيارات الرئيسية في الفلسفة الحكماء ثم المشاءون والإشراقيون والمنطقيون. ينقد صدر الدين المشائين والإشراقيين في موضوع أثر الجاعل في الوجود الخاص الصادر عن الواجب. فقد جعل الإشراقيين المجعول نفس الماهية لا وجودها، وجعلها المشاءون وجودها وصيرورتها لا ماهيتها. يفعل الحكماء أشياء ويعرضها المحققون ويدركها المتحققون.
45
وينقد صدر الدين الحكماء في قولهم إن الكلي الطبيعي ليس موجودا في الخارج ورأي المتكلمين في أنه معدوم، فهو موجود في الخارج بالعرض، وفي قولهم بنفس الصفات وقول الأشاعرة الصفات بين بإثباتها. وإذا كان علي قد نفي الصفات فإن ذلك من كمال التوحيد وبسبب «عجز الأفهام عن الإدراك». لم يفهم الحكماء معنى الكشف والعيان مع إقامة الحجة والبرهان.
46
ويدافع عنهم في إثبات الشكل الكرى للجسم البسيط ضد توهم الناس. ويقبل صدر الدين ما جوزه المنطقيون في بعض الحدود وما ذكره ابن سينا في «الشفاء». ويتحقق من قولهم إن الحد والبرهان متشاركان في الحدود، وإطلاقهم الكل على العارض. وينقد المتكلمين لتجويزهم الترجيح من غير مرجح، وقصر الإسلاميون الحكماء السابقون واللاحقون في مسألة المعاد الجسماني.
وهذه الفرق في التاريخ. هم المتأخرون والأقدمون الحكماء السابقون واللاحقون. ويشير لفظ الحكماء إلى الحكماء على الإطلاق لا فرق بين موروث ووافد بعد أن توصل الفريقان إلى نفس الحكمة. ومع ذلك قصروا في إدراك معنى التوحيد الخاص الذي ذهب إليه العرفاء. ولم يتحقق لأحد منهم الكشف والعيان.
47
وقد حدث تراجع من المتقدمين إلى المتأخرين. فقد اضطربت أفهام المتأخرين في اتصاف الماهية بالوجود. ولم يحسنوا تعريف الأمور العامي أي تقاسيم الوجود وعرفوها بتعريفات غير سديدة.
48
وقد اشتبهت كثير من الأمور على بعض أجلة المتأخرين واعتذاراتهم.
ومن الوافد يتصدر أفلاطون والمثل الأفلاطونية ثم المعلم الأول، الفيلسوف، الحكيم الفيلسوف، الفيلسوف الأقدم، أستاذ الفلاسفة، أتباع أرسطوطاليس، ثم فرفوريوس، ثم الفيثاغورسيون، والإسكندر الأفروديسي.
49
وأفلاطون ومثله نموذج التوحيد للطبقة المتوسطة من الناس بين الخاصة والعامة ولا فرق بين ما يقوله المعلم الأول في «أثولوجيا» أو ما بين الحكيمين والشيخين أبي نصر وأبي علي فيما يتعلق بالعلوم التفصيلية الحصولية بذاته تعالى. فالحكمة الخالدة واحدة، لا فرق بين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم والمعلم الثاني والشيخ الرئيس وصاحب «الأسفار الأربعة». الحقيقة واحدة، وشواهد الربوبية يراها جل الحكماء، لا فرق بين المشائين والإشراقيين، كلاهما ينتسبان إلى مدرسة واحدة، الإشراق. لا فرق بين المعتزلة والقائلين بوجود المعدوم وعالم المثل عند أفلاطون، بين اتحاد العقل بالمعقول عند فرفوريوس وبين الحكماء المتأخرين ونظرية الاتصال نموذج ابن سينا.
ومع ذلك يرفض صدر الدين رأي المشائين والمعتزلة وأفلاطون وفرفوريوس والإشراقيين في تحقيق علم الله بالأشياء على وجه عرشي اختصاصي. فقد جعله المشاءون ارتسام صور الأشياء في ذاته وجعله الإشراقيون مناط علمه الذاتي بالأشياء الخارجة عنه، وجعله المعتزلة ثبوتا للمعدومات، ضد أفلاطون والمثل القائمة بذاتها.
50
وعند فرفوريوس اتحاد العقل والمعقول، وعند المتأخرين العلم الإجمالي. والحقيقة ما أفاده الله صدر الدين. وهي أشياء لا يمكن الوصول إليها بقوة الفكر والبحث من غير تصفية الباطن وتهذيب النفس. وقد أول ابن سينا في إلهيات «الشفاء» المثل الأفلاطونية. كما أولها صاحب حكمة الإشراق السهروردي بأنها العقول التي هي واقعة في سلسلة العرض. وهو تأويل خارج عن غرض أفلاطون الإلهي. وقد عرف صدر الدين حقيقة ذلك بإلهام وإكرام من الله وعرضه في «الأسفار الأربعة». كما قصر الحكماء الذين جاءوا بعد أفلاطون الإلهي في تحقيق المثل الأفلاطونية بل أنكروه وتشنعوا عليها اعتمادا على المعلم الأول وأولوها تأويلات غير مرضية. ويقترب الفيثاغورسيون من مذهب أفلاطون بقولهم بأن العدد هي مبادئ الموجودات. فمبادئ الموجودات كالمثل المعلقة الأفلاطونية. أما المناطقة فقد أوقعوا أنفسهم في الأشكال والحدود وغفلوا ما وراءها من وجود. وقال الإسكندر الأفروديسي ببقاء النفوس الناطقة المدركة للمعاني العقلية. وهو نفس ما قاله المعلم الأول في «أثولوجيا» بارتسام صور المعلومات في العقل. كما أثبت المعلم الأول نمو الأرض فلا شيء في العالم إلا وله نفس. وطريقة الفيلسوف الأقدم أستاذ الفلاسفة هي دائما طريقة الإمكان والأشرف. وخرج الحكماء أتباع أرسطو عن طريق الأستاذ وجعلوا الوحدة عرضا.
51
ومن الوافد الشرقي يتصدر حكماء الفرس مع الإشراقيين في أن الوجود نور من يكشف أثر الثقافات الشعبية في نشأة الفكر الإسلامي.
52
وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة ووصف الذات الإلهية بأوصاف الحكمة المتعالية تنتهي بالدعاء إلى مبدع العجائب وصانع الغرائب وطلب العون على تهذيب النفوس وتنوير القلوب. (4)
وفي «المزاج» له أيضا يتصدر الموروث الوافد.
53
ويتصدر الموروث ابن سينا أو الشيخ الرئيس مع إحالة إلى الشفاء وطبيعيات الشفاء ثم الرازي والمحقق الدواني والحكماء المشائين.
54
وقد رد ابن سينا من قبل على المعترضين على مذهبه كما أنه أورد شكا على نفسه من أجل تقوية البرهان. فابن سينا نموذج الفيلسوف المفتوح على غير ما يبدو عليه من نسق مغلق. ويستعرض صدر الدين حجج المشائين في علاقة الجسم بالصورة. فقد تحول ابن سينا من شخص إلى تيار. ويوازن بين اعتراضات الدواني وحجج ابن سينا ويقف موقف القاضي والحكم بين الخصمين.
55
وقد اعترض عليه الإمام الرازي وأوقعه في التناقض في طبيعيات الشفاء، ومع ذلك يدافع صدر الدين عن ابن سينا ولا يسلم بوقوعه في التناقض. وقد أورد ابن سينا في طبيعيات الشفاء حجة المعترضين عليه وأجاب عنها بطريقة غير مرضية عند التأمل.
56
ومن الوافد يتصدر المعلم الأول ثم المفسرون ثم مذهب ديموقريطس.
57
ويعتمد ابن سينا في الشفاء على ما قاله المعلم الأول بأن المخترجات ثابتة بالقوة. وشنع على المفسرين الذين أساءوا تأويل المعلم الأول بوقوفهم عند ظاهر قوله. ويبين صدر الدين ما قاله الحكماء في إبطال مذهب ديموقريطس وإثبات أن مبدأ الكيفية المتماثلة الأجزاء صورة واحدة متصلة إلا صورا متعددة.
58
وتبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة الواهب الحياة والعدل والصلاة على النبي والأهل، تنتهي أيضا دون أن تنتهي بالعبارات الإيمانية التقليدية.
59 (5)
وفي «تفسير سورة التوحيد» يكاد يبتلع الموروث الوافد.
60
فبينما يتصدر القرآن والحديث الموروث كله نظرا لأن التفسير علم نقل يدخل فيه الحكماء لتحويله إلى علم نقلي عقلي أسوة بعلوم الحكمة ثم المحقق الدواني والمعلم الثاني والرازي ثم صدر المحققين وبهمنيار في كتابه «التحصيل» والشيخ الرئيس في «الشفاء».
61
وتعتمد الرسالة على المفسرين مع مزيد من التعقيل في فهم تعدد أسمائها وسبب نزولها، وإثبات التوحيد بالنقل والعقل وتحليل معاني كلمة التوحيد ومباحثها ووجوب النظر في معرفته تعالى. ويعتمد صدر الدين على الغزالي في عد مراتب التوحيد في اللسان وفي القلب. ويشير إلى المعتزلة في قولهم بوجوب النظر العقلي ويعترض الدواني على دليل الجزء الذي لا يتجزأ الذي تصوره ديموقريطس كما رد عليه بهمنيار رجل الحكماء والمعلم الثاني. وقد حوله الشيخ الرئيس إلى دليل واجب الوجود وممكن الوجود وهاما يتفق مع الميتافيزيقيا أكثر مما يتفق مع الطبيعيات، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. ولكن أدلة الرازي ضعيفة بالرغم من تساؤلاته المشروعة في التفسير الكبير. وتبدأ الرسالة بالبسملة وطلب الاستعانة، وتنتهي دون عبارات إيمانية.
62
ثامنا: الأزرق، الذهبي، القزويني، الدميري، أطفيش، الطباطبائي
واستمر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في العصور المتأخرة في القرنين السابع والثامن وانتقالا من علم الطب إلى علم الجغرافيا أي البدن والطبيعة. وقد تحول تنظير الموروث إلى تجميع الموروث وتراكمه نقلا من عصر إلى عصر. كما تحول تمثل الوافد إلى نقل الوافد بعد أن أصبح موروثا منقولا من عصر إلى عصر. فغلب على التراكم التجميع والتجاور والحفظ دون أن يتحول الوعي الفلسفي من التراكم الكمي إلى الإبداع الكيفي، وذلك في عصر الشروح والملخصات وتدوين الموسوعات والمعاجم والفهارس حفاظا على التراث من الضياع. وإذا توقف العقل تعمل الذاكرة.
والنصان الطبيان المتأخران «سهل المنافع» للأزرق (815ه) و«الطب النبوي» للذهبي (748ه) من نفس النوع الأدبي، نهاية الطب العلمي والعودة إلى الطب النبوي، ونهاية العقل والتجربة والعودة إلى النقل والحفظ والتجميع، نهاية الطب كموضوعات علمية للدراسة وبداية الطب كأدبيات ونصوص اعتمادا على سلطة الوافد جالينوس وأبو قراط خاصة أو على أكثر تقدير طب ابن سينا لأنه الطبيب الإشراقي الذي قام فيه الطب على الأشعرية والتصوف.
1
وإذا كان الطب العلمي قد بدأ بتحويل الطب النبوي إلى طب تجريبي، والطب العقلي الوافد إلى طب عقلي طبيعي نظرا لتماهي الوحي والعقل والطبيعة فيتقابل التنزيل مع التأويل، من النص إلى الواقع مع من الواقع إلى النص فإن الطب النبوي المتأخر قد اكتفى بالتنزيل دون التأويل واستنباط الحقائق الطبية من النص استنباطا وليس من التجربة استقراء، فنادرا ما يقال كما كان يقال سابقا «وهذا دواء نافع مجرب».
وكلا الطريقين معاب. فلو كان الحديث غير صحيح لتم استنباط حقيقة طبية غير علمية. كما أن اختيار أحاديث الطب النبوي، والكثير منها موضوع، قد يخضع لمزاج شخص وثقافة شعبية متغيرة طبقا للعصور وثقافات الشعوب المتعددة داخل الأمة الإسلامية. ولو تغير العلم طبقا لتقدم العلم في التاريخ لتغيرت الحقائق الطبية البعدية بعد أن تم توفيقها مع الحقائق الطبية القبلية. يكفي فقط أن يقوم النص بدور الافتراض العلمي إذ لا يتحول إلى قانون علمي إلا بوسائل التحقق من صحة الفروض. وهذه أيضا متغيرة بتغير مناهج البحث العلمي من عصر إلى عصر، ومن حضارة إلى حضارة. ويظل الإشكال قائما في حالة تعارض النص مع التجربة، التأويل مع التنزيل. فإما أن يكون الخطأ في صحة النص أو صحة الفهم أو في جريان التجربة وقوة المشاهدة. (1) الأزرق
نموذج ذلك «تسهيل المنافع في الطب والحكمة المشتمل على شفاء الأجسام وكتاب الرحمة» لإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر الأزرق (815ه). وهو كما يبدو من العنوان مجرد تجميع بعد أن تحول تنظير الموروث وتمثل الواقع في مرحلة التراكم في العصور المتأخرة إلى مجرد نقل من الماضي دون تنظير أو تمثل كما كان في العصور الأولى. إذ يضم معا كتابي «شفاء الأجسام» و«طب الرحمة» للمقري أيضا بالإضافة إلى «اللقط» لابن الجوزي و«برأ الساعة» و«تذكرة» السويدي، وكتاب البركة، وكتاب الدرة، والمستعذب، والتبيان، وزاد المسافر، وبعض كتب الطب الأخرى، وبعض الكتب العامة، بالإضافة إلى بعض قواميس لغة لمعرفة أسماء الأدوية والقليل من المصطلحات الطبية.
2
وينقسم إلى خمسة أقسام ابتداء من الطب النظري إلى الطب العلمي الأول «في أشياء من علم الطبيعة والأمر بالتداوي»، كله اقتباسات من كتب الطب المتقدمة وكأن الطب أمر شرعي. والثاني «في الحبوب والأغذية» بدأ بالأدوية قبل التشخيص. والثالث «فيما يصلح للبدن في حال الصحة»، فالوقاية خير من العلاج. والرابع «في كل عضو مخصوص»، وهو الطب التخصصي من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين. والخامس في الأمراض العامة التي لا تخص عضوا عضوا ومنها الأمراض النفسية.
ولا يتجاوز الوافد جالينوس ثم أبقراط ثم أرسطو. وواضح صدارة جالينوس الطبيب المنطقي على أبقراط الطبيب التجريبي وتواري أرسطو العالم الطبيعي شبة التام.
3
وتغيب الألفاظ اليونانية المعربة أو المنقولة مما يدل على اختفاء الوافد كلية من الوعي التاريخي وتحويله إلى موروث شعبي أسوة بالموروث الأصلي. ويطلق لفظ الحكماء على الإطلاق دون تحديد المصدر. ولما غاب الفرق بين الوافد والموروث فإن اللفظ يعني المشتغلين بالطب على الإطلاق كما هو الحال في معنى اللفظ في الثقافة الشعبية.
ومن الموروث الأصلي يتصدر الحديث ثم القرآن.
4
فقد تحول الطب العقلي الطبيعي إلى طب نبوي نقلي. وأصبحت كتب الطب المتأخرة أشبه بكتب الحديث المنتقاة في موضوع الطب توسيعا لكتاب الطب في صحيح البخاري أو تحويلا لعلم الطب كفرع من فروع علوم الفقه. ويحال إلى الصحيحين وإلى كتب «المساند» ومجموعات علم الحديث المختارة لمشاهير المحدثين على مدى العصور فيتصدر المحدثون قبل الفقهاء والأطباء والحكماء.
فيتصدر من المحدثين والفقهاء الشافعي مما يدل على سيادة الشافعية على المذاهب الفقهية المتأخرة مثل سيادة الأشعرية في الفرق الكلامية ثم ابن عباس المحدث والمفسر الأول، بحر العلم وحبر الأمة، ثم مشاهير جماع الحديث في مجموعات صحيحة مثل النووي والترمذي، ورواته من الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، ثم من يجمع بين الفقه والحديث مثل أحمد بن حنبل في مسنده، ثم السمرقندي، ثم عائشة راوية الأحاديث عن حياة الرسول الخاصة، ثم أبو هريرة صاحب الرسول وجليسه ثم الفقهاء المتأخرون مثل ابن الجوزي والإسنوي، والأقل شهرة منهم مثل الخضاب وعقبة بن عامر.
5
ويذكر الصحيحان معا أو كل صحيح بمفرده مثل البخاري ومسلم وابن ماجه.
6
ثم يذكر أكثر من أربعين محدثا وفقيها وصحابيا أشهرهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، وابن جرير، والدارمي، وابن مسعود، وعثمان الصحابي، وابن سيرين، والبهيقي، وابن قتيبة، والدارقطني، وإسحاق، وجعفر بن محمد وغيرهم.
7
ومن كثرة الاعتماد على كتب الحديث خصص لها مقدمة أولى في تفسير رموز الكتاب عندما يرمز لكل صحيح بحرف أسوة بالإحالات الحديثة.
8
كما يصبح الأنبياء من كبار الأطباء المجرين المعجزات والذين تظهر عليهم الآيات مثل موسى وداود وسليمان ويوسف. دون ذكر للمسيح ربما تجنبا للشبهات حول شخصه.
9
ومع ذلك بقي من الموروث الطبي القديم ذكريات باهتة، وفي مقدمة الأطباء يتصدر الرازي ثم ابن البيطار ثم ابن سينا، والفارابي، ومن المترجمين ثابت بن قرة.
10
فقد انقضى العصر وولى الزمن الذي نشأ فيه الطب بفضل المترجمين وبلغ الذروة في عصر كبار الأطباء منذ الرازي حتى ابن النفيس مؤذنا بنهاية الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى، وبداية فترتها الثانية في عصر الشروح والملخصات والموسوعات والمعاجم قبل أن تبدأ المرحلة الثالثة بالاتصال بالطب الغربي الحديث. يكشف عن غلبة الفقه والتصوف على الفقه. تظهر الأشعرية في كل فقرة في عبارات مثل: الله أعلم، إن شاء الله، والله هو الشافي بالرغم من عرض نظرية الطبائع الأربع، وتتخلل الفقرات «الله أعلم».
11 (2) الذهبي
وبالرغم من أن «الطب النبوي» للذهبي (748ه) سابق على تسهيل المنافع للأزرق بحوالي نصف قرن إلا أنه يبلور هذا الاتجاه المتأخر في الطب، نهاية الطب العلمي، والعودة إلى الطب النبوي كما يوحي العنوان بذلك. كان «تسهيل المنافع» طبا عمليا إجرائيا، أقرب إلى العلاج بالأدوية والعقاقير منه إلى الطب النظري وكما يدل على ذلك العنوان. أما «الطب النبوي» للذهبي فهو إعلان صريح عن نوع الطب حيث يقل الوافد إلى أقصى درجة ويزداد الموروث إلى أقصى درجة ممثلا في الحديث. وإذا كان «تسهيل المنافع» قد اعتمد على بعض الموروث الطبي القديم تجميعا بين مؤلفاته فإن «الطب النبوي» أغفله تماما. وهو تجميع للأحاديث النبوية المتعلقة بالطب وبعض الأدبيات في الموضوع دون دراسة أو تنظير أو تجربة أو قياس طبقا للطابع الغالب على العلم في هذه العصور المتأخرة وهو التدوين من الذاكرة بعد أن توقف العقل عن الإبداع. ويحال إلى بعض المؤلفات الطبية على العموم دون ذكر أي منها على الخصوص.
وينقسم إلى ثلاثة فنون. الأول في قواعد الطب العلمي والعملي، والثاني في الأدوية والأغذية، والثالث في علاج الأمراض وأحكام الأغذية والأدوية مرتبة ترتيبا أبجديا. وهو أطول الفصول لما له من طابع عملي. وينتهى الكتاب بالأحكام الشرعية الخمسة. فالطب هو فقه الأبدان.
12
ومن الوافد من يتصدر أبقراط على جالينوس. ثم يأتي أفلاطون وأرسطو وهرمس مع حكماء اليونان.
13
ويشار إلى ملوك اليونان على الخصوص والأطباء والحكماء الأوائل على العموم.
14
ولا يذكر إلا لفظ يوناني واحد، أسطوخودس. ومن الجناح الشرقي يظهر ملوك الهند، واللغة الفارسية.
ومن الموروث يتصدر الحديث القرآن عشرات المرات. فالطب النبوي يعتمد على الحديث أكثر مما يعتمد على القرآن.
15
ثم يتصدر المحدثون والفقهاء والصحابة الأطباء والعلماء والحكماء. وتأتي عائشة في المقدمة، الراوية لحياة الرسول الخاصة، ثم ابن عباس حبر الأمة، ثم أبو هريرة جليس الرسول، ثم أنس بن مالك صاحب الموطأ، ثم ابن حنبل في مسنده ثم البخاري في صحيحه ثم مسلم. ومن الفقهاء يأتي الشافعي قبل أن يعود الصحابة مثل عمر وابن عمر وجابر ومجاهد وبعض المحدثين مثل مجاهد وابن مسعود. ثم يظهر بعض الصحابة مثل علي وعثمان، وبعض الفقهاء، مثل ابن قتيبة وابن الجوزي. ثم يظهر بدرجة أقل بعد المحدثين والفقهاء والصحابة مثل النووي، والنسائي، وأبو حنيفة وابن سيرين وأبو بكر، وابن تيمية. ولما كان الأطباء هم بعض الصوفية لشفاء النفوس كمقدمة لشفاء الأبدان يظهر أبو سعيد الخدري وذو النون. ثم يذكر ما يزيد على الثمانين محدثا وفقهيا وصوفيا وصحابيا أقل شهرة ولكنهم رواة وفقهاء وعلماء بالمعنى الشعبي أي حفظة العلوم الدينية.
16
كما يستشهد ببعض الشعراء مثل لبيد. فقد بدأ العرب شعراء وأصبحوا علماء وعادوا شعراء كما بدءوا. ومنهم بعض الأئمة والنساء والصوفية وأطباء العرب في الجاهلية مثل الحارث بن كلدة الذي أدرك الرسول. ويذكر بعض مؤرخي الفرق مثل الشهرستاني في «الملل والنحل».
17
ومن الأنبياء يظهر داود ثم آدم ثم نوح وموسى وسليمان وإدريس.
18
والرسول هو أعدل الأمزجة، وأصح الأبدان، وأسلم النفوس.
ومن الموروث الفلسفي الطبي لا يظهر إلا ابن سينا وأبو نعيم والرازي. اختفى الطب كله باستثناء ابن سينا الطبيب الإشراقي مع بقايا من الثقافة العربية القديمة الممثلة في الجاحظ. والله هو الشافي والمداوي والمعالج من خلال القرآن والحديث. ومن البيئة الجغرافية العربية تظهر أسماء الشام والحجاز، وكالعادة تتكرر الله أعلم خلال الفنون والجمل، والبداية بالبسملة والحمدلة والنهايات الدينية المضادة.
19 (3) القزويني
لم يظهر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في الطب وحده بل أيضا في باقي فروع علم الطبيعة مثل علم الحيوان، وكما وضح في كتاب «عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات للقزويني» (682ه). ليست الغاية علم الحيوان باعتباره علما بل ما في عالم الحيوان من غرائب وكما هو الحال في برامج «عالم الحيوان». وقد يصل حد العجائب إلى الخرافات والعفاريت والجن ما دام المقصود هو جذب الانتباه وإثارة الخيال؛ لذلك تدخل الإسرائيليات والخيال الشعبي الذي التف حول قصص الأنبياء حتى أصبح لا فرق بين الأنبياء والأبطال الشعبيين.
ويتحول موضوعات العلم الطبيعي مثل الحيوان من العلم إلى الحضارة. ويصبح المقصود ليس علم الحيوان بل ثقافة الحيوان عن طريق تجميع كل المرويات عن الحيوان في الأدب والشعر والأحاديث الموضوعة والتفاسير الشعبية والفقه الاجتماعي وسير الأنبياء وحكاياتهم مع الحيوان، ونوادر الصوفية مع قدراتهم على التعامل معه وفهم لغته كما فعل سليمان مع الهدهد، وكما فهم النحل لغة سليمان، وكما حادثت الشاة الرسول ونهته عن أكلها لأنها مسمومة، وحنين جذع الشجرة إليه، وقدرة ابن عربي على استئناس الحيوانات في شعاب مكة. ويصبح الجاحظ في كتاب «الحيوان» نموذجا ورائدا. الحيوان موضوع للأدب، والأدب وعاء العلم في البداية والنهاية.
20
مصدر العلم هو الرواية وليس الموضوع الطبيعي مما يكشف عن طبيعة الحضارة في نهاية مرحلتها الأولى في القرن السابع وبدايتها في القرن الثامن، والتحول من العقل إلى الذاكرة، ومن الإبداع الحضاري إلى الحفظ والتدوين.
ومع ذلك ما زال الموضوع يكشف عن بعض البواعث العلمية القديمة مثل أثر الفلك في الجغرافيا وارتباط العالم السفلي بالعالم العلوي. فالعلم الطبيعي في النهاية من طب وصيدلة ونبات وحيوان وفلك وحيوان ونبات هو علم واحد علم الأرض، علم السماء والعالم.
ما زال التوجه القرآني نحو الطبيعة قائما، والتدبر في الأسماك في البحر والطير والإبل على الأرض ومنافعها والذي كان وراء نشأة العلم الطبيعي. وهو ما سماه الصوفية «الحكمة، في مخلوقات الله عز وجل » ورؤية الله في كل مظاهر الطبيعة كما هو الحال في التصوف والحركات الرومانسية الدينية بحيث يتحد الله بالطبيعة وتتحد الطبيعة بالله، مع مزيد من الإيمانيات، وإثبات العلم اللدني، «والله أعلم».
ويقسم القزويني «العجائب» قسمين العلويات والسفليات من أجل بيان أثر العالم العلوي في العالم السفلي أي أثر الفلك في الجغرافيا. ويضم العلوي: الأفلاك، والقمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل، والثوابت، والبروج، وفلك الأفلاك، وسكان السموات، والزمان، خليط بين الأفلاك والبروج، بين الكون والبشر. وتضم السفليات العناصر الأربعة: النار، والماء، والهواء، والأرض، وما عليها من كائنات. وتنقسم الكائنات إلى المعدنيات والنبات والحيوان. وينقسم الحيوان إلى الإنسان، حقيقته ونفسه الناطقة وتولد وتشاريح أعضائه وقواه وخواصه، والجن، والدواب، والنعم، والسباع، والطير، والهوام، والحشرات.
21
ويقل تمثل الوافد. ولا يتجاوز أرسطو ثم الإسكندر ثم بطليموس ثم جالينوس ثم ديسقوريدس ثم المجسطي لبطليموس، ثم أرطميدروس وإقليدس وذو القرنين وفيثاغورس.
22
ويذكر أرسطو في مؤلفاته المنتحلة مثل النبات. ومن الوافد الشرقي يتصدر صاحب كتاب الفلاحة النبطية وأردشير الملك. ويذكر اليونان تمايزا عن الفرس والنبط، ويستشهد بكتاب الفلاحة النبطية، من الفرس يذكر الملك أردشير كما تذكر الهند.
23
ومن الموروث الأصلي يتصدر. آيات القرآن والأحاديث النبوية مع أولوية طفيفة للحديث على القرآن لأن الحديث أكثر تعرضا للحيوان.
24
ومن الأنبياء يتصدر بطبيعة الحال سليمان ثم آدم وإدريس ثم إبراهيم وموسى والخضر.
25
ومن الموروث يتصدر ابن سينا أو الشيخ الرئيس أو الرئيس. ثم الرازي ثم الجاحظ باعتباره المصدر الرئيسي للحيوان.
26
وتكثر أسماء الرواة والمحدثين والفقهاء والشعراء والأدباء والمؤرخين والظرفاء والأمراء والقواد والخلفاء كحاملين للثقافة التي تحمل العلم الطبيعي دون وعي علمي بتقدم العلم، تراكمه السابق، تطويره بالإضافة عليه. فبطبيعة الحال يتقدم كعب الأحبار كأحد الرواة ثم ابن عباس وأبو سعيد الخدري، وكثيرون غيرهم.
27
ومن الطوائف والفرق يذكر الحكماء والأطباء والمنجمون، المتقدمون والمتأخرون والإسماعيلية . ومن الأسماء الجغرافية تظهر البيئة المحلية العربية الإسلامية مثل قزوين نيساربور، الري، الترعة، أرض جيلان، أفريقيا.
28
وتذكر المصادر المدونة التي منها استقى القزويني مادته مثل كتاب الفلاحة النبطية . (4) الدميري
وبالرغم من أن اسم مؤلفه «حياة الحيوان الكبرى» إلا أنه ليس في الحيوان كعلم طبيعي بل في الحيوان كموضوع ثقافي حضاري يضم القرآن والحديث والسيرة والفقه والتفسير والأدب والشعر والتاريخ والجغرافيا والتصوف، أي وضع الحيوان ليس في البيئة الطبيعية بل في البيئة الثقافية كما فعل الجاحظ من قبل في «كتاب الحيوان»؛ لذلك لا تكثر الإشارة إليه.
29
وتشير ألقاب المؤلف كمال الدين الدميري (808ه) إلى أن موضوع «الحيوان» ما هو إلا مناسبة لتدوين كل المعلومات حول الموضوع.
30
وقد استمر ذلك حتى التأليف الحديث في عصر النهضة العربية.
31
فالتأليف مناسبة للتدوين وحفظ العلم وليس للإبداع وإضافة الجديد. هو استرجاع للماضي منذ الأصول الأولى في القرآن والحديث، حتى الموسوعات المتأخرة.
ولما كان الهدف هو تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات الطبيعية والتاريخية والجغرافية والأدبية والاجتماعية واللغوية والكلامية والصوفية عن الموضوع لم تهم صحة الروايات. بل كثرت الأحاديث الموضوعة والحكايات الشعبية وقصص الأنبياء المستمد من الإسرائيليات.
لذلك غاب العرض النظري، وتحول الموضوع من العلوم العقلية إلى العلوم النقلية. وأصبح الموضوع مجرد تجميع قدر أكبر ممكن من النصوص في الموضوع. فزاد الحجم ما دام الهدف هو تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات. وتحولت الدلالة من الموضوع إلى المنهج، من إبداع العلم الجديد إلى تكرار وجمع وحفظ العلم القديم. لم يعد النص فلسفيا جزءا من علوم الحكمة بل أصبح حضاريا دالا على طبيعة التأليف في العصور المتأخرة وطرف التدوين في عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى.
32
والحيوان مرتب ترتيبا أبجديا من الألف حتى الياء مع استطرادين كبيرين خارج الموضوع ما دام الهدف هو تجميع المعلومات. الأول في حرف الألف بعد «الأرز» بعنوان «فائدة أجنبية تتضمن أن كل سادس قائم بأمر الأمة مخلوع» مما يوحي بالتوجه الشيعي في كتابة التاريخ. فالحديث ذو شجون.
33
والثاني في حرف الحاء في موضوع الحوت يتم الاستطراد إلى «حوت موسى ويوشع» بما يوحي من غرائب وإعجاب. فليس المقصود حيوان الحوت بل ثقافة الحوت.
34
وفي كل موضوع يتم تقسيمه إلى خمسة بنود: (1)
الأمثال أي الشواهد الشعرية وأمثال العرب عن الحيوان فليس المقصود علم الحيوان بل مرويات الحيوان أي الحيوان في الثقافة العربية وليس فقط في العلم الطبيعي كما فعل الجاحظ في كتاب الحيوان. فالعلم عند العرب جزء من الثقافة. (2)
الخواص أي طباع الحيوان. وهو أقرب إلى العلم الطبيعي اعتمادا على الكتب الطبيعية السابقة في علم الحيوان. وتجمع الخواص بين الجسدية والسلوكية والألفة والتربية وعلاقة الإنسان به. فهي ليست خواص عضوية خالصة، خاصة الحصان والكلب والجمل والهر والثعبان والحدأة وهي الحيوانات التي عاش معها العربي في الصحراء. (3)
التعبير أي مدلول الحيوان في الأحلام اعتمادا على «تعبير الرؤيا» لابن سيرين مثل تأويل يوسف حلم فرعون، سبع بقرات سمان تأكلهن سبع بقرات عجاف. فالنفس موطن العلم الطبيعي. وفي عالم الحيوان رموز لعالم النفس. (4)
الحكم أي الحكم الفقهي على الحيوان، بالحياة أو الموت، بالطهارة أو النجاسة، بالعيش معه في المنزل أو إخراجه منه، بالمنفعة والضرر. فالحيوان مخلوق للإنسان. الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، والسمك الطري للطعام، وجلودها للدفء والسكن. (5)
الفائدة وهي النتيجة النهائية للموضوع سواء كانت في الطب أو في الأدوية أو في الوقاية من الحسد أي الاستعمالات للحيوان كعامل مؤثر في الحياة اليومية. وتكون فائدة مجربة أو مجربة وصحيحة أو لطيفة. وهناك أكثر من فائدة للحيوان الواحد. وقد تكون خاتمة وتتمة وإشارة وتذنيبا، قاعدة أو فرعا، توضع تحتها كل المعلومات الباقية من البنود الأربعة الأولى حتى لا يترك علم دون تدوين. وقد تكون عجيبة أو غريبة تبين الأثر السحري للحيان في حدوث نتائج غير متوقعة تصل إلى حد السحر والتعاويذ والخرافات الشعبية.
ويقل الوافد اليوناني إلى أقصى حد وكأنه أصبح من سالف الدهر، ينتمي إلى ذكريات الطفولة الأولى. يتصدر أرسطو بطبيعة الحال فيما ينقل عنه في وصف خصائص الحيوان مع إحالة إلى كتاب منتحل له «كتاب النعوت والخطاطيف » ثم جالينوس ثم هرمس.
35
ثم تأخذ قصة الإسكندر وذي القرنين مساحة كبيرة في الوافد اليوناني. فليس المقصود هو علم اليونان بل قصص اليونان، وهل الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين المذكور في القرآن.
36
ولا يظهر لفظ اليونان أو الفرس في حين تتوالى ألفاظ العرب. ويشار إلى الروم كما يشار إلى الهند. يطغى الموروث عليه، ويصبح وافدا موروثا، جزءا من الثقافة العامة بعد أن تم تعريبه دون نقد أو تباعد ثقافي.
ويسود الموروث الأصلي، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، طبقا لتوجهات القرآن والحديث نحو الحيوان.
37
فالخيل والبغال والحمير والكلب والهدهد والطير والسمك والإبل والجمل والوحوش كلها موضوعات تعرضت لها الآيات والأحاديث.
38
فبعد ذكر الحيوان طبقا للترتيب الأبجدي يبدأ تجميع الروايات حوله ابتداء من الآيات القرآنية ثم الأحاديث النبوية ثم روايات المؤرخين والصوفية والأدباء والشعراء والحكماء والأصوليين والمفسرين والفقهاء. فالموضوع مجرد مناسبة لتجميع الموروث حوله وتدوينه. وكثير منها آيات الحيوان وأحاديثه تشير إلى عالم الغيب وإلى القدرات الخارقة في التعامل معه.
وتبرز قصص الأنبياء خاصة سليمان وما أوتي من قدرة على فهم لغة الطير. ويمتد الرمز إلى موسى والخضر اللذين أصبحا مصدرا للعلم السري. وتدخلت الإسرائيليات مباشرة أو من كتب التفسير: الطبري وابن كثير والزمخشري، خاصة فيما يتعلق بالأنبياء ومخاريقهم مثل إبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى. فالحيوان جزء من المعجزات، حديث الشاة المسمومة، حنين جذع الشجرة إلى الرسول، كلام الهدهد والنحل لسليمان، نوم الكلب مع أهل الكهف، بقرة بني إسرائيل، ناقة صالح، حمار عيسى داخلا القدس، هرة أبي هريرة في ثقافة الصيد.
39
وقل الموروث الفلسفي العلمي القديم، فالحيوان جزء من العلم الطبيعي من علوم الحكمة.
40
لا يحال إلا إلى الرازي وابن سينا ثم بعد ذلك يتقدم الغزالي الذي أصبح هو الحكيم الفيلسوف العالم الطبيب. فالتصوف وعاء العلم. ولما ازدوج التصوف بالأشعرية ظهرت الأشعرية ممثلة في الباقلاني الأساس النظري الوحيد للعلم. ولما كانت الأشعرية هي الأساس النظري للفقه فقد ظهر الشافعي باعتباره هو الحكيم الفيلسوف. ويظل المؤرخون أو أهل التاريخ والفقهاء واللغويون والمتكلمون والرواة والصوفية والأدباء والعلماء والمفسرون هم حملة العلم والحفظة عليه.
41
ولما ضعف التراث العلمي الطبيعي القديم ظهر الشعر، الموروث الثقافي الأول، باعتباره منبع الحكمة. وتحول كتاب «الحيوان» إلى مجموعة شعرية عن الحيوان أسوة بكتاب «الحيوان» للجاحظ في الأدب العربي والأمثال العربية. وقد وصلت الاستشهادات الشعرية بالآلاف.
42
والشعراء بالمئات إذ لا تخلو صفحة واحدة من الكتاب من شاهد شعري أو أكثر. وتبرز أهمية الشعراء النصارى مثل أمية بن أبي الصلت وقدرته على معرفة الدين الطبيعي من خلال تجربته الشعرية.
43
وتظهر البيئة الجغرافية المحلية، خراسان والشام ومصر مما يدل على أن العلم في هذه العصور المتأخرة أصبح نابعا من البيئة المحلية ومعبرا عن مستوى ثقافتها بعد أن اختفى الوافد المحدود في خضم الموروث العريض.
ويحيل النص إلى مصادر المعلومات إما بذكر المصدر والمؤلف أو بذكر المصدر دون المؤلف أو المؤلف دون المصدر نظرا لشهرة المصدر أو المؤلف. وتتنوع المصادر بين الفقه والتاريخ والطب واللغة والتصوف والأدب.
44
ونظرا لغياب العقل فقد سادت الرواية بما فيها من خرافات وسحر وطلسمات وأحاجيات كما هو الحال في الطب الشعبي المتأخر. والعلاج عن طريق الرقية وآيات القرآن وبالأعداد والحروف والترانيم والتعاويذ على طريقة «شمهورش» والقرابين بالحيوانات. ويتضح ذلك منذ البداية في مقدمة الكتاب حتى النهاية. ويظهر ذلك بوضوح في الحيات والثعابين والعقارب وكيفية علاج السموم والتعاويذ والأحجبة والآيات القرآنية والجداول الرقمية. وتتناثر الحكايات والقصص عن الأعاجيب والعفاريت والجن مع الملائكة والرسل.
45
وتشفع بها حكايات السلاطين والأمراء مع العلماء والصوفية والفقهاء. فالعلم ما زال يدور في بلاط السلطان.
وتكثر العبارات الإيمانية مثل إن شاء الله، بإذن الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، بستر الله، والله أعلم لتكشف عن حدود العلم وتفويضه مثل تفويض كل شيء إلى الله. (5) أطفيش
وقد اتسم الطب المتأخر بنفس الطابع الذي اتسمت به العلوم الطبيعية الأخرى مثل الجغرافيا والفلك والنبات والحيوان. واستمر هذا النوع من التأليف حتى القرن الماضي عنه في «تحفة الحب في أصل الطب» لمحمد بن يوسف أطفيش. من علماء القرن الرابع عشر الهجري. وألقابه أيضا العلامة المحقق أي جامع العلم والمتحقق من صدقه، يغلب عليه التجميع والتدوين من الفقهاء والرواة والمحدثين والمؤرخين والمفسرين والصحابة والخلفاء الأربعة وأئمة المذاهب الأربعة خاصة الشافعي وأحمد بن حنبل، مجرد روايات، عودة إلى الطب النبوي. فالنص مستقل بذاته، مصدر العلم دون ما حاجة إلى برهان عقلي أو تجريبي كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة منذ محمد بن عبد الوهاب. والطب هو العلم الشامل الذي به علاج لكل أمراض الحياة ومشاكل كل عصر. هو أقرب إلى المفتاح السحري كما يدل عليه العنوان.
46
والموروث الأصلي هو الحديث أولا ثم القرآن ثانيا ثم الشعر ثالثا.
47
ومن الموروث الفلسفي يتصدر ابن سينا ثم الغزالي ثم الرازي والطحاوي.
48
ثم يتوالى الفقهاء، الأئمة الأربعة وفي مقدمتهم الشافعي والخلفاء الأربعة كرواة ومحدثين، والمتكلمون مثل الأشعري والجويني، ثم الفقهاء مثل ابن القيم وابن تيمية والعسقلاني وابن عبد البر وابن حجر والبيهقي والطبراني وابن الصلاح وابن العربي، والمؤرخون مثل الطبري والثعالبي وابن الأثير والواقدي والمفسرون مثل الزمخشري والقرطبي والمحدثون مثل أصحاب الإصحاحات الخمسة، ومن الصوفية المحاسبي، وأبو سعيد الخدري، ومن الأدباء واللغويين الجاحظ وسيبويه، ومن الشعراء الفرزدق، ومن العلماء ابن البيطار، وعشرات من الصحابة والتابعين بحيث طغت العلوم النقلية على العلوم العقلية وكثير من الروايات منتحلة لطولها ودخولها في جوهر الطب وعلله وتقوم على الخداع والسحر والتعاويذ والأحجية والدعوات. ومن الأنبياء بطبيعة الحال يتصدر سليمان الحكيم وقدراته على المداواة والعلاج، وما يلحق به من إسرائيليات دخلت من قبل علوم التفسير.
وما زالت بقايا الوافد تتراءى وفي مقدمته جالينوس ثم أبقراط ثم أرسطو وأفلاطون ثم سقراط.
49
تذكر أقوالهم بعد أن أصبحت موروثة دون تحقق أو نقد أو مراجعة.
وليس للكتاب بنية تنم عن وضع العلم بل مجرد أبواب متتالية، خمسة وعشرين، أطولها الأخير. يغلب على الأول «ما جاء في الطب» معظم الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية. وتدل عناوين الأبواب أنها لا تدرس الموضوعات بل تجمع الروايات فيه «ما جاء في ...» ويضم الطب البدني الطب النفسي لعلاج الهموم والصرع. وأطولها ما جاء في الطعام والشراب والنكاح طبقا للمأثور عن العرب وكما لاحظ الفارابي من قبل.
50
وقد استمر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد حتى القرن الماضي كما هو الحال في نهاية الحكمة للأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي والذي أتمه عام 1395ه.
وهو على درجة عالية من التجريد والتنظير كما هو الحال في علم الكلام المتأخر وشراح ابن سينا المتأخرين عندما انطفأت جذوة الإشراق ولم يتبق إلا صور العقل وأشكال الوجود، بحيث يستحيل معرفة مقياس الصواب والخطأ لا في تجربة إنسانية ولا في إطار مرجعي إلا إطار العقل النظري الذي بحاجة إلى مقياس آخر غير الاتساق المنطقي. وما يخرج العقل عن بنيته الداخلية هو بعض السجال مع المتكلمين أو مع بعض شراح ابن سينا المتأخرين مثل الدواني. ويقوم على ذكر الحجج والاعتراضات ثم الرد عليها مع اقتباسات وشواهد وإحالات أسوة بالتأليف الحديث في صلب المتن وليس في الهوامش.
ولما كان التحول من الكلام إلى الفلسفة هو انتقال من «الثيولوجيا» إلى «الأنطولوجيا» فقد غلبت على الحكمة الميتافيزيقيا أو الأنطولوجيا الخالصة. ومع ذلك يتسم بالوضوح والترتيب المنطقي. ويتم تبويب «نهاية الحكمة» على اثنتي عشرة مرحلة مما يوحي بالطابع الحركي. وهي في الحقيقة مراحل داخل العقل أي بنيته.
51
وهي أقرب إلى المبادئ العامة أي نظرية الوجود في علم الكلام المتأخر المستمد من الفلسفة.
وبالرغم من ظهور الموروث أكثر من الوافد إلا أن الصمت عن المصادر هو الغالب من أجل التركيز على بنية العقل والموضوع بحيث يكون أقرب إلى الإبداع الخالص بعد تراكم فلسفي طويل عبر أربعة عشر قرنا. والاسم نفسه له دلالته «نهاية الحكمة» بالمعنى المزدوج اللفظ «نهاية» الذي يعني آخر مرحلة وخاتمة والذي يعني أيضا تحقيق الغاية.
52
ويتصدر الموروث صدر الدين الشيرازي باعتباره آخر الحكماء القدماء ثم ابن سينا باعتباره زعيم الإشراقيين، ثم السهروردي باعتباره من مؤسسي الإشراق ولكن من التصوف إلى الفلسفة وليس من الفلسفة إلى التصوف كما هو الحال عند ابن سينا، ثم الفارابي باعتباره أحد الإشراقيين قبل ابن سينا، ثم الدواني باعتباره شارحا، والشهرستاني، ثم ابن كمونة والنظام وبهمنيار معاصر ابن سينا، ثم الطوسي.
53
ومن أسماء المؤلفات تذكر بطبيعة الحال «الأسفار» ومن الفرق يذكر المتكلمون. فالكتاب يجمع بين الكلام والفلسفة كما هو الحال في كل المؤلفات الكلامية بعد القرن الخامس. كما أنه كتاب سجالي ضد الفرق خاصة المعتزلة مما يضفى أحيانا على منطق البرهان الخاص بعلوم الحكمة، ثم المشاءون والإشراقيون، وهي الفرقة التي ينتسب إليها المؤلف. ثم القدماء والمتأخرون، فالفلاسفة قدماء ومحدثون والطبيعيون والمنطقيون من قدماء الفلاسفة مصدر الحكمة، والصوفية مصدر الإشراقية.
54
وأحيانا يذكر «بعضهم» على العموم دون تحديد من هم. وفي نفس الوقت تكثر الألقاب وتختفي الأسماء تحولا من الاسم إلى الرمز مثل صدر المتألهين للشيرازي والشيخ لابن سينا، وشيخ الإشراق أو الشيخ الإشراقي للسهروردي، وأفلاطون الإلهي، والمعلم الأول.
55
وبسبب الطابع التجريدي العام، يخلو الكتاب من الأدبيات والأحاديث بالرغم من أولوية الموروث فيه على الوافد.
ومن الوافد يتصدر أفلاطون بطبيعة الحال ويأخذ لقب «الإلهي» فهو زعيم الإشراقيين اليونان، وتنسب إليه المثل. ثم يأتي أرسطو في المرتبة الثانية أو لقب المعلم الأول كناية عنه، ثم ديموقريطس نموذجا للطبيعيين، ثم أنبذقليس وفرفريوس وتاليس. ومن الفرق اليونانية لا يذكر إلا الرواقيون.
56
ويكاد ينحصر الوافد في مكان واحد، روايات مذاهب السابقين حتى يبدو محاصرا داخل محيط الموروث، خطوة نحو «تنظير الموروث» واختفاء الوافد.
57
الفصل الثاني: تنظير الموروث
أولا: الخصائص العامة للفكر الشيعي
ليس بمحض المصادفة أن يقع الفكر الفلسفي الشيعي في «التراكم الفلسفي» في «تنظير الموروث» وليس في «التأليف»، «تمثل الوافد» أو «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» أو «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» أو حتى في «التراكم الفلسفي»، تنظير الموروث قبل «تمثل الوافد» أو «الإبداع الخالص». مما يجعل للفكر الشيعي خصائص معينة تجعله يقع في نوع أدبي خاص «تنظير الموروث» دون الاعتماد على الوافد. يكفي الواقع السياسي من ناحية والموروث الأصلي، القرآن، من ناحية أخرى.
1
وهي حلقة مفقودة لم ينتبه إليها مؤرخو الفكر الفلسفي الذين انتقلوا مباشرة من الفارابي (339ه) إلى ابن سينا (428ه) باستثناء ذكر أبي الحسن العامري (381ه) وكأن الفكر الفلسفي قد انتقل من الفارابي إلى ابن سينا مباشرة عبر قرن من الزمان دون تطور. في حين أن الفارابي كان معاصرا لأبي حاتم الرازي (331ه) وأبي يعقوب السجستاني (331ه)، والكرماني (411ه) كان معاصرا لابن سينا (428ه). وكان إخوان الصفا وهم من الإسماعيلية من قبل هم حلقة الاتصال بين الكندي (252ه) والفارابي؛ إذ تدل الشواهد على أنها ظهرت حوالي (270ه) أي في النصف الثاني من القرن الثالث. وقد كان أبو سليمان السجستاني هو الشخصية الرئيسية في «المقابسات» لأبي حيان التوحيدي (403ه). ومع ذلك فالتقابل ليس حادا بين الفكر الفلسفي الجامع بين تمثل الوافد وتنظير الموروث والفكر الفلسفي القائم على تنظير الموروث فحسب. كما لا يمكن أن يقال إن هذين الخطين يمثلان الفكر الفلسفي السني والفكر الفلسفي الشيعي لأن ابن سينا هو الذي قام بالعرض النسقي المنطقي وقدم بناء الفلسفة.
2
وهو شيعي إمامي اثنا عشري. وإخوان الصفا من الإسماعيلية. والفكر الشيعي متأخر عن الفكر السني بقرن من الزمان، من الكندي (252ه) حتى النسفي (331ه).
وربما كان أحد أسباب مؤامرة الصمت في تاريخ الفكر الفلسفي السني هو أن مفكري الشيعة كانوا من الثوار الذين استشهد معظمهم في ثورة 331ه. كانوا من المعارضين للسلطان، استمرارا في ثورة الأئمة من آل البيت. كان يمثل فكر المعارضة وليس فكر السلطة، يعبر عن الواقع السياسي العريض ضد استئثار فرقة واحدة بالسلطة السياسية هي فرقة أهل السنة. كانوا يمثلون الفرق الهالكة الاثنين والسبعين ضد الفرقة الناجية؛ أهل السنة والجماعة.
3
لم يأخذوا خلعا أو صررا من السلطان. ولم يكونوا في معيته؛ بل كانوا ينتقدون فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس المأجورين المستوزرين، فلاسفة البلاط ومنشدي وعازفي الآلات للأمراء وأطباء الخلفاء وزينة المجالس.
وإذا كان التراكم الفلسفي قد ظهر في الفكر الفلسفي في تعليقات ابن باجه على الفارابي، وشرح ابن طفيل لألفاظ الحكمة المشرقية عند ابن سينا، ونقد الغزالي للفلاسفة في «تهافت الفلاسفة»، ونقد ابن رشد للغزالي في تهافت التهافت فقد ظهر التراكم الفلسفي في الفكر الشيعي منذ أن كتب النسفي «المحصول» ثم نقد بوجه خاص الرازي له في «الإصلاح» ثم دفاع السجستاني عن «المحصول» في «النصرة» ثم حكم الكرماني تلميذ السجستاني بين «الإصلاح» و«النصرة» في «الرياض» ناقدا أستاذه.
4
لذلك كثيرا ما يظهر التناص الفلسفي في «الرياض». صاحب الإصلاح يقول، وصاحب النصرة يقول، وصاحب الرياض يقول.
ونظرا لكثرة المنقول وشرحه شرحا مباشرا بخطاب عادي شعبي غير إصلاحي وبحماس غالب يصبح الفكر الشيعي أقرب إلى الفكر الفقهي السني والخطب المنبرية التي تزدحم بالآيات وكما هو معروف في المدرسة السلفية عند أحمد بن حنبل، وابن تيمية وابن القيم، وابن الصلاح، ومحمد بن عبد الوهاب، ورشيد رضا. القرآن هو المصدر الرئيسي ثم بعد ذلك قصص الأنبياء أي القرآن متحققا في التاريخ. الآيات القرآنية أكثر ورودا من الأحاديث النبوية، فالقرآن هو الأصل متفاعلا مع الواقع السياسي والاجتماعي وموجها نحوه. وقد يكون للشيعة قراءتهم الخاصة للقرآن والتي تختلف أحيانا مع قراءة أهل السنة في بعض الحروف الآن. ولا يذكر اسم العلم إلا خارج الآية ومشتقاتها. فالآية هي مصدر أسماء الأعلام، هي بمفردها دليل دون عرض نظري كاف كما هو الحال في فكر الفقهاء. ومن هنا تبدو أهمية ابن سينا. فبالرغم من أنه من الإمامية الاثني عشرية إلا أنه استطاع تجاوز النص الخام إلى العقل الخالص.
والفكر الشيعي مثل الفكر الفقهي إجابات على أسئلة يطرحها السائل، فهو إجابة عن أسئلة يطرحها الواقع وليس تنظيرا مجردا؛ لذلك تبدو فيه «روح المشيخة» وطابع المؤسسة الدينية. واتهامه بالانحراف والخروج والمروق هي من فعل الخصوم، والإجابة قدر الإمكان دون قطع أو جزم أو غلق لباب الاجتهاد. وإذا كان السؤال عن آية فإن الإجابة تحولها إلى نظر عقلي كما هو الحال في نشأة علم الكلام. وأحيانا تتحول الآية إلى عبارة شارحة، لا فرق بينها وبين أسلوب عرضها مع تغيير الضمير. ويتداخل القرآن الحر مع الآيات حتى إنه يصعب التفرقة بينهما. بل وهناك عدم دقة في القرآن الحرفي والقرآن الحر حتى يسهل عدم الفصل بينهما؛ ولا توجد مسافة بين الوحي نقلا والوحي إبداعا. وقد يكون السؤال عن آية أو عن معنى آية أو عن فكرة أو موضوع مثل منزلة سائر النطقاء وحدودهم وأهل الظاهر. وتكون الإجابة مثل السؤال بآية أو معنى آية أو فكرة أو موضوع. وقد تذكر الآية أكثر من مرة وبنفس المعنى مما يدل على أن القضية أزمة نفسية، تذهب وتعود. ويكون السؤال أيضا عن معنى الحديث ولكن بصورة أقل.
5
وبالرغم من اعتماد الفكر الشيعي على الموروث الأصلي، الآيات القرآنية أكثر من الحديث بل والإكثار منها كحجة سلطة في مواجهة سوء استعماله عند أهل السنة والسلطة القائمة يأتي دور العقل مكملا للنقل في مواجهة احتكار أهل السنة لتفسير النقل بحجة
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . بل يظهر العقل النقدي بما له من قدرة على الاعتراض. وتدل كثرة النقل على وقوف سلطة أمام سلطة، سلطة المعارضة ضد سلطة الدولة. وكل فريق يزايد على الآخر بكثرة النصوص كما هو الحال عند إخوان الصفا. وكلهم إلى رسول الله منتسب.
ويقل المنقول كلما تطور الفكر الشيعي من القرن الثالث إلى الرابع، ومن السجستاني إلى الكرماني. تكثر الآيات في بداية الفكر الشيعي مما يجعل «راحة العقل» للكرماني أكثر المؤلفات إحكاما من ناحية النظر والبنية الداخلية ومنطق الاستدلال. لذلك نجح ابن سينا فيما لم ينجح فيه الفكر الشيعي بما في ذلك إخوان الصفا في تقديم الفكر الشيعي إلى أهل السنة اعتمادا على العقل وحده.
ليست الفلسفة حكمة متعالية أو فلسفة تأملية نظرية بل هي طريق الخلاص من استئثار السلطة القائمة بالدين والسياسة واحتكار السلطتين؛ الدينية والسياسية. الفلسفة تحرر، والدين قيد. الفلسفة تمرد على السلطة ومقاومة للطغيان. ليست الغاية التوفيق بين الفلسفة والدين، فذاك ما يقوم به حكماء السلطان بل التمسك بالفلسفة وحدها لتأويل الدين ونزعه كسلاح من أيدي الخصوم على عكس حكماء السلطان الذين كانوا يدينون اتفاق الفلسفة والدين لصالح الدين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد. كان حكماء الشيعة من قادة ثورات العامة في حين كان حكماء البلاط من خاصة السلطان. لذلك ظهرت الفلسفة السياسية بوضوح وكأن السياسة هي أساس الدين والحكمة في مقابل تسييس عقائد السنة باسم الدين وعلى حساب الحكمة كما بدا ذلك في عقائد الأشاعرة وفي فلسفة الفارابي والتصور الهرمي للعالم. ثم تحولت الفلسفة السياسية إلى فلسفة تاريخ لمعرفة دورات الأمم ومصائر الشعوب وتداول الأيام بين الناس. وهي فلسفة تقوم على التقدم والنهوض والخلاص باسم المهدي بعد أن جعل أهل السنة التاريخ منهارا (خير القرون قرني) إلى غير رجعة. الفكر الشيعي فكر ملتزم، صاحب قضية، الالتزام بالشرعية الدينية ونقد التسلط والطغيان، الدفاع عن الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم، والشرعية ضد اللاشرعية، والأئمة ضد الملوك.
6
وكما كان معظم أهل السنة من العرب كان معظم الشيعة من العجم. فقد دخلت شعوب كثيرة الإسلام لا فرق بين عرب وعجم حتى بدأ التشيع في الظهور، فانضم العجم إلى المعارضة بعد أن استولى العرب على السلطة باسم قريش وبحجة «الإمامة في قريش» وكرد فعل عليها روي أيضا «العلم في فارس» «ولو كان العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس».
وللإنسانيات الأولوية على المنطق. وتشمل الإنسانيات الطبيعيات والإلهيات والأخلاقيات والاجتماعيات والسياسيات. المنطق تجريد لا تقوى الثورات على استعماله، وأقيسة شكلية لا تقدر على فهم حركة المجتمع وصراع القوى فيه. وعندما يكون المجتمع في أزمة والناس في قهر يتم التحرر عن طريق العقائد الدينية التي تتحول إلى تصورات فلسفية مثل إبداع الكون والنبوة والمعاد والإمامة وقصص الأنبياء من أجل وضع المجتمع في حركة التاريخ وتحديد علاقة الحاكم بالمحكوم. يغيب منها النسق الثلاثي الصارم للحكمة: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات الذي يجعل الفلسفة بناء ثابتا لا يتغير من أجل فلسفة تقوم على حركة الإنسان والمجتمع والتاريخ.
والخطاب الفلسفي الشيعي خطاب خال من المصطلحات الفلسفية الوافدة أو الموروثة ومحمل بمصطلحات إبداعية خالصة من ألقاب الأئمة مثل القائم والأساس والباب. وهو خطاب سهل الفهم بعيد عن التجريد، مباشر يدخل إلى القلب أكثر مما يخاطب العقل، ويعبر عن تجربة حية معاشة أكثر مما يعبر عن تحليل عقلي رصين. بل يكون أحيانا أقرب إلى الخطاب الشعبي لإخوان الصفا يهدف إلى تجنيد الجماهير وحشد المضطهدين. وكثيرا ما يعتمد على التراث الشعبي مثل إخوان الصفا والأساطير الشعبية والأسلوب العربي القويم بعيدا عن ركاكة الأعجام مع أنهم كانوا أيضا من العجم. ويبدو أن الاضطهاد يفرض أسلوبه المباشر ضد فيهقات الخاصة المستقرين في البلاط. يبدو أرسطو خياليا، مثاليا حالما أقرب إلى الشعر الفلسفي، والملحمة الإنسانية مثل بطولات الأساطير وحياة الشهداء، وأساطير السقوط والخلاص في كل الديانات مثل الديانة المسيحية. ويقدم القرآن صورا فنية بليغة للتأثير على الناس، فالبداية تخييل وتصوير دون محكم ومتشابه، حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، مجمل ومبين. الكل ناطق صامت. الناطق في حاجة إلى تأويل والصامت في حاجة إلى تخييل. ويظهر أسلوب الرد على الاعتراضات المتخيلة من أجل الإحكام النظري. وقد يكون الاعتراض بآية والرد عليها بآية.
7
ويتم وصف الفكر الشيعي دون حجاج معه، معه أو عليه كما فعل أهل السنة. فقد كان الفكر السني الرسمي فكر سلطة والفكر الشيعي الشعبي فكر معارضة. فلا حجاج مع السلطة ضد المعارضة كما كان الحال قديما. بل قد يكون هناك حجاج مع المعارضة ضد السلطة كما هو الوضع حاليا. يكفي في ذلك سلاح الألقاب. فالسنة أهل الاستقامة والحديث الذين يسيرون على الصراط المستقيم والسنة القويمة. أما الشيعة فإنهم أهل الهوى والميل والتشيع والانحراف عن الطريق المستقيم. أهل السنة هم الفرقة الناجية، والشيعة هم الفرقة الضالة الهالكة طبقا لحديث الفرقة الناجية الذي استعمله أهل السنة منذ الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» ضد خصوم الدولة من الشيعة والباطنية والمعتزلة.
والنص الشيعي نص واحد بالرغم من اختلاف المؤلفين عليه. يمثل وحدة فكرية واحدة، وموقعا سياسيا واحدا. يكمل بعضه بعضا بصرف النظر عن مؤلفه، وحدة النص وتعدد مؤلفيه. وتكرار نفس النص يدل على أن هناك وحدات أولى تم التأليف منها، وهو النص الأم. وقد يعني توارد خواطر واتفاقا في الأفكار، فالظروف الواحدة تخلق موقفا فكريا واحدا يتم تدوينه في نص واحد. قد يزيد نص فكرة دون التكرار الأصم. وتتراكم الزيادات على النص الأم وتصبح نصا واحدا. يمكن تحليل الموروث نصا نصا وكذلك أشكال التعبير وآليات الإبداع. أما المضمون فإنه يتم تحليله باعتباره نصا واحدا. فالفكر الشيعي تيار فلسفي مستقل عن الأشخاص.
8
وعلى الرغم من عدم الدقة في النشر العلمي المحقق أحيانا للنصوص الشيعية وغياب الفهارس للمصطلحات والأعلام وتخريج الآيات والأحاديث إلا أن ذلك لا يمنع من تحليل المضمون لمعرفة مكونات النص وتوجهاته العامة.
ثانيا: حضور الموروث وغياب الوافد
كانت الفكرة الشائعة هي أن علوم الحكمة هي اجتماع الوافد والموروث، سواء كان الوافد من اليونان والرومان غربا أو من فارس والهند شرقا، وخص اليونان بالوافد على الأصالة نظرا لكثرة الترجمة منه. والحقيقة أن الفكر الفلسفي الشيعي في معظمه تنظير للموروث دون تمثل الوافد. نشأ من توجيه الموروث الأول، القرآن، نحو الواقع السياسي والاجتماعي. نشأ الفكر الشيعي من الداخل وليس من الخارج مثل الفكر الأصولي مع أن الترجمة كانت قد تمت في القرن الثاني الهجري وتمثلها الكندي والرازي والفارابي من قبل. نشأ من تفاعل الوحي والواقع.
1
ويبدو ذلك من عناوين مؤلفات حكماء الشيعة، وما تتضمنه من انفعالات وثنائيات تعبر عن المقاومة، والصراع بين الحق والباطل، والعدل والظلم وحضور الموروث وغياب الوافد.
2
مثال ذلك «الينابيع» للسجستاني أي التأويل الداخلي، وانبثاق الحقائق من الداخل ضد الاستيلاء على السلطة في الخارج. وقد يكون إبداعا خالصا في حالة غياب الموروث، وبالتالي يكون قد بلغ قمة التراكم الفلسفي في مواجهة الحكم الاستشراقي الذي جعله أيضا أفلاطوني النزعة بالرغم من عدم ذكر أفلاطون، وأن الاستشراق تجربة روحية نفسية اجتماعية في كل حضارة،
3
فإذا حضر أفلاطون مصادفة فإن السبب في ذلك هو ارتباط الثورة بالمثال، والغضب بالانفعال والمعارضة بالعاطفة والظلم بالمدينة الفاضلة، والواقع بالخيال، واليأس بالحلم. وإذا حضر الوافد مصادفة فإنه يكون موضع نقد باعتباره الدخيل الذي استعمله حكماء السلطان ضد الأصيل مثل معارضة الرازي لأرسطو.
وقد ظهر الفكر الشيعي بعد عصر الترجمة. وكان من الطبيعي أن يعتمد على المعقول والمنقول. كان فكر المعتزلة قد انتشر قبل أن ينقلب الأشعري عليه.
ويصعب تحليل كامل لمضمون الفكر الشيعي لأنه يكاد يخلو تقريبا من تمثل الوافد وأقرب إلى تنظير الموروث؛ إذ إن أهمية تحليل المضمون هو قياس نسبة الوافد إلى الموروث عن طريق تردد أسماء الأعلام خاصة. وذلك يثبت مقدار الاستقلال الحضاري عن الوافد ونشأة الفكر الفلسفي من الداخل دون استعانة بالخارج، وأنه يكفي تفاعل الأصول الأولى، الكتاب والسنة، مع الواقع السياسي الاجتماعي. وهو أحد أشكال الإبداع قبل أن يتحول إلى إبداع خالص، استقلال النص عن الوافد والموروث معا. (1) أبو جعفر بن منصور
ففي «كتاب العالم والغلام» لأبي جعفر بن منصور اليمني (القرن الثالث) يحضر الموروث ويغيب الوافد.
4
ليس لأن الوافد كان مجهولا فقد ازدهرت الترجمة في القرن الثاني واستمرت حتى الثالث والرابع، بل عرفه الشيعة وكان أقرب إلى الثقافة العالمية التي يستعملها حكماء البلاط. كان حكماء الشيعة يريدون تنظير الموروث مباشرة بالتفاعل مع الواقع المباشر والاتجاه إلى الناس مباشرة لتثويرهم ضد حكم الظلم والطغيان. بل إن العنوان الجامع لمجموعة من الرسائل «الحقانية» تدل على نسبتها إلى الحق أي إلى الواقع وليس إلى الوافد أو الموروث. والموروث هو القرآن أساسا ثم قصص الأنبياء وتاريخ الأديان من الكتب المقدسة السابقة كما يفعل إخوان الصفا. ولا يوجد حديث. يأتي القرآن أولا ثم الأنبياء، موسى ثم عيسى وإبراهيم ثم داود، وإلياس، ويوشع، ويونس، ويوسف، ويحيى، وزكريا، وسليمان، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب. بل يذكر أعداء الأنبياء مثل جالوت. ويذكر التوراة والإنجيل ثم الزبور، ومن آل البيت يذكر علي بن أبي طالب. وتذكر أسماء مستعارة للتخفي مثل أبي مالك، البختري، عبد الجبار، كعب الأحبار، ومن الشعوب والأقوام يذكر فارس والعرب أي الشيعة والسنة.
5
والعنوان جميل يدل على علاقة الشيخ بالمريد. يدل على الإحساس بالتاريخ، وتوعية الجيل السابق للجيل اللاحق، واستمرار الرسالة عبر الأجيال. أقرب إلى الأدب الشعبي والأسلوب العربي الرصين، فقد كتبت في عصر الجاحظ. وأحيانا يتجاوز الأسلوب إلى الرمز في علاقة الشيخ بالمريد كما هو الحال عند الصوفية وليس فقهاء السلطان، وهو الإمام والمأموم أو الله والإنسان. يعبر عن عالم مثالي للمضطهدين، العتق والحرية، الملك والمملوك.
6
وتظهر القدرة على إبداع المصطلحات مثل «الأوان» وهي الإرادة التي بها خلق الله ما أراده وأمر بما يشاء . كما تظهر ألقاب الشيعة التي تعبر عن قيادة الأئمة ومسارهم التاريخي، حبل الله هو الإمام، والأساس علي بن أبي طالب كرد فعل على إزاحته عن الحكم وتصفيته، وقد تسقط الأسماء كلية ويكتفى بالألقاب مثل: الأساس، القائم، كعب الأحبار، وأخيرا يتحول قصص الأنبياء إلى فلسفة في التاريخ: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم. كل نبي له فترة، وله ضد، وله نائب روحي. النبي وضده، جدل التاريخ، وصراع الأضداد. والنائب الروحي تفاؤل باستمرار النضال لو أخذ في الأساس. وقد تظهر أنبياء في الفترات مثل إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وشعيب من إبراهيم إلى موسى. فلا يخلو جيل من نبي. وبعد موسى يظهر يوشع وإلياس وطالوت وداود وسليمان وزكريا ويحيى حتى عيسى. ويتعاطف الشيعة مع الأنبياء المضطهدين مثل موسى وعيسى وإبراهيم. وتبدو القراءة الشيعية لتاريخ الأنبياء مثل غيبة موسى. وتبدأ الرسالة بالبسملات وتنتهي بالحمدلات.
7 (2) السجستاني (أ)
وفي «الينابيع» للسجستاني (331ه) يغيب الوافد اليوناني كلية ويحضر الوافد الشرقي باعتباره ثقافة وطنية لحكماء الشيعة. كما يحضر الشعر العربي باعتباره ثقافة وطنية للسنة. فتظهر فرق الثنوية والمجوسية والبهافريذية في بيان أن الشر لا أصل له في الإبداع ضد ديانات الشرق في الينبوع الخامس والعشرين. فقد قالت الثنوية بالنور والظلمة. وقالت المجوس والبهافريذية بالهرمذ دون الأهرمن. واستنكفوا من جعل الشر مخلوقا فجعلوه أزليا مع الخير. ثم اختلفت مذاهب الشرق. فبينما جعل أحدهما أن صاحب الخير يهلك وصاحب الشر في نهاية الزمان، مثل قتل المسيح الدجال، وقعوا في التناقض؛ لأنه يستحيل إهلاك الأزلي.
8
كما يغيب الموروث الفلسفي؛ لأن الفلسفة كانت وما تزال في بدايتها الأولى، تعتمد على التنظير المباشر للواقع دون قراءة لتراث فلسفي سابق. ويحضر الموروث الأصلي، القرآن ثم الحديث، ولفظ قرآن، وتاريخ الأنبياء، والكتب المقدسة السابقة مثل الإنجيل.
9
القرآن هو كلام الله بالحقيقة أي الأساس الذي اتحد بالسابق من جهة التأويل. ويظهر لفظا القرآن والإنجيل. ويقتبس من نص الإنجيل لإثبات الثواب الأبدي. فالدين واحد، والله منزه عن المنافع والمضار ضد التصور اليهودي. والترجمة العربية القديمة للإنجيل ترجمة عربية سليمة عكس الترجمات اللبنانية الحالية عن اللغات الأوروبية.
10
ويتم تأويل القرآن مثل
يس * والقرآن الحكيم
الياء والسين على الأتماء السبعة. وهم أصحاب أدوار حدود الدين المحركون للأنفس إلى العبادة والتصور. القرآن هو الأساس، والحكيم صاحب التأويل، والأئمة المنصوص عليهم من آل البيت، وكل ذلك داخل في حساب الحروف. ويذكر حديث واحد في معنى الشهادة «لا إله إلا الله مفتاح الجنة». والجنة كلمة الله تعالى التي بها أبدع الأشياء.
11
والعقل الأول مبدع. خاطبه الله في
كن . ولا يخاطب إلا العقلاء. فلما بلغه الأمر إلى إظهار العالم السفلي أضاف الخلق والتقطير في
خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور، فاطر السموات والأرض
إنا خلقناكم من تراب ، لا إلى أمر
كن
التي تعني علاقة الله بالعالم، والعقل لا يفسد. إذا جاء العقل أمر كن لم يزد عليه، ولم ينقص منه، ولا أتى بخلافه. الفساد كيفية والعقل لا يفسد.
12
وتذكر آيتان قرآنيتان في كيفية ابتداء الإنسان. فالإنسان في جميع الأزمنة على نسق واحد كما دل القرآن على ذلك
فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق ، وأيضا
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج . والله لديه قدرة على إبداع خلق كثير على دفعة واحدة وليس بالضرورة من الإنسان الأول والتناسل كما هو الحال في الغنم والأبقار. كما خلق السموات والأرض دفعة واحدة. وخلق العالم في ستة أيام بنص الآية
خلق السموات والأرض في ستة أيام
لأن الزوج المركب الذي يتلو الأربعة هو الستة. فالقرآن له تفسير عددي. والنفس لا تبلغ مبلغ المبدع بالرغم من عدم نفادها
لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي .
13
والثواب هو العلم الدائم وليس اللذة الحسية المنقطعة. وكل نفس تنال ما تشتهي. وفي ذلك تتفاوت الأنفس وتتفاضل. والثواب والعقاب أساس خلق الكون وإلا كان عبثا. وتبعث النفوس إلى دار المعاد لذلك. وعلى النفس يلزم اللوم إن خالفت العقل.
14
وفي قصص الأنبياء وتاريخ الأديان يظهر عيسى ثم آدم ومحمد. ويخصص لعيسى الينبوع الحادي والثلاثين في معنى الصليب لعيسى ابن مريم. يعبر المسيح المصلوب عن الكشف وقد كان صلبه يوم الكشف
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود . عيسى هو صاحب يوم القيامة وعلامته كشف حقيقة الشرائع. وآدم ومحمد دوران من الأدوار الستة، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهم أولو العزم من الرسل عند المتكلمين. وهم ستة لأن الزوج المركب الذي يتلو الأربعة ستة.
15
والهدى أمر النطقاء السبعة وهو المسجد الأقصى. وقد احتوت كلمات الأنبياء جميع ما في العالم الجسماني والعالم الروحاني من أقسام وحدود
لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ،
وأكثرهم للحق كارهون . (ب)
وفي «إثبات النبوات» للسجستاني أيضا تغيب الإشارة إلى الوافد اليوناني كلية.
16
ولفظ «الحكماء» لفظ عام. ولا يعني تعبير «أهل اليونان» أو النطوط أو الأنباط أي إحالة إلى حكماء اليونان بل مجرد أمثلة.
17
ويحضر الوافد الشرقي سواء الشعوب والأقاليم مثل العجم ثم المجوس ثم الهند ثم السند والصين، ثم الهند والسند، والترك والجزر، والصقالبة، والسريانية، والعبرية، ثم الزنج والخزر. ومن أنبياء وملوك الشرق ماني ثم مزدك، وزرادشت، وبهافريد ومروى، ثم كسرى. ومن فرق الشرق الثنوية.
18
ومن الموروث يظهر القرآن ثم الحديث ثم لفظ القرآن. ويتفوق القرآن عشرات المرات لأنه حجة سلطة في مواجهة سلطة سياسية. ومن الأنبياء يذكر آدم ثم نوح ثم إسماعيل وإسحاق، ثم هارون ثم مريم. وتزداد أهمية الأنبياء صعودا من المسيح ومحمد إلى آدم ونوح. ومن أنبياء بني إسرائيل شمعون ثم سام وأشعيا وشيث. ومن شخصيات التوراة ابن عمران، وزكريا، ويوشع ويحيى. ومن شخصيات تاريخ الأنبياء يأجوج ومأجوج، وهابيل. ومن شخصيات الإنجيل يهوذا. ومن الكتب المقدسة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومن الفرق اليهود ثم الصابئة. ومن رؤساء الفرق المسيحية ديصان ومرقون. يستمد الفكر الشيعي أصوله من مدينة السماء المنتصرة لتقويته على مدينة الأرض الطاغية. فالماضي أقوى من الحاضر، والتاريخ أقوى من الدولة.
19
ومن الموروث الإسلامي، يذكر من الأئمة علي بن أبي طالب، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين، ومحمد الباقر، والصادق وجعفر. ومن الفرق الإسلامية القدرية، والرافضة، والحرورية والجهمية. ومن الفرق غير الإسلامية النصارى. ومن الشخصيات في التاريخ الإسلامي يزيد، ثم حامد، وخالد وخزيمة. ومن القبائل قريش. ومن الأسماء العربية أولاد يتيم، عدي، أمية، مسيلمة، طلحة، القطري، بنو مدلج، بنو أسد. ومن الأماكن الشهيرة بيت المقدس، نيسابور، ثم جبل الطور، وغدير قم، والشام، وتهامة، والمدينة. كما يذكر الإسلام والمسلمون، ثم العرب والعربية. هذا هو الواقع الذي يتفاعل مع الموروث الأصلي ليبدع فكرا فلسفيا لا صلة له بالوافد اليوناني. (ج)
وفي «تحفة المستجيبين» للسجستاني كذلك لا يوجد ذكر للوافد اليوناني أو الشرقي.
20
ويستعمل لفظ الحكماء على العموم ليضم الوافد والموروث. ومن الموروث الأول يأتي القرآن ثم الحديث ثم لفظا القرآن ومحمد. ومن الأنبياء يذكر نوح، وإبراهيم، وإسماعيل وموسى، ويوشع، وعيسى. ومن أنبياء بني إسرائيل سام، وشمعون. ومن الأئمة علي، والحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وإسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل. فالأئمة خلفاء الرسل.
21 (3) القاضي النعماني
وفي «الرسالة المذهبة» للقاضي النعماني (363ه) يغيب الوافد اليوناني والشرقي كلية. ويذكر لفظ «الحكيم» على الإطلاق. ويذكر الموروث الأول، القرآن، ثم لفظ القرآن ثم الحديث. ومن الأنبياء آدم ثم محمد ثم عيسى (المسيح)، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم إسماعيل، ثم سليمان ثم هارون، ويوسف، وزكريا، وإسحاق، ثم داود، وشعيب، والخضر. ومن أنبياء بني إسرائيل يوشع ومريم. ومن الشخصيات التوراتية فرعون. ومن الكتب المقدسة التوراة. ومن الأئمة علي ثم جعفر بن محمد ثم عبد الله الصادق. ومن الشخصيات الإسلامية المعز لدين الله ثم سلمان الفارسي، ومن الفرق، المجوس والنصارى والصابئة والمسلمون والعلوية، والروحانيون ثم اليهود، والمتقلبة والمتقدمون والشيعة. ومن الشخصيات العربية مصعب بن الوليد، المهدي النعمان. ومن الأقوام العرب وبنو العباس. ومن الأماكن بغداد وغدير قم.
22 (4) حاتم بن عمران
وفي «الأصول والأحكام» لحاتم بن عمران (497ه) يغيب الوافد اليوناني كلية ويظهر على نحو قليل الوافد الشرقي أسفاري ثم أرمخشد ثم غابر. ويستعمل لفظا الحكماء والفلاسفة على الإطلاق دون تمييز بين وافد وموروث. ولا يوجد اسم علم يوناني واحد. في حين يظهر الموروث وحده طاغيا. الموروث الأول القرآن ثم الحديث. ومن الأنبياء آدم ثم محمد، ثم موسى، ثم إسحاق، ثم المسيح، ثم هارون، ثم إسماعيل، ثم يوسف، ثم شعيب وزكريا ثم يونس، وداود، ولوط، وسليمان، ثم صالح، وإلياس، ويحيى، وذو القرنين، ومريم، وإدريس، وذو الكفل، ثم يعقوب، والمسيح، واليسع. ومن شخصيات التوراة، هامان وقارون.
23
ويظهر أنبياء بنو إسرائيل غير المذكورين في القرآن مع بعض الشخصيات التاريخية عند بني إسرائيل مثل شيث، ثم شمعون الصفا، ثم سام، ونافور، ويوشع وهابيل، وفالغ، ثم قابيل. ولاوي، وحواء، وشحول، ثم شامخ، وأرغو، ومرقيا، ومهائيل، ومرامش، وحزقيل، وحرقيل، وأرميا، وأشعيا، ودانيال، وقتيدار، ثم متوشالح، وتارخ، ونمرود، وبختنصر، ثم عمران، وأنوش، وميخائيل، وفالع، وقيدار بن بنيامين، ومهلائيل، وبرد، وفرعون، والفراعنة. ومن الفرق اليهود. ومن الشخصيات المسيحية جرجس، ويهوذا، ثم إصطفانوس، ثم بقيانوس وفيثان. ومن أئمة الشيعة جعفر الصادق، ثم محمد بن إسماعيل، والحسن، ثم الحسين، ثم علي زين العابدين. ومن الفرق الإسلامية الإسماعيلية. ومن الشخصيات الإسلامية والآلهة العربية فاطمة، ثم دحية الكلبي، وخزيمة، وعبد الله بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن ميمون، وبنو العباس، ثم المعز لدين الله، وعمار، وحسام، وبرد، ويغوث، ونسرى. ومن الأماكن المحلية المغرب، ثم مكة، ثم اليمن، والشام، وبيت المقدس، ثم الطائف.
24 (5) قيس بن منصور
وفي «رسالة الأسابيع» لقيس بن منصور من القرن السابع يختفي الوافد اليوناني والشرقي على الإطلاق. ويذكر الحكماء على العموم. ويضم الوافد والموروث معا. ومن الموروث الأصلي يذكر القرآن، ولفظ القرآن، ثم الحديث. ومن الأنبياء آدم ثم موسى، ثم عيسى ومحمد، ثم نوح، وإبراهيم، وشيث، ثم إسماعيل، ويوشع، وشمعون، وحواء. ومن شخصيات التوراة فرعون. ومن الأئمة يذكر علي، ثم محمد ثم مهدي، وحسين، وجعفر، وإسماعيل.
25 (6) محمد بن سعيد بن داود
وفي «الرسالة الكافية» لمحمد بن سعيد بن داود من القرن التاسع يغيب الوافد اليوناني والشرقي على الإطلاق.
26
ويحال إلى الموروث الأول، القرآن ثم إلى الأنبياء، محمد وإسماعيل، ثم يوسف، وموسى، وإسحاق. ومن الأئمة علي ثم جعفر، وإسماعيل، ومحمد، وعبد الله الأكبر، والحسين.
27
ويأتي القرآن استطرادا لضرب الأمثلة أو للاستشهاد به. فالقرآن يعمل في الذهن كمثل لممثول. ويؤخذ كأداة للحوار، ويتحدث بديلا عن الحكيم في أسلوب روائي. كما تظهر آيات النور التي يسهل تأويلها طبقا لنظرية الفيض، ومقامات الشكر والتوبة. وتكرر الآية، مرة كاملة متواصلة ومرة متقطعة لشرحها وتفسيرها وتأويلها حتى تدخل في النسق الفكري العام دون التمييز بين ما يأتي من الآية موضوعيا وما يأتي من النفس ذاتيا. ويظهر الجانب الإنساني في التأويل، تحويل النص إلى تجربة بشرية وكأنه نزل القلب وليس في الواقع، في الداخل وليس في الخارج سواء في علاقة الأبناء بالآباء أو البر بالوالدين كرمز للعلاقة بين الإنسان والله. كما يدل الوالدان على الأصلين في الخلق الكاف والنون
كن . ويتضح التأويل المذهبي. فالعمل الصالح هو تسليم الأمر لصاحب الرتبة القائم مقام الله، وهو ما ينفي حرية الاختيار، وما يؤكد خلافة الإمام لله على الأرض كما هو الحال في الحكم الإلهي. وهو أكبر رد فعل على الحكم الإنساني الظالم. فلا يقوى على رد الظلم إلا الله
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين . والباطن هو الحقيقة، والظاهر هو الزيف. الباطن هو الثورة على الظلم، السلطة الروحية الحقيقية، والظاهر هو الحرف. الظلم سلطة العسكر والإرهاب واغتصاب السلطة. والعدل سلطة الشريعة والمقاومة واسترداد الشرعية، والمسلمون هم الذين يردون مقاديرهم إلى القائمين والكاتبين إلى الأئمة تأكيدا لطاعتهم لهم وانتزاعا لطاعتهم لأئمة الظلم الأمويين. والمؤمنون المسبحون هم النقباء المتصلون بالله والملائكة والأنفس. كما يتضح الوسطاء كطريق إلى الله كما هو الحال في المسيحية بتوسط السيد المسيح والكنيسة والقس. وهي وسائط روحانية وصور حقيقية. كل ذلك فلسفة المقاومة عن طريق الخيال والتوسط والروح.
28 (7) مؤلف مجهول «والمقالة السابعة عن أسرار القرآن» بالرغم من أنها ناقصة إلا أنه يلاحظ أيضا غياب الوافد اليوناني أو الشرقي مع أنه كان بإمكان الشيعة استعمال الوافد لضرب الموروث الذي احتكره أهل السنة. ولكنهم فضلوا تأويل الموروث أي النقد الداخلي وليس النقد الخارجي.
29
ثالثا: آليات الإبداع
(1) أفعال القول والبيان وجدل الكاتب والقارئ
واستعمال أفعال القول ومشتقاته عادة متبعة لدى كل المؤلفين وليست فقط قاصرة على الوافد، أرسطو أو فلاسفة اليونان بل تشمل أيضا الموروث، حكماء الشيعة والسنة. وتأتي معظمها قبل القول في ضمير المتكلم المفرد «أقول» أو الجمع «نقول» أو الغائب «يقول». فالمؤلف هو الذي يتكلم وليس الآخر الغائب. وضمير المتكلم الجمع أكثر من ضمير المتكلم المفرد لأن المؤلف هو العقل الحضاري والوعي الجمعي وليس شخص المؤلف بمفرده. وعادة ما يكون مقرونا بالإضافة «كذلك نقول» من أجل تأكيد القول أو بالتعليل «لذلك نقول» من أجل بيان السبب. وغالبا ما يكون في زمن المضارع تأكيدا لحقيقة وليس في الماضي إثباتا لتاريخ في صيغة «قلنا» إلا في معرض التذكير بالقول السابق، وإحالة القول الحاضر إليه. كما يظهر فعل القول في توقع اعتراض المعترض وقول القائل في صيغة «فإن قال قائل» والرد عليه بصيغة «قيل له» سواء كان الاعتراض من فرد أو من جماعة «يقال لهم» في المضارع «يقال» أو في الماضي «قيل». وأحيانا يستعمل اسم القول مع فعل آخر مثل «أجمل» في صيغة المتكلم الجمع «ولنجمل القول». وتحليل هذه الآليات من صيغ العبارات لا يقوم على إحصاء شامل ودقيق بل يكشف فقط عن مسار الفكر، ويكفي في إدراك الدلالة باستقراء معنوي كما يقول الأصوليون أو باستقراء ناقص مبني على مبدأ الاطراد كما يقول المناطقة الغربيون المحدثون. وهو ليس هدفا في حد ذاته بل مجرد كاشف لمضمون الفكر. قد يكون ثقيلا، وقد لا يراه البعض دالا كليا أو جزئيا.
1
ويوضح المؤلف فكره، ويبين مضمون قوله، ولا يشرح فكرا خارجيا لأرسطو أو لغيره. لذلك يكثر استعمال فعل «البيان» في الماضي والحاضر سواء بضمير المتكلم وفعل إرادي «نبين» أو بفعل لا شخصي «فقد بان أن» وكأن الموضوع يكشف عن نفسه، وهو الأكثر شيوعا. وقد يكون البيان مختصرا أو مطولا ولكنه إلى الاختصار أقرب.
2
والقرآن نفسه بيان، والله هو المبين كما تظهر أفعال الشرح والتوضيح. فالشرح فعل مستمر للعقل. وقد يذكر بالاسم مثل شرح وتوضيح. وقد يجمع بين فعلين.
3
والفكر الشيعي ليس مجرد تعبير عن أزمة اجتماعية وسياسية بل هو فكر برهاني يقوم على إثبات الموضوع، وينتهي بالإعلان عن ذلك. وتنتهي معظم عبارات نهايات الفقرات بالأداة «إذن» كما هو الحال في العلوم الرياضية أو بأسماء الإشارة «هذا» أو «هذه» للإعلان عن الموضوع المطلوب إثباته. كما تستعمل أفعال «ثبت»، «صح»، «ظهر»، «وجب»، «بان» لنفس الغاية. وقد تبدأ العبارة بفعلين مثل «فقد بان وصح». وأحيانا يتم الإعلان عن النتيجة بالقول «قلنا إذن». وأحيانا تكون النتيجة معروفة للقارئ، وتتم مخاطبته بفعل «فاعلم» و«فعلمت» في الماضي أو «فتعلم» في المضارع. فالنتيجة والاستدلال له،
4
كما تدل بعض الأفعال مثل ذكر، قدم، أورد، أخبر، رجع، عاد، سبق، على إحالة الفكر إلى نفسه. يضع الفكر نفسه ثم يعود إلى ما وضع. يضع المقدمات ثم يرجع النتائج إليها. ويظهر الاستدلال في صيغ العبارات الشرطية، فعل الشرط وجوابه مما يشير إلى مسار الفكر من المقدمات إلى النتائج، وأحيانا في عبارات التعليل لبيان الأوسط الذي يربط بين النتائج والمقدمات.
5
ويحيل المؤلف الشيعي إلى عدة مؤلفات ليست له. فيذكر كتاب الحيوان بطريقة لا شخصية دون ذكر أرسطو. فقد أصبح الكتاب ملكا للجميع، عنوانا لعلم بصرف النظر عن صاحبه الذي مات. تحول الوافد إلى موضوع مستقل. ويشار إلى كتب مفكري الشيعة الآخرين مثل عبدان. وقد يشار إلى مؤلفه ويتحدث عنه مبينا غرضه وتكامل مشروعه الفكري. وقد يحال إلى باقي مؤلفاته الأخرى التي تعرض لنفس الموضوع. ولا تخلو العناوين من جمل تدل على الموقف الفكري والنفسي والحضاري مثل «تحفة المستجيبين»، «الينابيع»، «الأصول والأحكام»، «الابتداء»، «العالم»، «المعاد»، «الكامل»، «النبوات»، «راحة العقل» ... إلخ.
6
ويخاطب المؤلف القارئ بفعل «اعلم». فهو صاحب رسالة يريد إيصالها إلى الناس. والعلم رسالة متبادلة بين المؤلف والقارئ، ذو طابع شخصي بين المتكلم والمخاطب دون الغائب، أرسطو أو غيره. وقد يشفع بالعلم «يا أخي» تأكيدا لرابطة الأخوة بين الاثنين.
7
وقد يشفع بفعل الأمر «اعلم» بدعوة قصيرة مثل «أيدك الله» أو بدعوة أطول لإعداد القارئ نفسيا وتأهيله لقبول الرسالة، دعوة له بالخير كما هو الحال في رسائل إخوان الصفا. وقد يستبدل بفعل «اعلم» فعل «اعرف» أو «تفهم».
8
وقد يكون النص إجابة على سؤال في عدة صيغ مثل «لقد سألت عن»، «وأما سؤالك عن»، «وأما ما سألت عنه» كما هو الحال في الفتاوى الفقهية بل وفي القرآن في الآيات التي تجيب على أسئلة في صيغة «ويسألونك عن».
9
وقد يكون الدعاء للمتكلم والمخاطب، للمؤلف والقارئ دون فعل «اعلم» مع مخاطبة القارئ في صيغة الجمع تأكيدا للتقدير والاحترام. ويتحول الدعاء إلى رجاء من المؤلف إلى القارئ بالمبادرة إلى رحمة الله خشية ضياع الوقت وفوات الأوان والاعتبار، والنظر في حال الدول، نهضتها وسقوطها.
10
وكما تتم مخاطبة القارئ في البداية إشراكا له في الموضوع تتم أيضا مخاطبته في النهاية لتوصيته وتحذيره. وهو خطاب فلسفي خالص، مغرق في الفكر الشيعي مثل تحذير القارئ من عدم طلب هوية وراء السابق بعد ظهوره لأن الكلمة علته. كما يلجأ الخطاب إلى كشف مأساة الإنسان في الحياة، وانغماسه في الحياة المادية، وإشراق جوهره من الحياة الروحية. ويطالب القارئ كما يفعل الصوفية بالتجرد عن أثقال البدن حتى تخف الروح وتشاهد بواطن القلوب، والسبع الطباق مشاهدة الذات للذات. هذا الإغراق في التصوف تعويض عن مآسي الحاضر. وهو ما يتسم به فكر المضطهدين من أجل الخلاص في المستقبل. والغاية سلب القارئ من إرادته وتخليصه من عالمه، وإدخاله في عالم الخلاص الوهمي لطاعة قيادة جديدة يكون لها النصر في المستقبل. ويتم الاعتماد على الأسلوب، السجع والبيان من أجل التأثير في النفس. فالحقائق صور وليست وقائع في الخارج. تهبط من العالم العلوي ولا توجد في العالم السفلي كما هو الحال في نظرية الفيض، من الأول، الفرد العلوي المبدع إلى الثاني الزوج المنصت ... إلخ. وتظهر لغة النور والظلمة، النور صعودا والظلمة هبوطا، النفس والبدن. والطريق إلى ذلك البحث عن إمام الزمان، والسلوك في دعوته، وطاعة أوامره. فهو فكر يهدف إلى إقامة تنظيم سري باسم الحكمة، وجذب البساط من تحت النظام القاهر، كلها إنسانيات وعاطفيات من أجل التعارض بين عالمي الواقع والخيال، والدعوة إلى الانسلاخ عن العالم تعويضا أو هروبا. تقوم على التشبيهات والتحليلات النفسية، والسجع والإنشاء، والمترادفات العقلية التي لا تدل على شيء. وأحيانا تكون الدعوات مشتركة بين المؤلف والقارئ بأن يجعلهما معا من أنصار التأويل واتباع الشريعة. والإيمان بالرسل، والاعتماد على العقل، وعدم اختيار الإمامة بالأهواء.
11
وتظهر البدايات والنهايات الدينية الإيمانية في أول الرسائل وأواخرها. فتبدأ بالبسملة بمفردها أو مع الاستعانة بالله. وتتكرر عدة لازمات مثل «الحمد لله الموفق والشكر للملهم» أو «إن شاء الله تعالى» أو «تبارك الله أحسن الخالقين» في قائمة المقالات. فالعلم اللدني أقوى أثرا وأشد يقينا وأعظم صوابا من العلم البشري الذي يقوم على الأهواء والصراعات وظلم الظالم وتسلط المتسلط. وهناك نهايات أخرى غير نمطية تصلي وتسلم على الرسول وآله. وقد تجمع لازمتين مثل «إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق» أو «وبالله التوفيق» وحدها.
12
ولا يهم إذا كانت هذه النهايات من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو المالك. فالوثيقة عمل جماعي. فبعد الدعوات والحمدلات والصلوات يضع الناسخ اسمه طالبا أيضا المغفرة ومعبرا عن أحواله وبلده وساعة الفراغ منها. ولا توجد في كل الرسائل عبارات النساخ ولكن فقط الحمدلات والصلوات وأحيانا التعبير عن الانتساب للدعوة الإسماعيلية.
13
وفي الخاتمة قد لا يوجد فرق أحيانا بين أهل السنة والشيعة في الدعوة إلى السلطان القائم. فالسلطة والمعارضة كلاهما طلاب سلطة. فتدعو الرسائل إلى إمامة المعز لدين الله الفاطمي وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المتممين. بل إنه اعتبر مفكرا وكاتبا وصاحب رأي سديد ومقياسا للفكر برفض تعدد الآلهة والتناسخ. وهو منصوص عليه ليس فقط في سلسلة الأئمة بل في الكون. فإذا كان الكوكب الدري دليلا على عبد المطلب بن عدنان فإن السابع الثاني أتى من المغرب وهو صاحب الهجرة المصرية المعز لدين الله الفاطمي؛ بل إنه كاتب ومؤلف. وفي خلاف بين رجلين حول معرفة الإمام بالغيب بين الإيجاب والسلب، رفض النعمان الفصل في الخلاف تملقا للسلطان الذي أفتى بأن الغيب على ثلاثة أنواع: ما احتفظ به الله، وما هو مخزون لصاحب القيامة، وما هو محتاج إليه في الشريعة.
14 (2) الألفاظ والمصطلحات
وتظهر أحيانا بعض الألفاظ المعربة مثل «الكروبي» لوصف الملائكة والجن، وهو لفظ يوناني تم تعريبه أو عربي. وبين كل لفظ ومعناه مناسبة خاصة. فلو ترجم اللفظ إلى آخر قد يتغير المعنى. وبتعبير آخر، بين الخاطرات واللغات مناسبات روحانية وشاكلات نفسانية، بالسريانية أو بالعبرانية أو بالعبرية، ولكل منها أسلوبها. فإذا ما تم التعبير عنها في مشكلة أخرى تغير الأسلوب،
15
وتظهر ألفاظ أخرى معربة مثل الأسطقس، السقمونيا أو ألفاظ مترجمة مثل الأركان بمعنى الأصول. ولا تعني «العناصر» ترجمة للفظ اليوناني «أسطقسات» بل تعني الأسس الثانية لأي شيء وهو المعنى العام مثل أركان العالم.
16
واللفظ العربي الغالب الذي تم نحته تلقائيا عند الكندي هو لفظ الأيس مفردا والأيسيات جمعا، وأيس فعلا والليس نفيا، وقد تصل كثرة الاستعمال إلى حد الركاكة وتغليب المصطلح على سلاسة الأسلوب، بل يظهر في الأدعية الأولى مع البسملات والحمدلات مما يدل على شيوعه وألفته وتحوله من مصطلح فلسفي إلى لغة الحياة اليومية. والغالب هو الأيس ثم الأيسية والأيسيات واسم الفاعل مؤيس ثم اسم الفعل تأييس، والنفي ليس. وقد تضاف صفة إلى اللفظ مثل الأيس الأول، والأيسيات الأرضية، والأيسية الإنسانية، والأيسية الحيوانية. وقد توضع الصفة قبل الاسم مثل «أول أيس». يوضع اللفظ في عديد من العبارات الفلسفية مثل: المعاني تجعل الأيس ثانيا. والأيس لا يصير ليسا، وأول أيس صور الأشياء كلها، والموجودات متساوية في حيز الأيس. والأيسيات متناهية. والله هو الذي جاء بتأييس الآيات لا من أيس.
17
وتستعمل الأمثلة العربية مثل «زيد»، «خالد» في القضية، موضوعا أو محمولا أو مضافا إليه.
18
ولا تظهر بعض الألفاظ اليونانية وحدها بل تظهر بعض الألفاظ من اللغات الشرقية مثل السندية والهندية والتركية والفارسية والزنجية. فهي مختلفة بالعبارة وفي مخارج حروفها، الحلق واللسان والأنف والشفتين. ولا يعني هذا الاختلاف في الحروف والمخارج أن تكون لكل لغة آلة وأداة خلاف اللغة الأخرى. هناك علم اللغة العام وعلم اللغة الخاص، وهي التفرقة المشهورة بين علم اللسانيات وعلم النحو.
19
ومهما تعددت أوضاع الرسل وتباينت شرائعهم فإن معدنا واحدا يتصلون به وإليه يدعون، ولغة واحدة وهدفا واحدا. فتعدد اللغات لا ينفي وحدة القصد. وقد قيل إن أول صلاة فرضت تسمى بالفارسية «مارنين».
20
ولفظ «الحكماء» هو اللفظ الموروث وليس لفظ الفلاسفة وهو اللفظ اليوناني الوافد. وقد يتم تخصيصهم بالحكماء المنطقيين أي البرهانيين.
21
ولا يذكر المفرد إلا نادرا. وهم فرقة مثل المتقدمين والروحانيين. أما لفظ الفلاسفة فيستعمل على الإطلاق. ونادرا ما يتم تخصيصه بالفلاسفة اليونانيين. ولا يعني لفظ «الحكماء» المعنى اليوناني العتيق، محبة الحكمة بل يعني العلماء في مقابل الجهال السفهاء. كلامهم مستمد من كلام الرسل، فالعقل والنقل بتعبير المتكلمين شيء واحد، ولا فرق بين كلام الحكماء وكلام الرسل أولي العزم. وكما قسم الحكماء الحكمة إلى علم وعمل كذلك فعلت الرسالة. فالحكيم له أستاذ وهو الرسول، والرسول له أستاذ مثل الحكيم. ومع أن الفلاسفة ليسوا من نسل النبوة إلا أنهم توصلوا إليها. فلا فرق بين التنزيل والتأويل، بين الشريعة والحكمة، بين الوحي والعقل. ويستعمل اللفظ في معنيين، إيجابي وسلبي ومحايد. المعنى السلبي موضع نقد، والإيجابي موضع تأييد، والمحايد مجرد عرض لعلوم الحكماء. والسلبي هو الأكثر شيوعا مما يدل على الموقف النقدي لحكماء الشيعة،
22
والمعنى المحايد مثل قسمة الناس إلى أبرار وأتقياء وعلماء وحكماء مقابل الفجار والأشقياء والجهال والسفهاء. وهو معنى يقبله العقل ولا يعارضه النقل. والحكماء هم أساسا المناطقة وتعريفهم للإضافة أي النسبة وتقسيمهم الضد ثلاثة أقسام، والجنس أربعة أقسام، والحكمة ثلاثة أقسام علم الطب والصناعات، وهو العلم اللدني، وعلم التنجيم وحركات الأجرام العلوية وهو العلم الأوسط، وعلم اللاهوت، وهو العلم الأعلى. أما العمل فهو أيضا ثلاثة أقسام، سياسة العامة، وسياسة العامة الخاصة، وسياسة الخاصة. وهي نفس القسمة للنبوة والرسالة؛ إذ إنها أوجبت معرفة الله ومعرفة السموات والنجوم والأرض والتفكر فيها، ومعرفة الأبدان، منافعها ومضارها، ومعرفة السياسات العامة والخاصة.
23
ومع ذلك يظل التمييز بين الحكمة والنبوة قائما. فسياسة العامة عند الحكماء تعني بناء المدن، وكيفية اللباس في حين أنها في النبوة إقامة الصلوات، وتسبيح الله، وإيتاء الزكاة وتوزيعها على الضعفاء، ووضع ناموس شرعي به صلاح الناس. والحقيقة أنه لا فرق بين الاثنين. فالسياسة العامة عند الحكماء والأنبياء إعمار الأرض، والشعائر في النبوة مؤسسات اجتماعية وعمرانية. وضع الحكماء أساس المدينة الفاضلة للناس كما وضع الأنبياء أسس الشريعة للأمة. وقد يكون الفرق بين الحكماء والأنبياء أن المعاني اللاحقة في أنفس الحكماء غير كاملة لأنهم وصلوا إليها بالمقدمات والقضايا المقترنة المتعاونة أي بأساليب البرهان وليس بالوحي المرسل، بالتأويل وليس بالتنزيل. وهو تمييز غير دقيق. فالبرهان هو الطريق إلى التنزيل، وما لا دليل عليه يجب نفيه. والتنزيل نفسه يطالب بالبرهان، ويجعل النظر أول الواجبات. وقد يوجد فرق آخر بين الحكماء والأنبياء هي العبارات والمصطلحات مثل جبريل وميكائيل. هي معان عند الحكماء وصور عند الأنبياء. فالخلاف في اللفظ وليس في المعنى. ما يسميه الحكماء العقول والنفوس المفارقة يسميه الأنبياء الملائكة. قام الحكماء بعملية التشكل الكاذب، استبدال الألفاظ الجديدة ألفاظ الحكمة بالألفاظ القديمة، ألفاظ الدين. لذلك قال بعض الحكماء الاسم غير المسمى وهو دليل عليه. وكانوا على وعي بهذا الاستبدال اللغوي بدلا من الباري استعملوا ألفاظ الموجود الأول، المبدأ العقلي، القوة الفاعلة، وهو ما أطلق عليه الحكماء أيضا أسماء العقل أو القلم فكان منها أثر منفعل هي النفس الكلية. فالفيض عند الحكماء هو إحدى صور الخلق عند الأنبياء. ومع ذلك يمكن الاعتراض بأن المعارف موجودة من دون الرسل، وأن الحكماء قد استطاعوا الوصول بالعقل الصريح إلى الحكمة ومن ثم يكون السؤال: وما وجه الحاجة إلى الرسل؟ والجواب أن الحكمة تلقين من أستاذ إلى أستاذ، ولا يوجد أستاذ أول. في حين أن في النبوة هناك تعلم من الرسول الذي في غنى عن الأستاذ. وهي حجة أشبه بإثبات وجود الله واستحالة التسلسل إلى ما لانهاية. وقد توصل الحكماء إلى بعض المعارف. منهم أطباء ومنجمون ومهندسون وموسيقيون.
24
والمرة الوحيدة التي أشير فيها إلى الفلاسفة اليونانيين فلبيان حدودهم وقصورهم عن النبوة بالرغم من محاولاتهم الوصول إلى حقائقها. وكل من أراد إدراك النبوة من المذاهب الأخرى، يونانية أو غيرها لم يستطع حتى لو بذل أقصى الجهد. فقد وضع فلاسفة اليونان أصولا كثيرة من الطبيعيات والرياضيات حتى استطاعوا من خلال الرياضيات إدراك الروحانيات ولكنهم قصروا في إدراك عالم النفس والعبادة، الأمر والنهي، والوعد والوعيد. وأقصى ما وصلوا إليه حكايات ورموز متناقضة لا برهان عليها على عكس ما أتى به الرسل الذين سبقوهم وإقرارهم بالمبدع، إرادته وخلقه وكأن المحك هي صور المعاد. وهذا ظلم للحكماء لأنهم أيضا أثبتوا خلود النفس، ثوابها وعقابها. والرموز والحكايات مشتركة بين الحكمة والشريعة، بين الفلسفة والدين. كما استعمل الفلاسفة البراهين والأدلة على وجود المحرك الأول ووحدانيته. فالفكر الشيعي هنا أقل انفتاحا من الفكر الفلسفي الخالص الذى وحد بين الفلسفة والدين كلية، ومن ثم ظل أقرب إلى الكلام منه إلى الفلسفة. وقد ذكر الحكيم مرة واحدة، وبطريقة لا مشخصة في علاقة النظر بالعمل، النظر ممهد للعمل، ونهاية الفكر أول العمل.
25
وقد يعني الشيعة بالحكماء أئمتهم أي حكماء الشيعة خاصة. فقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام عند الحكماء وذلك على النطقاء الست. كما أن صفات الفعل هم الحكماء الأربعة وأوصياؤهم الأربعة. وقد صرح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الحكماء المطيعين للأئمة علموا أن الشهادتين تدل على حدود الله. وهي نفي وإثبات. وهي ثلاثة حروف: ألف ولام وهاء إله تشمل جميع ما خلق الله، وما سن من شرائع نظرا للتطابق بين الحروف والأشياء والشرائع. وعند الحكماء يتم توارث الإمامة ولدا عن ولد، يمدون حججهم ولواحقهم بالتأييد. وبهذا المعنى يذكر أحد الفلاسفة أن أول ما يجب على أبناء الحكمة، معرفة هذه الحدود ومراتبها والإقرار بها، ومعرفة الإمام الذي لا مثيل له ولا نظير له في كل عصر وزمان. كما أن لفظ المتقدمين مثل الأوائل ليس حكرا على اليونان بل يعني متقدمي الشيعة. وهناك الروحانيون أيضا الذين يحكم بينهم الرسول أو الأئمة من الأولين ومن الآخرين إذا كان الرسول هو الابتداء والانتهاء.
26 (3) التأويل
والتأويل إحدى آليات الإبداع لأنه قدرة على إنطاق المسكوت عنه في النص وتمثل ما في النص من تجربة شعورية تطابق واقع الاضطهاد وتتفق مع نفسية المضطهدين، وضرورة إيجاد تأويل جديد يعارض تفسير السلطة القائمة ويشرع للمقاومة. لذلك استشهد حكماء الشيعة أو سجنوا بينما استوزر كثير من حكماء السنة. وقد يصل حد التأويل إلى وقوع في الباطنية والدخول في أعماق النفس وأعماق النص بعيدا عن الظاهر الذي يستأثر به السلطان وحكماء البلاط حتى يأتي يوم يثور فيه الداخل على الخارج، والعمق ضد السطح، والإمكان ضد الواقع، والإبداع ضد التقليد، والحركة ضد الثبات. ويدل على ذلك عنوان «الينابيع» للسجستاني. يتم تركيب القرآن على المضطهدين، علي وآله. لذلك ارتبط الفكر الشيعي بالمسيحية، استشهاد الحسين وصلب المسيح. كما تتعاطف المسيحية مع الشيعة تعاطف النموذج الفريد مع النموذج المتكرر مثل صلب الحلاج، والمسيح يصلب من جديد. الكشف عن الساق من السجود مثل صلب المسيح على الخشبة مكشوفا وإن كان قلبه مستورا.
27
ومن كثرة التأويل استحال وجود فكر مجرد بل مجموعة من التأويلات المذهبة الشيعية ضد التأويلات المذهبة السنية. والعجيب اتفاق الآية مع الواقعة وكأنها نزلت عليها مما يجعل التأويل أداة في يد كل صاحب قضية ظالما أو مظلوما، على حق أم على باطل. والعجيب اتفاق القرآن مع مذهب الشيعة. موضوعيا أو ذاتيا أو قراءة. ربما أن القرآن بطبيعته حمال أوجه قادر على أن يكون منقرئا لكل قارئ؛ لذلك أعجب به فلاسفة التأويل شرقا مثل الشيعة وغربا مثل الهرمنيطيقا الغربية المعاصرة.
28
وربما يوحي اتفاق الآية مع التفسير الشيعي والسني في آن واحد أن القرآن صورة بلا مضمون، قادر على أن يحتوي كل المضامين الممكنة. وهذا هو أحد معاني التشابه.
نشأ الفكر الشيعي من تأويل القرآن وحده ، قراءة الواقع في النص، والنص في الواقع وكأن الواقع الشيعي الخاص سبب نزول جديد. وقد كثر القرآن إلى حد تكراره وتقطيع الآيات. ولم توضع الآيات في النص بين قوسين، فلا فرق بين النص والآية خاصة وأن محقق النص شيعي أيضا، والقرآن يساعد على التشخيص نظرا لأسلوبه الإنساني. فالله يخاطب السموات والأرض والجبال كما يخاطب الإنسان. بل ويشخص الأشياء مثل جدار يريد أن ينقض، وإجابة الأرض والسماء
قالتا أتينا طائعين
كنوع من التصوير الفني والتعبير البلاغي والأسلوب الأدبي في عصر الشعر وعند أهل الفصاحة. ويكون ذلك تقوية للخطاب الفلسفي في نشأته لما تتصف به الآية من بلاغة وقدرة على التأثير في النفوس.
29
التأويل رغبة في شد القرآن إلى الوضع النفسي المتأزم والعالم الضائع كنوع من التأييد المعنوي للذات. ومن تخلف عن التأويل لا يحيط بحقيقة الشيء، ويقع في التشابه والشك. لذلك كان العلم بالتأويل هو علم بالانتهاء والإحاطة.
ويشمل التأويل تأويل النص وتأويل الواقع. فالمولود يخرج من بطن أمه باكيا نظرا لدخول الهواء الرئتين، وخروج الصوت عند الأطباء، وحزنا على العالم كما يؤول الشعراء، وأحيانا يكون التأويل من الكون إلى الشرع، من العالم إلى الإنسان، من العام إلى الخاص، وأحيانا من الشرع إلى الكون، من الخاص إلى العام. يحول النص إلى خاص، والخاص إلى أخص، والنص إلى شيء دون الاكتفاء بالدلالة اللغوية. فاللفظ يحيل إلى المعنى، والمعنى يحيل إلى الشيء، ويكمن جمال التأويل في تحويل الخارج إلى الداخل، والداخل إلى الخارج كما هو الحال عند الشعراء.
30
وفي القرآن
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ،
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، تقابل العالم الصغير والعالم الكبير عند إخوان الصفا، وعلم الميزان عند الكرماني. لذلك يختار الشيعة الآيات التي بها ظاهر وباطن مثل الحجاب، قصة عيسى ومريم وزكريا، موسى والخضر، لذلك اشتق لفظ القرآن من القران أي الربط بين شيئين والجمع بين طرفين كما هو الحال عند إخوان الصفا التي خرجت من نفس البيئة وتحت نفس الظروف. التأويل هنا شيئي يقوم على المطابقة بين الكلمة وما تشير إليه في الخارج. ولا يختلف ذلك عن التفسير التاريخي عند أهل السنة. مطابقة الوصف القرآني للحدث التاريخي. إنما الخلاف في التاريخ المختار، تاريخ السلطة عند السنة وتاريخ المعارضة عند الشيعة، تاريخ الدول عند السنة وتاريخ الشعوب عند الشيعة.
والفكر الشيعي كله يقوم على التأويل أي تحويل المنقول إلى معقول دون برهان علمي أو عقلي رصين باستثناء التجارب النفسية والمواقف السياسية. ويتراوح استعمال المنقول والمعقول في ثنايا النص. وعادة ما يبدأ بإحكام عقلي في البداية ثم تظهر الشواهد النقلية بعد ذلك متقطعة حتى تصبح بديلا عن الخطاب العقلي. ثم تتكاثر حتى تصبح كل شيء، ويصبح الفكر الفلسفي الشيعي مجرد إسقاط الأحوال النفسية الفردية والاجتماعية على النصوص وقراءة النصوص عليها بلا توسط من وافد أو موروث. وأحيانا تذكر الآيات دون وضعها بين قوسين كبديل عن الخطاب الفلسفي وكأنها معبرة بذاتها وليست في حاجة إلى صياغة نظرية عقلية. وتستعمل بديلا عن الأسلوب في بناء الموقف وعند الحوار. وأحيانا تكون الآية جزءا من آية يتم تفسيرها ثم يأتي الجزء الآخر وكأن الآية تدخل في النسق العقلي جزءا جزءا مثل آية
محمد رسول الله والذين معه
فكثر الآيات حتى إنها لتصبح بديلا عن الخطاب الفلسفي. ولا توضع بين قوسين بل تستعمل كأسلوب حر كما هو الحال في النصوص الفقهية أو عند الجماعات الإسلامية المعاصرة لإيهام العامة وتجريدها باستدعاء سلطة النص مقابل استعمال أئمة الظلم. فالنص سلاح ذو حدين. ولا يفل الحديد إلا الحديد.
31
ويدل القرآن الحر على أنه لا فرق بين الآية القرآنية والخطاب الفلسفي. إذ يقوم كل منهما بدلا من الآخر على التبادل. كما يدل على أن الفكر الفلسفي قريب من مصدره، وأنه لا يتداخل بين المصدر والفكر الفلسفي أي مصدر آخر وافد أو موروث. كما يدل على أن التنظير العقلي التلقائي ما زال في بدايته. مساحته ما زالت قليلة. وأحيانا تكون الآية حرفية ولكنها متداخلة مع الخطاب الفلسفي بلا بداية ولا نهاية . وأحيانا يبدأ الخطاب بقال الله تعالى، ولكن القرآن أقرب إلى النقل بالمعنى وليس حجة نقلية. وأحيانا يبدأ الخطاب بقرآن حر وينتهي بقرآن حر وكأن القرآن الحر هنا بديل عن الخطاب الفلسفي.
ويستمر ذلك عبر العصور حتى القرن الرابع عند السجستاني والقاضي النعمان وحاتم بن عمران. ويبدأ بالاختفاء كلما زاد التنظير العقلي وملأ مساحة كافية بين النص كمصدر وبين الخطاب الفلسفي كتنظير له.
32
وابتداء من القرن التاسع لم تعد الآيات تثبت شيئا، ولا تدخل في منطق الفكر بل تظل خارجه، مجرد رصد لتكملة الخطاب الديني. وكلما تأخر الزمان قل الإبداع وزادت لحظة الإنشائيات مع عناوين تغلق الاجتهاد، وتعلن الكمال مثل «الكافية». وتستمر طريقة تفتيت النص وتخريج المناط وبيان كل جزء إلى أي شيء يشير مثل التفسير الشيعي في علوم التفسير. يبدأ التفسير بالواقع، والإنسان الحي، وينتهي بالخيال، المنتقى الروحاني.
ويستعمل لفظ «القرآن» كثيرا مما يدل على أنه المصدر الوحيد، والمرجع الأوحد في الفكر الفلسفي الشيعي، وأحيانا يبدو مشخصا وكأنه كائن حي مثل الأتماء السبعة، والأساس، والحكيم، وصاحب التأويل. وهو كلام الله. ينطق بالحق منزل من اللوح المحفوظ. ومن هنا جاء شرفه، على قلوب الناس، ويخاطب كل مؤمن كما يخاطب النبي يدخل في قلوب المؤمنين، في القلب وفي الطبيعة، في الداخل وفي الخارج، وأحيانا يتحسر من القلب ويتحسر على الطبيعة فلا يبقى منها إلا رسمه، ويصبح حبرا على ورق. وهو معجز لأنه لا يخلو منه شيء من ضروب الكلام، ومليء بالأعاجيب، وبه من الحكمة بلاغة وأداء. له ظاهر وباطن، ويسمح بالتأويل. يخاطب المستحق في منزلة استحقاقه، يعطي كل شيء وصفه، ويضع كل شيء في موضعه. فالقرآن والطبيعة عالم واحد. وهو هيولى لسائر العلوم الرياضية والعقلية، ومعدن معرفة الحدود الروحانية للقائمين بالقسط المؤمنين بمثالهم ودليلهم. يمدح خلق الأنبياء. ودور القرآن هو دور محمد، خاتم الدائرات العظمى. هو الدور السابع، خاتم الدائرات، ومنتهى السدرة طبقا للسبعة التي في القرآن: محمد، وأحمد، ويس، والمزمل، والمدثر، والضحى. وله أربعة عشر اسما، سبعة مذكورة وسبعة أخبر هو بها.
33
ويظهر التأويل العددي للقرآن أولوية العدد سبعة بالرغم من أن القرآن يذكر الأعداد كلها من الواحد حتى الثاني عشر بلا تفضيل، وكذلك المائة والألف. فالسموات سبع طباق أي النطقاء السبعة. التأويل العددي له ما يبرره، وجود الأعداد في القرآن. وبضربها وجمعها وقسمتها دون طرحها، فالطرح سلب ونقص، تخرج أعداد أخرى مثل السبع عشرة ركعة مجموع الصلوات الخمس، وتكبيراتها أربع وستون، وتسليماتها خمس. فيكون المجموع تسعا وتسعين، عدد أسماء الله الحسنى. ويتكرر نفس التأويل لنص جديد. والقرآن نفسه هو الذي يعطي الأولوية للعدد سبعة. وتتعدد الحسابات وتنتهي كلها إلى العدد المطلوب إثباته مثل العدد تسعة وتسعين الذي قد يثبت أيضا السبع المثاني، والأربعة عشر نبيا، حججا ظاهرة، واثني عشر نبيا حججا باطنة وست مراتب للإيمان: المؤمن، والمحرم، والمحل، والمأذون، والمباح، والحجة نقلا لأحكام التكليف الخمسة فيكون العدد تسعة وتسعين. الكواكب سبع طوالع، والبروج اثنا عشر، وكلاهما تسعة عشر. وأحيانا تدخل الكواكب في الحساب، السبع سموات، والسبع الأرضية. والسبع الشداد وما بينهما، فالكواكب لا تدبر بنفسها لأنها لا تعقل بل لأنها ترمز للملائكة. الكواكب المثل، والملائكة الممثول. ولأول مرة يظهر المصطلح عند القاضي النعمان وإن لم يظهر عند السجستاني. فهناك اثنا عشر ملاكا روحانيا، وتسعة عشر ملاكا لحراسة النار. فلا فرق بين أسماء الله الحسنى ومظاهر الطبيعة في العدد. كلاهما تسع وتسعون. ويتم تكييف حساب الملائكة والأجرام والسموات والأرض وما بينهما بحيث ينتهي الحساب إلى هذا العدد. ومن ثم يخطئ المنجمون في اعتبارهم أن هذه الكواكب الظاهرة هي المدبرة. وكيف تكون كذلك وهي جماد لا عقل لها ولا نفس؟ وكيف تكون مدبرة والله هو المدبر؟ ومن ثم يكون تصور الشيعة للكواكب أفضل من تصور الفلاسفة الذين جعلوها نفوسا وعقولا وحياة عوالم متوسطة بين الله والعالم الطبيعي.
34
وبالرغم من أن السابع من النطقاء هو الآخر إلا أنه لأجله خلق النطقاء الستة الأولى. وهو ما يشبه قول المسيحيين عن علاقة المسيح بأنبياء بني إسرائيل. بالرغم من أنه آخرهم إلا أنهم خلقوا أو تكرروا لأجله. فالوسيلة تؤدي إلى الغاية، والغاية تخلق الوسيلة. الخلق في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع. الأيام سبعة، والنطقاء ست، والسابع القائم عليهم. وبينهم أئمة مستوون.
ويتكرر التأويل العددي عند أكثر من حكيم شيعي. ويستأنف قيس بن منصور في «الأسابيع» ما بدأه
بسم الله
سبعة حروف
الرحمن الرحيم
اثنا عشر حرفا تدل على الأئمة السبعة والحجج الاثني عشر. والملائكة الموكلون بجهنم تسعة عشر كما يظهر التأويل العددي في أحاديث الرسول في التوحيد بين يوم الصوم ويوم النحر وبينهما تسعة وتسعون يوما.
35
بسم الله الرحمن الرحيم
أفضل الصفات وأعلاها لأنها أربع تدل على الأصول الأربعة.
والسؤال الآن: هل التطابق بين الأعداد والحروف مصادفة أم أن له ما يبرره في الواقع والحقيقة؟ هل هو مجرد رغبة عند الإنسان الفصامي في البحث عن الاتساق؟ وأحيانا يتحول التفسير العددي إلى فلسفة في التاريخ عن الأيام وتداولها بين الناس، وأن علامات الدول، بدايتها ونهايتها ليس الحرفيون بل النطقاء السبعة مثل الأنبياء بين أقوامهم. فكل نبي دور، وكل ناطق دور، وقوانين التاريخ لا تتغير.
36
ويقوم التأويل على حساب الحروف والجمل. ويأتي في المقدمة العدد سبعة ومشتقاته مثل السبعوية. وكل من الياء والسين والنون في
يس
لها عدد رمزي. وتشير الياء والسين على الأنحاء السبعة. وكلمة
كن
تدل على سبعين حدا في حساب الجمل التي تدل على السبعة أدوار التي تقوم مقام السبعة حدود العلوية والسبعة الجسمانية الحادثة عن العلوية، وهي السلسلة التي ذراعها سبعون ذراعا. فالكاف تدل على ثلاثة أحرف تدل على الحدود العلوية هي الكلية والسابق والتالي. والنون تدل على ثلاثة أحرف تدل على الحدود العلوية هي الجد والفتح والخيال. والحدود السفلى ستة: الناطق، والأساس، والإمام، والحجة، والداعي، واللاحق. وتتداخل الحروف مع حساب الجمل مع تاريخ الأنبياء. وحروف
بسم الله الرحمن الرحيم
تسعة عشر حرفا وهي حروف محمد وعلي والحسن وفاطمة. وهي عدد الملائكة الكبار الشداد. الأربعون ستة مقام النطقاء أي أربعون حدا بين يديه يخبرونه بظهور القائم الذي بلغ حد النطق . والعدد سبعون حجج مثل: جناح، وملحق، وداعي، ومأذون، وصاحب، ومستوجب، ومستأنف، ومحرم، ومستجيب، ومستعيذ ... إلخ. والبسملة أم الكتاب وتمامه. لها أربعة حدود ودلالة على الأصليين. والقائم تسعة عشر حرفا دلالة على الأئمة السبعة والاثنتي عشرة حجة، أربع كلمات، وتسع قطع، وعشرة جواهر، وتسعة عشر حرفا. ومجموعها أربعون لا تنسخ إلى يوم القيامة. بهذه الطريقة يمكن جمع الأعداد في كل آية والعثور فيها على دلالات نفسية من صنع الخيال لإيجاد نوع من الاتساق مع النفس كبديل وتعويض عن عالم الواقع والتضاد.
37
ويجتمع العدد مع الحرف ويصبح حساب الحروف والجمل ضمن التأويل العددي. فالألفات في البسملة خمسة، والحدود الأربعة الروحانية هي: النفس، والجد، والفتح، والخيال. والهاء في البسملة مرة واحدة أي إن الحد لا يناله أحد من الجسمانيين إلا واحد هو الناطق. والميم ثلاث مرات أي إن الخيال لا يناله من الحدود الجسمانية إلا ثلاث: الناطق، والأساس، والإمام. فيفيدون اللواحق الاثني عشر، وهي الأبواب المتفرقة. والنون واحدة تعني أن ما ناله الناطق من الأصلين إفادة أهل النجدين على نوع واحد رمزا من غير شرح ظاهر أو باطن، تنزيلا بلا تأويل. والأصلان بسين وحرفين ومرتبتين في البسملة أي إن ما استفاده الأساس من الأصلين لأهل النجدين على وجهين، ظاهرا وباطنا، رمزا أو سرا، تنزيلا أو تأويلا. والباء مرة واحدة، أصل واحد، أي إن ما ناله الإمام من الأصلين إفادة أهل النجدين على نوع واحد رمزا من غير شرح والسين مرة واحدة أي إن اللاحق يفيد ما هو دونه من الأجنحة ما يناله من متممه شرحا من غير رمز على وجه واحد. والباء دليل على الجناح لأنه به ينال المستجيب سبيل الرشاد. وبه يعمل كل مسترشد إلى البيان والثواب الأبدي مرة واحدة أي الجناح اللاحق يفيد المستجيبين شرحا من غير رمز على سبيل واحدة. والباء زائدة وليست أصلية منها، وسائر الحروف منها. وكل حرف إما برمز أو من غير رمز، بوجه واحد أو على أوجه عديدة. والحقيقة أن هذا التفسير لغوي حرفي وليس اشتقاقيا شخصيا في الأئمة والأوصياء. وهو مذهب يمكن رفضه أو مقابلته بمذهب آخر، خاص وليس لكل عصر، وهمي في عالم الخيال، طائفي حتى ولو كانت طائفة المضطهدين. ويكون التفسير الثوري أفضل في الإعلان عن الاسم. ويظهر الجمع بين التفسير العددي وتفسير الحروف عند معظم حكماء الشيعة. الباء دليل على الإمام لأنها حرف نداء في أول الكلمة وحرف النسبة في آخرها لأن النسبة الروحانية متصلة به من جميع الحدود عند الكشف.
38
ويبدو الفكر الشيعي أحيانا معاديا للقياس والاستنباط دون معرفة الطبيعة والكون والأجرام وعللها؛ لذلك ذم القرآن القياس. وإذا كان القياس أداة السلطة في السيطرة فإن التحرر منه يصبح أداة المعارضة؛ لذلك قال الشيعة يقول الإمام المعصوم كأصل من أصول الدين بدلا من القياس، لا فرق بينهم في ذلك وبين أهل الظاهر في رفض القياس. الاستنباط ضد النص، والقياس ضد الآية، والعقل ضد الوحي، والاستدلال ضد الإيمان، والروحاني له الأولوية على الجسماني. شياطين الإنس هم الذين عكفوا على الظواهر دون الحقائق. وشياطين الجن هم الذين اقتصروا على العقليات دون الحق وإدراك الأمور الخفية فانفروا عن السمع. والشياطين من الشطن أي البعد. وراحة العقل ضد الإحساس بالفصام بين واقع مرفوض ومثال لم يتحقق لتحقيق الوئام بين الأنا والنحن، بين الذات والموضوع. بين المعرفة والوجود كما هو الحال عند الصوفية.
39
والاستشهادات غير دقيقة، والتأويلات غير موضوعية، مهمة التأويل إعادة تفسير الآية بحيث تتفق مع النسق المذهبي. فالنسق سابق على التفسير، والفكرة سابقة على الآية وليست مستمدة منها، والآية تالية لها وشهادة عليها كما هو الحال عند الفقهاء وأصحاب النقل والأشاعرة. هذا هو منطق التفسير كله، الفكرة من خارج الآية وليست من داخلها، والآية شهادة عليها.
وخطورة التأويل المشخص هو أنه تأويل محدد، لفرقة واحدة، في نسق واحد، في موقف نفسي واجتماعي واحد يقضي على عموم الحكم لصالح خصوص السبب. كما أنه تأويل وقائعي تاريخي حدثي يقضي على الدلالة العامة التي يمكن أن تتكرر في حوادث مشابهة. وهو تأويل شخصي ذاتي يقضي على الشمول والموضوعية إذا لم تتوافر التجربة المشتركة. وقد يكون التأويل أحيانا بعيدا يرفضه العقل، ويعارضه الفهم وتأباه البداهة. فالموقف النفسي ليس كل شيء في التطابق بين المعرفة والوجود.
رابعا: من علم العقائد إلى تاريخ الأديان
نشأ الفكر الفلسفي الشيعي بتطوير علم الكلام إلى فلسفة وتحويل علم العقائد إلى تصورات نظرية في العالم سواء بنفس المصطلحات مثل «النبوة» و«المعاد» أو مع قراءة جديدة لها مثل «المبدع» و«الإبداع» بدلا من الخالق والخلق، وتحويل الفرق غير الإسلامية إلى تاريخ مقارن للأديان، وتحويل قصص الأنبياء إلى فلسفة في التاريخ. ويختفي العدل للشعور بالظلم. يتضح من الفكر الشيعي خروج علوم الحكمة من علم الكلام. فالموضوعات واحدة، تحولت من الكلام العقائدي إلى رحاب الفلسفة الأوسع بمصطلحات جديدة. فالذات هو المبدع، والخلق الإبداع، والعقل والنقل التأويل. وبعض الموضوعات الكلامية بقيت في علوم الحكمة بألفاظها مثل النبوة والمعاد والإمامة. ويتم ذلك كله دون استعانة بالوافد بل اعتمادا على تحليل التجارب النفسية والاجتماعية لجماعة المضطهدين. استطاع الشيعة أن يعطوا فلسفة للعقائد أو أن يحولوا العقائد إلى نظريات فلسفية حول الإبداع والخلق، والنبوة والمعاد، وفلسفة الأديان وفلسفة التاريخ.
ويتم عرض فلسفة الشيعة مرة واحدة دون استعراض نصوصها زمانيا نصا نصا لتفادي التكرار وفي نفس الوقت المحافظة على تاريخيتها. وكان يمكن وضع هذه النظريات في الأجزاء الثلاثة الأخيرة عن الإبداع في علوم الحكمة النظرية والعملية ولكن تم وضعها هنا مع أنها خاصة بالمضمون وليس بتشكله من الوافد والموروث لبيان كيفية تنظير الموروث دون الاعتماد على الوافد بل في أتون المعارك السياسية كنموذج للتنظير المباشر للواقع اعتمادا على النصوص الأولية وحدها. كما أن المجلد الثالث بأجزائه الثلاثة الأخيرة عن الإبداع خاص بإعادة كتابة علوم الحكمة القديمة بناء على الوافد الغربي الجديد وظروف العصر السياسية والاجتماعية الحالية باعتباره أيضا فكر المضطهدين، طبقات وشعوب. (1) الإبداع والخلق
وهو ما يعادل نظرية الذات والصفات والأفعال عند الأشاعرة وأصلي التوحيد والعدل عند المعتزلة في علم الكلام القديم. والحديث عن الإبداع كفعل أكثر من المبدع كشخص خوفا من التجريد على عكس أهل السنة الذين يتحدثون عن المبدع كشخص أكثر من الإبداع كفعل خوفا من التشبيه. فأهم صفة في المبدع الفعل ونفاذ الأمر، المبدع العملي وليس المبدع النظري، المبدع في إبداعه وليس المبدع في ذاته؛ لذلك أتت الأولوية للإرادة على الحكمة كما هو الحال عند الأشاعرة إرادة المظلوم في مواجهة إرادة الظالم، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة فلا يفل الحديد إلا الحديد. وتتوالى على المبدع الصفات والأسماء والألقاب قبل أن يتجلى في أفعال الإبداع. ويتداخل الاسم والصفة واللقب واللفظ معا. ومع ذلك ليس المهم اللفظ بل المضمون. فكما كتب الرسول
بسم الله الرحمن الرحيم
اعترض من لا يعرف معاني اللفظين، ورضي الرسول «باسمك اللهم»، وهو موضوع صغير نظرا لأن المبدع يتجلى في الخلق والنبوة والمعاد وربما الإمامة. ما قيل عن المبدع قليل في حين أن ما قيل عن الإبداع أكثر، وما قيل عن تجليات الإبداع في النبوة والمعاد أكثر فأكثر. والأسماء أهم من الصفات، إذ يسهل فيها التأويل والإبداع.
1
وقد ذكرت الصفات في القرآن مثل العلم والوحدة والكلمة والجد أي القوة والبخت أي القوة المتصلة به. وهي لا تشبه الحدود الدنيوية من صفاته الجد والفتح ومثلها عند الصوفية مثل ابن عربي. وهي صفات مركبة بالخيال. وأفضل الصفات. وأعلاها
بسم الله الرحمن الرحيم
أربع كلمات دالة على الأمر والإرادة. وقد تم تجسيد الصفات الإلهية في أشخاص الأئمة وحركاتهم. فإذا جاء الرب فإنه يجيء كرب المنزل. له وجه وعين ونفس ويدان. الوجه دليل على السابق، متحد بالكلمة وهي غير الله. والأعين الأصلان والحدان والخيال. والنفس هي النفس الكلية. ونفس عيسى نفس الرسالة. واليدان هما الأصلان، وكلاهما يمين، دليل على الباطن لأن الشمال هو الظاهر. والسموات المطوية بيمينه دليل على النطقاء أرباب الظواهر. فدعوتهم وفضلائهم مطوية في التأويل.
وقد اختلف علماء الشيعة في العلم الإلهي. إذ قال علماء العامة وهم أهل العمى والتيه أن الله علم آدم كل شيء وهذا جهل. وقد يعني علماء العامة هنا فقهاء أهل السنة، فقهاء السلطان، وهو أن الله علم آدم أسماء الأشياء. فاللغة توقيف. وقال بعض علماء الشيعة أن الله علم أسماء أئمة الحق وأسماء أئمة الجور، وليس الأمر كذلك. ويرى القاضي النعمان أن الله علم أسماء من اختص من عباده ليقيم عليهم الحجة حتى لا يكون للناس حجة.
2
ولله أسماء عرفها البعض وجهلها البعض الآخر. وتشير الأسماء الحسنى إلى الأئمة. وهم تسعة وتسعون بين حكماء وأوصياء ونطقاء وأسس وأتماء وخلفاء وأصحاب الكشف كما نص على ذلك الحديث. ويمكن الاعتماد عليه لتأويل أسماء الله التسعة وتسعين التي يدخل الجنة من يحصيها مع تطبيقها على الأئمة. فهي صفات فعل دون أي فرق بين الصفة والاسم. وهم الحكماء الأربعة وأوصياؤهم الأربعة في كور الإقرار، والثانية والعشرون في أدوارهم الأربعة في كور الإقرار، ثم النطقاء الأربعة في كور التعبد، ثم الناطق وأساسهما والأتماء الأربعة عشر في دوريهما، وصاحب الكشف، والخلفاء الثمانية في كور العلم. فهؤلاء التسعة وتسعون اسما على النحو الآتي:
ومن الواضح أن الحديث بصيغته المذكورة به زيادة مثل زيادة حديث الفرقة الناجية عند أهل السنة طبقا للإيقاع والوزن، اليهود واحد وسبعون، والمسيحيون اثنان وسبعون، والمسلمون ثلاث وسبعون وجعل فرق الشيعة من الضالة، وفرقة أهل السنة وحدها الناجية.
3
وإنكار التأويل وقوع في الشرك والتشبيه. والشرك طبقا للحديث أخف من دبيب نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء،
4
فالرحيم في البسملة دليل على الأساس. والحروف الستة تعني الأسس الستة لأنه ليس للقائم شريعة يحتاج فيها إلى أساس لتأويلها. والرحيم أرق من الرحمن أي إن الأساس أرق لأهل الحرم بما فلتحم فيه من بيان ظاهر.
الناطق تعطفا عليهم ورحمة لهم. والرحيم مشتق من الرحمة طبقا لحديث الرسول أي إن رحمة الأساس صلة الرحم للمحققين دون المبطلين، وللأبرار دون الفجار، بها ينالون المغفرة. فضلة الرحم تزيد في العمر كما هو في الحديث. وهي من وصل الأساس بالناطق، واللاحق بالمتمم، ومن ثم يؤول الفكر الفلسفي الشيعي أحاديث التوحيد على الإمامة.
5
ويهتم الشيعة بالقدم والأصل والنشأة تأصيلا للأشياء، وبحثا عن الأصول من أجل ربق الظلم والذهاب إلى ما وراءه لمزه من الأساس وكما هي الحال عند الصوفية في عهد الذر وعند إخوان الصفا في أمر
كن
ويرتبط الخلق بالمادة، مادة الخلق، وبالزمان، درجات لخلق وتكون النشأة والأصول للطبيعة والإنسان، ما من مادة قديمة أو من لا مادة بفعل الأمر
كن فيكون . فتم خلق الأرض مثل النبات بظهور الأخسام من غير منطقية، والأسواح بقوة إلهية. ثم استوى إلى السماء وهي دخان. وأمر السماء والأرض بالإتيان طوعا أو كرها فأتتا طائعتين. وخلق كل دابة من ماء ومنها الزواحف.
وقد تكون نشأة الإنسان مادية، «من ماء دافق، من مني يمنى، من نطفة أمشاج». وهي نشأة الإنسان من حيث هو إنسان. أصل الإنسانية. جميعا على نسق واحد. وهذه هي النشأة من شيء، خروج شيء من شيء طبقا لنظرية التطور التي تقوم على الاتصال. وهنا يبدو ارتباط الفكر الشيعي بعلوم الحياة كما هو الحال عند إخوان الصفا، فالموت والحياة مرتان. أما الجان فمخلوق من نار السموم وهو المستودع للطائف منذ البداية وفي الانتهاء هو الأساس. والسموم غاية للطائف، والنار حد الكروبية العالي على حد الروحانية لأن منهم مبتدأ الأدوار وهم نهايته. الحمل ابتداء، والكره الإظهار للوجود. فتصبح المراتب أربعة: من الحدود الجسمانية إلى الحدود الروحانية إلى النفس الكلية إلى الإبداع الأول صعودا أو من الإبداع الأول إلى النفس الكلية إلى الحدود الروحانية إلى الحدود الجسمانية نزولا.
6
وخلق الإنسان على سبع طبقات. والعقل مثل الشمس، والنفس مثل القمر لأن الشمس لا تختلف في حركتها. والعقل يظهر في الإنسان من أربعة مواضع، اثنان لطيفان، واثنان كثيفان. الأول العزيزة، والثاني الرسول، والثالث الشريعة، والرابع التأويل. والأول دون الثلاثة يوقع في التعطيل، والأول والثاني دون الاثنين الآخرين يوقعان في العمى والضلال. والأول والثاني والثالث دون الرابع توضع في القمة والتشبيه. أما الأربعة فهو التمسك بالعروة الوثقى.
الحكمة بالعزيزة، والتدين بالرسالة والمعرفة بالتأويل. وترتيب الأربعة بحسب اللطافة والكثافة. وهما مفهومان طبيعيان. وواضح المراتب والتدرج والمقامات الفلسفية عند الشيعة. والظل ساكن والشمس دليل عليه. فالكون تمام الكون بقوة الشمس والقمران أصلان واسمان. والعلم هو عهد على النفس إلى ما فيه نجاتها من ظلمة الجهل إلى نور العلم على المستوى الروحانيات دون البقاء في الطبيعيات وإلا كان الخسران المبين.
7
ويرتبط الخلق بالزمان فقد يكون دفعة واحدة وقد يكون على فترات. والزمان نسبي؛ إذ إن يوم الله خمسون ألف سنة مما يعد البشر، وهو يوم صاحب الدور. لذلك ظهرت الأعداد أساسا للخلق. إذ خلقت السموات والأرض في ستة أيام، وفي يومين. وقدرت فيها الأقوات في أربعة أيام. وخلق سبع سموات في يومين، وفي ستة أيام إشارة إلى النطقاء الستة.
والحمل والفصال ثلاثون شهرا أي الاتصال بالحدود الجسمانية وهي اثنا عشر. والشهور اثنا عشر؛ أربعة حرم، بعضها في الأحسام وبعضها خارجها. مقاماتها ثابتة في اللوح المحفوظ الذي انتعشت به أنفس الأشخاص الضالة. ومع ذلك الإنسان قابل للارتقاء في المقامات حتى إذا بلغ الحد الخامس أصبح له من الحدود أربعة حرم. ويكون تسلم الحدود الخمسة السفلية، واتصل به الفيض من الخمسة العلوية حتى يصل إلى حد الثمانية التي هي حملة العرش، عرش الله الأدنى لأنها جسمانية ومثالتها الحدود العالية في الحضرة الباقية الحاملة لعرش الله الأعلى. ثم يرتقي بالرفعة والكمال إلى حد الأحد عشر وهي بمنزلة القمر إلى حد الشمس. وهي بمنزلة المتم إلى حد الكمال. وروح المتم هو حجاب الشمس. فالفيض نيل العطاء من أعلى تعويضا عن الأشداد والقحط من أسفل. والحدود والنظام والرقي من أعلى تعويضا عن كسر الحدود والنفاق استتاب النظام من أسفل. وكذلك يتم تفسير السبع المثاني والسبع الشداد على نفس النحو. هناك الأتماء الستة والسابع التمام. وهي موجودة في العالم البسيط، روحانية لطيفة، وبواطن سبع رجال من الأتماء ترتقى مراتبها. والسابع هو الناطق عنها، وهي السبع الشداد. وكذلك العدد تسعة عشر هي النفس اللطيفة أو نفس الشخص الكامل تلوح بعشرة، وهي الحدود الواقفة على الصراط، والثلاثون شهرا. منازل القمر، والابتداء الثاني بالشخص الثاني. وتدور الدائرة على القطب الحقيقي الممتد إلى الثلاثين، والعلة الماسكة للجميع، الصورة البشرية المرتقية في الوجود. والأربعون الناطق السابع صاحب الكشف القائم الذي تحول من القوة إلى الفعل ليشير له أربعون حدا. تظهر مع قائم الزمان. والأربعون حسنة هي أيضا حجاب المراتب العالية، رفقاء الاسم الجليل.
8
وهناك نشأة أخرى تقوم على الانفصال، خروج شيء من لا شيء دفعة واحدة، مثل خلق السموات والأرض بأمر
كن فيكون
مع أنها أيضا في سياق آخر
في ستة أيام
ولكن ليس على التخالق أي خروج شيء من شيء بل على الإبداع، خروج شيء من لا شيء. يكون الخلق دفعة واحدة، الأمر والعلم والكلمة.
9
والإمامة جوهر الخلق. فمن أجل التفاوت في الخلق استقامت أمور العالمين. وإن استحالة التفاوت في الخلق فإن ذلك يعني عدم تفاوت الخلق لما خلق له أي الموافقة بين النطقاء. وكما خلقت السماوات سبعا طباقا يعني النطقاء السبعة الذين بينهم مطابقة المؤيدين بالأصليين، ومن التأويل للأسس بعدهم. التفاوت استقامة، والسلب إيجاب، والفتق رتق بلغة الصوفية. وكما بدأ الخلق بآدم يعود بالقائم، وللحروف دلالة على الخلق في أمر
كن
الكاف على السابق، والنون على اللاحق في دور آدم لذلك يتسم القسم بالحروف، والكتابة أي الخلق.
10
والله هو الفاعل الحق كما هو الحال عند الأشاعرة. وهو قادر على فعل الضدين، الحياة والموت، الموت والبعث، النار من الأخضر. والكلام الأول سبب استقامة أركان العالم وأجرامه وأحواله وليس اختيار الناس. كل شيء بأمر الله. وتظهر الأحاديث كشواهد على أن الله هو الفاعل الحق. فهو الذي خلق القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى آخر القيامة مثل باقي الأحاديث المروية في علم العقائد التي تجعل السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. كما أن الله يبعث كما تروي الأخبار مع كل قطرة ملكا ينزلها حيث يشاء. وهو أقرب إلى الخيال الشعبي في إبداع الأخبار والمأثورات، تشخيص المطر، وقدرة الله، والسائط. بل إن الاستطاعة هو التأييد من الله وليست القدرة من الإنسان.
11
وقد تم إشهاد الخلق ساعة الخلق على التوحيد. لذلك كانت النبوة عاملا منبها أو مذكرة بالشهادة الأولى في عهد الذر، عهد ألست كما هو الحال عند الصوفية. الغاية من الخلق الإشهاد ورؤية ما في التفاوت وما في النفس. لذلك ضم أصل التوحيد إلى العدل كما هو الحال عند المعتزلة. لا توحيد بلا عدل أي بلا فعل، ولا فعل بلا توحيد. والملائكة مطيعون لأوامر الله وليسوا أبناء له. لذلك طرد إبليس لعصيانه واستكباره.
والإنسان سيد الكون، وأشرف المخلوقات، خليفة الله في الأرض. تسجد له الملائكة تقديسا لله وتسبيحا له. فعبادة الله تتم أيضا بواسطة السجود للإنسان كما أن الحديث معه يتم أيضا بواسطة ومن ترك الإحسان لمن دونه، والشكر لمن أعلى منه فإنه لا يزال في انحطاط حتى الهلاك. والله هو الميسر للرقي نحو اللذات الروحانية والعقلية والصور النفسية. والإنسان أفضل من الحيوان تركيبا، وأعدل مزاجا وأحسن تقويما؛ لذلك لزمته أحسن الشرائع والسياسات حتى إنه ليصعب تكذيبها. فلا فرق بين عالم القدس وعالم الإنس، بين عالم الروح وعالم الطبيعة، بين عالم الإنسان وعالم الحيوان.
12
ومع ذلك لا يتدخل الله في شئون البشر. ولو شاء الله لهداهم جميعا ولكن أكثرهم للحق كارهون.
وللخلق غاية وهو التكليف ثم الاستحقاق كما هو الحال عند المعتزلة، فالشيعة والمعتزلة كلاهما من فرق المعارضة، ومن ثم ينتفي العبث والمصادفة والمزاج؛ لذلك يرتبط الخلق بالمعاد ارتباط البداية بالنهاية. المعاد نتيجة الخلق، والخلق مقدمة المعاد. وبكاء الطفل بعد خروجه من بطن أمه للروح التي فارقت عالمها. فإذا ما لف بالقماط سكت استجابة للمرشد. والمعاد، ثوابا أم عقابا، إلى عليين أو أسفل سافلين. خلق الإنسان من الأن وإليه يعود. زمنه يخرج تارة أخرى، دورة بين الحياة والموت. الحياة من الموت، والموت من الحياة ثم الحياة من الموت مرة أخرى. والفهم العامي فهم مادي جسمي، والفهم الأعمق هو الفهم الروحي. فالإنسان خلق من الروح، وإليه يعود. تنزل الروح إلى البدن ثم تصعد منه. وهذا هو معنى الموت مرتين والحياة مرتين. ويتفق حكماء الشيعة على مصطلحاتهم مثل الناطق والقائم والأساس، والدور والكور. وهي نفس المصطلحات التي تظهر عند إخوان الصفا مما يدل على صلتهم بالتشيع.
13 (2) النبوة
قد تكون النبوة هي الموضوع الأساسي الذي منه تنبثق كل العقائد الأخرى مثل الإبداع والخلق والعدل والإمامة. فالسمعيات أقوى من العقليات، والخيال الشعبي للعامة أقوى من الاستدلال العقلي للخاصة . ويتضخم موضوع النبوة على باقي العقائد لأنها الصورة الأولى للإمامة. النبوة هي الجامعة لكل العقائد. ومن طريقها تتم معرفة التوحيد والعدل والمعاد والإمامة. وتبدو أهمية الموضوع في العودة إلى مصدر الشرعية ضد اغتصابها من الأموية وإعادة عرضها حتى تتحول من شرعية السلطة إلى شرعية المعارضة، ومن إيقاف التاريخ إلى تحريك التاريخ.
وهناك ثلاثة مواقف من النبوة. الأول إنكار النبوات قياسا على المحسوس لا على المعقول؛ إذ إن وظيفتها الكشف عن البعد العقلي في الشعور، فالرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا بد أن يكون معه ملك أو نذير أو كنز أو جنة يأكل منها وإلا كان رجلا مسحورا. والثاني إنكار النبوات؛ لأنها تقوم على طلب المعجزات وهي من الممتنعات لأن الممتنع ليس من أجل ذاته بل من أجل عجزه عن إظهاره أي لغياب الدليل العقلي. والثالث قبول النبوة من عترة النبي والوحي. فقد وضعوا الحق في موضعه، وتواصلوا معه، فشهدوا الآفاق والأنفس والتراكيب والألفاظ. وشهدت لهم على صدق القبول على بصيرة ويقين. وهو الموقف الذي يقوم على القبول ثم البرهان بالرغم مما في القبول كما يعرضه الشيعة من تقليد وتسليم وكان النبوة لها ورثة من آل النبي. فالأدلة أربعة: الآفاق أي الكون، والنفس، والألفاظ، والتراكيب. ويكتبها السجستاني بالهمزة «النبؤة» وليس النبوة تأكيدا على دورها في معرفة المستقبل. وهي في «إثبات النبوات» أكبر وأكثر عقلانية من «الينابيع». فلماذا الدفاع عن النبوة وإثباتها ضد منكريها؟ ومن هم هؤلاء المنكرون؟ البراهمة، المعتزلة، ابن الراوندي، الرازي المشهورون في كتب الفرق؟ هل الفكر الشيعي ما زال فكرا كلاميا سجاليا يقوم على إثبات النبوة ضد من يرى في العقل غنى عنها دون أن يتحول من الكلام إلى الفلسفة، زمن النقل إلى العقل، ومن السجال إلى البرهان؟
ولا يمكن إنكار النبوة والطبيعة تشهد لها كما قال الرسول. فالنبوة علم لدني، يلقى في القلب، والدليل عليها الشمس والقمر، فالقمر يستمد نوره من الشمس. والنبي يرتقي إليها صاعدا، راكبا طبقا عن طبق. ويتصل الرسل بالأسماء وهي الصفات كما اتصل بها الجن أيضا. وتتأسس النبوة من جهة الفصول الطبيعية لا فرق بين جماد وحيوان وإنسان، بين أجرام علوية وأجرام سفلية. وكل حيوان له خصلة من خصال النبي. ومن ثم تثبت النبوة من جهة الأعراض الطبيعية. والعرض هو الذي يتوهم رفعه مع عدم فساد حامله. وكذلك النبوة لها أعراض لا تفسدها، ولذلك تم رفع بعض العادات القديمة مثل شرب الخمر والصلاة إلى بيت المقدس دون رفع حواملها، وهذا هو معنى النسخ، رفع الحكم وإبقاء المحكوم عليه. وتثبيت النبوة أيضا من جهة الحركات الطبيعية واتجاهاتها إلى أعلى أو إلى أسفل، إلى الأمام أو إلى الخلف، إلى الداخل أو إلى الخارج، إلى الطرف أو إلى الوسط، تأييدا ورفعا، هبوطا وصعودا، تنزيلا وتأويلا. وهما حركتا الناطق والأساس، وهذه حركة العناصر الأربعة أيضا طبقا للنقل والخفة. ولما كانت الطبيعة تتحرك ثلاث حركات، إلى أعلى وإلى أسفل وإلى الوسط كذلك تتحرك النبوة. ويظل السؤال: هل النبوة حركة طبيعية أم ثورة اجتماعية؟ وهل حصار الثورة في المجتمع جعلها تمتد إلى الطبيعة والكون لفك الحصار؟ وحركة الناطق موازية لحركة الطبيعة. كما يتشابه القائم مع الزمان، بالساعة واليوم وهما أقل الوقت. فالصور الروحانية لا تحتاج إلى زمان طويل كما تحتاج الصور المادية.
14
لذلك يظهر الله في كل مكان، وفي كل دين، وفي كل شريعة. تشهد له النبوة بفردانيته. وصارت الأماكن الطبيعية سخرة للأماكن الدينية. مثل مكة للتجارة والحج. تثبت النبوة بشهادة الفرد وشهادة الخلق. في العالم الأصغر وفي العالم الأكبر، وتثبت النبوة من جهة الكون والفساد. فكل شيء يكون بفساد آخر من أجل تجديد الحياة وتواصلها. وهذه أدوار النبوة، تجدد مستمر، اتصال وانقطاع. والتأكيد على التغيير والجدة والإبداع ضد الأمر الواقع وثباته في الدولة السنية. وتثبت النبوة أيضا بحجة التضاد. فالتضاد في النبوة على ثلاثة أنواع الأول وقوع الضدين تحت جنس واحد كالصوم للمقيم والإفطار للمسافر تحت شريعة الإسلام. والثاني وقوع الضدين تحت جنسين مختلفين مثل صوم رمضان للمسلمين وإفطاره للنصارى واليهود. والثالث اختلاف الجنسين مثل اختلاف الشريعة الإسلامية كلية عن الشريعة النصرانية. فالنبوة ثابتة من جهة الأضداد أو الطبيعية إذا وافقتها مثلا بمثل. فالأضداد برهان وليس الاتساق. وبه ثبت أيضا صحة ديانات الطبيعة مثل كل الديانات الثنوية. وتثبت النبوة أيضا ببعض الأحاديث الحرة كإخباره عن المستقبل في هزيمة الفرس تنبؤا بحركة التاريخ ومساره. كما تثبت شمول رسالته وبعثه إلى الأحمر والأسود، لأهل الظاهر ولأهل الباطن للإنس والجن. ويقوم بالدعوة لرسالته قتالا حتى يقول الناس «لا إله إلا الله» إحساسا بضرورة الكفاح المسلح ضد أهل الظلم والطغيان دون التفات إلى أنه.
لا إكراه في الدين ،
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
وكل من لا يؤمن بمجيء الرسول ويقر برجعته فإنه يكون بريئا منه لا فرق في ذلك بين الرسول والإمام الغائب. والرسول يؤدي رسالته دون أجر في حديث يشبه القرآن.
وخطاب الرسول يتم بثلاث طرق: الأول الوحي الصريح مثل ما أعطي للنطقاء من حقيقة. والثاني الوحي من وراء حجاب مثل الوحي إلى الأسس بالشريعة. والثالث وحي بواسطة الرسل عن طريق الخيال إلى المتم من قبل الناطق. وهو تغيير رأس المفهوم أهل السنة وذلك لتدخل الأئمة في الأنواع الثلاثة. فالناطق نموذج الوحي المباشر، والأساس نموذج الوحي الذي منه وراء حجاب، والخيال إلى المتم من الناطق هو نموذج ألوهية الرسالة. وسبب الواسطة تسهيل قبول الرسالة من المرسل إلى الرسول حتى لا يقع الزلل في الإيصال بلا واسطة كما أراد موسى فتجلى المرسل للجبل فاندك لما كان الجبل متوسطا لتحقيق رغبة رؤية المرسول للمرسل. وتتكرر الفكرة، ويتكرر نفس الاستشهاد في سياق آخر ليس الواسطة بل التبليغ.
15
والوحي مقروء في كتاب، والنبوة مشاهدة في الطبيعة. والشعور جامع بينهما، مسطرة في الآفاق ومسطرة في النفس. وعلوم المنطق تنفصل عن عالم النفس انفصال الصور عن المادي. واللغة لغة البيان. فالناطق عن عالم النفس، والأساس معرب عن بيانه. ويوم الفصل هو حد القائم.
وإذا ما استقرت الرسالة في قلب الناطق فإنها تنطق باللسان للتبليغ. فتثبت الرسالة في الجماعة بعد النطق بها وتبليغها ومحبتها وغلبتها. وكلها عواطف إنسانية في الرغبة في الحفظ في الصدور بعد أن ضاعت في الدهور مثل المحبة التي ألقاها الله على صفيه موسى، والاعتصام بحبل الله الذي مده الله للمسلمين والتأليف بين قلوبهم، ونعمة الأخوة بينهم، والغلبة مثل غلبة يوسف على إخوته ونصرته عليهم، وتتكرر الآيات لإثبات نفس الأفكار مثل حفظ الرسالة في النطق والطبيعة والمجتمع. فالموضوعات أزمات نفسية يتم التعبير عنها في تصورات عقلية.
والغاية من التبليغ الإصلاح في الأرض، والغاية من ظهور النطقاء في عالم الفساد هو أيضا الإصلاح. فالنطقاء يكملون دور الأنبياء في كل عصر. كان هذا هو دور موسى وفرعون وسجود قوم فرعون إنما كان تسليما. فأفعال الإيمان أفعال حرة لا يستطيع القاهر السيطرة عليها. يقرأ علماء الشيعة الحاضر في الماضي، الصراع بين الحق والباطل، بين موسى وفرعون، بين العلوية والأموية. الرسالة رؤية ثم تبليغ بلغة ولسان للناس.
16
والنبوة محفوظة عن النبي، ولم تبطل بعد غيبته. أقام بحفظها المشاركون له في النوع، عدد كثير، يجتهدون فيها. الرسالة ثابتة ليست فقط في اللوح المحفوظ بل في قوة موجودة عند نفر من الناس يذكرون عظمة الله وجلاله، وعلو مرتبته، وسمو رفعته وتنزيهه، ويتفكرون في حال الخلقة من السموات والأرض وما بينهما من أحوال البشر. فلا فرق إذن بين النبي والقائم والناطق والأساس، بين النبوة والإمامة، بين النبوة والخلق والإمامة واسطة بينهما، بين الحفظ في السماء والحفظ في القلب والحفظ في الكون والحفظ في التاريخ تعويضا عن ضياع الإمامة في الأرض بعد استيلاء الأموية عليها. النبوة محفوظة عبر الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، إن ضاع الحاضر منها لحساب دولة الظلم. وهذا هو الذكر الذي تثبته الرسالة.
17
والوحي لا ينطق عن الهوى. وهو ليس كلاما فقط بل هو أيضا وجود. فواقعية الوحي هنا لا تأتي من أسباب النزول بل من الكون كله. الوحي إن لم يتحقق في الوجود لا يكون وحيا. لذلك كان علم الرسول ليس فقط علما بالوحي بل علما بالواقع وبالطبيعة وبالتاريخ. والعلم بالوحي ليس فقط علما بالشريعة بل أيضا علما بالمجتمع والطبيعة والتاريخ. ففي الشريعة تتحول الأفكار إلى وقائع، وفي التاريخ تتحول الوقائع إلى أفكار. ليس الوحي فقط في نفس الرسول بل في الوجود في كل درجاته، الوجود الأول ثم المعلول الثاني، ثم الجد، ثم الناطق وهو النجم الثاقب الذي يثقب قلوب النطقاء ليثبت فيها الحكمة والعلوم الربانية كما أن النجم الجرماني يثقب المواليد لإخراج الصور الجسمانية.
18
يعرف الأنبياء التوحيد. فالذات والصفات هي الحدود الروحانية التي تدل على وحدانية الله. وكل واحد منهم يدعو إلى التوحيد بالإضافة إلى صفات هويته وهي صفات الفعل. وهو علم سمعي منذ إبراهيم يتحقق في الطبيعة، ويمكن الاستدلال عليه منها كما فعل إبراهيم، فتحول من سمعي إلى بصري للإيقان بالقلب والفطرة، من سمعي إلى بصري للطبيعة إلى قلبي للباطن وربما إلى بصري من جديد وكما حدث للنبي في سدرة المنتهى وكأننا في درجات العلم عند الصوفية من علم اليقين إلى حق اليقين إلى عين اليقين. وهو ما أشار إليه القرآن بالسمع والأبصار والأفئدة.
والرسل منزهون عن الجور. يزهدون في الدنيا بعد معرفتهم لها يتسمون بالشجاعة والرحمة بأمتهم بالرغم مما لاقوا من عناء وبلوى، والصدق، وهي من صفات الأنبياء في علم العقائد. وينطبق عليهم أيضا قانون الاستحقاق. وينالون الجزاء على الأعمال بعد أداء الرسالة كما أجزوا أمتهم به وكما وضع المعتزلة قانون الاستحقاق. فإذا ظهرت الخصومات والمنازعات بين الناس ظهر القائم بالحق ليفصل فيها ويبين للملل ما اختلفوا فيه. وتشرق الأرض بنور الرب، وتأخذ الطبيعة معنى الحق والنور معنى الكشف. ولكل ملة سمة تعرف بها، ويعرفها القائم يوم الفصل. فالقائم خليفة الرسول.
ولما غلب الباطل على الحق قام أهل الحق بالسكوت والكتمان. وهذا معنى الستر والحجاب، وتحويله من الخارج إلى الداخل ، ومن الجسم إلى القلب، ومن الوجه إلى اللسان. فقد نبذ أهل الباطل الشرائع وراء ظهورهم دون أن يتقدم أحد بردهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم أهل الحق. هنا ينظر إلى النبوة من خلال الإمامة وينقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا. وطاعة الرسول من طاعة الله، لا فرق بين الحديث النبوي والقرآن الحر. (3) المعاد
إذا كانت النبية تميل إلى الماضي فإن المعاد يشير إلى المستقبل؛ لذلك ارتبط الموضوعان في التاريخ العام قبل أن ينظر التاريخ الخاص في الإيمان والعمل والإمامة.
19
وكثير من الأسئلة تدور حول آيات المعاد مثل اليوم والساعة والميقات. والمعاد هي جمع الناس في ميقات يوم معلوم. يبدأ بالبعث المادي وينتهي بالبعث الروحاني. البعث المادي هو إعادة البشر الذين خلقوا من تراب ونشرهم من جديد. هناك البعث العام عند تمام حروف المعجم وتمام الشهر. ينقض دور الجسم إذا ما انتهى الاتصال بالعالم الروحاني. ليس بعد النفخ في الصور. وهو ما يأتي به سابع النطقاء والصور الشرعية المحيطة بجميع الشرائع وبعد النفخ في الصور يصعق من في السموات. وهم النطقاء وما فيها من أهل الظاهر، ومن في الأرض، الأسس ومن فيها من أهل الباطن الذين ستروا الأمر باستثناء من شاء الله، وهم المؤمنون الصابرون على السراء والضراء. وتتم هذه الكشفة الأولى على يد القائم. وأما الثانية فهو القيامة، وإشراق الأرض بنور الرب. ومن علامات الساعة شروق الشمس من المغرب، وغروبها من المشرق، وظهور الناس سكارى وما هم بسكارى.
20
والمعاد الروحاني كشف الحقيقة في الآخرة كما يتم كشفها في الدنيا، كشفا للعلم، وكشفا للطبيعة.
ويوم تقوم الملائكة صفا، ويقوم ملك بإزائهم. يحاسب الله واحدا، والواحد يحاسب ستة، والستة يحاسبون العباد كلهم. وهذا تفويض للسلطة، وإشراك الله في الحساب. والواحد هو الإمام، والنطقاء هم الستة. ويتوارى دور محمد وهو شاهد على الأمم جميعا بعد أن يشهد كل نبي على أمته.
21
والملائكة تهبط إلى الأرض في كل ليلة جمعة تقف في الطرقات، وبأيديها أقلام من فضة وألواح من ذهب. وتكتب الصلاة على محمد إلى انقضاء الصلاة كما يروي الحديث. وواضح تدخل الخيال الشعبي بالإضافة إلى التأويل. فالملائكة حجج الإمام الدعاة، والأرض الدعوة الباطنة، ومالكها الوحي رب الدعوة وكتابة الملائكة تأكيد الولاية على أساس الرسول ووحيه. والكتابة اتصال الوصية بالنبوة والإمامة. والصلاة على النبي اتصال الوحي به والأئمة والحدود. والألواح الذهبية الحجج المؤيدون، والدعاة والأئمة. فالخيال الشعبي الموضوع، والتأويل المنهج. الخيال يضع الموضوع، والروح تؤول بالرغم من عدم الدقة في التقابل بين الحجج والدعاة. وكل صنف من الملائكة يأتي الله يوم القيامة بمعزله عن حده وقت النفخة الثانية، صف منهم يوم النشور وهم الرسل، وصف وهم الأسس ثم الأئمة واللواحق والأجنحة والمستجيبون وكل من فارق هذا العالم.
وفي المعاد يتحقق قانون الاستحقاق المشهور عند المعتزلة. فمن فضائل البشر إرسال الرسل. ولهم فضائل سبع منها القصاص، ومحبة أصحاب النواميس، والبقاء، والحساب والثواب، وإحاطة أهله بما فيه أهل العقاب. وكلها أقرب إلى الواجبات العقلية عند المعتزلة إذ يتوقف حسن المعاد في الآخرة على صفات النفس في الدنيا. وثنائية الخير والشر في المعاد تؤكد على التفاوت في الخلق. فالمعاد ليس فقط على الأعمال بل على الطبائع والمخلوقات، لا فرق بين الشرع والطبيعة.
وينقد السجستاني في عقيدة أهل التناسخ، والشيعة أقرب إليها، وجود الأرواح وجودا مسبقا قبل عالم الأجساد. والخلاف في عودتها إلى جسم جديد؛ لأنها ضد قانون الاستحقاق الذي يقوم على الفردية والمسئولية. بالرغم من بعض الأحاديث القدسية التي يساء تأويلها.
22
كما ينقد القاضي النعمان غلاة الشيعة «العلوية» الذين يقولون بالرجوع الروحاني.
23
ويقوم الاستحقاق على قانون
من يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
كما هو الحال في الاعتزال. فالدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء. ويوم المعاد لا ينفع فيه الندم والحسرة. ويتحقق الوعد، الثواب والعقاب في الأرض وفي السماء، في الدنيا والآخرة، ويتحقق أمر الله. كل مستحق مستوف استحقاقه بحسب درجته. وهذا هو القيام بالقسط. ويصبح الكتاب هو الهيولى السفلي والاستحقاق الصورة العليا والجزاء ثواب أو عقاب، نعيم أو عذاب. وهو جزاء معنوي. وهو أقوى وأشد على الإنسان من الجزاء الحسي. الالتذاذ في عالم النفس بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إذا بلغت النفس غايتها، واستقرت في هويتها، ورمت بثقلها. وقانون الاستحقاق هو قانون العدل. يختلف الناس في الشيء الواحد أحزابا وشيعا ولكن المهم عدم الظلم حتى لا يقع الجزاء. وإثبات الاستحقاق وقوانينه في الثواب والعقاب رد فعل طبيعي عن الإحساس بالظلم وأهل الظاهر هم أهل الكلم والنصيحة، ينالهم الأذى، ويؤخذ منهم المال في الدنيا. فإذا ما جردوا سيوفهم مع الإمام فلا سبيل إلى إيذائهم، والناس على ثلاثة أقسام: المؤمن، والمستضعف، والتائب. وإن طالت البلوى والمحن وأمسك بالدعاة عن الدعوة، وعظمت المعارضة لها يكون حال الإمام مثل شكوى زكريا وضعفه. فالشيب هم المنافقون وسيطرتهم على أهل الباطن، والخروج من المحنة عن طريق الرمز وعدم الحديث للناس.
24
وتنقسم الرسالة إلى علم وعمل من أجل الثواب والعقاب. وإذا كان العلم منقسما إلى ثلاثة علوم: العلم الأعلى وهو علم اللاهوت، والعلم الأوسط وهو معرفة حركات الأجرام، والعلم الأدنى وهو علم الطب والصناعات، وكان العمل أيضا منقسما إلى ثلاث: سياسة العامة، وسياسة الخاصة، وسياسة الحاقة. فإن الرسالة أوجبت معرفة الله بهذه الأقسام الثلاثة للعوالم وللعلوم. ومع ذلك تظهر الحكمة في النفس أكثر من ظهورها في العالم. العلم في النهاية آلة القبول الفوائد العقلية والآثار الإلهية والوصول إلى المقام المحمود والخروج من هذا العالم بالفوز.
العلم والعمل واجهتان لعملة واحدة. العمل بغير علم جهل. في حين يركز أهل السنة على أهمية العمل تعبيرا عن العلم، فهم أصحاب العلم ويريدون العمل، والشيعة أصحاب العمل ويريدون العلم الراسخ. والإيمان التصديق بمحمد وبصاحب القيامة الذي أشار إليه الرسول في حديثه بالرغم من أن الساعة ليست القائم، والمستوى الأفقي غير المستوى الرأسي. العلم في النهاية آلة لقبول الفوائد العقلية والآثار الإلهية للوصول إلى المقام المحمود والخروج من هذا العالم بالفوز ولا يسقط من الأعمال شيء، ظواهرها وبواطنها. وتقبل أعمال الواصلين الذين دخلوا دور الجرم، ويقفون في بعد الجزاء في مقابل المنافقين الذين في الدرك الأسفل.
25
ويتم تأويل الشرائع أيضا إلى الداخل، من أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب كما هو الحال عند الصوفية أو إلى الخارج المشخص، إلى الأئمة المظلومين. وأحيانا يتم النداء إلى العمل المعبر عنه الإيمان كما تفعل أئمة الظلم دون تأويل. مع أن العلم والعمل من نفس المصدر، ونفس الاشتقاق، ونفس تكوين الحروف مع التبديل، اللام قبل الميم في علم، والميم قبل اللام في عمل. وكلاهما يبدآن بالعين مع تأويل «الملم الطيب» بأنها اللطائف الراجعة إلى عالمها. فلا فرق بين الكلم والوجود. والإيمان هنا بالأئمة بعد تسميتهم بأسمائهم. والسبيل إلى استطاعة حج البيت ليست الوسائل المادية بل العلم والإيمان الحي المقرون بالعمل غير الإيمان المذموم الفارغ من أي عمل.
وأفضل الأعمال الصلاة. وهي نظرة شرعية فقهية عادية لا تأويل فيها بما في ذلك الصلاة الوسطى. والحج أيضا نظرة شرعية فقهية. والجديد في التفسير لا يوجد دائما، بل يكون مجرد مقدمة عادية يأتي بعدها الجديد حتى يبدو التأويل الجديد مشوقا مسترعيا الانتباه أمام التفسير القديم وبارزا وحتى لا يمل القارئ وينفر ويخاف من كثرة الجديد وحتى يرتبط بذاته، ويقبل الجديد خارجا من القديم، وليس متصلا به وليس منقطعا عنه. والركوع والسجود هو الأساس أي الأمر بإقامة الظاهر لصاحب الدور وأن الباطن حجته. وغسل الوجه هو الإقرار بالناطق، واليدان طاعة الوحي والمسح على الرأس الإقرار بالسابق، والمسح على الرجلين الإقرار بمعرفة الأصلين والصيام هو الستر والكتمان كما فعلت مريم.
26
وأحيانا تكون أركان الإسلام أو الشرعة لا جديد فيها وعلى ما يألفه الناس كبداية وليس كنهاية وكوسيلة للدعوة، والبداية بالمألوف والانتهاء بالغريب. الشهادة مفتاح الجنة والشرك على وجوه ستة. منه ما يكون أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وأكبر درجات الشرك جعل الله شركا في ملكه أو معينا في قدرته أو مشيرا في أمره. وأقرب ما يكون العبد إلى الله ساجدا. الصلاة عماد الدين ومن لا صلاة له لا دين له . الصلاة زاد، شفع ووتر، والوتر تفرد. وصلاة ركعتين من عالم منقطع خير من خمسين ألف صلاة. تضمن الصلاة ستة أركان: الوقوف، والتكبير، والركوع والسجود، والتحميد، وسابعها النية. وكلها إشارات إلى النطقاء الستة. وقد يكون لهذه الأركان الستة معان أعمق. فالتكبير تلاوة العلم، والركوع حد الأساس، والسجود حد الناطق، والتمجيد الحدود العلوية، والتسليم درجة الإجلال. وكل صلاة لا يقرأ فيها أم الكتاب فهي خداع. وأم الكتاب هو الحمد لأن جميع الحدود موجودة فيها. الحمد فيه سبع آيات، وخمسة وعشرون كلمة، ومائة وخمسون حدا، معرفتها كلها شرط الصلاة وليوم الجمعة فضل خاص كما تدل بذلك أحاديث الرسول. الجمعة وحدها ممثول الناطق. وإذا كانت الدواب مشفقة من يوم الجمعة فإنها تشير إلى أولياء الله وحججهم ودعائه كما أن الدعاء يوم الجمعة مستجاب. والحدود ثلاثة، تحريم الخمر لأنها نصب للمكائد كما وكز موسى، والسحر المذموم، والملك المذموم، ثم تحريم الميسر، ثم تحريم الأزلام والأنصاب، والدعوة للمتعة بالنساء مطلقة ولكن زالت بالنكاح كما قال الرسول بأن النكاح بخمسة، زوج وزوجة وولي وشاهدين، بكل ما يوحي به العدد خمسة من رموز. (4) الإمامة
والعجيب أن الإمامة ليست موضوعا رئيسيا مستقلا في الفكر الفلسفي الشيعي، وهي مرتكزه الأول في علم الكلام. ومنه كان الصراع قائما حول ألوهية الأئمة.
27
ومع ذلك فتبدو الإمامة منتشرة في نسق العقائد كله، في التوحيد والعدل، لب العقليات، وفي النبوة والمعاد لب السمعيات. ولا تظهر كموضوع شرعي حرفي كجزء من شرعيات. فهي من الأصول وليست من الفروع.
والطاعة للأئمة واجبة مثل طاعة الأنبياء وكما هو الحال عند أهل السنة طاعة الخلفاء والأمراء، طاعة السلطة وطاعة المعارضة، سلطتان تتنافسان على نفس الجمهور دون جعل طاعة الحكام مشروطة بطاعة الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في كلتا الحالتين.
وكما أن النبوة متوارثة في المصطفين وذريتهم كذلك الإمامة تكون في نفس العقب. وتجتزئ الآيات التي توحي بتوالي الأئمة والذرية وكأن القرآن شيعي المذهب مع أن النبوة ليست وراثة والخلافة مشروطة بالصلاح في الأرض وليس بالنسب. لقد نصب الله الرسول ووصيه، وإقامة عن أمر ربه، وأخذ عليهم البيعة لهم، وأعلم أن أمير المؤمنين مولاهم. فإتمام الإسلام بولاية الوحي وطاعته. بل إن الدواب هي أيضا أولياء الله وحججه ودعاؤه. فالبداية أو الجناح حجة، والطائر الداعي، هو الطائر الذي نفخ فيه عيسى الداعي من قبل الإمام وكذلك هو الهدهد في قصة سليمان. التفسير الحرفي للدواب بأنها حيوان تفسير سطحي للجهال. لدي إذن إحساس حاد بالدعوة والرسالة لمقاومة الظلم وتحقيق غاية الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ.
28
والفتح على الرسول في القائم على ذكره وعلى أيدي خلفائه قبل ظهوره. ومنهم حجته. فالفتح قادم ولم يتم بعد. والقيامة فتح بهذا المعنى لأنها كشف عن الحقيقة والنطق بعد النبوة، والجدار الذي يريد أن ينقض أي ينطق بالقوة التي أتت بعد اتصاله بالنبوة. وما دامت الآية تتحمل التشخيص وتصف الجماد وكأنه كائن حي فلا فرق بين ظاهر الآية وتأويلها بتحقيق مناطها. ويتم تخرج المناط بلا دليل من لغة أو حس أو عقل.
والمستودع مثل يوشع بن نون وصلته بولد هارون. والبقرة الصفراء تعني العلم. والفاقع يعني المسارعة بالتأييد. والناظرون هم غير الأئمة، والشعائر يعني عدم كشف حدود الله، والشهر الحرام هو الناطق، والهدى كشف الأساس، وهو بداية الخلق، والقلائد هم الأئمة المستورون القائمون بظاهر الناطق باطن الإسلام بعدهم لأنهم هم الذين يقلدون الناس العهود والمواثيق والآمون البيت الحرام. هو القائم. وهذا كله نوع من تخريج الناطق على المذهب وليس على العقل.
29
والباب دليل على الأساس كما وصف الرسول نفسه بأنه مدينة العلم وعلي بابها. والباء دليل على الإمام لأنها حرف نداء في أوله الكلمة وحرف النسبة في آخرها ولأن النسبة الروحانية متصلة به من جميع الحدود عند الكشف. والباب الواحد دليل على الأساس.
والقائم وهو الرسول، مالك لجميع الحدود كلها. وكل النطقاء والحدود والأولياء والنخباء موقوفون لظهوره. القائم هو الذي يثيب ويعاقب الثواب الأكبر والعذاب الأكبر. واليوم ظهور بالقائم في الصورة الروحانية في النفخة الثانية، يوم فصل القضاء.
30
كما أن لكل أمة نبيا، كذلك لكل قوم إمام. وكما تدعى كل أمة مع نبيها، كذلك يدعى كل إمام مع قومه. وإذا كان الرسول قد أشار إلى السبعة أتماء، ثلاثة منه وأربعة من غيره فالثلاثة ولده وولد ولده، والأربعة من غير عصره ولا ذريته، الأحدث والمختلس وأخ المختلس والقداح. وربما هم الدعاة واضعو رسائل إخوان الصفا. وكيف يعقل أن يشير الرسول إلى إخوان الصفا وقد أتوا بعده؟ وكيف يكون لرسول ذرية وليس له ولد والذرية من البنات على غير عادة العرب؟ وكيف تكون الإمامة من خارج ذرية الرسول، وهي الأكثر، أربعة من سبعة؟ وماذا تعني الألقاب: الأحدث والمختلس والقداح؟ وأليس لأخي المختلس اسم؟ هل لهذه الألقاب دلالات على الحالة النفسية والاجتماعية للمضطهدين بالرغم من أن البعض منها سلبي مثل المختلس حتى ولو كان الحقيقة والعلم. وكلهم عبد الله انتسابا إلى الله. وكما قام محمد بمبادئ شرائع من تقدم قبله فالأئمة من بعده متممون الشريعة ومحيون السنة. فالإمامة متممة للنبوة وكاشفة لها مثلما كانت آخر مرحلة متممة وكاشفة لما قبلها.
بل إن علاقة الأنبياء بعضهم ببعض هي علاقة إمام بإمام. فالإمامة منطق النبوة. إسماعيل وإسحاق إمامان بعد إبراهيم، من ملة واحدة. تجوز عليهما على التبادل، ولكنها في أولاد إسماعيل لأنه هو القواعد التي رفعها إبراهيم وجعلها في عقبه. وصاحب العصر، وناطق الوقت هو رسول مريم الذي أعطاها التأويل ما لم يصل إلى زكريا وهو رسول الإمام وداعيته. لا تهم كثرة أضداده إذ تدل الكثرة على الأمل المستمر والجهاد المتواصل وكثرة الخصوم. وقد اجتمع بها رسول الإمام خزيمة وبشرها بظهور المسيح.
31
وكما أن الأئمة ورثة الأنبياء فإن النطقاء ورثة الأئمة. وكما أن لكل نبي إماما فإن لكل إمام ناطقا. والدليل على أن الزمان على حد الناطق ومضاف إليه اتفاق الناس على القول بالزمان الصالح والزمان الفاسد. ليس المراد بالفاسد حدة مرور الشمس والقمر والحركات العلوية لأنها طبيعية وليست أخلاقا، موضوعا وليست وصفا بشريا، ولكن المراد ظهور الناطق في العالم الجسماني الذي به صلاح النفس في معادها، والزمان الفاسد ظهور الضعف الذي يصد الناس، وهو فساد الأنفس في معادها. وهو معنى إشارة الرسول إلى استدارة الزمان كالهيئة وقت خلق السموات والأرض أي ظهور حده وشريعته وتنزيله الذي يجمع حدود الخلق، وخلق التراكيب. هناك تبادل بين الطبيعة والشريعة، بين الكون والإمامة، بين أدوار الأنبياء ودورات الأفلاك. وكلاهما في الزمان.
ويستمر النطقاء في الآخرة كما كانوا في منزلتهم في الدنيا. القائم هو الذي يثيب ويعاقب، الثواب الأكبر والعذاب الأكبر. واليوم المعلوم يوم ظهور القائم في الصور الروحانية في النفخة الثانية يوم فصل القضاء. ثم يظهر أهل المقامات حتى توفى كل نفس ما كسبت دون ظلم. وهو ما تقوله المسيحية في المسيح الذي يحاسب ويعاقب أيضا في الآخرة. فالظلم الذي وقع على الإمام وعلى المسيح واستشهادهما ومصيرهما واحد.
وتنتهي النبوة والوصاية والولاية والإمامة تبدأ. النبوة للماضي والولاية للمستقبل حسب زمن الأفعال في اللغة العربية. تعني نهاية النبوة وختمها أن الشريعة لا تنسخ ولا تتبدل ومع ذلك باقية في عقبه بتفويض من النبي إلى الولي. وهو ما يتناقض مع مسئولية العالم في الحفاظ على تطبيق الشريعة وبصرف النظر عن عقبه ونسبه.
32
ويكون التأويل تحيينا أي تطبيقا للنص على الأئمة، علي وبنيه، كنوع من تحقيق المناط في علم أصول الفقه. الواقع في أزمة، والأئمة مضطهدون ومستبعدون. ومن ثم يأتي النص تحريرا لهم وتأكيدا على سلطتهم. الأنفس في القرآن تشير إلى النطقاء السبعة، والمهدي وهو أحدهم هو المسجد الأقصى الذي يعبد فيه الله كما هو الحال عند اليهود. فالاضطهاد والتفوق بنية نفسية واحد للمظلوم والظالم. وقد يكون التعيين للأماكن كما هو للأشخاص. فالأئمة أصحاب القدس. قلة مؤمنة، أفضل الخلائق. التأويل يرد النص إلى الذات لإثباتها والدفاع عن حقوقها وكأنها هي سبب نزول النص، ولزعزعة الشرعية عن الذي يعتمد على نفس النص. الغاية تفريغ النص من مضمونه القديم وملته بمضمون جديد يقوم التأويل على تحقيق المناط، علي وبنوه.
وتؤول الطبيعة أيضا على الأئمة. فالجوار المنشآت في البحر كالأعلام لا تعني الألواح والسفن بل ما قاله جعفر بن محمد من ضرورة الخلف للسلف، والإمامة للنبوة، والصامت للناطق والأساس للقائم. وتقوم حركة التأويل على تحويل مسار الآية إما إلى الوراء إلى الأئمة أو إلى الأمام نهاية العالم، والإمام المنتظر، أو إلى أعلى، عالم الأجرام السماوية والكون أو إلى أسفل والطبيعة. الآية ممثل في حاجة إلى ممثول.
والسؤال هو: هل التأويل يأتي من داخل النص موضوعيا أم من خارجه ذاتيا ويتم ملء النص به؟ وتتوقف الإجابة على تصور النص هل هو شكل أو مضمون؟ هل مهمة المفسر إخراج المضمون من النص أم أن النص مجرد شكل يأتي مضمونه من الخارج كما تفعل الشيعة صراحة وربما السنة ضمنا بدعوى موضوعية التفسير طبقا لأسباب النزول وقواعد اللغة العربية. وقد قيلت مثل هذه الأحاديث في عديد من الصحابة. كانت إعادة الرسول مدح أصحابه ثم يتم تحقيق المناط في الشخص إذا كان الحديث عاما عن المسئولية بعد النبوة. وإن أشار الرسول إلى شخص من خارج البيت فإنه يشير إلى الحد الجليل والنفس المستودعة في دور القائم.
ويتم تفصيص آية النور بنفس الطريقة. فالله نور السموات والأرض جمعت دور محمد وشجرة النبوة التي تمتد من الحدين العلويين حتى شجرة طوبى فسدرة المنتهى. والزيتونة المباركة القائمة بالحروف الروحانية والحدود الجرمانية والجسمانية. والنور هو الناطق والأساس. والمشكاة في المصباح هي الوصية. والمصباح في زجاجة أي سر النفس في النفس الكلية، ويوقد أي ما ظهر أي ما يوقد من فاطمة وولدها إلى القائم. والشجرة التي لا هي شرقية ولا غربية بل كونية إلهية قدسية أزلية تجمع النطقاء والأسس والأئمة واللواحق والأجنحة والمأذونين والمستجيبين. والمشكاة ظهور الشمس. والمصباح المضيء اسم النبي والقنديل الزجاجي كنية عن إسماعيل. والكوكب الدري عبد المطلب. أما السابع فهو القادم من المغرب صاحب الهجرة المصرية، الإمام المعز لدين الله الفاطمي. وينتهي الأمر إلى تبرير السلاطين والحكام وكأن القرآن قد ذكره وقد أتى بعد نزوله، وبالتالي يمكن تطبيق الآيات على كل إمام. ويمكن كما فعل البعض في جعل رزق
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا
أي شخص يدعى رزق. وواضح الجو الصوفي. فهي الآية الأثيرة عند الصوفيين. الإمام يشرق من المغرب وليس من المشرق كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية وعند الحكماء المشرقيين. تحارب الشيعة بنفس السلاح السلطان الذين يدعون للإمام السني على المنابر. كل فريق يطبق الآية على إمامه ، ويجعل الأضداد وخصومه والأولياء أنصاره، نصا بنص، وسلاحا بسلاح كما يحدث الآن في معارك النصوص التي لا تنتهي طالما بقي الصراع الاجتماعي قائما. مثل
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .
وكل نبي مع ناطق مثل موسى وهارون ومحمد وعلي. لقد قرن الله الوحي الناطق بالدور الصامت وكما عبر عن ذلك في قصة نوح وموسى ومريم. صنع نوح الفلك بأعين الله وصية. والذين مع محمد على، شديد على الكفار. والرحماء بينهم الحسن والحسين، وهما من الأتماء بعد الوصاية. والركع السجود زين العابدين والباقي، والذين يبتغون فضلا من الله ورضوانا الصادق وإسماعيل. والزرع الذي أخرج شطأه الذين لم يكن لهم نظير. والمؤازرة حيازة الإمامة، والاستغلاظ تقوية الظهور على الأعداء، الثالث من المستورين الذين نشروا الدعوة، والاستواء على السوق أي الإمامة. وإعجاب الزراع أي المستجيبون. وإغاظة الكفار بظهور المهدي. والوعد للذين آمنوا بظهور القائم، وهو نهاية النطقاء وعلة الأوصياء.
33
يخرج الشيعة المناط على الأوصياء تأكيدا للواقع التاريخي، وتثبيتا للخراصين، وإقالة للظالمين. فالتعيين ضد الظلم. هناك آيات نمطية عند جميع حكماء الشيعة مثل
محمد رسول الله والذين معه
وآية النور المشهورة عند الصوفية، يتم تقطيعها، وتطبيق كل عبارة منها على أحد الأتماء لتخريج المناط مجسما مع أن الآية صورة فنية واحدة لا تنطبق على أحد بعينه. ولا تضمن أحكاما بل تعطي دلالة عامة لكل موقف دون تعيين أشخاص. ولكن الضياع جعل حكماء الشيعة يقرءون أنفسهم اسما ووصفا في النص، وتترك باقي الآية بلا تفتيت ربما لصعوبة في إيجاد الشخص المطابق.
وفي التاريخ نفسه خارج الوعي التاريخي هناك خلاف بين الشيعة أنفسهم في ذرية الأئمة. أنكر البعض إمامة أولاد إسماعيل بالرغم من نص النبي عليها ولو ببعض التأويل. يعكس الفكر الفلسفي الشيعي الخلاف فيه، أهل الظاهر وأهل الباطن، العامة والخاصة، المعتدلون والمتطرفون. وحديث الذرية قد يوحي ببعض العرقية أو الشعوبية أو القبلية، يختلف فيه الناس على عكس اتفاقهم في العلم والفضل وباقي القيم الإنسانية العامة. قد تكون الأحاديث ضعيفة ولكنها تؤول طالما أنها تتفق مع المذهب وتؤيده. فالنص بصرف النظر عن صحته التاريخية يعطي الشرعية النفسية للأزمة السياسية والاجتماعية للمضطهدين. وكثير من الأحاديث التي يذكرها الشيعة ضعيفة أو موضوعة مثل الأحاديث عن الوصاية بعده ثلاثة منه وأربعة من غيره حتى يتم النطقاء إلى سبعة. بل يذكر البعض بالأسماء مثل سلمان وعلي.
34
ومع ذلك فإن نسق العقائد عند الشيعة أكثر ثورية من النسق الأشعري. ويعتمد في التوحيد والعدل على أصول الاعتزال. فالتشيع والاعتزال من عقائد المعارضة في مقابل عقائد الأموية. وقد انضم بعض المعتزلة إلى ثورات الأئمة ضد الحكم الأموي وتعاطفوا معهم، والصلة بين أبي حنيفة وجعفر الصادق، بين أهل الرأي والتشيع، صلة تاريخية وليست فقط ألفة فكرية. ربما كانت ثورة الشيعة أكثر فاعلية ضد السلطان من ثورة المعتزلة. فثورة الشيعة تجربة حية ودم، تهدف إلى تغيير نظام الحكم. في حين أن ثورة المعتزلة استنارة عقلية درءا لمخاطر المواقف المتطرفة، بحثا عن المنزلة بين المنزلتين. (5) تاريخ الأديان
ارتبط الفكر الشيعي بتاريخ الأديان المقارن نظرا لبحثه عن الأصول الأولى التي يمكن أن يستند إليها في مواجهة أهل السنة. فالأنبياء أقوى من الخلفاء والأمراء، والأئمة ورثة الأنبياء. وفي قصص الأنبياء وانتصارهم على خصومهم خير شاهد على انتصار أئمة آل البيت وهم من نسل الأنبياء على خصومهم في السلطة، مثل انتصار موسى على فرعون. وتاريخ الأنبياء يصب كله في غاية واحدة، انتصار الحق على الباطل، والعدل على الظلم في مقابل حديث «الفرقة الناجية» وجعل أهل السنة هم أهل الاستقامة والحديث، الفرقة الناجية وكما فعل السجستاني في «إثبات النبوات». ولا ينفصل تاريخ الأديان المقارن عن فلسفة الدين نظرا لأن جوهر الأديان واحد، ويرجع الخلاف بينها في التصورات واللغات وأشكال الشعائر وليس في التوحيد أو العدل، وهي الأصول العقلية التي يقوم عليها كل دين.
وقد لجأ الشيعة لتاريخ الأديان لعدة أسباب منها: (1)
البحث عن العمق التاريخي لزعزعة النظام السياسي الحاضر، في ثقافات الشعوب التي تحولت إلى الإسلام، اعتمادا على الثقافات الوطنية للشعوب، خاصة وأن الثقافة الوافدة كانت أحد عناصر ثقافة البلاط.
35
فلا يقوى على الحاضر إلا الماضي. ولا يزحزح النظام الاجتماعي إلا التراكم التاريخي. (2)
الحاجة إلى ثقافات جديدة تساعد على التأويل من أجل نزع الشرعية عن تأويل السلطة. وتاريخ الأديان أكبر رصيد لتأويلات الفرق ولتجارب الأمم السابقة. (3)
البحث عن تصورات جديدة لبناء عالم ثقافي جديد يشعر فيه الناس بالسعادة خارج العالم الأرضي الذي تسيطر عليه دولة الظلم، وبالتالي إنشاء مدينة فاضلة جديدة بل وفرق تمارسها مثل إخوان الصفا.
وتاريخ الأديان مصدر داخلي موروث من تاريخ العرب قبل الإسلام في العصر الجاهلي مثل ديانات العرب أو اليهودية والنصرانية أو ما وجد منها في فارس قبل الإسلام بعد أن فتحها المسلمون أو بعد الإسلام مثل الفرق الإسلامية بما في ذلك فرق الشيعة أو المتنبئون. وهي ديانات وثقافات الشعوب التي دخلت الإسلام، عربية أو عجمية والتي سميت في كتب المقالات الفرق غير الإسلامية. فهي أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد بما في ذلك الموروث الفارسي. بل إن الوافد اليوناني يعتبر موروثا عربيا في الشام بعد أن تم نقله إلى السريانية. ولما فتحت الشام أصبح موروثا ثقافيا عربيا مثل ديانات فارس وديانات العرب قبل الإسلام.
36
تاريخ الأديان مصدر داخلي للفكر الفلسفي الشيعي وليس مصدرا خارجيا نظرا لاعتمادهم على الموروث الثقافي الشعبي. والثقافة الشعبية أقرب إلى الجماهير من ثقافة الخاصة، ثقافة البلاط التي ساد فيها الوافد اليوناني. ومن السهل تثوير الثقافة الشعبية، الموروث الديني لأنها حية في قلوب الناس ضد ثقافة الخاصة، الوافد اليوناني. فالفرق غير الإسلامية بتعبير علم الكلام هي فرق إسلامية بمعنى أنها نشأت في بيئة إسلامية وعلى اتصال تاريخي بالإسلام مثل الصابئة، دين آل إبراهيم، واليهودية، والنصرانية، وديانات العرب قبل الإسلام، وديانات فارس. ولم يكن للروم ديانات في شبه الجزيرة العربية غير النصرانية.
ويمكن التمييز بين سبع فرق على الأكثر: (1)
الديانات الفارسية مثل الثنوية، والمجوسية عبدة النيران، والزرادشتية والبهافريذية، والمزدكية. (2)
الديانات العربية قبل الإسلام مثل الصابئة أي عبادة الكواكب، وعبادة الأصنام والآثار أي الشرك. (3)
اليهودية وفرقها وكتبها المقدسة. (4)
النصرانية وفرقها مثل الديصانية والمرقونية. (5)
الفرق الإسلامية مثل المرجئة، والجهمية، والتناسخية، والقدرية، والرافضة، والحرورية، والحنفية، ويحكمها جميعا الفعل ورد الفعل. (6)
الشيعة وفرقها مثل العلوية وأئمتها علي بن أبي طالب، وجعفر الصادق، وعلي زين العابدين. (7)
المتنبئة مثل مسيلمة، وطلحة، والقطري.
37
وإذا كانت النبوة مقياس التصنيف تصبح الملل عند السجستاني أربعا: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والإسلام، ثم تختلف بعد ذلك في الأنواع الدينية. وهنا تبدو الديانات والثقافة الوطنية في فارس القديمة كأحد مكونات الفكر الفلسفي عند الشيعة.
كما يظهر التشيع في جعل القائم هو الذي يفصل بين الفرق الإسلامية وليس العقل أو الواقع أي المصالح العامة لما كان النقل مختلفا عليه. وكلهم إلى رسول الله منتسب، استبدال سلطة بسلطة، سلطة المعارضة بسلطة الدولة السنية، إمام الشيعة بفقيه السلطان.
وكما أن عند أهل السنة حديث الفرقة الناجية الذي يجعل فرق الأمة الاثنين وسبعين كلها ضالة باستثناء واحدة منها الثالثة والسبعين هي الناجية وهي فرقة السلطان يبين الشيعة أن فرقتهم هي أيضا الناجية لأن السعادة والعز والرئاسة لا تكون إلا من جهة الرسل، ولا يوجد علم إلا من جهة الرسل، وإن رؤساء العالم كلهم الذين بأيديهم الأحكام والملك جارون تحت أحكامهم، براهمة وسوابدة وأساقفة وجواليت وعلماء وفقهاء.
وتتراتب الملل والشرائع فيما بينها على هيئة الأنواع والأجناس مثل الملل الست. ويتم الانتقال من الطبيعة إلى الشريعة، ومن الشريعة إلى الطبيعة، من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الخارج. فالحق بالحق، وإقامة الحدود بالحق للخلق. الخلق والحد يقومان على أصل واحد وهو الحق.
والرسالة عقل له حدود أربعة مثل الجهات الأربع، الشرق والغرب والشمال والجنوب. حدها الغربي خصوص الرسالة بتأييد السابق. وحدها الشرقي ما اطلع على سرائر التراكيب. ومن شمالها تأليف الشريعة. ومن جنوبها إقامة الأساس للتأويل.
38 (أ) الثنوية
وهو اللفظ الجامع لكل ديانات فارس التي تقوم على الثنائية المتضادة بين الخير والشر، النور والظلمة، الحق والباطل. ويعرضها السجستاني مع نقد لها ورفض لعقائدها دفاعا عن التوحيد، ورفضا لانتصار الخير على الشر أو لمساواة الشر للخير أو للوجود وليس التوحيد الذي يجعل الخير هو الأصل والشر طارئا عليه من فعل الإنسان وسوء حكمه وتقديره واتباع أهوائه وغوايته كما حدث لآدم. ويتم تفريع فرق الثنوية على هذا الأساس ورفضها جميعا، وضع الشر في مقابل الخير على حد المساواة مثل الثنوية، أو جعل الشر (الهرمزد) هو الأصل وليس الخير (الأهرمن) مثل المجوس، أو إضافة الشر إلى المبدع وجعله أزليا مع الخير مثل الهافريدية. وهلاك الشر بالخير ممتنع لأن الشيء الأزلي لا يهلك. فوقع الدين كله كمذهب فلسفي في تناقض.
وتشارك فرق الثنوية الديانات الأخرى في بعض العقائد والشعائر مثل أسماء الله والحج. إذ يذكر المسلمون والنصارى واليهود والمجوس والصابئة أسماء الله ويدعونه بها. ولكنهم عرفوا الظاهر دون الباطن، والاسم دون المعنى، والمثل دون الممثول. والحج في الإسلام قصد بيت الله الحرام مثل بيت المقدس عند اليهود والنصارى، وبيوت النيران عند المجوس، وهياكل الأصنام لعبدة الأوثان. والصيام عند المسلمين واليهود والنصارى والزمزمة للمجوس.
39
ويعترض السجستاني على هذه الديانات بأنها ديانات طبيعية وليست ديانات وحي ما دامت الحجة في الدين تبعية القوم الكثير لرؤساء الملل. ولا يعتبر السجستاني ماني وزرادشت وبها فريد ومزدك وديصان ومرقون وغيرهم أنبياء أو رسلا. بل هم من المتنبئين. لم يتنبهوا إلى شيء باستثناء زرادشت الذي وضع كتبا في عمارة هذا العالم يميل فيها إلى الشهوات الحسية، ويؤجر عليها صاحبها ويثاب. فإذا ما انتشرت هذه الدعوة أتت بالفضائح وأدت إليها. الرسالة إذن نوعان: نوع مخترع وكاذب ومبتدع مثل ديانات هؤلاء، ونوع صادق مثل دين الإسلام لولا أنه انحرف على أيدي أهل السنة وجاء الشيعة لتصحيحه. ديانات الطبيعة باطلة، وديانات الوحي حقة، وكأن الدين الطبيعي خال من العقل والفضيلة، والوحي نفسه يقوم على العقل والفطرة أي الطبيعة. في حين أن أهل السنة يضمون فلاسفة اليونان إلى زمرة الأنبياء
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإذا كان الفكر الفلسفي الشيعي نفسه يقوم على ثنائية الخير والشر، العدل والظلم، الشرعية والتسلط، الثورة والسلطان فلماذا إخراج أنبياء الشرق من زمرة الأنبياء كما أدخل أهل السنة فلاسفة الغرب في حظيرة الأنبياء؟
وتشارك فرق الثنوية، الزرادشتية، والمزدكية والبهافريدية والمانوية بعض فرق النصرانية مثل الديصانية والمرقونية في نفس النقد. فرؤساء هذه الفرق زرادشت وماني ومزدك وبهافريد وديصان ومرقيون قد اخترعوا لأنفسهم مللا وشرائع ألزموا الناس بها فصاروا لهم تابعين أكثر من تبعيتهم للدين. مأساة الدين رجاله. لا يوجد رسول من الله يطالب الناس أن يكونوا له تابعين لدرجة اشتقاق اسم الدين منه وكما يقول المستشرقون المعاصرون «المحمدية». لقد آمن عامة بلاد الصين ومانين بمذهب ماني، يتقربون به إلى الله، ويدرسون كتبه. وانتشر في سائر الجبال والبلاد مذهب زرادشت لعبادة النار. وسبب ذلك قانونا عاما ينطبق على جميع الحالات، وهو تفرع الملة الواحدة إلى مذاهب كثيرة، بعضها على حق والآخر على باطل. وينطبق نفس القانون على الإسلام عندما تفرعت ملة إبراهيم إلى مذاهب مثل اليهودية والنصرانية والإسلام. ومعيار الحق والباطل هو طلب الرئاسة وإضافة جزء إلى الدين لتبريره وهو ليس منه. حدث ذلك في المانوية والديصانية والمرقونية بإضافتهم إلى ما شرع المسيح بدعوى تجديد دين إبراهيم ودين المسيح. وينطبق أيضا على أحبار اليهود وفقهاء السلطان، وهو ما لاحظه الكندي من قبل في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى في نقده لرجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة في وضعهم تعارضا باطلا بين الفلسفة والدين. (ب) النصرانية
وتشمل اليهودية نظرا لأن النصرانية إكمال وإتمام لها. وتذكر بعض الأسماء مثل جرجس ويهوذا، ثم إصطفانوس ثم مثيانوس وفينان. ويستشهد السجستاني بالكتب المقدسة. التوراة والإنجيل، بتوجه القرآن والعودة إلى الأصول، ونظرا لوحدة الوحي وتصحيح مساره في التاريخ في المرحلة الأخيرة. كما يريد الشيعة تأصيل الحاضر في الماضي، والتعويض بتقدم التاريخ في الماضي عن انهياره وسقوطه في الحاضر، وإيجاد العمق التاريخي اللازم لتأييدهم ضد الاستيلاء على السلطة في الحاضر. ويستشهد بالإنجيل على تنزيه الله عن جلب المنفعة ودفع الضر عن نفسه إلا على سبيل المجاز، المنفعة والضرر للإنسان منفعة وضرر لله نظرا للتوحيد المعنوي بين الله والبشر. ويتم الاستشهاد بسفر أشعيا الذي تنبأ بقدوم المسيح راكبا الحمار مثل محمد راكبا البعير. ويبدو جمال الآيات في تقابل الإيجاب والسلب كما هو الحال في الطوباويات في طريق الإبداع الغني خاصة وأن النص ليس رواية تاريخية متواترة كما هو الحال في النص القرآني، من ترجمات عربية رصينة. ويشير إلى شريعة النصرانية مثل طقس العماد، وشريعة اليهودية مثل الختان حتى لا يطرأ الفساد على الحق عامة والنبوة خاصة. وكل شريعة خاصة بذاتها لا تضاف إلى شريعة أخرى. وإذا كانت النبوة متصلة فإن الشريعة منفصلة، وإذا كانت الأديان واحدة فإن الشرائع كثيرة. وقد تعني الشريعة معنيين عاما وخاصا. العام هو الدين المنزل كالتوراة والإنجيل والزبور، والخاص مثل الأوامر والنواهي.
40 (ج) الفرق الإسلامية
ويعني بها السجستاني فرق أهل السنة وحدهم. ومن الشخصيات الإسلامية تذكر فاطمة ثم خزيمة، وعبد الله بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله ميمون، ودحية الكلبي، وبنو العباس، ثم المعز لدين الله، وعمار، وحسام، وبرد، ويغوث، ونسرى من آلهة العرب. ومن الأماكن المحلية الغرب ثم مكة ثم اليمن، والشام، وبيت المقدس، ثم الطائف.
41
كما يشار إلى العرب لغة وبيانا. ومع العربية تضاف السريانية. فالعبادات ثلاث وثلاثون حرفا، ثمانية وعشرون في السريانية، وخمس في اللغات الأخرى طبقا للتقابل بين الشعائر والحروف. ويشار أيضا إلى الواقع المحلي الجغرافي التاريخي كمادة للأمثلة، قريش، ونيسابور بأمثلة للجنس المنطقي، ومكة كمثل للحج الذي يقصده الناس بالرغم من عناء السفر، والعراق كمثل للخصب والاعتدال وأحد أسباب غلبته. كما تذكر بغداد كدار هجرة بني العباس، مكانا لوفاة الإمام، والجيزاية مكانا لدفنه.
ولما كانت ملة الإسلام ظاهرة، وامتلأ العالم بالمسلمين فإن ذلك يكون بفعل فاعل. وعلى مقدار شرفه يكون شرف رسوله على سائر الرسل.
والنبوة قاصرة على أهل بيت النبوة ولا تخرج من نسل النبي، وهو التصور اليهودي الذي يجعل النبوة وقفا على بني إسرائيل كنوع من تقوية النفس ضد القبائل الأخرى في صراع القوى. ومن ثم فكل المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب وطلحة والقطري وغيرهم مهما اجتهدوا في وضع شيء ينبع من قلوب الناس ويستقر في عقولهم فإنهم لا يستطيعون إقناعهم لأنهم ليسوا من بيت النبوة وكأن الإقناع بالنسب والذرية وليس بالعقول والحجية. ولا تخرج الإمامة أيضا عن بيت الأئمة وهو بيت النبوة. فإذا خرجت إلى أولاد تيم وعدي وأمية ظهرت الفتنة ودب الشقاق وسفكت الدماء، ونهبت الأموال، واستحلت الفروج. وازداد الشر كل يوم حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، ويرجع الناس إلى الجاهلية، وانشغل الإمام بلذاته الحسية، وشهواته الجسدية، ولم يراع شئون الرعية بل سامها أشد أنواع الظلم والجور. أما إذا كان من بيت النبوة فإنه يرعى مصالح العامة ويزهد في الدنيا ويهديهم سواء السبيل. فالناس لا تستقر إلا في بيت النبوة والإمامة. وهو وصف العلويين. فهم أيضا من بيت النبوة والإمامة. وكلاهما إلى رسول الله منتسب.
وتشهد الطبيعة عند الشيعة على بقاء النبوة في نسل واحد. فالمعادن توجد في بقع عديدة دون أن تنتقل إلى غيرها. والحيوان أيضا موجود في بيئات خاصة دون غيرها مثل الفيل والببغاء في الهند، والسباع في المغرب. وكذلك يوجد البشر في بقاع مختلفة مع خصائص متغايرة مثل الضيافة عند بني مدلج، وزجر الطير في بني أسد، والخفة واللعب في أهل الهند، والصناعات العجيبة عند أهل الصين، والفلسفة عند اليونان. لكل شعب خاصيته لا يشاركه فيها غيره. أما النبوة فغير متنقلة من بقاع إلى بقاع على عكس الحكمة التي لا يخلو منها موضع في العالم، الحكمة لا يستحقها إلا ذوو الفضل في حين أن الحكمة قد تكون قرينة لمن لا يستحقها من تركي وصقلبي. وهذه محاباة للنبوة ضد الحكمة فالحكمة أيضا تقوم على الفضيلة. العلم فضيلة، والجهل رذيلة. بلاد السند والهند والصين والزنج والترك والخزر والصقالبة والروم كلها خالية من النبوة ولا تخلو من ملك يحكمها. أما النبوة فقاصرة على مكة إلى الشام وبيت المقدس. وهي متعددة الأسماء مثل تعدد الأجناس والأنواع، اليهودية والنصرانية والصابئة والمجوسية والثنوية. وهذا تحديد جغرافي للنبوة ولماذا استبعاد أنبياء الشرق؟
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ؟ ولماذا وضع المجوس والثنوية ضمن النبوة وهما خارج المنطقة الجغرافية الممتدة من الحجاز إلى الشام؟ كما أنهما ديانات طبيعية وليسا ديانات وحي كما أقر بذلك الشيعة من قبل؟
42
وتقوم ملة الإسلام على أركان خمسة بناء على الحواس الخمس نظرا للتقابل بين عالم الشرع وعالم البدن. وهو قائم أيضا على أركان سبعة إذا أضيف إلى الأولى الجهاد وطاعة أولي الأمر. والواقع أنهما ركنان متضادان نظرا لأن الجهاد قد يكون ضد الحاكم الظالم، وأن طاعة ولي الأمر مشروطة بطاعة الله وإلا وجب الخروج عليه بعد النصيحة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واللجوء إلى قاضي القضاة. كما أن أهل السنة يركزون على طاعة أولي الأمر لأنهم في الحكم، والشيعة تركز على الجهاد لأنهم في المعارضة. ومن آثار النبوة إحاطتها بالأشخاص عند التكوين وبعد الفساد مثل إيجاب العقيقة عن المولد وذبح شاة طبقا لعادة الساميين في سيل الدماء دليلا على التقرب إلى الله، وتطورا من التضحية للبشر في الديانات القديمة إلى التضحية بالحيوانات عند الساميين حتى العقيقة في اليهودية والإسلام. وقد قبل الإسلام أهل الذمة كجزء من أمته نظرا لوحدة دين إبراهيم. ووقع النسخ في شريعة الإسلام. كانت الخمر حلالا ثم حرمت. وكانت الصلاة إلى بيت المقدس ركعتين ثم ركعتين ثم حولت إلى الكعبة أربع ركعات. وهذا لا يدل على فساد الشريعة بل تأكيدها وتثبيتها. كما أن الإسلام إذا دخل بلدا غلب باقي البلدان وفتحها. فهو قوة في الأرض. كما تستطيع النبوة التوحيد بين القلوب، بين الغرباء قبل الأقرباء. فقد يبغض الإنسان ولده وأخاه، ويحب مملوكه من السند والترك.
43 (د) فرق الشيعة
والشيعة لهم أئمة أكثر مما لديهم من فرق اثني عشرية أو إسماعيلية. وأئمتهم مثل علي بن أبي طالب، وجعفر الصادق، والحسن، والحسين، ومحمد بن إسماعيل، وعلي زين العابدين. علي بن أبي طالب هو مصدر العلم وعديد من الروايات عن العقائد والشعائر. وعبادة الاسم دون المعنى كفر. كما أنه طبق الشريعة. قطع يد السارق، وجلد الزاني، وحد المفتري، وأقام الحدود، وجاهد في سبيل الله. وهو أحق بالعودة الروحانية. كما يروى عن مآثره ومناخبه أنه نجم الله الثاقب وحبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. لم يشرك بالله طرفة عين لأنه لم يتصل إلا بدعوة الحق أي دعوة الرسول دون شك أو ارتياب. ويتم تحقيق مناط الآية في علي. فالشفع والوتر يشيران إليه. وهو الثاني الذي يبعث ويرجع. كما تروي العامة أنه رد طلاق النساء لأنه أمر له بالتسليم والتفويض لأنه الناطق. وهو عالم هذه الأمة كما أن الله ربها. وهو الذي نصبه الرسول يوم غدير قم. أقامه مقامه واستخلفه من بعده. وحول خاتمه من يمينه إلى يساره. وأمر وصيه أن يختتم باليمين ولا يحوله إلى الشمال إشارة منه بتسليم المنزلة إليه. وإذا كان اليوم اثنتي عشرة ساعة، فهذه إشارة إلى أن الوصي نظرا للتقابل بين الزمان والوصاية كما أعلن عن ذلك الرسول في حجة الوداع عندما أرشد الناس إلى التأويل بأنه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. كما تدل حروف البسملة التسعة عشر على مجموع حروف علي ومحمد والحسن والحسين.
44
ويأتي جعفر بن محمد في المرتبة الثانية بعد علي استشهادا بقول له في الناطق الرحمن بأهل الدنيا بالبر والفاجر الرحيم. بمن قال لا إله إلا الله. فظاهر الناطق يناله أهل النجدين البر والفاجر، وباطن الأساس لا يناله إلا الموحدون؛ لذلك ظهرت الباء في الصامت ولم تظهر في الناطق. وظهرت في اسم الصامت، في اسم ثاني الأئمة وابنه علي زين العابدين، ولم تظهر في أول الأئمة دون أولاه خامس خاتمة. ثم تظهر في السبع المثاني. وكان أجر المؤمنين عليا قد جعل الرحمن من الرحيم من المغفرة أي من الناطق الإيقاظ والإنذار. والإنذار رحمة لهم، ومن الصامت البيان والهداية. ويرى جعفر بن محمد أن الأئمة مذكورون في القرآن وهم الفلك الجارية في البحار، ولا يموت أحد إلا ويحيا آخر. وهم آيات الله الكبرى وأسماؤه الحسنى، وأمثاله العليا، وكلماته عدل وصدق. ومن دعا غيرهم لا يجاب له. هم آيات الله في البلاد، وحجته على العباد. من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله لا فرق في ذلك بين سنة وشيعة. وتثبت الآيات في الأئمة ويتحقق مناطها فيهم تأكيدا للذات، وتعويضا نفسيا عن الهزيمة والضياع فهم غير معترف بهم في الدنيا لكنهم مذكورون في الآخرة، خارجون على الشريعة، ومذكورون في القرآن تدعيما للثورة وتأصيلا لها مثل الجاهل الذي يرى العلم في القرآن. كما بين أهمية البصيرة للعامل. فالعامل بلا بصيرة كالبغل في الطاحون، يمشي طيلة النهار، ولا يبرح مكانه.
45
خامسا: من تاريخ الأديان إلى فلسفة التاريخ
(1) مبادئ التاريخ
ويتحول تاريخ الأديان إلى فلسفة في التاريخ في المقالة السادسة، الفصلين الثاني والثالث من كتاب «النبوات» للسجستاني. وتعتمد كلها على الموروث دون الوافد. بها أكبر قدر من الشواهد النقلية وأسماء الأنبياء خارج الآيات وداخلها. وتكثر أسماء الأعلام من الأنبياء والأوصياء والأئمة مما يحد من استقلال الفكرة ومسار التاريخ. ومع ذلك يمكن إخراج هذا المسار كفلسفة مستقلة في التاريخ عن حواملها التاريخية. وأحيانا تذكر أسماء الأعلام بلا دلالة كلية بل في إشارات جزئية مثل سليمان والنملة، وقصة نوح في الصلة بين الناطق والصامت.
وتاريخ الأنبياء هو تاريخ الأمة، من القصص إلى الوعي التاريخي، من الماضي إلى الحاضر، من التاريخ كميدان تحقق إلى المجتمع كميدان صراع. فلسفة التاريخ مثل مدينة الله، تثبت انتصار الحق على الباطل، والعدل على الظلم، والثورة على التسلط. القصد منها خلق مدينة مثالية عادلة بدلا من المدينة الأرضية الظالمة. لذلك يهاجم السجستاني علماء العامة، أهل الظاهر، لا علماء الشيعة ولا القاضي النعمان والذين يريدون تفسير النصوص لتبرير المدينة الأرضية، دولة الظلم والطغيان. فلسفة التاريخ تعويض عن النظم السياسية في التاريخ من أجل التشبث بالحق في الخيال بعد أن ضاع على الأرض، انتصار الماضي الدائم بدلا من هزيمة الحاضر المؤقتة. وتاريخ الأديان تأصيل للعمق التاريخي ضد دعاة نهاية التاريخ، وتحقيق مرحلته النهائية، مرحلة الأمويين الظلمة. ينشأ الفكر الشيعي، مثل الفكر الصوفي دولة في الماضي تعويضا عن فقدان دولة الحاضر، دولة في السماء بعد أن ضاعت دولة الأرض. فتعويض الحاضر إما أن يتم في الماضي عند الأنبياء والأئمة والنطقاء وإما في المستقبل عند المهدي المنتظر. استدعاء تاريخ الأنبياء كله أقوى من الاعتماد على آخر مرحلة ولإثبات قانون للتاريخ، ثابت ومطرد يجرف الانحراف الأخير.
1
ويصعب عرض الصلة، بين تاريخ الأديان وفلسفة التاريخ في قانونها العام أو في حلقاتها السبع، المنطق أم التطبيق، الجدل أم الخطابة؟ ويمكن الجمع بين الاثنين، بين العام والخاص. ويمكن التفصيل في الفترة الأولى آدم ثم قياس الفترات الست الأخرى عليها. كذلك ارتبط موضوع النبوة بفلسفة التاريخ عند الشيعة أكثر من ارتباطها عند أهل السنة بالرغم من أن التاريخ في علم العقائد عند أهل السنة ملحق الإمامة إما في حديث الفرقة الناجية أو في انهيار التاريخ طبقة وراء أخرى. وكلاهما يدل على سقوط التاريخ على عكس الشيعة وتحول النبوة إلى إمامة مما يدل على تقدم التاريخ.
يعاد توظيف العقائد كلها كأسس نظرية الفلسفة التاريخ ويعاد تفسير آياتها أيضا كآيات في فلسفة التاريخ مثل السؤال عن الملكين هاروت وماروت وذي القرنين ومريم وإبراهيم وذريته من الأنبياء، وعدم نيل الظالمين العهد، وعن رفع القواعد من البيت، وعن الأربعة الحرم لكل نبي وإمام وحجج الليل والنهار، والفجر والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل والبلد.
وهناك ألقاب أخرى أقرب إلى أوصاف الأئمة. منها أوصاف علمية مثل: المستودع وهو الذي يحتفظ بالعلوم بعد أن ضاعت في فقه السلطة، والباقر وهو الذي دخل العلوم وبقرها، والمجتهد وهو الذي يفكر مستقلا عن السلطان، والحجة وهو الذي يقيم البرهان ضد الخصوم، وروح الله بدلا من الحاكم صاحب الهوى الذي يبغي التسلط وروح الشيطان. ومنها أوصاف عملية قيادية إمامية مثل الوصي وهو الحافظ للرسالة الأمية عليها بعد أن انحرفت عن مسارها، والمهدي وهو الذي اختارته العناية الإلهية لقيادة الثورة، والهادي وهو الذي يقود الناس ويهديهم إلى الطريق القويم، والأمين وهو المحافظ على الأمانة ضد خيانتها. وهناك صفات أخلاقية مثل الصادق ضد الكذب وخراب الذمة والميل بالهوى عن الحق، والرضا وهو المصالحة مع النفس، وإتيان الله بقلب سليم، والنفس الزكية ضد أهواء البشر وفساد الأخلاق.
بل إن عقائد الشيعة نفسها يمكن فهمها في إطار أوضاعهم النفسية كمجتمع الاضطهاد مثل الغيبة نظرا للاضطهاد وحماية للأئمة حتى تحين الظروف فتكون الرجعة أو التقية وهو التخفي الإرادي وإخفاء شخصية الإمام حماية له من الاضطهاد وكنوع من الكذب الأبيض، والعصمة نظرا لسيادة أهواء البشر على حكام الظلم والطغيان، والقول بتعيين النص للأئمة ضد اختيار البشر القائم على الأهواء والمصالح المتبادلة.
ويستمد الفكر الشيعي ألقابه ومصطلحاته من أصل الوحي مثل الباب والقائم والجناح والجد والإمام والقائم والأساس، والمتمم وليست ألفاظا وافدة معربة أو منقولة، مما يدل على قدرة إبداعية على وضع المصطلحات اعتمادا على الموروث وحده. بل إن بعض مصطلحات فلسفة التاريخ جديدة للغاية مثل الفترة والدور والكور. كما تظهر المصطلحات المستقاة من العلوم مثل العدد من الحساب، والخط والسطح من الهندسة، والجرم من الفلك، والمكان والزمان من الطبيعة، والقول من اللغة، ولا شأن لها بالمصطلحات اليونانية الوافدة التي يستعملها الخاصة وحكماء البلاط.
وذلك على الضد ألقاب المطلقة عليهم من الخصوم مثل الشيعة أي الذين يتشيعون. والتشيع أتباع الهوى والانحراف عن الصراط المستقيم، أهل السنة والجماعة. والأفضل لقب الرافضة الذين يرفضون ويثورون ويغضبون في عصور أصبح الرفض فيها خروجا على النظام وعلى الجماعة وعلى الإيمان. والألقاب المحايدة مثل الإمامية الذين يقولون باتباع الأئمة، الإمام المنتظر كعادة مؤرخي الفرق في تسمية الفرق بأسماء مؤسسيها مثل الأشعرية والسبئية والواصلية والنجارية والمذاهب الفقهية مثل المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية.
وهذه الألقاب ليست ثابتة ساكنة بل هي كالمقامات متحركة ارتقائية. كل لقب يؤدي إلى الآخر. والغاية الوصول إلى سدرة المنتهى كما هو الحال في مقام الفناء عند الصوفية، من المؤمن إلى الداعي إلى الحجة إلى الإمام إلى الأساس إلى الناطق الذي بعده وسائط يستطيع الوصول إلى سدرة المنتهى. وفي هذه الحالة تكون الحركة رأسية تصاعدية وليست أفقية تاريخية. وربما تكون الحركة في كلا الاتجاهين من أسفل إلى أعلى أو من الخلف إلى الأمام، وليست من الأعلى إلى الأدنى كما هو الحال في نظرية الفيض أو من الأمام إلى الخلف. لقد حول الفكر الشيعي. مراتب الفيض إلى مراحل التاريخ.
2
وكل إمام له دور. وكلما انقضى دور أتى بعده دور آخر. فتطور التاريخ على مراحل، قانون عام ينتظم النبوة والإمامة في فلسفة للتاريخ والمراحل السابق يثبت التالي. الأنبياء ممهدون للنطقاء، والعلم مقدمة للسر. كل نبي دور، وكل ناطق أو أساس دور: لا فرق في ذلك بين التوراة والإنجيل. ويعنيان النفس. الكتابة في النفس، والتدوين في الشعور. لذلك يصعب التمييز بين الإمامة والنبوة. الإمامة استمرار للنبوة والنبوة إرهاص للإمامة.
وإذا كان الأئمة ستة فالسابع يتحول إلى كيف. فالتراكم الكمي يؤدي إلى تغير كيفي. كما أن الأدوار والفترات لا يبدأ كل منها من الصفر لحدوث تراكم في وعي الإنسانية بذاتها مستقلة عن الطبيعة والأهواء. فالتقدم حلزوني إلى الإمام حتى ينتهي المسار، وتتحقق غاية الوحي في التاريخ.
والتطور في النبوة تطور في الخلق مثل تطابق الصورة والمادة الروح والبدن. فخلق الصور الروحانية يكمل بالنطقاء الست. آدم والطين، نوح والنطفة، إبراهيم والعلقة موسى والمضغة، عيسى والعظام، محمد واللحم، والقائم والخلق الآخر. فيتطابق الفرد مع التاريخ، والفكر مع الواقع، والنور مع الظلمة، ويتضح أثر ثنائيات فارس ما قبل الإسلام في الفكر الشيعي. ومراتب النبوة كمراتب الطبيعة. ولا تنتقل النبوة من نسل إلى نسل بل تظل في نسل مصطفى. وقد لا يكون الاصطفاء هنا الذرية العرقية بل بمعنى الذرية الروحية
ذرية بعضها من بعض ، تعني أن الكلمة تبقى في أعقابهم. الذرية لها معنيان جسماني وروحاني. وكل رسول لاحق يمثل تقدما بالنسبة للرسول السابق على نحو رأسي لكن بلغة العلو، والمرتبة والدرجة على نحو أفقي. وتختلف المراحل فيما بينها في التقدم بين الطول والقصر أو في العلو بين الارتفاع والانخفاض. والمتأخر أفضل من المتقدم أي إن اللاحق أفضل من السابق.
3
وتقوم فلسفة التاريخ على تصور تطوري للوحي والعالم والبشر مثل ابن عربي في «فصوص الحكم»، فالحقيقة تتجلى فصا فصا.
4
ويتحول التصور الرأسي للعالم المعروف في الفلسفة الإشراقية خاصة نظرية الفيض التي تتجلى فيها فيضا من أعلى إلى أدنى، من الواحد إلى العقل إلى النفس إلى البدن إلى التصور الأفقي من الخلف إلى الأمام، ومن الماضي إلى الحاضر. تاريخ النبوة شهادة على كل عصر لأن كل نبي يعبر عن عصره. وخاتم الأنبياء للناس جميعا بعد اكتمال النبوة. هناك رنة تفاؤل في الفكر الشيعي نظرا لتوجهه نحو المستقبل، والثقة بانتصار الخير على الشر، والنور على الظلمة، والحق على الباطل؛ لذلك كانت مشكلة الشر والأضداد أكثر حضورا في الفكر الشيعي، فكر المعارضة، منه في الفكر السني، فكر الدولة الرسمي المتوجه نحو الماضي وعصر الخلافة الأول يستمد منه شرعيته في الماضي نظرا لنقص شرعيته في الحاضر.
وكل نبي لاحق يتم رسالة النبي السابق ويكملها. نوح أتم رسالة آدم بالشريعة، وبتحول الرسالة من الملائكة إلى البشر. وإبراهيم أتم رسالة نوح، وموسى أتم رسالة إبراهيم، وعيسى أتم رسالة موسى. وكل نبي لاحق يعتد بأحد الأنبياء السابقين، فله الخيار، فقد صلى موسى إلى الغرب اقتداء بنوح وليس اقتداء بآدم، فالابتداء دور ثان له استقلاله. واقتدى عيسى بآدم ولم يقتد بنوح وهو بعد موسى. وقد أتم محمد أمر آدم ونوح بإبراهيم. فالتاريخ تطور من آدم إلى القائم واقتداء من القائم إلى آدم. تخرج الثمرة من البذرة، وفي نفس الوقت تقتدي بها، حركة إلى الأمام وحركة إلى الخلف، سبق إلى الأمام ومراجعة إلى الخلف.
والعلة في تواتر الرسل هو برودة الحرارة الأولى، ونسيان الأوامر والنواهي نظرا لطول العهد، وبداية الانهيار والاضمحلال، فيأتي نبي آخر لعودة الحرارة الأولى ودفع حركة التاريخ خطوة أخرى إلى الأمام. لقد بعث الله في كل أمة نذيرا منها، وهذا هو البعث الأصغر قبل البعث الأكبر وهو الحشر. العلة في تواتر الرسل التجديد، فالتواتر هنا يعني التنجيم أي توالي الأنبياء. تجديد الشريعة واجب على الله لرحمته نظرا لتغير الزمان والمصالح، وهبوط الدافع الحيوي الأول. تنهض النبوة وتدفع التاريخ. ثم تفسد الشريعة وينهار التاريخ في دورات متتالية.
وهذا هو معنى تفاضل الأنبياء وتفاوتهم في المرتبة والدرجة. فهو ليس تفاضلا رأسيا في سلم، بل تفاضلا أفقيا في دور النبوة السابقة ونهايتها وبداية النبوة اللاحقة. ومن هنا أتت ضرورة التسليم بمراحل النبوة كلها؛ إذ إن كل حد يسلم إلى الحد التالي تلقائيا في سلسلة متصلة واحدة. والدعوة واحدة، دعوة الحق، دعوة النجاة، والفوز بالجنة. جوهر الرسالات واحد وهو الإسلام أي التحرر من عبودية الأفراد والطبيعة والاستسلام الله وحده الذي يتساوى أمامه الجميع. يتفاضل الأنبياء بعضهم على بعض كما تتفاضل الأمم فيما بينها في الصفاء. وهو تفاضل راجع إلى تطور الوحي وليس إلى أشخاصهم ودرجاته من الاكتمال في آخر مراحله. كما أن تفاضل الأمم في أدائها رسالتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس لأشخاصها أو لصفات أبدية فيها. ولا ضير أن يكون هناك تفاضل وتفاوت بين الأنبياء والرسل. وعلى المؤمنين التصديق بهم جميعا على حد سواء. إن أصحاب القدس متفاوتون فيما بينهم، يدرك الأعلى الأدنى. اللاحق يدرك الأتم. والمتمم يدرك الأساس. والأساس يدرك الناطق وهو محمد بدليل الإسراء، وكأن المسجد الأقصى موجود أيام الرسول. ويركز السجستاني على فلسفة التفاوت والتفاضل والمراتب وليس على فلسفة المساواة خارج الزمان والمكان.
ويتداخل التاريخ مع المعاد، بداية العالم ونهايته، كور الماضي وكور المستقبل، الخلق والبعث، آدم والقيامة. فقد فارق الملائكة الأشباح من لدن آدم إلى يوم القيامة بالنفخة الثانية . فيقبل كل منهم مادة النفخ حسب طاقته فيصيرون أنسابا بالفعل، النفخة الأولى عند انقضاء كل دور، والثانية عند انقضاء الدور العظيم، وهي مجمع أدوار الرسل، انتهاء الكور الماضي وبداية الكور المستقبل. وكل واحد من الخلفاء الستة في دور القائم وهو المهدي له درجة من الدرجات الست ، للصور الجسمانية. آدم المعدن، ونوع النبات، وإبراهيم الحيوان، وموسى البشر، وعيسى الجن، ومحمد وآله الملائكة، والقائم الإنس بالعقل وهم أهل الجنة.
5
بل تتفاضل الملائكة كما تتفاضل الأنبياء على ست طبقات: أناس عالمون، وأمناء مربون، ورسل مصطفون، وخيرة روحانيون، وملائكة مرسلون، وعباد مكرمون. وكل له مقام معلوم.
وقد اشتق اسم الفترة من الفتور والملل، عندما يبرد الدافع الحيوي الأول. وهو معنى سلبي أي الانهيار والانحطاط، بداية النهاية عندما يصيب الإعياء النفوس الجزئية من العالم الجسماني فتعجز عن قبول التأييد، ثم يزول هذا العناء بظهور نفس زكية يتصل بها التأييد، وهو انهيار جماعي أيضا عندما يعود الضرر على كافة الناس بعصيانهم وإعراضهم عن الأساس والأئمة من ذريته في عصرهم وميلهم إلى الأضداد. عندئذ ينقطع مدد الإمامة، ويزول التأييد عنهم. ويتسلم الأمر اللواحق ثم الأجنحة فتظهر الأسقام، ويعم القحط والبلاء، وتقع الفتن والهلاك للتكبر على أولياء الله، وتنقطع الأمانة عن العالم مدة انقطاع الناطقة. واللواحق ليسوا أواخر الأئمة بل بيعتهم التي يسكنونها ويأوي الخلق إليها. والإمامة لا تنقطع عن العالم طرفة عين لأنها الحجة على الخلق. والحجة لا تنتهي بفساد العصر وإلا عم الهلاك مما يدل على أمل في المستقبل وإيمان شديد بالنصر حتى يظهر إمام جديد يقيم الشريعة ويهدى الناس. هاتان الحركتان، النهضة والسقوط، في الروح والبدن والطبيعة، الهداية والضلال، العلم والجهل، الصحة والمرض، النماء والقحط، الإصلاح والإفساد، الطاعة والمعصية، السقوط والخلاص كما هو الحال في اللاهوت المسيحي. ولا فرق في جدل التاريخ بين النهضة السقوط والنهضة من جديد ثم السقوط بين النبوة والإمامة داخل كل منهما بل وخارجهما، فانهيار النبوة إيذان بنهضة الإمامة.
وتحديد الفترة الزمنية بين ناطق وناطق بألف وخمسمائة علم موزعة على سبعة أئمة أو متمين يكون لكل منهم مائة عام، ويكون المجموع سبعمائة عام. وهي أقل المدة. ولا يجوز زيادة الأئمة عن سبعة. المهم الاتساق حتى يبدو الفكر متسقا مع نفسه. والدور من آدم إلى إبراهيم دور كبير. وأدوار موسى وعيسى ومحمد أدوار صغيرة. أول السبعة آدم وآخرهم القائم. إبراهيم ثالث ثلاثة في دوره فسمي وافيا وكذلك القائم كان الختام.
6
ولكل نبي شعيرة من الشعائر. الولاية لآدم، والطهارة لنوح، والصلاة لإبراهيم، والزكاة لموسى، والصوم لعيسى، والحج لمحمد، والجهاد للقائم. وماذا عن الشهادة؟ هل هي الولاية؟ ولماذا انقسمت الصلاة إلى طهارة لنوح وصلاة لإبراهيم؟ والزكاة لموسى تنقية الشعور بني إسرائيل من أسر المادة، والصوم لعيسى دليلا على روحانيته. والحج لمحمد جمعا لأمته. والجهاد القائم من أجل مقاومة الحاكم الظالم. وكل ناطق له سماته وخصائصه. لآدم الاصطفاء الذي عم التالين له نوح وآل إبراهيم. ولنوح النداء الذي عم من بعده من النطقاء إبراهيم وموسى، والخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والكلمة والروح إلى عيسى، والرؤية لمحمد، والمجازاة والمحاسبة للقائم علي. وكما هو الحال في المسيحية واستمرار الوحي في الكنيسة بعد المسيح، سلسلة من الخلفاء، وكأنها دراسة على نمط الرومانية والبيزنطية. ولكل سمة دليل نصي إلا السمة الأخيرة. هذه مدينة السماء مجتمعات لها قواد فضلاء، رد فعل على مدينة الأرض وقوادها الطغاة.
والشريعة سياسة دينية لمصلحة العباد. والطب سياسة بدنية لحفظ الصحة. ولما اختلفت الأمراض حسب البيئات والبقاع لزم أن يكون الأطباء أكثر من واحد نظرا لتعدد الأمراض، واختلاف طرق العلاج. فطب الهند والسند قد يختلف في الممارسة عن طب الترك والخزر. وكذلك تختلف الشرائع حسب الأمكنة والأزمنة. لذلك وجب تعدد الرسل. هناك إذن تطابق بين طب الأبدان وطب النفوس. وبالرغم من الاعتراض على ذلك بوحدة الطب النظري وتعدد طرق العلاج والممارسة إلا أن مراحل التاريخ وتبدل الشرائع تقتضي هذا التصور التعددي نظرا لبعدي الزمان والمكان في تطور الوحي والشريعة على عكس التصور الأحادي الطرف الذي يتصور الوحي والشريعة في المطلق خارج الزمان والمكان وبالتالي خارج التاريخ . ومن رحمة الله تجديد الشريعة بشريعة أخرى على يد ناطق آخر بألفاظ غريبة ومعان تؤدي إلى طريق الحق.
7
لا يجوز إذن وجود شريعتين في وقت واحد لأن لكل شريعة عصرها. ولو انقضت الشرائع كلها لما وجب البحث عنها أو فيها فيبقى الناس في تيه وحيرة. تعدد الشرائع من أجل البحث عنها والمقارنة بينها ومعرفة قانون تطورها. جوهرها واحد. تقوم على الإيمان بالله وبالرسول وباليوم الآخر كما أن التراكيب بها طول وعرض وعمق. تعدد الشرائع بتعدد النبوات كما تعددت النبوات بتعدد العصور واختلاف الأزمان. فالاختلاف أساس النبوات والشرائع والعصور. كل شيء خاضع للزيادة والنقصان؛ لذلك وجد النسخ في الشريعة والتغير في الكون، لكن الكيف واحد، استقلال الوعي الإنساني وتحقيق المصالح العامة.
ولكل ناطق هجرة، انتقالا من دور الستر إلى دور الكشف، هجرة آدم وهبوطه إلى الأرض، وانتقال القائم من الستر إلى الكشف، ومن حد الإمامة إلى حد الناطقية. وسمات الانتقال في أدوار النطقاء سبعة: انتقال آدم من دور الكشف إلى دور الستر في هبوطه من الجنة إلى الأرض، وانتقال نوح من حد الإمامة إلى حد الناطقية هبوطا من السفينة إلى الأرض، وانتقال الخليل من هجرته ومسقط رأسه إلى أرض تهامة، وانتقال الكليم من الشام إلى بيت المقدس ومجاورته التيه، وانتقال المسيح، رفع الله إياه إلى السماء، وانتقال محمد من حد الإمامة إلى حد الناطقية، هجرته من مكة إلى المدينة، وانتقال الناطق من هذا الحد إلى الحد الأعلى لإقامة الأساس عليه. فلما هبط آدم من الجنة قبلت توبته وأقام الوحي. ولما انتقل نوح من السفينة أمن من الغرق. ولما هاجر الخليل إلى أرض تهامة ولد له إسماعيل. ولما نزل المسيح به ما نزل رفعه الله إليه. وأقام شمعون بالإشارة والإيماء وصيا. ولما هاجر محمد من مكة إلى المدينة أقام عليا بغدير قم على رءوس الأجهار. وأقام القائم بعد الغيبة خلفاؤه.
والنطقاء السبعة عند الشيعة هم أولو العزم من الرسل الستة عند السنة بالإضافة إلى الناطق. وانقضى دور آدم بانقضاء العزم وتوبته هو ظهور الناطق. أدرك الشيعة العلاقة بينهم وحولوها إلى فلسفة في التاريخ، تطورية حركية. وجعلها السنة ثوابتا لا حركة فيها فغابت لديهم فلسفة التاريخ. وهي سبعة عند الشيعة. آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم. ولا يقر أهل السنة بالأخير. ليس قبل آدم وليس بعد القائم نبي . فالطرفان يمثلان الأول والأخير، البداية والنهاية.
والأدوار في التاريخ، دورا وراء دور مثل مقامات الصوفية، مقاما بعد مقام، حركة من الكشف إلى الستر منذ البداية عند آدم، ومن الستر إلى الكشف في النهاية عند القائم. وكما أن الانتقال من مقام إلى مقام عند الصوفية له علامات، فكذلك الانتقال من دور إلى دور له سمات. فمثلا سمة انتقال المسيح رفع الله إياه إلى السماء. منذ كان وجيها ومن المقربين. وسمة انتقال محمد من حد الإمامة إلى حد الناطقية هجرته من مكة إلى المدينة. وسمة انتقال القائم من دور الستر إلى دور الكشف غيبته ثم ظهوره بعد الغيبة. وهذا هو معنى تبديل الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، وبروز الواحد القهار.
8
وعلاقة الأدوار علاقة الأعداد والحروف والطبيعة. فأول النطقاء وهو آدم العدد. والخط نوح، خط تأليف الشريعة. والسطح إبراهيم لأنه سطح في عقبه الإمامة. والجرم موسى المتوسط بين النطقاء السبعة، ثلاثة قبله وثلاثة بعده. والزمان المسيح، علاقة القائم المستعان على الأزمنة. والمكان محمد، صاحب الشرائع والأديان. والقول هو القائم. ولما كان من الصعب قسمة الدائرة سبعة أقسام فقد انقسمت السادسة إلى قسمين، محمد والقائم نظرا لارتباط الستر بالكشف والنبي بالإمام.
وهناك تقابل بين الأنبياء السبعة والأعداد العشرية. آدم هو الآحاد، ونوح العشرات، وإبراهيم المئات، وموسى الألوف، وعيسى عشرات الألوف، ومحمد مئات الألوف، والقائم ألوف الألوف. ولا يطرح سؤال وماذا عن الصفر قبل الآحاد؟ ولا سؤال ماذا بعد ألوف الألوف إذا كانت الأعداد متناهية من الطرفين وكان التقابل بين منطق العدد وفلسفة التاريخ تطابقا تاما؟ ويرفض صاحب «المذهبة» مقالة أن القائم سابع سبعة من آدم، وثامن ثمانية من على أنها إبطال السنة الله في الكون. الحساب هو المثل والأنبياء السبعة الممثول.
وهناك تقابل بين الأنبياء السبعة وعدد أيام الأسبوع السبعة. آدم يوم الأحد هو الابتداء، والبعث الأول للناطق الأول. آدم أول من عبد الله في الستر. وقام بالرسالة. وعلم الله لعدد النطقاء والأئمة والأيام الستة. والاثنين الناطق الثاني نوح. أعطاه الله الحكمة. والثلاثاء الناطق الثالث إبراهيم، جمع الله فيه العلوم. والأربعاء الناطق الرابع موسى. والخميس الناطق الخامس عيسى من أولي العزم. تكلم بالتأويل وضرب الأمثال. والجمعة الناطق السادس محمد جمع علم ما مضى من أولي العزم والرسل والأوصياء إلى يوم القيامة. ويملكه الأرض بظهور القائم، والسبت الناطق السابع القائم من نسل محمد. وبه تختتم الدنيا، وتفتتح الآخرة، ويتم الاستحقاق. وتدل الأيام السبعة وضعفها العدد أربعة عشر على منتصف الشهر القمري ليلة البدر لموسى. والجمعة لمحمد وسط بين سبت موسى وأحد عيسى. وقد يتطابق هذا مع الواقع مثل محمد والجمعة وقد لا يتطابق. فالأولى بموسى السبت وليس القائم. والأولى بالأحد عيسى وليس آدم. ربما كان الأحد لآدم لأنه أول أيام الأسبوع في الإسرائيليات كما أن آدم أبو البشر وأبو الأنبياء. ويستشهد صاحب «المذهبة» بأقوال موسى في التوراة، حجة نقلية لا عقلية. ومدح موسى ليوم السبت كان سببا لتخصيصه للقائم ونزعه من موسى. عرفت إسرائيل المثال، يوم السبت، دون الممثول، القائم. وكذلك يستشهد بالانتقام من المسيح يوم السبت. وتطابق الأصوات الأعداد. الأحد واحد، والاثنين اثنان حتى الخميس خمسة. وتبقى الجمعة ستة والسبت سبعة لا يتطابقان.
9
ويأتي منطق الأعداد ليتحكم في جدل التاريخ. والعدد طبقا لأيام الأسبوع وطول الدورة. فآدم يوم الأحد وغير معروف مدة دورته لأنه بداية تاريخ الإنسان على الأرض، ونوح يوم الاثنين ودوره 850 سنة، وإبراهيم يوم الثلاثاء ودوره مئات غير محددة إذا يصعب أحيانا المغامرة بالتحديد دون يقين. يكفي اتفاق التاريخ مع المذهب. وموسى يوم الأربعاء ودوره ألوف غير محددة أيضا. وعيسى يوم الخميس، ودوره عشرات الألوف. ومحمد يوم الجمعة ودوره مئات الألوف. والخلفاء أول دور، وهو تمام المثاني، والقائم يوم السبت، ودوره عشرات الألوف. ويتضح أن فترة الدور تطول من الآحاد إلى العشرات إلى المئات إلى الألوف إلى عشرات الألوف إلى مئات الألوف إلى ألوف الألوف. مع أن العكس هو الأعقل لأن البشرية تتعلم، ويرتقى الوعي الإنساني. ومن ثم تحتاج إلى فترات أقصر حتى اكتمال النبوة ويستقل الوعي الإنساني عقلا وإرادة، ويعتمد على اجتهاده حتى نهاية التاريخ. كما يحدث تقابل أو توازي بين أيام الأسبوع وفترات التاريخ. فالتاريخ له إيقاع زماني، الثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنون والقرون والعصور. التاريخ هو الزمان المتحقق والزمان هو التاريخ الممكن. وقد وقعت في دور نوح أربع فترات، وفي دور إبراهيم ثلاث فترات، وفي دور موسى فترتان، وفي دور عيسى قترة واحدة. ولم تقع في دور محمد أية فترة. فلا يوجد تواز أو تقابل بين الدور والفترة. وتقصر الفترات كلما تطور التاريخ مما يدل على اقترابه من الكمال وارتقاء الوعي الإنساني واكتماله، عقلا وإرادة. وبالرغم من رتابة النص وتكرار النمط، دورا وراء دور وكأنها آلة حاسبة إلا أن هذه طبيعة فلسفة التاريخ التي تحكمها فلسفة الأعداد.
القائم
الأساس
الضد
أصحاب الفترات
الأئمة
العدد
آدم
شيث
إبليس قابيل
برد، ملائيل لاؤي
هابيل، شيث، برد مهلائيل، فالغ
الأحد آحاد
نوح
سام
قابيل، تاريخ أفور، لوط
سام، رافخشد، غابر، هود، شالح، صالح
الاثنين عشرات
إبراهيم
إسماعيل إسحاق
نمرود
إلياس، يهوذا، لاؤي
أرنموس، ناقور، لوط، إسماعيل، فيدار، إسحاق، يعقوب، يوسف، عمار، بن يامين، شعيب
الثلاثاء مئات
موسى
هارون، يوشع، أولاد هارون
فرعون
يونس زكريا
هارون، عمران، يونس، ذو الكفل
الأربعاء ألوف
عيسى
شمعون الصفا
يهوذا
أصطيغانوس، مرقيا، إلياس، (اليا)
المسيح، اليسع، فياليس، قس بن ساعدة، الآيادي
الخميس عشرات الألوف
محمد
علي
أبو جهل أبو لهب
فتح دور القيامة ابتداء النشأة الأخرى
علي، الحسن، الحسين، من ذرية إسماعيل، محمد بن إسماعيل
الجمعة مئات الألوف
القائم
السبت ألوف الألوف
وتقوم فلسفة التاريخ على التطابق، تطابق كل شيء مع كل شيء، تطابق الأعداد والطبيعة والشريعة، تقابل الحروف والأصوات والأسماء، تطابق مراحل العمر وفترات التاريخ. هناك تطابق بين الحروف وأسماء الأنبياء، بين اللغة والتاريخ. فحروف آدم ثلاثة. وحروف نوح ثلاثة. وحروف إبراهيم ستة (الألف زائدة طبقا للنطق العربي الذي لا يبدأ بساكن مثل النطق الحبشي براهيم). والكاف ثلاثة، والنون ثلاثة في
كن
اجتمعا في ستة إبراهيم. وصلى آدم إلى الشرق أي الأمر. وهو ثلاثة حروف: ألف ثلاثة حروف، وميم ثلاثة حروف، وراء حرفان. وهي ثمانية حروف، حملة العرش. الكاف والنون على الأصلين العلويين والستة الباقية على الناطق والأساس والإمام والداعي والمستجيب. والستة مقام الستة حروف دالة على الحدود.
10 (2) أسس التاريخ
وقد تحول تاريخ الأديان إلى فلسفة في التاريخ تقوم على أسس ستة تجمع بين الثبات والحراك، بين المنطق والجدل على النحو التالي: (1)
القائم، وهو النبي ابتداء من آدم. عاش مائة عام. فترته ألفان وثمانون شهرا وخمسة عشر يوما. ليس له شريعة وإن كان له أمة. ثم نوح. وكانت قيلته المغرب، ونسخ الأمر. ثم إبراهيم وكانت قبلته البيت، ونسخ نوح. ثم موسى، وكانت قبلته المغرب، ونسخ إبراهيم. ثم عيسى، وقد تكلم بالتأويل وضرب الأمثال. ثم محمد وله أربعة عشر اسما، سبعة في القرآن، وسبعة في الحديث. ثم القائم صاحب سدرة المنتهى. فالنبوة لم تنته بمحمد. والمجموع سبعة. القائم لم يمت بعد وما زال مستمرا. وهو خليفة الرسول. ومنه تبدأ الثورة. والقائم لم يمثله أحد بعد. (2)
الأساس، وهو الذي يقوم مقام النبي، شيث بعد آدم. عاش بالطائف. وسام بعد نوح، وإسماعيل بعد إبراهيم للباطن وإسحاق للظاهر، وهارون بعد موسى، ويوشع بن نون ثم أولاد هارون، شمعون الصفا بعد عيسى، وعلي بعد محمد. وعليه تقوم الدعوة بعد أن ضاعت بفتاوى فقهاء السلطان. (3)
الضد. لكل نبي ضد أو ضدان، إبليس وقابيل لآدم، ونمرود لإبراهيم، وفرعون لموسى، ويهوذا لعيسى، وأبو لهب لمحمد. والقائم ليس له ضد لأنه أقوى من الضد وبالتالي أقوى من النبي. الند هو المعارض والخصم والعدو مثل الأموية مغتصبي السلطة معاوية وآله، ويزيد وعصابته. (4)
صاحب الفترة. لكل نبي أصحاب فترات أي علامات ومؤشرات عليه، شخصيات تنبؤ بقدومه أو تحمل ضوئه مثل برد ومهلائيل ولاؤي بالنسبة لأدم، وقابيل وتارخ أخو لوط بالنسبة لنوح، وقيدرا (إلياس) ويهوذا ولاؤي بالنسبة لإبراهيم، ويونس وزكريا بالنسبة إلى محمد. فهناك فترة فتح دور القيامة، فترة ابتداء النشأة الأخرى، الفترة بنفسها علامة دون شخص. فالتاريخ قد اكتمل وانتهى. أما القائم فليس له أصحاب فترات. فالتاريخ قد بدأ على الإطلاق.
ولا توجد فترة في محمد نظرا لوجود الخلفاء لإكمال السبع المثاني. ولا يكون في دوره انقطاع عن الأئمة كما كان في الأدوار الماضية. ليس بعد شريعته شريعة أخرى تحدد نهاية الدور. وعلامة هذه الفترة استتار الأئمة لوقوع الشر والانتقام من الأشرار وعصيانهم والخروج عليهم. وقد يضاف إليه المتم وهو الذي يكمل الدورة بعد أن تتحقق الدعوة في التاريخ. صاحب الفترة هو المؤشر على البداية والمتم هو العلامة على النهاية. (5)
الإمام هو الذي يؤم الناس إلى الهدى. فبعد كل نبي أئمة سبعة. بعد آدم هابيل ثم شيث ثم برد ثم مهلائيل ثم فالغ، وهم خمسة. وبعد نوح سام ثم أرمخشد ثم غابر ثم هود ثم ثالخ ثم صالح ثم أرغوس ثم ثامور ثم لوط، وهم تسعة. ولإبراهيم إسماعيل ثم قيدار ثم إسحاق، ثم يعقوب ثم يوسف ثم عمار ثم ابن يامين ثم شعيب، وهم سبعة. ولموسى هارون ثم عمران ثم يونس ثم ذو الكفل وجرجس آخرهم، وهم أربعة. ولعيسى اليسع (فياليس) وقس بن ساعدة الأيادي، وكلهم من ولد إسحاق، وهما اثنان. ولمحمد علي ثم الحسن ثم الحسين وكلهم من ذرية إسماعيل حتى إسماعيل بن محمد، وهم ثلاثة. وواضح صعوبة العد والعثور على سبعة. فالتاريخ لا يسير طبقا للأعداد. وواضح أيضا تكييف الواقع التاريخية طبقا للنسق، وإدخال قس بن ساعدة كإمام مسيحي عربي من الأئمة السبعة بعد المسيح. وإذا بلغ الإمام السابع انتقل من الإمامية إلى النطقية في الدور التالي. (6)
اللاحق وهو من يتلو الإمام أو يكون مصاحبا له. وهم اثنا عشر مما يتطلب وجود لاحقين لكل إمام. وربما أراد السجستاني أن يجمع بين الإسماعيلية التي تقول بالأئمة السبعة والاثني عشرية التي تقوم بالأئمة الاثني عشر.
وشرف آدم في أساسه شيث، هبة الله إليه. وينتقل الدور من هابيل إلى شيث إلى برد إلى مهلائيل إلى فالغ حتى نوح صاحب الدور الثاني فينسخ ما جاء به آدم من الأمر وإن لم يكن لأدم شريعة. فالنسخ قد يكون للأمر وليس فقط للشريعة. وجعل نوح قبلته المغرب ثم استرق منه نوره في أساسه سام ثم إلى أرفخشد إلى غابر إلى هود إلى شالح إلى صالح إلى أرثمو إلى نافور ولوط وغيرهم وحتى ظهور إبراهيم. فالمغرب يشرق النور طبقا لمنطق التضاد. وتظهر الأسماء الفارسية مثل أرفخشد والعبرانية التي تدل على مصادر الفكر الشيعي، ثقافة فارس ودين إبراهيم. ثم نسخ إبراهيم شريعة نوح وجعل قبلته البيت. ثم انتقل النور إلى أساسه إسماعيل إلى قيدار إلى يامين وشعيب. وأصبحت فترته أولاد يعقوب إلى قيدار ويهوذا ولاؤي. وواضح من هذا التسلسل للنور الدفاع عن المعارضة ضد رواية أهل السنة للأحاديث الموضوعة دفاعا عن السلطة. وتتفاوت الفترات بعد نوح. ثم ظهر موسى وهو صاحب الدور الرابع فنسخ شريعة إبراهيم، وتوجه إلى المغرب اقتداء بنوح. ثم انتقل إلى يوشع كفيلا لأولاد هارون. وبعد ستة أئمة رجع الأمر إلى أولاد هارون لأن أولاد يوشع كانوا غير مستقرين، فالاستقرار ضروري للنبوة. ولا تكفي الحياة الرعوية المتنقلة.
11
وأصحاب الفترات منهم عمران ويوسف وذو الكفل. الفترة أصغر من الدور، والدور أكبر من الفترة. الدور بين نبيين، والفترة مراحل صغرى داخل كل نبوة. وعيسى مثل آدم، انتقل الأمر منه وصية إلى شمعون الصفا. وأصحاب الفترات بعده إصطفانوس ورقيا وإلياس. وأحيانا يبدو شمعون الصفا هو الوحي وأحيانا الأساس مما يدل على ضرورة اتفاق التاريخ مع المذهب حتى ولو على أنحاء مختلفة. ومحمد صاحب الدور السادس. نسخ شريعة من تقدمه من النطقاء، وجعل قبلته مثل جده إبراهيم، وأظهر بواطن شرائع من تقدمه. والأئمة من بعده متممين لشريعته ومحبين لسنته. لا تنسخ شريعة أخرى شريعته. أساسه علي بن أبي طالب الذي كان له بمنزلة شعيب من آدم وسام من نوح، وإسماعيل من إبراهيم، وهارون من موسى، وشمعون الصفا من عيسى. وهم أصحاب النطق إلى ظهور الأشهاد. ودوره هو دور القرآن العظيم، وهو الدور السابع. والسؤال الآن: ما هي الفترات بعد محمد؟ هل يمكن معرفتها حتى القائم والقائم بنفسه غير معروف؟ وإذا كان القائم غير معروف وقت ظهوره ولا وقت عودته فكيف يمكن تحديد فترته؟ وإذا كان محمد أتى ببواطن الشرائع فهل يأتي الأئمة ببواطن بواطن الشرائع؟ ومن هم الأئمة بعد محمد؟ ويتضح مفهوم سلالة الأنبياء ليس فقط روحيا بل أيضا جسمانيا. ولا عجب أن يكون الحكم ملكيا وراثيا فيما بعد. وهو أكبر رد فعل على ظلم البيعة والاختيار كما حدث في السقيفة.
ويتم وصف هذه الأدوار والفترات على نحو كلي مضافا إليها الشريعة. فأول دور دور آدم، أول مرتبة النطقاء، وأول وراء الستر. ليس له شريعة لما فيه من قوة الفطرة والحكمة وسجود الملائكة له. لذلك كان القائم تمامه وآخره وصاحب دور الكشف لما استتر من أدوار النطقاء. آدم يستر، والقائم يكشف. وأحيانا آدم يكشف، والقائم يستر. بدأ الخلق بآدم كي يعيده القائم فيظهر البيان، ويزول المستور. أساسه شيث، وسبعة من بعده، واثنا عشر من اللواحق. ومرتبته في العدد الآحاد. ليس له شريعة كشرائع النطقاء من بعده. والمستور أكبر رد فعل على الظاهر، والحق الضائع المستور أقوى رد فعل على الظلم الظاهر، الدولة القائمة. أما نوح والأئمة السبعة ولواحقهم الاثنا عشر فله قوة الرفع وابتداء الشرائع. قوته العشرات. وأساسه ولده سام. ودوره ألف سنة إلا خمسة أعوام. وإبراهيم الدور الثالث. وأساسه إسماعيل الباطن وإسحاق الظاهر. والأئمة السبعة من ولد إسحاق ولواحقهم الاثني عشر. وقوته من المائة. وعيسى صاحب الدور الخامس. وأساسه شمعون الصفاء والأئمة السبعة من ولد إسحاق. وآخرهم جرجس. وقوته من عشرات الألوف. ومحمد صاحب الدور السادس. يصل إليه النور من الدور السابق وأساسه علي. ولواحقه الاثنا عشر. وقوته مئات الألوف. ومحمد بن إسماعيل صاحب الدور السابع من ذرية علي. ولواحقه الاثني عشر. وقوته ألوف الألوف. أول دور الخلفاء الأمجاد. ومنه تمام الثاني، وابتداء النشأة الأخرى، وفتح دور القيامة. وصاحب سدرة المنتهى الذي هو القائم. وقوته ألف ألف. وقام وراءه ثلاثة أئمة. ولا تتحدد فترة القائم الموجود حاليا أم أنه لم يظهر بعد؟ والسابع هو الوحيد الذي له اثني عشر حجة وليس ستة أئمة، أي النصف. نكص ثلاثة. يهوذا واحد منهم. واستمر تسعة آخرون، ثلاثة في ثلاثة. وبعد محمد أئمة ستة، والسابع محمد بن إسماعيل. وهو ليس القائم بل الإمام السابع، أول الكهف والاستتار. وقام بعده ثلاث أئمة مستورون من ولده أصحاب الأدوار. وبين كل ناطق مستودعون يسبقونه.
12
وهذا كله قراءة التاريخ طبقا للمذهب. فتحديد دور نوح ألف سنة إلا خمس أعوام ليس تحديدا تاريخيا بل مذهبيا. ودور موسى غير مذكور لأنه يكفي أمثلة من باقي الأدوار. وتزوج الرسول اثنتي عشر زوجا ومات عن تسعة. فالحقائق العددية واحدة، والعدد هو الذي يتحكم في التاريخ. والوفاة ليست مسئولية الأزواج. كما أن الموضوع ليس استقامتهن بل إشارة متضمنة إلى عائشة وقوفها ضد علي.
ويمكن قراءة الجدول ليس فقط رأسيا: القائم، والأساس، والضد، وأصحاب الفترات، والأئمة، واللواحق بل أيضا أفقيا طبقا للأنبياء السبعة. فآدم هو القائم، وأساسه شيث، وضده إبليس وقابيل، وأصحاب الفترات برد ومهلائيل ولاؤي، والأئمة هابيل ثم شيث ثم برد ثم ملائيل ثم فالغ. واليوم الأحد والعدد الآحاد. ونوح أساسه سام، وأصحاب الفترات قابيل وتاريخ أخو لوط. والأئمة سام ثم أرفخشد ثم غابر ثم هود ثم شالخ ثم صالح ثم أرغوس ثم نافور ثم لوط. واليوم الاثنين، والعدد عشرات، والدور تسعة وخمسون سنة. وإبراهيم أساسه إسماعيل الباطن وإسحاق للظاهر. والضد نمرود، وأصحاب الفترات قيدار (إلياس) ويهوذا ولاؤي من أولاد يعقوب. والأئمة إسماعيل ثم قيدار ثم إسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم عمار ثم ابن يامين ثم شعيب. واليوم الثلاثاء والعدد المئات. وموسى أساسه هارون، يوشع بن نون ثم أولاد هارون، والضد فرعون. وأصحاب الفترات يونس وزكريا. والأئمة هارون ثم عمران ثم يونس ثم ذو الكفل. واليوم الأربعاء، والعدد الألوف. وعيسى أساسه شمعون الصفا. والضد يهوذا. وأصحاب الفترات إصطفانوس ومرقيا وإلياس (اليا). والأئمة المسيح أليسع (فياليس)، قس بن ساعدة، الأيادي، واليوم الخميس وعشرات الألوف. ومحمد أساسه علي، والضد أبو جهل وأبو لهب. وأصحاب الفترات فتح دور القيامة وابتداء النشأة الأخرى. والأئمة علي ثم الحسن ثم الحسين ثم من ذرية إسماعيل حتى محمد بن إسماعيل. واليوم الجمعة. والعدد مئات الألوف. وأول دور الخلفاء ثم تمام الثاني. والقائم لا أساس له، ولا ضد، ولا أصحاب فترات، ولا أئمة. اليوم السبت، والعدد آلاف الألوف. وهو رسول مثل محمد. ربما هو المهدي المنتظر. فالتاريخ لم ينته بعد. لذلك وصل حد الشرك بالإمام إلى حد الشرك بالله. نهاية التاريخ استنتار بالسلطة ودفاع عن الأمر الواقع، واستمرار التاريخ حركة للمعارضة ورغبة في تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل. هؤلاء هم صفوة الصفوة من العالمين الجسماني في النطقاء السبعة وهم أصحاب شرائع وأحكام، حلال وحرام. وبينهما ثلاثون نبيا أي في كل فترة خمسة أنبياء مبشرون ومنذرون لما شرعوه. لم يغيروا شيئا بل تابعوا النطقاء. وبين الناطق السادس والقائم السابع أئمة ظاهرون عاملون بالشريعة. لم يغيروا شيئا فيها. ومع السادس سنة الله الجارية.
13
ويبدو من هذه القراءة الأفقية أن الركن والأساس أو الضد قد يكون واحدة أو أكثر، اثنين أو ثلاثة. وقد يكون أصحاب الفترات أيضا اثنين أو ثلاثة. أما الأئمة فسبعة، واللواحق اثنا عشر دون زيادة أو نقصان. ولا يوجد تحديد الزمن الدورة إلا لنوح. ويظهر النصارى العرب مثل قس بن ساعدة والأيادي كأئمة لعيسى. والقائم لا أساس له ولا ضد ولا أصحاب فترات ولا أئمة. إنما له يوم وعدد لأنه مفتوح على المستقبل. ويتم تحديد عمر آدم بالسنة والشهر واليوم، وتحديد دور نوح بمثل هذه الدقة دون تحديد باقي أعمار الأنبياء ودوراتهم.
14
وفي تصور آخر تختلف ألفاظ الأركان الستة. ويصبح الأساس هو الوحي، وأصحاب الفترات هم الأوصياء. ويظل الأنبياء سبعة.
15
ويلاحظ غياب العدد كلية في كل الأنبياء، وغياب الأئمة باستثناء عيسى. ويشترك البعض في الأوصياء والأئمة مثل دحية الكلبي ونوفل وسطيح الراهب في عيسى. ويظهر أوصياء عرب مثل سطيح ونوفل (بحيرا الراهب) وجرجس. كما يظهر أئمة عرب مثل دحية الكلبي ونوفل وسطيح الراهب في الحجاز، وبحير الراهب وصهيب المرقوني وكعب في الشام وسلمان الفارسي في فارس وزرقاء اليمامة وسيف بن ذي الحزن في اليمن، مع تعريب تاريخ بني إسرائيل. كما يظهر أضداد ومن آلهة العرب مثل يفوت ويعوق ونسرى. ويأخذ بعض الأئمة ألقابا مثل الحسن المستودع والحسين المستقر. والقائم لا وصي له ولا ضد ولا أئمة ولا عدد ولا دورة له. وأحيانا تذكر الفترة أو العمر بالدقة المتناهية، السنة والشهر واليوم، كالسجل المدني. وأحيانا لا يذكر شيء على الإطلاق أو يكتفي بالسنة أو السنة والشهر دون اليوم. وتدل كثرة أسماء الأئمة على وفرة القيادة السياسية ضد أئمة الظلم والتسلط، وتظهر الأعداد الرمزية مثل العددين 12، 7. وتكمل التصورات بعضها بعضا. فاللواحق الاثنا عشر، والأيام وحدة الدورات وتفضيل الأئمة وفترة القائم وعمره ومكان ولادته ودفنه وقبلته ليست مطردة في كل الأدوار. ويختلف أهل الظاهر وهم العامة عن أهل الباطن وهم الخاصة داخل الشيعة. وتكثر الأضداد عند على نظرا لكثرة أعدائه وتجمع أهواء البشر كلها ضده. وينشأ به تاريخ الأمة مع تاريخ الأنبياء، جعفر مثل يعقوب الذي انتقل الأمر إلى ولده ناقور، ويخرج إخوان الصفا من الإمام السابع محمد بن إسماعيل مما يدل على أنهم سابقون على الفكر الشيعي، وأنه كان فكرا جماعيا قبل أن يتبلور في أفراد مثل السجستاني. ويذكر ذو القرنين ليس باعتباره وافدا يونانيا بل باعتباره أحد الأئمة بعد نوح.
ويظهر حساب دقيق لكل فترة من أصحاب الفترات داخل الدور الواحد. دور آدم 20 سنة + 4 أشهر + 15 يوما بهذه الدقة المتناهية ربما من أجل إنهاء الفترة إذا ما ظهر القائم من أجل الإيذان بالثورة. كما يتم تحديده ضده، إبليس وعمره 100 سنة ومكان دفنه، سطح جبل أبي قبيس بمكة المشرفة على خلاف ما يرى أهل الظاهر من إطالة عمر النبي حتى ألف عام تعبيرا عن الخيال الشعبي. كان وصيه هابيل وبعده شيث الذي كتم الأمر وأخذ العهود والمواثيق. وأول من ظهر بالشر في دور آدم. فمسار التاريخ من التجلي إلى الستر عند آدم في البداية ثم من الستر إلى التجلي عند المقام في النهاية. ودفن بالطائف. ويكفي تحديد المكان دون الزمان لربط الخيال بالواقع. ثم أتي بعده آنوش، وكان ضده بقيانوس من ولده قابيل. فالشر متوارث مثل الخير دون تحديد زماني أو مكاني اكتفاء بالسلالة. ثم قام من بعده فينان وهو مهبائيل. وكان ضده سقاري، وأيامه أيام فترة. فالوحي له اسمان تضخيما للعظمة دون تحديد للمكان أو الزمان. ثم أتي بعده متوشالح ثم فحائيل وهو فالغ، وكان عمره 150 عاما. وهنا يأتي وصيان في فترة واحدة. والثاني له اسمان. وعمره محدد في الزمان. ثم قام بعده يزد، إماما لفترة، وعمره 78 عاما. وهنا يتناقص العمر. ثم قام بعده إدريس عند علو العظمة وهو أخنوخ. نزلت عليه ثلاثون صحيفة. وأول من خط القلم، سمته الفلاسفة هرمس المثلث بالحكمة. وهذه هي الإشارة الوحيدة ربما لهرمس باعتباره إدريس عند المسلمين، وأختوخ عند اليهود، إحالة للآخر إلى ثقافة الأنا. وهنا يبدو موقف الشيعة من تاريخ الأديان موقف المتمثل وليس الرفض. فالفرق غير الإسلامية جزء من الفرق الإسلامية. وتتداخل الأسماء العبرانية مع الأسماء العربية نظرا لأن تاريخ الأديان هو تاريخ العبرانيين.
16
وتتفاوت الأدوار من حيث طول الفترة وقصرها. فالدور الكبير يبدأ من آدم إلى القائم. كل الوحي وكل التاريخ. والدور الصغير بين كل ناطق وناطق أي نبي ونبي. ويتخلل الدور سبعة أئمة مستقرون في الفترات التي تحدث لعلل وأسباب. فالأئمة خلفاء الرسل كالأحوال بين مقامين عند الصوفية.
17
الرقم
النبي
الاسم الصامت
الأئمة الستة
السابع
1
آدم
شيث
6
يرتقي إلى الناطق الثاني
2
نوح
سام
6
يرتقي إلى الناطق الثاني
3
إبراهيم
إسماعيل
6
يرتقي إلى الناطق الثاني
4
موسى
هارون
6
يرتقي إلى الناطق الثاني
5
عيسى
شمعون
6
يوشع أم هارون
6
محمد
علي
كثيرون
يوشع أم هارون
وكل نبي له أساسه الصامت.
18
الإمام الأول بعده ستة أئمة. ودور محمد هو دور القرآن، خاتم الدائرات العظمى. فمحمد، خاتم الأنبياء، بعده القائم. ومحمد مثل باقي النطقاء لا يتميز بشيء. وواضح أيضا قبول الأئمة بعد عيسى مثل قبول الأئمة بعد محمد. شمعون الصفا (بطرس) بعد عيسى، وعلي بعد محمد. لكل ناطق صامت يكون قريبا منه وأساسا له مثل موسى وهارون . وفي كل دور اثنان صامت وناطق. الناطق ينسخ شريعة من قبله ويأتي بشريعة جديدة. والصامت ينسخ تأويل ما قبله ويأتي بتأويل جديد. (3) مراحل التاريخ
وتكرر نفس الأفكار من أجل التحول من تاريخ الأنبياء إلى فلسفة التاريخ مرة في سلسلة متصلة واحدة، ومرة متقطع دورا دورا. فهناك سبعة أدوار: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم. (أ) آدم
أهم الأنبياء كما يبدو ذلك من حجم الإشارة إليه وظهوره حتى في الفهرس في مقدمة الكتاب. هو أبو البرية. لم يكن هناك شيء قبله كما تدعي الهندوسية، ربما مرحلة الصفر قبل الآحاد ما دام العدد لا نهائيا من البداية والنهاية. آدم هو المختار والمستوفي وصاحب الاستحقاق. وآدم لا من أنثى ولا من ذكر، في حين أن عيسى من أنثى دون ذكر. هناك إعجاز في الخلق منذ البداية. تبدأ النبوة بآدم خليفة الله في الأرض، سيد الكون. دله على الأسماء، وأمره بالكشف عنها للملائكة. ضعف عزمه لما أضله ضده الذي استكبر على السجود. فكل شيء له ضد. وهو جدل الصراع بين الحق والباطل، ومن ثم ضرورة الجهاد. والأسماء ليست هي العلوم كما يقول علماء العامة، أهل العمى والتيه أو أسماء أئمة الحق وأئمة الجور كما يقول بعض علماء الشيعة، وإنما أسماء من اختص من عباده ليقيم عليهم الحجة البالغة. وقد تكون هي الأسماء التي علمها الله له، أي اللغة الإشارات إلى الطبيعة وإشارات الطبيعة له. وربما هي المعاني تأكيدا على دور العقل في فهم المعاني، علاقة الإنسان بالطبيعة كما فعل حي بن يقظان. وربما تكون هي الأسماء التسعة عشر التي تاب الله عليه والملائكة التي سجدت لآدم اثنا عشر. وهم في الستر. يتغيبون ويظهرون بغياب القائم وظهوره. وحروف النطقاء السبعة ثمانية وعشرون: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم، وكذلك حروف أسماء الأوصياء السبعة: شيث، وسام، وإسماعيل، ويوشع، وشمعون، وعلي، ومهدي. وأسماء الأئمة السبعة: علي، وحسن، وعلي، ومحمد، وجعفر، وإسماعيل، ومحمد. لم تكن له شريعة لأنه لم يكن هناك قوم بل كانت نبوته على الملائكة وكأن الملائكة مكلفون، لهم إرادات حرة تختار بها الحسن دون القبيح حتى تستحق الثواب دون العقاب. الملائكة مجبرة على الخير والطاعة وبالتالي الثواب. النبوة مرتبطة بالإنسان وليس بالملائكة أو بالطبيعة. العقيدة سابقة على الشريعة في الزمان والتاريخ. لذلك لم تكن لآدم شريعة. وأول من شرع هو نوح. يمكن للنظر أن يكتفي بذاته، حقيقة بلا شريعة، تصور بلا نظام. ويرمز آدم للغرب لأن الذي شرق غرب. والمغرب تسع ركعات. آدم يرمز للمغرب في حين أنه للفجر أولى، فجر النبوة. وقد يعني العشاء لأن منه تغشى الرحمة. بداية آدم الكشف الروحاني والجسماني. وآدم أول «الكلمة».
19
بعده ستة نطقاء وستة أوصياء، مد من حجة القائم سبعة أحرف. وكل ناطق والأئمة ستة حروف إلا محمد فإنه أربعة وعشرون حرفا. حجج القائم ثلاثة حروف ثم ستة وسبعون حرفا لحجج نوح وأئمته من دور آدم لأنه لم يكن له حجج ولا دعاة تسعة وعشرون حرفا لأياديه وحججه. وصعبت أيام دعوته من أجل هابيل. فمجموع الخلق وبدأ الحروف والأيادي 730 حرفا حدثت منها حروف الخلق إلى يوم القيامة وكشف الستر وظهور الكشف. فما هي هذه الحروف؟ وما دلالة العدد 730حرفا؟ هل هذا تفسير لنزول القرآن على سبعة أحرف؟ ليس الحرف هنا فقط حرف اللغة المقروء أو المسموع بل هو الطبيعة والكون، «الكلمة المتجسدة». ولماذا الاختلاف بالزيادة المتدرجة من ستة حتى ستة وسبعين؟ كل ذلك من سمات فكر المعارضة مقابل فكر السلطة، الغموض ضد الوضوح، الباطن ضد الظاهر، الخيال في مقابل الواقع، الوهم في مقابل الحقيقة.
هبط آدم وحواء وإبليس من الجنة إلى الأرض نتيجة لتفاعل الأضداد ولقيام الدعوة، من الصامت للبيان والهداية مثل آدم وحواء، وكلمتي الشهادة. وتعني التوبة الرجوع إلى الحالة التي افتقدها آدم، العودة إلى دور الستر، وانقضاء دور النطق وظهور القائم. لذلك أتت التوبة بعد السبع الطوال بإزاء الفاتحة. وقبول توبته بظهور القائم بعد مضي أدوار النطقاء. هناك رؤية مأساوية في حياة آدم وباقي الأنبياء تشبه وضع الشيعة النفسي كمجتمع المضطهدين: صراع الأضداد، ظهور الأوصياء والأئمة لاستمرار المقاومة، وانتصار القائم في التاريخ إن عاجلا أو آجلا. آدم أول جسماني عبد الله وأظهر أمره. وكان أعلم من الملائكة وأفضل منهم بالعلم الذي أطلعه الله عليه. لذلك وجب له سجود الملائكة. وهم حجج دور الكشف. وهم اثنا عشر، وأصحاب المراتب والمنازل. خرج عن طاعة إبليس وقابيل لحسده وتكبره على هابيل ظانا أنه يرقى منزلة آدم. فخالف أمره وعصاه. وأصحاب الفترات في دوره، برد مهلائيل ولاؤي. وواضح أثر الإسرائيليات في إطلاق الأسماء. أمره الله أن يسكن هو وزوجه الجنة. ووجه محبته، والجنة دعوته، والشجرة بيانه. عند البعض حد القائم الذي أراد آدم التطاول عليه. وعند البعض الآخر البر الذي لا يجوز كشفه لأهل دعوته وهو الأرجح. وتتدخل رمزية الألوان في التصوير، لما هبط آدم من الجنة مسخوطا كان أسود ثم أصبح أبيض لما تاب الله عليه تدريجيا على ثلاثة أيام، ثلثا كل يوم، تأكيدا على التطور والنماء. وقد كان الله قادرا على بياضه في يوم واحد بل وفي طرفة عين. فلكل مثل ممثول، ولكل ظاهر باطن. وهي رمزية مستمدة من القرآن في جدل الأبيض والأسود.
20
وهي جماليات عربية خالصة لأن الأسود جميل في الجماليات الإفريقية في المجتمع الأبيض. وواضح أن الفكر الشيعي يحكمه منطق الهوية والاختلاف. إذ يتطابق كل شيء مع كل شيء، الحروف والأعداد والأفعال والأكوان. وفي نفس الوقت يقع التفاوت والاختلاف والتضاد في كل شيء. (ب) نوح
من النطقاء الخمسة. فالكلمات خمسة أحرف دلالة على النطقاء الخمسة. الكاف نوح لكون الشريعة وكون السفينة، واللام إبراهيم الذي لمعت النبوة والإمامة في عقبه. والميم موسى الذي به تربعت الرسالة. والميم بحساب الجمل أربعون، والألف عيسى الذي لم ينسب إلى أحد من البشر. كما أن الألف لا تتصل بحروف. والتاء محمد الذي به تمت الشرائع. وتلاه صاحب اليوم الآخر، ويبدأ ظهور نوح بتوبة آدم ورجوعه إلى الستر الأول. فيظهر الناطق الثاني. أول من خرج من السفينة، وغرس الكرم لإيجاد الخمر كما هو في التوراة، أي إنه نبي الشرائع التي منها مخامرة العقول ومدهشة الأذهان. نوح هو أول من شرع الشريعة. ومدة الدور الثاني 742 عاما + 7 أشهر + 15 يوما. وهو أصغر من الدور الأول، دور آدم. عاش 950 عاما أكثر مما عاش آدم. ويتدخل الخيال الشعبي في الحالتين إذا طالت المدة إلى ألف عام، ويختفي إذا قصرت المدة إلى مائة عام وهي حدود الخيال الشعبي الآن إذا ما دعي لأحد بطول العمر والبقاء. ونوح أول رسول من أولي العزم مع أن آدم مثله. ضده حام أي الغرب. والساميون هم الأوصياء. فمعاداة الغرب واجبة، الشرق ضد الغرب، واليهود ضد الغرب. وقيل إن الضد يفوت ويعوق ونسرى، آلهة العرب. الضد له أكثر من اسم. وقد دفن بالجودي. وصية سام، وضده أنوش بن كنعان أو يفوث الذي يقال إنه عاش 168 عاما. ثم قام بعده أرفخشد وهو آريل. ويقال له غابر. منه إلى فالغ ويقال له ذو القرنين الذي وصل إلى علم الظاهر والباطن. ثم من بعده هود وهو ميخائيل ثم صالح ثم لوط. وكان عمره 120 عاما. وكان صاحب فترته قابيل وتارخ أخو لوط. وقد ساح عند اشتداد الظلمة. وقام فالغ بن عابر بالسيف، وهو ذو القرنين بن هود. ويلاحظ تكرار الأضداد وعدم شهرتها مثل فرعون ونمرود ويهوذا وأبو لهب. وبعض الأوصياء لهم أكثر من اسم مثل أرمخشد أي آريل أي غابر، وفالغ أي ذو القرنين، وهود أي ميخائيل. وبعض الأسماء ثقيلة على الأذن مثل أرفشخد بها أصوات فارسية. والبعض له رصيد عبراني مثل ميخائيل خاصة وأن العبرانيين يعيشون نفس فكرة الاضطهاد، وتأصيلا تاريخيا للفكر الشيعي في فكر المضطهدين. وهل ذو القرنين الذي نال علم الظاهر والباطن هو الإسكندر وهو معاصر في القرن الرابع الميلاد بالنسبة إلى الفترة ما بين نوح وإبراهيم من القرن الأربعين حتى القرن العشرين قبل الميلاد. ومن الصعب ضبط هذه التواريخ زمانيا. وكيف تنتشر الدعوة بالسيف، والأئمة دعاة هدى إلا أن يكون الصراع قد بلغ أشده؟
21 (ج) إبراهيم
ولقبه الخليل كما أن آدم الخليفة، وموسى الكليم، وعيسى كلمة الله وروح منه، ومحمد المصطفى ، وهو ليس فقط أبو الأنبياء بل هو أبو الشعوب. ينتمي إليه العرب والعجم، الناطق والمستور، الظاهر والباطن. ولا تعني العجم هنا الفرس بل كل غير العرب مثل البربري بالنسبة إلى اليوناني. فإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو العجم. وهذه هي القرابة، أن يكون الأب عربيا، وأن يكون الابن أبا العجم، ولا غرابة في ذلك لأن دور الكشف للعرب، ودور الستر للعجم. العرب العاربة أهل الباطن، والعجم العاجمة أهل الظاهر. إسماعيل مبدع، وإسحاق مقلد. والإمامة للمبدعين لا للمقلدين. لذلك خرج موسى وعيسى من صلب إسحاق المقلد للظاهر حتى أتى محمد من صلب إسماعيل فأظهر الباطن. وقد أخبر الله في التوراة وفي الإنجيل أنه يكون له من ولد إسماعيل اثنا عشر ملكا عظيما، ولم يكن له من ذرية إسماعيل إلا محمد. والعجيب أن إعطاء العرب دور الكشف، والعجم دور الستر يدل على خلو الفكر الشيعي من الشعوبية التي لزمته في الدراسات الشائعة.
الدور الثالث دور إبراهيم 1150 عاما + 7 أشهر + 8 أيام. وهو دور أكبر من الثاني، وأصغر من الأول. وضده نمرود بن كنعان أول ملوك الجبابرة. عاش 113 عاما، ودفن في بيت القدس. كان وصيه إسماعيل وعمره 90 عاما وقبره بمكة. ثم قام من بعده أخوه إسحاق ثم ولده يعقوب ثم ولده يوسف ثم ناقور أو يامين ثم عمران بن شعيب وأصحاب الفترات إلياس وهو قيدار ويهوذا ولؤي. ويلاحظ هنا أن المقصود ليس التحديد الزماني أو المكاني بل الترتيب الذهني والنسق الخيالي. فكيف يدفن إبراهيم ببيت المقدس وقد عاش بمكة؟ وكيف يدفن إسماعيل بمكة وأبوه ببيت المقدس؟ ويلاحظ الأسماء العبرية وأصولها التوراتية.
وإسماعيل وصي إبراهيم، والإمامة في عقبه حتى ظهور محمد. ثم تخرج منه إلى علي وولده من بعده. واختفى أبناء إسحاق تقية من غلبة الفراعنة والأضداد، ودخلوا في دور الستر. إسماعيل الكشف، وإسحاق الستر. إسماعيل الباطن، وإسحاق الظاهر. ثم صار أولاد إسحاق لواحق وأبواب لولد إسماعيل بالرغم من خلاف البعض. الإمام من قيدار بن إسماعيل لا من ولد يعقوب. وما زالت الإمامة في ولد قيدار بن إسماعيل حتى عدنان فحسده أخوه على المرتبة. وكانت العرب تستشيره لحكمته. ثم أخفى أمره، وخرج إلى الشام كما خرج الرسول مهاجرا إلى المدينة. وهو الإمام في عصر موسى. وكان شعيب لاحقه وحجته وصاحب عترته. وهو المخاطب لموسى من الشجرة. واستتر أولاد إسماعيل تقية من فرعون والأضداد. وظهر أولاد إسحاق. ويذكر يوسف في تأويله الأحلام. فالخمر في الحلم الظاهر، والباطن هو الحقيقة.
أعلن إبراهيم وصايته لولده إسماعيل في دور إسحاق ثم إلى يعقوب ثم إلى يوسف. ثم وقعت فترة طويلة إلى أن اتصلت الإمامة بأيوب ثم إلى يونس ثم إلى شعيب. وهو مقياس موضوعي لطول الفترات وقصرها. كما توجد بعض اختلافات بين حكماء الشيعة في وصف تفصيلاتها. كما يوجد بعض التعسف في الواقع كما هو الحال في كل فلسفات التاريخ حتى تتفق مع الرؤية العامة. ويرفع إبراهيم القواعد من البيت أي الأربعة أركان: إسماعيل ومحمد والقائم وليس لإسحاق فيه شيء، ركنان متقدمان إبراهيم وإسماعيل وركنان متأخران محمد والقائم من ولد إسماعيل. كما تقوم صلاة الظهر على أربعة أركان بتسليم واحد. الفرض مثل إبراهيم وإسماعيل، والسنة مثل محمد والقائم. وموسى وعيسى من ولد إسحاق. وهنا تتحول الشريعة إلى نبوة، والنبوة إلى تاريخ.
22
ولما كان كل دور يبدأ لينهار كما حدث لأدوار آدم ونوح من قبل فإنه يحدث الآن لدور إبراهيم. فقد خرقت شريعة إبراهيم. وتهاون أهلها. وتقاعسوا عن القيام بفروضها، وفرطوا فيها مما أدى إلى تبديلها بشريعة أخرى على أيدي ناطق آخر يقيمها. فالنطقاء أطباء النفوس. يظهرون في الوقت المناسب بأمر الخالق، ويقيمون السياسات الإلهية والأحكام التشريعية مما يصلح لذلك الزمان فتصلح النفوس وتزال عنها الأدران. النطقاء مثل الأنبياء أطباء النفوس. وهو تشبيه شائع عند إخوان الصفا والفارابي وابن سينا. يظهرون بأمر الخالق أي بقوانين التاريخ ونضج الثورة. والإصلاح تطهر فردي قبل التغير الاجتماعي، والداخل قبل الخارج كما هو الحال عند الحكماء.
23
الإمامة في نسل إبراهيم بناء على طلبه واستجابة الله له. وهي نظرة عرقية تجعل النبوة وقفا على بني إسرائيل في حين عممها القرآن
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . ليست الذرية حقا مكتسبا
قال لا ينال عهدي الظالمين . وفرق بين ولادة الدنيا وولادة الدين بين الولادة الظاهرة والولادة الباطنة. والنبوة من الولادة الدينية لا من الولادة الدنيوية، من الولادة الروحية وليست من الولادة البدنية، النسب والقرابة والذرية. بل إن ذرية إبراهيم تسود دورته أكثر من إبراهيم ذاته مؤسس الدين الطبيعي.
24 (د) موسى
ولقبه هو كليم الله. فقد تكلم مع الله ولم يره. وهو أوسط النطقاء. قبله آدم ونوح وإبراهيم. وبعده عيسى ومحمد والقائم. فهو أقواهم. ما قبل موسى يمهد له. وما بعد موسى مستمد منه مثل سليمان. كان قويا ضد خصومه. ولما كان لكل نبي خاصية فإن خاصية موسى شريعته ووضع سياسة تميزه عن غيره من الرسل. كما حظر أمته دخول السكن زمنا والجلوس على المائدة في حين رخص ذلك لنفسه ولأولاد أخيه هارون مما يكسر عموم القانون. كانت شريعته خاصة باليهود وبمن لهم الفضل عن غيرهم. شريعته ناسخة لشريعة إبراهيم. جاء موسى للنهوض بالشريعة من جديد بعد ضياع شريعة إبراهيم بعد أن طهر نفسه واتفق مع عدنان إمام عصره وحكيم دهره على ذلك ضد تغلب الفراعنة والأضداد. نسخ موسى شريعة إبراهيم وألف شريعة جديدة، وبين فرائضها وسننها، وجاهد ضد من تخلف عن قبولها. وأقام أخاه هارون وصيا وعينا ومؤولا فأظهر حقائق التأويل، وأبان معاني التنزيل. وأشرق العالم بنور الهداية. موسى أول ناطق من بيت إسحاق، وأول الأنبياء والأركان وذلك لأن إبراهيم بنى الكعبة وجعلها أربعة أركان دليلا على من يأتي بعده من النطقاء، ركنان لموسى وعيسى من بيت إسحاق على اليسار، وركنان لمحمد والقائم على اليمين ثم أصبحت الإمامة في عقب عدنان إمام موسى ولدا عن ولد حتى خزيمة فقام بالإمامة. وهذا هو معنى رفع إبراهيم القواعد من البيت.
ويمثل موسى العلم الظاهر في قصته مع الخضر وعدم صبره على الدخول إلى الباطن لمعرفة سبب قتل الغلام وغرق السفينة وإقامة الجدار، دلالات الملك الغاضب وذي القرنين والسدان والقوم الذين لا يفقهون. العلم بالأسباب الخفية لأهل الصفوة. السفينة دعوة شعيب إلى موسى وتسلم موسى منه عهد الفتح ولم يكن بعد نبيا. وكان موسى عيسى صاحبة العبد الصالح. الخضر هو سببه إلى الارتقاء. والسفينة دعوة منصوبة بغير إذن. لم يعرف موسى السبب لأنه لم يصل إلى مرتبة النطق. وكذلك قتل الغلام الذي عرف موسى سببه فيما بعد واعتذر عن جهله. أما الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا فيشير إلى صاحب الدور موسى الذي تجب طاعته. أما الجدار الذي يريد أن ينقض فهو موسى الذي يريد أن ينطق دون أجر. ثم قص موسى حلما على العبد الصالح كأنه في البحر قصبة طويلة عليها طير أبيض ينزل إلى البحر ليأخذ قطرة. فالبحر سادس النطقاء. والقصبة العبد الصالح، والعصفور موسى.
ويستدعى الشيعة ذاكرة الأمة، قصة موسى وفرعون لإثبات نضال الإمام ضد القهر. فلا فرق بين الحاضر والماضي. والتاريخ يعيد نفسه، مصعب بن الوليد هو فرعون موسى في استكباره. أراد موسى من بني إسرائيل وكلهم 1624000 إخراجهم من الظلمات إلى النور. فدخل في الإيمان ما بين 20-50 من الرجال والكهول، الأقلية الصالحة. وكان علماء فرعون 420. حاجهم موسى وانضموا إليه. وهذا ما يفعله الإمام كل عصر وزمان، الواحد المؤيد من الله. وكل من جعل ندا للإمام أو بديلا عنه فقد أشرك. فالإيمان بالإمام يعادل الإيمان بالله.
25
وموسى هو الناطق، بالنسبة إلى السابق كما أن الأساس هو الإمام بالنسبة إلى اللاحق. هكذا كان يخاطبه هارون. وسليمان خامس الأتماء في دور موسى. وسليمان حامل الكتب. موسى هو الناطق من الأب. وهو السابق. وهارون هو الأساس من التالي وهو الإمام. فإذا ما غاب الناطق صار الأساس هو الذكر الناكح الوارث توكل إليه جميع الحدود العلوية.
ودوره الدور الرابع ومقداره 1136 عاما + 17 شهرا + 28 يوما، بهذه الدقة. عاش 107 أعوام. ودفن في جبل الطور وليس في بيت المقدس لأنه تاه في سيناء مما يكشف عن الصراع على بيت المقدس في الإسرائيليات. وهو موسى بن عمران من ولد إسحاق بن إبراهيم، وضده فرعون ثاني ملوك الجبابرة. وصيه هارون الذي عاش 80 عاما. وقام بعده يوشع بن نون كفيلا على ولد هارون الذي عاش 64 عاما. ثم قام من بعده كالب بن هارون وأشعيا ودانيال وداود وسليمان الذي قام منه على الظالمين بالسيف. وكان من أصحاب فتراته يونس وزكريا. فهل قاوم سليمان بالسيف أم داود مثل فالغ بن غابر، وهو اسم كريه يصور الغبار والقتال. وكان شعيب لاحقه وحجته وصاحب فترته. وهو المخاطب لموسى من الشجرة بلسان حجته وهو العبد الصالح. قام بالرسالة، وألف شريعة جديدة، وأبان فرائضها، وجاهد من تخلف عنها. ومن لم يستجب لها كان كافرا. أقام أخاه هارون وصيا له ومعينا في نبوته وتأويل شريعته فأظهر حقائق التأويل، وبين معاني التنزيل. موسى أول ناطق من بيت إسحاق. والركن الأيمن دليل على محمد والقائم المنتظر وهما من ولد إسماعيل. علاقة موسى بهارون مثل علاقة التنزيل بالتأويل، الظاهر بالباطن، الناطق بالصامت، المكشوف بالمستور، محمد بعلي. ولكل ناطق أربعون حدا طبقا للمنقول. لذلك قد يخطئ التنظير العقلي وقد يصيب نظرا لاعتماده على المنقول.
26 (ه) عيسى
ولعيسى وضع خاص مثل آدم فيما يتعلق بخلقه وغيبته. خلق عيسى من أنثى وليس من ذكر كما خلق آدم لا من أنثى ولا من ذكر. خلق بفعل الروح في بطن مريم. وقد أتى بعد دعاء زكريا ألا يبقى وحيدا فوهبه الله يحيى. وهذا حال كل داعية تطول بلواه وتشتد محنته. ألقابه المسيح عيسى. مرتبته أنه وجيه عند الله ومن المقربين. مسيح السماء، ومسيح آل محمد. وقد أخطأت الغلاة فجعلته عبد الله بن الصادق. فالتأليه والتعظيم إذن عاطفة إنسانية تنطبق على أي شخص كما هو الحال في تحقيق المناط. ويستعمل لفظ «الأيس» الشهير عند الكندي أي الوجود ، والأيسيات أي الموجودات، وفعل يتأيس أي يوجد، والأيسية أي الوجودية، لتصوير شخص عيسى. فكلمة الله علة الأيسيات وبقاؤها. والناطق محل الكلمة في العالم الجسماني. فقيل عن عيسى كلمة الله وروح الله. وكل منكر للرسل تزول أيسيته.
27
وهو صاحب الدور الخامس، ومدته 57 عاما دون تحديد شهر ويوم. من ولد إسحاق بن إبراهيم. وصيه شمعون الصفا. ضده يهوذا الذي سلمه إلى اليهود. حاول تغيير شريعته والتكبر على وصيه. الإمام في عصره خزيمة. فلما استتر كان زكريا الذي كفل مريم فأصبحت حجته وبابه. اجتمع بها رسول الإمام خزيمة وفاتحها بظهور المسيح من دعوتها، وأعلمها أنه صاحب العصر وناطق الوقت. قيل إن حمله قد تم في ثلاث ساعات أو سبعة أيام أو ستة أشهر، والحقيقة تسعة أشهر كالمعتاد. عاش 32 عاما. وتسلم الأمر من بعده مرقص ويقال له حزقائيل وحزقيل وبختنصر وإرميا الصديق. أصحاب فتراته إصطفانوس، المسيح أليسع، وربما فياليس وهو قس بن ساعدة الإيادي ثم أليا. وكان بين ثلاثة: دحية الكلبي وسطيح ونوفل، ويقال بحيرا الراهب. حجاب آليا لأن متمم الزمان جرجس، آخر متمم لدور عيسى. كان لديه في الحجاز دحية الكلبي ونوفل وسطيح الكاهن، وفي الشام بحيرا الراهب وصهيب المرقوني وكعب. وفي فارس سلمان الفارسي. وفي اليمن زرقاء اليمامة وقيل سيف بن ذي يزن لأنه ينادي بظهور محمد ويبشر بقيامه.
28
والفترة بين موسى وعيسى ستة أئمة: اليسع، عزير، داود، سليمان، زكريا، يحيى. ووقعت الفترة من أولها بعد وصيته. فلما بلغ الأمر شعيبا آل داود واتصلت الإمامة بعده في سليمان ثم زكريا ثم يحيى قام عيسى الناطق الخاص في حد التمام والنطق. ثم وقعت فترة طويلة إلى أن اتصلت في جرجس آخر متمم في دور عيسى. فالفترات بين الأئمة الستة حتى يتم الانتقال إلى الناطق التالي تختلف فيما بينها طولا وقصرا. ويلاحظ على هذا الوصف التاريخي الاضطراب الزماني، وجعل بختنصر في القرن السابع قبل الميلاد مع خلفاء عيسى وأوصيائه في القرن الأول الميلادي. كما يتدخل الخيال الشعبي في مدة حمل مريم من ثلاث ساعات إلى سبعة أيام وفي جرجس متمم الزمان. ويتضخم دور يهوذا ليس فقط تسليمه عيسى لليهود بل تغيير شريعته ووصيته، فالشرير يكون كذلك إلى أقصى حد. وتتعدد أسماء مرقس وحزقائيل، وإصطفانوس يبدو أحيانا هو المسيح اليسع وفياليس. ويتدخل التراث العربي كبديل للأسماء مثل قس بن ساعدة الإيادي ودحية الكلبي وبحيرا الراهب وصهيب الرومي وكعب. فالمسيحية دين عربي، في الشام وفي الحجاز وفي اليمن في شخص زرقاء اليمامة وسيف بن ذي يزن. كما تظهر فارس كوسط للأوصياء والأتماء في شخص سلمان الفارسي.
29
لم يكن لعيسى دار هجرة دون الأنبياء بل كان وحده، صمد وضحى بنفسه. وقد نفى الله عيسى عن القتل والصلب للدلالة على أن البعث للأرواح دون الأجساد. فالقتل والصلب الأجسام. والهاء في آية
وما قتلوه وما صلبوه
إشارة إلى الآنية والهوية التي رفعها الله إليه. فالبعث للهويات أي للأرواح. والصليب اسم للخشبة التي يصلب عليها الإنسان. وتلك علامة أخبر بها. والعجيب أن المسيح لم يرفع قتل الكافرين الجاحدين له رفعا كليا وإن كان لم يجاهد بنفسه لأن تلك علامته، مثل القائم الذي لا يحتاج إلى محاربة أحد من أعدائه. تكفيه الروح. كما أن خلقه، اللين والحلم، يمنعه من ذلك. رسالته الحكمة. الدين والتراكيب والمواليد علة واحدة. في التراكيب سعدان ونحسان. وفي الدين عيسى بين موسى ومحمد كما أن إبراهيم بين نوح وموسى في الأخلاق. وواضح اللجوء إلى التنجيم مثل إخوان الصفا والفارابي كثقافة شعبية شائعة.
30
ونبوة عيسى شريعته وسياسته، صور روحانية، وحقائق وعلوم وحكمة، ومتحررة من شريعة موسى انتظارا لدور محمد. ظهر المسيح عيسى ابن مريم لتجديد شريعة موسى في عصر الفراعنة مثل فراعنة موسى. وربما المقصود الرومان والأحبار الذين أفسدوا الشريعة وقتلوا الأولياء والقائمين عليها والعاملين بها. فاستتر خزيمة واختفى. وقام مقامه زكريا الذي كفل مريم التي كانت حجته وبيانه. مريم الحجة، وزكريا الباب. واجتمع بها رسول الإمام خزيمة وبشرها بالمسيح، وأعلمها أنه صاحب العصر، وأنالها الله من تأويل ما لم ينله زكريا. وبعد نسخ شريعة موسى أظهر الرحمة والرأفة والحكمة لأنه كان ببيت إسحاق وقائم دوره. لذلك سمي قائم القيامات الذي هو بيت إسماعيل، وقائم دوره. وربما جاء ليبشر بمحمد. استبدل بشريعة موسى اللطافة والأمنة والرحمة. فالقوة من الروح. والرهبنة قوة يخشاها الناس. به حال آدم، وحسن يوسف، وخلق داود، وقوة عيسى. وقد أخطأ الجاهلون في ربوبيته. فهو مثل أخلاقي. ضرب الأمثال للتأثير في النفوس من أجل الممثولات. تنبأ بالناطق السادس، وأمر حوارييه بالإيمان به وهو الذي سيأتي بالممثولات. وتلك مهمة التأويل. وواضح حسن الترجمات العربية القديمة للإنجيل. (و) محمد
لما كان المركب الذي يتلو الأربعة هو السنة عددا تاما لا تزيد أجزاؤه ولا تنقص كانت الأدوار ستة من آدم إلى محمد. وفي كل دور تنشأ الصور الروحانية. وكمال دعوتهم واستقامة أحوالهم بالقائم. أساس الأدوار الرياضيات، فلا فرق بين علم الحساب وفلسفة التاريخ.
محمد هو الناطق، صاحب الدور السادس. ضده أبو لهب. عاش 63 عاما. وأقام بمكة المكرمة، وهاجر وهو ابن 53 عاما. وكان إماما في المدينة عشر سنوات. وتوفي في ربيع الأول في ليلة خلت من يوم الاثنين بهذه الدقة المتناهية. الدعوة السرية في مكة ثلاث سنوات أطول من الدعوة العلنية في المدينة عشر سنين: تأسيس التصور أطول من تشريع النظام. وكل رسول يفضل من تقدمه بدرجة أو درجتين. فقد أطلع محمد على مراتب النطقاء ليلة الإسراء والمعراج. ورأى آدم في السماء الدنيا. وكل ناطق في سماء أعلى من صاحبه إلى أن بلغ سدرة المنتهى. وهي السموات السبع التي تقابل الحروف السبعة، تقدما رأسيا وليس تقدما أفقيا. محمد دور ناطق له دور صامت كما هو الحال بين موسى وهارون.
31
ولمحمد أسماء وألقاب وكنى. له أربعة عشر اسما، سبعة من القرآن، وسبعة من الحديث. من القرآن محمد، أحمد، يس، المزمل، المدثر، الضحى، عبد الله. ومن الحديث الفاتحة التي فتح الله به الإسلام، الخاتم الذي ختم النبوة، الكافي الذي أرسله الله إلى الثقلين كافة، المقتفي الذي اقتفى آثار الأنبياء، المعقب الذي عقب الأنبياء، الحاشر الذي يحشر يوم القيامة على طاعة ولده . ويلاحظ تداخل بعض الأسماء مثل المعقب والمقتفي. وهناك أسماء خفية معانيها مثل: طه، يس، الضحى، أصبحت أعلاما. وله أسماء يشارك فيها غيره من الأنبياء مثل النبي، الرسول، البشير، النذير، السراج المنير، الشاهد، الشهيد. وله أسماء يشارك فيها غير الأنبياء مثل الإمام، الداعي لأنه بين علم من مضى ومن بقي، يوم الجمعة الذي جمع الله فيه الفضائل. وتكرر بعض الأسماء مثل الشاهد والشهيد. وهي كلها ليست أسماء للنبي باستثناء محمد وأحمد. والباقي صفات أفعال وحالات معينة وقت نزول الوحي مثل المزمل المدثر. والبعض لا أسماء ولا أفعال مثل الضحى، مجرد صورة فنية تنطبق على أي إشراق أو إصباح، وعبد الله صورة فنية لكل البشر وللمسيح. والماحي والفاتح والخاتم وظائف مشخصة متضخمة للنبي تجعله يقوم ببعض أفعال الله كما حدث للإمام. والبعض مجرد حروف مثل طه، يس. والبعض غير صحيح مشتق افتعالا مثل الفاتح، الماحي، الكافي، المعقب، المقتفي. والبعض يدل على الاستمرار التاريخي وتاريخ الأنبياء، السابق واللاحق. والبعض صورة تشبيهية مثل البشير والنذير والسراج. والبعض يشارك فيه باقي الأئمة. وفي إطار البسملات والحمدلات والصلوات على محمد تظهر بعض الألقاب الأخرى بناء على عواطف التعظيم والتفخيم التي تصل إلى حد التأليه مشاركة الله في أسمائه. فهو الغفور الودود، خاتم النبيين، إمام المتقين، رسول رب العالمين، الصادق الأمين، صاحب الشريعة، محمد المصطفى، سيد الأوائل والأواخر. وبهذه الطريقة تصبح الأسماء والألقاب لا نهاية لها مثل أسماء الله الحسنى.
32
ومنزلته الخامس من الأئمة طبقا لبعض المتقدمين على القاضي النعمان مثل منزلة الخامس من أولي العزم من النطقاء. وله غيبة كغيبته، وظهور كظهوره. يعلي أمر الله، وينصر الناطق، ويمكن له في البلاد، وينصره على الأضداد، ويتم به أمره. نصر السماء في مقابل هزيمة الأرض.
33
ودعوته عامة للناس جميعا. وقد بلغ الرسول دعوته إلى كسرى في الشرق والمقوقس في الغرب. وتنبأ بفناء الأضداد. لما شرح الله صدره من المستغلقات قام بنشر ذلك بين أمته كي يهديها من الحيرة والضلال، ويذهب عنها ضيق الصدر وحمل وزر الاستغلاق، ويرفعه إلى أعلى المراتب. وبعد كل مستغلق منفتح. فإذا فرغ من إقامة الشريعة يلتفت إلى الأساس والخوض الروحاني المنفعة الأمة. ومن خصائص الرسول ألفة الناس له وألفته لهم. استطاع الرسول تأليف القلوب وتطهيرها من الكراهية والشحناء والعداء والبغضاء. فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم، والصبر على ما يقول الأضداد والمنافقون وهجرهم وإمهالهم إلى أن يأتي القائم. فعلى يديه يهلكون. وقد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. ما تقدم مشروط بالتوبة، وما تأخر مصادرة على المعصية إلا إذا كان حسن النية والقصد فهما يدفعان إلى ذلك أو أن الحكم بالموازنة، موافاة الحسنات السيئات كما يقول المعتزلة أو على الجوهر وليس الأعراض، على الكيف وليس الكم. وله الفتح والنصر المبين. وله الزي المميز لكل من الديانات الثلاث. الإسلام والنصرانية واليهودية.
34
وقد خصه الله بالشريعة، الصلاة واحد وخمسون ركعة في كل يوم وليلة. خمس صلوات أولهن الظهر دليل محمد. كما خص بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الأدوار السبعة. وقد يضاف الحديث ليفيد نفس المعنى. وقد تزوج الرسول باثنى عشر زوجا ومات عن تسع. فلم يستقم الثلاث على الطريقة. والخطاب الموجه إلى نساء النبي يبين تفردهن وعدم مشابهتهن لباقي النساء. وهو موجه إلى الاثني عشر انتقالا من الأزواج إلى الأئمة والأخيرة منهن هي الأساس بالرغم من أن إحداهن في الظاهر. لما آلت إليه الحدود العلوية صار ذكرا وارثا مستحقا قبل أن يتوجه الخطاب إلى آخر الأنبياء كشاهد ومبشر ونذير وداع وسراج منير. والسابع لا يسبق بالقول، وهو الأمر وهم الباقون ولخاتم الأنبياء رخصته في الشريعة مثل نكاح فوق الأربعة، ومن تهب نفسها له وهو الناطق. وقد زالت المتعة بنكاح الرسول. كما خص الرسول بتغيير الشريعة إرضاء لزوجاته. ولأمته ترخيص ترك الصلاة في الليل وتحريم ذلك على النبي. وقد اختلج في قلبه من المنافقين من يكون أشد وطأة عليه من الليل. وله في النهار سبح طويل في الظاهر. تجمع النبوة مكارم الأخلاق. ويضع الأنبياء شرائع عامة لأمتهم لزجرهم عن الشهوات وكأن مهمة النبوة الزجر والمتع والتحريم وليس الإشباع وإعطاء الحقوق.
35
ولا يذكر محمد إلا وصيه عليا، ابن عمه وصهره، زوج فاطمة الزهراء، إمام بمكة سنة واحدة أو 12 سنة؛ لأنه أول من آمن من الصبية. عاش ثلاثا وستين سنة مثل النبي وتوفي في تمام الأربعين من الهجرة. واستشهد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من رمضان وفي العشر الأخير منه. أضداده ثلاثة ممثلهم موسى والعجل والسامري، فرعون وهامان وقارون، يفوت ويعوق ونسرى، تجسد الأضداد السابقة كلها. تولى الأمر بعده ولده الحسن المستودع. عاش 74 عاما وقبره بالبقيع. ثم قام بعده أخوه الحسين المستقر. استشهد في كربلاء في العاشر من محرم. ثم قام من بعده ولده زين العابدين. عاش 57 عاما وقبره بالبقيع. وبعده ولده محمد الباقر دفن بالبقيع. ثم ولده جعفر الصادق عاش 65 عاما، وقبره بالبقيع. ثم ولده محمد بن إسماعيل في حياته وبين يديه حجته. حياة جعفر مثل حياة يعقوب عند انتقال الأمر إلى يوسف ثم إلى ناقور. وخرج دعاته وحججه مبشرين إلى اليمن والمغرب وكافة أقطار الشرق مثل عبد الله المبارك، عبد الله بن حمدان، عبد الله بن ميمون، عبد الله سعد بن الحسين. وكان إسماعيل أكمل أولاد جعفر وأعلمهم. وأقام دعاته في كل مكان. وأخذوا العهد باسمه ثم أوحى إلى محمد ولده فقام جده مقام أبيه كما قام نافور مقام يوسف في حياة جده يعقوب. وعظمت دعوته حتى قيل إنه صاحب القيامة. وبعده تسلم الدعوة ولده المستور عبد الله بن محمد. ستر نفسه من الأضداد من أهل عصره لأن زمانه كان زمان محنة. والمتغلبون من بني العباس يطلبون من يشاء إليهم حسدا وبغضا من أولياء الله. ونظرا لاستتار الأئمة قيل إنهم من ولد محمد بن إسماعيل، عبد الله بن ميمون القداح، قداح الحكمة أو عبد الله بن سعيد الحسين أو عبد الله بن المبارك أو عبد الله بن حمدان. وهم الذين كتبوا رسائل إخوان الصفا.
36
ويلاحظ دلالات ألقاب الأئمة مثل المستودع للحسن والمستقر للحسين. فاللقب يعطي الجوهر والدعوة والرسالة. وكيف يكون الحسن كذلك وقد بايع يزيد؟ هل بايعه تقية؟ وهل يليق لقب المستودع له؟ لماذا لقب المستقر للحسين الشهيد؟ والبعض تذكر أعماره، وليلة استشهاده، وعمره وسنة وفاته والبعض لا مما يتطلب منطقا للعموم والخصوص. والنسل ليس مطلقا على التوالي. فقد يأتي الحفيد بدلا من الابن مثل محمد بن إسماعيل من جعفر الصادق . وقد يكون الأخ مثل الحسين والحسن وليس الابن. وإذا كان الوصي ولدا فأين تذهب الوصاية؟ هل في أكملهم؟ النسل إذن ليس عاملا مطلقا، والعامل الحاسم في الولاية والوصاية. فجعفر أكمل أولاد إسماعيل. الفضائل مكتسبة وليست فقط موروثة. ويشبه الجديد القديم، والتاريخ يعيد نفسه، تاريخ دعاة الشيعة مثل تاريخ أنبياء بني إسرائيل، وصاية إسماعيل مع والده جعفر مثل وصاية يوسف مع يعقوب. ويتم الإقرار بأن إخوان الصفا من الشيعة الإسماعيلية، وإن فكرهم نابع من ولد إسماعيل بعد ضياع الأثر والنسل بعد محمد بن إسماعيل، وانتشارها في اليمن والمغرب مما يفسر وجود الرسائل هناك. كما تدل أخطاء اللغة العربية على مصدرها الشعبي واستخدامها العامي.
وللأئمة أيضا ألقابهم. فعلي بن أبي طالب صاحب اليوم الموعود والحوض المورود والمواثيق والعهود. وهو مجرد سجع وتفخيم للتأثير على النفس. وهناك ألقاب للأئمة وألقاب للفرق، الحسن والحسين السبطان الشهيدان. ذريتهما حجج على كل موجود، زين العابدين الإمام الطاهر المحمود، محمد الباقر الإمام صاحب اللواء المحدود، جعفر الصادق الإمام صاحب النور الموجود، إسماعيل الإمام صاحب المقام المورود. وألقاب الفرق مثل الأئمة المستورين عن أعين كل حاسد مطرود، والذرية الفاطمية الطاهرة المتسلسلة من نسلهم إلى اليوم المشهود الذي عدته 50000 عام معدود. والقائم الحجة صاحب الزمان بالأمر، صاحب الزمان والعصر. امتد منه سائر الدعاة. والإمام الحاضر الموجود، صاحب العهد منه سائر الدعاة. والإمام ولي الأمر الحاضر الموجود، صاحب العهد المعهود، الغفور الودود. وكلهم من الإسماعيلية الباطنية دون النزارين في سرمين والنيرب. والقائم مفتوح تحديدا بالاسم تركا للمستقبل بلا تحديد. كل ذلك في إطار الصلاة والسلام على محمد وآل البيت.
37
وقد قام الشيعة بتخريج كل هؤلاء الأئمة عن طريق تحقيق المناط على طريقة الأصوليين في شرح آية قرآنية
محمد رسول الله ...
وقد ساعد القرآن على ذلك لأنه حمال أوجه. كما أنه يدعو صراحة إلى التأويل مثل
جد ربنا
الذي أفاض فيه ابن عربي. وقد صرح القرآن بالتأويل. فالحرم معناه الإغراء بالدخول فيه كالنساء. ويتكرر نفس الشخص أكثر من مرة في تحقيق المناط. ويكون السؤال: هل وظيفة الآية تثبيت المناط بتحقيقه أم إبقاؤها على عمومها وحركتها دون تحديد لمناطها في واقع معين وعلى أشخاص محددين حتى يظل الاجتهاد قائما في كل عصر. فالتأويل اجتهاد أيضا، ربط الفرع بالأصل. والواقع بالنص. وقد ترك النص الواقع غير محدد إلا بكناية، رسما لا اسما
محمد
هو الرسول، وهو الوحيد المذكور باسمه،
والذين معه
علي بن أبي طالب،
أشداء على الكفار
هم الحسين بن علي
رحماء بينهم
أي الحسين بن علي، والركع علي بن الحسين، والسجود محمد بن علي، والمبتغون فضلا من الله هم الصادق والرضوان المبارك. وال «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» القائم والمثل في التوراة والإنجيل كالزرع هو الأساس، والذي أخرج شطأه الحسن بن علي، والذي آزر الحسين بن علي، والذي استغلظ علي بن الحسين، والذي استوى محمد الباقر، والسوق الصادق، والذي يعجب الزراع المبارك ليغيظ بهم الكفار هو القائم. و
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
المغفرة الذين صدقوا بالأولياء وكذبوا بالأعداء، والأجر العظيم الثواب. ويلاحظ ظهور التقابل بين الحروف والأسماء العين والميم وعلي لينال مرتبة المعية. تشير الآية إذن إلى الرسول والناطق والأساس وهكذا تقطع الآية لتشير إلى وقائع وأشخاص في الخارج وكما هو الحال في اللاهوت وليست مجرد بواعث عامة تنطبق على أي وقائع. التأويل هنا تحويل العام إلى خاص، والمعنى إلى واقع، والمجرد إلى محسوس. كما تتكرر بعض الأشخاص أكثر من مرة مثل الحسين بن علي، وهو تفسير ظني لا دليل عليه يمكن للمعارض، أي الدولة القاهرة، اللجوء إليه لحصار المعارضة واستئصالها. (ز) القائم
وهو أول المتمين في دور الحسن القائم بالإمامة بعد الوصية. وقد أخبر الرسول أن الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا، أي إنهما إمامان سواء أقاما الخلافة الزمنية أم قعدا عنها. الحجة هنا نقلية وليست عقلية. والمتمم الثالث علي زين العابدين، والرابع محمد الباقر لأنه أول من بقر العلوم وأظهرها وأحياها، وفرق اللواحق في الجزائر، وأقام الأجنحة في البقاع، وجاهد الكفار. والخامس ولده جعفر الصادق . والسادس إسماعيل صاحب الفترة لعلو عظمته من بني العباس. والسابع محمد بن إسماعيل. ثم استتر الأئمة لتشريدهم شرقا وغربا. وهناك فرق بين هؤلاء الأئمة في التاريخ ووجودهم في الوعي كما مثلتها الأساطير الشعبية ابتداء من الرسول وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين، وباقي أئمة آل البيت. وتطول الفترة عندما يعظم الاضطهاد ويشتد، ويغيب الإمام تقية، انتظارا لعودته. والقائم متمم النطقاء بعد انتهاء الأتماء في دور محمد.
ويصعب الحديث عن القائم، فترته، عمره، أضداده، أوصيائه، أتمائه لأنه يمثل المستقبل، بين الحياة والموت، الحضور والغياب، المعلوم والمجهول. ليس له اسم بل صفة ورسم، قائم حاضر، وليس قاعدا غائبا. ويمكن الحديث عنه سلبا أي ما بعد الناطق السادس. ويتداخل مع أتماء وأوصياء الناطق السادس. ما بعد الناطق السادس هو ما قبل الناطق السابع.
ومن ثم يدخل علي وبنوه بين السادس والسابع. ليس له بداية إلا في الأئمة بعد الناطق السادس، ولا نهاية إلا بنهاية الزمان. يقيم أيضا بغدير قم. أفعاله إنسانية إلهية كونية في آن واحد مثل تكوين الشمس، وانكدار النجوم، وخروج يأجوج ومأجوج، في هذا العالم وفي نهاية العالم. مهمة القائم استمرار النبوة ليس في صورة اجتهاد وقياس بل تأويل من المنطق الحسي العقلي إلى المنطق الشعوري، ومن الأفعال إلى النفوس، ومن الجزء إلى الكل، ومن الفرد إلى الشعوب، ومن الواقع إلى التاريخ، ومن الموضوعية التي يمكن مراجعتها إلى الذاتية والكشف.
38
سادسا: من الفكر الشيعي إلى الفكر السني
(1) تنظير الموروث الفلسفي
لم يكن الفكر الشيعي وحده هو الذي قام بتنظير الموروث بل ساهم معه أيضا الفكر السني. ولم يقم بذلك قادة المعارضة السياسية وحدهم بل أيضا حكماء البلاط. (أ) أبو الحسن العامري
في «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» تحول طبيعي من الكلام إلى الفلسفة، ومن المنقول إلى المعقول، ومن الاعتزال إلى الحكمة، بل ومن الفلسفة إلى المنطق، أي الفلسفة الخالصة المجردة دون أي أثر من أفلاطون أو الأفلاطونية المحدثة كما هو الحال في الاستشراق.
1
بل هي محاولة للتحول من الخطاب الفلسفي إلى الخطاب الأدبي حتى ولو بطريقة السمع وبداية التأليف الفلسفي الطبيعي. الموروث فيها أقرب إلى الموروث الشيعي، تاريخ الأديان والثقافة الوطنية الفارسية القديمة مثل الثنوية والمجوسية بالإضافة إلى الثقافة الإسلامية، سواء من الكلام كالقدرية والمجبرة أو من أئمة الشيعة مثل جعفر الصادق أو من فقهاء السنة المتعاطفين مع التشيع مثل أبي حنيفة. هذا بالإضافة إلى أصل الوحي في القرآن.
2
وفي «التقرير لأوجه التقدير» يعود الشرق للظهور، مملكة الشرق دليلا على بزوغ الفكر الجديد، وهي على يمين العالم في الجبلة.
3
ومن الوافد لا يظهر إلا اللفظ المعرب «الأسطقسات» في «الفصول في المعالم الإلهية» والكيموسات البلغمية. ومن الموروث تتصدر الآيات القرآنية أصل الموروث الأول ثم الحكماء والطبيعيون والإلهيون من الحكماء. ومن الفرق الكلامية تظهر فرقتا الجبر والقدرية. كما يحال إلى الرسول محمد وإلى إدريس النبي أو هرمس. والرسالة مكتوبة إلى الشيخ أبي الحسين عبيد الله مما يدل على الظروف المحلية للتأليف، جبال الهند والسند ومبادئ التنجيم. ويحال إلى باقي مؤلفات العامري مما يدل على وحدة الفكر مثل «النسك العقلي والتصوف الملي» و«الإرشاد لتصحيح الاعتقاد».
4 (ب) مسكويه
وتمثل «في اللذات والآلام» نموذجا لتنظير الموروث الذي يتجه إلى «الإبداع الخالص» نظرا لضعف الموروث فيه. لا يشار إلى الوافد إلا بألفاظ عامة مثل الحكماء والطبيعيين على الإطلاق. أما الموروث فهو أكثر ظهورا مثل فيلسوف الإسلام علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر.
5
وهو شيعي الاتجاه. لديه قدرة على العرض العقلي والتركيز مما يوحي ببداية التحول إلى الإبداع الخالص. ويظهر مسار الفكر، إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق مما يدل على وحدة الموضوع ومنطق الاستدلال، والنسق الداخلي للخطاب. كما يكشف عن التراكم الداخلي وبداية الوعي الفلسفي نظرا لأن المقال كله موجه ضد مذهب أبي بكر الرازي في اللذة. وتربط بين العلوم الرياضية والأخلاق في أثر الألحان على النفس، والموسيقى على الأخلاق. ويظهر أثر الموروث في تحويل الله إلى خير، والدين إلى أخلاق. فالخير المطلق هو الله تعالى، وهو الكمال الأكمل، واللذة المطلقة، مدرك لذاته وأشرف المعشوقات. واللذة مقصود إلهي عظيم في الأمور الإلهية، وهي سبب وجود العالم والنظام الإلهي والسياسة الربانية. والبداية بالبسملة والنهاية بالحمدلة والصلاة على محمد النبي وآله. فالتأليف صادر من الموروث تنظيرا له من الداخل دون استعانة بالثقافة الوافدة.
6 (ج) ابن سينا
وتمثل بعض رسائل ابن سينا في الحكمة والطبيعيات وفي النفس نماذج لما قبل الإبداع الفلسفي، تنظيرا للموروث وحده دون تمثل الوافد على الإطلاق إلا فيما ندر وكبقايا من الماضي البعيد. لم يعد المطلوب هو تمثل الوافد كما هو الحال في مراحل الشرح، التفسير والتلخيص والجامع أو العرض والتأليف والتراكم في تمثل الوافد أو تفاعله مع الموروث. فقد تم الإجهاز عليه كلية وتحويله إلى جزء من الثقافة الفلسفية حتى أصبح وافدا موروثا أو موروثا وافدا بل تنظير الموروث فحسب حتى يمكن تجاوز الوافد والموروث معا إلى مرحلة الإبداع الخالص، والابتداء من المصدر الداخلي وهو الكتاب والسنة، وكان الحكمة علم كلام جديد لا شأن له بالحجاج والدفاع والخصوم والفرق بل بالتنظير العام والتصورات الكلية للعالم.
ويستعمل ابن سينا الأسلوب الشخصي المباشر وتحليل التجارب الحية. فالفلسفة لم تعد نقلا بل إبداعا. ليست مجرد تجميع وتمثل واستيعاب بل معاناة وتجربة وحياة. وقد استنفذ جهده في تصفح كتب العلماء. فوجد أن البحث عن القوى النفسانية بحث عويص. واستدعى من أقوال الحكماء والأولياء «من عرف نفسه فقد عرف ربه» و«من عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة خالقه»، مرة إيجابا ومرة سلبا. لا فرق بين سقراط والنبي، بين اليونان والقرآن في مصدر واحد هو الموروث بعد أن أصبح الوافد مكونا فيه ومتحدا به.
7
وفي «رسالة في العشق» لا توجد إلا إحالة واحدة إلى تفسير ابن سينا لصدر المقالة الأولى من كتاب «السماع الطبيعي»، لمعرفة العلل الطبيعية والعلة الأولى.
8
وقد يكشف ذلك عن قراءة إلهية للطبيعيات؛ إذ إن العلة الأولى ليست موضوعا للطبيعة بل لما بعد الطبيعة. وقد يدل ذلك على أن الطبيعيات مقدمة للإلهيات، وأن البحث عن العلل الأربعة تمهيد للوصول إلى العلة الأولى أو باختصار أن الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل وأن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. ومن الموروث الأصلي يذكر ابن سينا حديثين، واحد غريب، والثاني قدسي. الأول يقيد أن حسن الصورة لا يوجد إلا عند جودة التركيب الطبيعي. وبالحسن تقضي الحوائج. ويصر ابن سينا على أنه حديث بنص القول. والثاني عن العشق المتبادل بين الله والإنسان بمواصفات خلقية معينة للإنسان.
9
ولم يذكر ابن سينا في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» أيا من فلاسفة اليونان، بل ذكر ست آيات قرآنية وأربعة أحاديث نبوية مما يبين حضور الموروث وغياب الوافد، وإن الإبداع ليس مشروطا بالوافد وحده بل قد يكون بالموروث وحده. وهو أكبر عدد من الشواهد النقلية في الرسائل النفسية الست.
10
في البداية يستشهد ابن سينا بآيتين من القرآن لبيان أن النفس أو الروح من أمر الله وأن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا، وأنها سر على العلماء والدهماء على حد سواء. ويستشهد أيضا بالقرآن لشرح معنى التسوية أي جعل البدن بالمزاج الأنسي مستعدا لنطق النفس الناطقة به. وإضافة «من روحي» تدل على أن النفس من جوهر مخالف لجوهر البدن وهو البرهان الثالث. فهناك «أنا» جامع للإدراكات مخالف للبدن، جوهر فرد روحاني.
11
ويسمي ابن سينا القرآن الكتاب الإلهي بعد الإشارة إليه كوحي يتضمن السؤال عن جوهر النفس. كما يستشهد بالقرآن في آخر الفصل الثاني في بقاء النفس بعد بوار البدن عن طريق الكمال بالعلم والحكمة والعمل الصالح فتنجذب النفس إلى الأنوار الإلهية وأنوار الملائكة والملأ الأعلى كما تنجذب الإبرة إلى جبل عظيم من المغناطيس، وفاضت عليه بالسكينة والطمأنينة حتى ينادي عليها من الملأ الأعلى. ويقسم ابن سينا النفس إلى ثلاثة أقسام عقلا. الأول الكاملة في العلم والعمل وهم السابقون. والثاني الناقصة في العلم والعمل، والثالثة الكاملة في أحدها الناقصة في الأخرى. هذه القسمة النظرية تنظير لقسمة القرآن. فأصحاب الميمنة هم الكاملون في العلم والعمل، وأصحاب المشأمة هم الناقصون في العلم والعمل. أما الدرجة المتوسطة فغير واضحة في الآية إلا إذا كان المقصود السابقون السابقون أي المنافسة نحو الكمال فيصبحون كاملين في العلم والعمل. ويظل الإشكال في الدرجة المتوسطة قائما في حاجة إلى مزيد من التنظير. هل يتساوى الكامل في النظر الناقص في العمل مع الكامل في العمل والناقص في النظر أما أن الكمال في العمل يجب النقص في النظر مؤيدا بآيات أخرى مثل
قل اعملوا
هذه القسمة الثلاثية تعادل قسمة خصال النفس إلى العفة والشجاعة والحكمة ومجموعها العدالة، وهي خصال الكاملين في النظر والعمل دون الإشارة إلى أفلاطون ولكن تعشيقا عقليا للوافد في الموروث وجعل الموروث وعاء لتمثل الوافد.
12
ويستشهد ابن سينا بأربعة أحاديث. الأول في الحقيقة ونسبتها إلى قائل الحق تجاوزا التشخيص. محمد قائل الحق وأرسطو هو الحكيم يكمل البعد الأفقي «من عرف نفسه» بالبعد الرأسي «فقد عرف ربه»،
13
من الداخل إلى الخارج، ومن النفس إلى الله.
14
كما يستعمل ابن سينا الحديث للبرهنة على تمايز النفس عن البدن. فمعرفة النفس وليست معرفة البدن طريق إلى معرفة الله. والثاني يثبت به ابن سينا أن النوم أخو الموت في موضوع بقاء النفس بعد بوار البدن.
15
إذا نام الإنسان بطلت عنه الحواس، وصار كالميت. والإنسان في نومه يدرك الغيب والمنامات الصادقة. وهو برهان على تمايز جوهر النفس عن جوهر البدن. والثالث لإثبات النعيم الذي خلقه الله في السموات من الحور العين والأطعمة اللذيذة وألحان للطيور مع الإيحاء بأنه حديث قدسي، صورة للمرتبة الثالثة من النفس، وهي مرتبة المتوسطين أي النعيم الحسي. كما أن الحديث القدسي مرتبة متوسطة بين كلام الله وكلام الرسول.
16
والرابع لإثبات أن العقل هو أول العوالم وأعلاها مرتبة فوق النفس والجسم. يستشهد ابن سينا بالحديث القدسي لإثبات أن العقل له مكان مركزي في الموروث كما هو الحال في الوافد بالرغم من تأويلات الصوفية له وزحف التصوف على الفلسفة منذ إخوان الصفا وخلال الفارابي وابن سينا حتى الغزالي. لذلك كان ابن سينا أقرب إلى الطبيعيات منه إلى الإلهيات في حين أن الفارابي كان أقرب إلى النحو والمنطق حتى أتى ابن رشد فزحف علم الأصول على الفلسفة. ويشرح ابن سينا الحديث على أنه ثلاث مقولات طبقا للقسمة الثلاثية المعروفة عند أفلاطون دون تصريح بذلك أو ذكره نظرا لأن الوافد أصبح في اللاوعي المعرفي من ذكريات الماضي البعيد.
و«في ماهية الصلاة» فلا يذكر شيء من الوافد. إنما يذكر الموروث الأصلي، القرآن، (مرتان) والحديث (ست مرات). والموضوع جديد على الوافد وأصيل في الموروث. الآية الأولى تثبت أن لله الأمر والخلق، والثانية أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. ومن الأحاديث يفسر الأول أن الصلاة عماد الدين، أنها وسيلة الاتصال بالأفلاك وأداة لتصفية النفس بتشبهها بالأجرام السماوية. الدين هو التصفية، والصلاة عماد الدين. الصلاة قاعدة الإيمان، ومن لا صلاة له لا إيمان له، ومن لا أمانة له لا إيمان له. والثالث والرابع أن الصلاة مناجاة للرب، والمناجاة تتم بالعقل. والخامس حديث قدسي في صياغته أن المصلي يناجي ربه، ومذكور ثلاث مرات، مرتان في صيغة قصيرة، ومرة في صيغة طويلة. والسادس يميز بين الصلاة الشرعية البدنية العددية الظاهرة في مقابل الصلاة الروحية القلبية الباطنية كما هو الحال عند الصوفية.
17
و«في الحث على الذكر» ينظر ابن سينا آية قرآنية واحدة مرتين دون إحالة إلى أي وافد لبيان سلاح ذكر الله لقمع النفس وإيقاظ القلب، وأنه يزداد بالفكر على الذكر استخلاص النية الذكر من عادة المجادلين وسلط الذكر على الفكر لإذابة تخييل الواردين. ويتبرأ عن أحوال الذكر وقوة الفكر بالإنابة إلى رب العالمين. كل ذلك تنظير لآية واحدة. كما تتضمن الآية نسيان الخلق في الاستغراق في الذكر، وأن الذكر لا يخلص عن النسيان مع انتشار الحواس في شهواتها، وأنه لا يصفو مع هواجس النفس، وأنه يدخل في السر (النفس)، وتبرز عروقه في القلب. وذكر اللسان يفتح القلب حتى تتم المشاهدة بعد المراقبة والمجاهدة. فيبلغ الإنسان منزلة السكينة. وذكر الله والحق من ذكر الناس.
18
وموضوع التفسير موضوع موروث مباشر، علم نقلي بأكمله حاول ابن سينا تنظيره إلى علم عقلي أسوة بالتفسير العقلي عند المعتزلة كتب فيه عدة رسائل . منها «الرسالة النيروزية». ولها عنوان آخر «في معاني الحروف الهجائية». وواضح في العنوان الأول أثر الثقافة الفارسية، وفي الثاني أثر الثقافة العربية. وكلاهما من الموروث. موضوعها الحكمة الإلهية وليست المصلحة البشرية، كشف سر وليست رؤية واضحة للحق، لطف الواقع من النفس وليس الأثر العملي. الغرض منها فهم فواتيح السور، وهو ما ضرب عمر بن الخطاب السائل عنها بسببها. ويسميها ابن سينا الفرقانية. تمثل سطح العلم، والأسرار ما زالت في العمق. تنظير الموروث يعني تحويل المنقول إلى معقول عن طريق التأويل، والذهاب من السطح إلى العمق، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن الحرف إلى الكون، ومن اللغة إلى الطبيعة، ومن التنزيل إلى التأويل.
19
يبدأ من ثقافة العصر، نظرية الفيض لاحتواء الآخر ثم تأويل الحروف الهجائية المفردة بها قبل تفسير أوائل السور بناء على هذا التأويل وإدخالا للآخر في وعاء الأنا. قسم الرسالة ثلاثة أقسام: الأول ترتيب الموجودات وهي الثقافة الوافدة، نظرية الفيض بعد أن أصبحت موروثة. والثاني دلالة الحروف عليها وهو الوعاء الموروث. والثالث الغرض أي هدف ضم الوافد إلى الموروث. الوافد هنا ثقافة وليس شخصا أو كتابا أو علماء تعني الألف واجب الوجود، مبدع المبدعات، ومنشئ الكل، ذات غير متجزئ أو متكثر أو متقدم بسبب. لا يوجد أفضل منه، حق وخير وعلم وقدرة وحياة وكأن الفلسفة قد أعادت الذات والصفات من علم الكلام، مؤثرة التنزيه على التشبيه. بل إن المفهوم منها عند الحكماء معنى واحد. وتعني الباء العقل، أول ما أبدعه الله. وتعني الجيم النفس، وموادها الأفلاك. وتعني الدال العالم الجسماني الطبيعي. وهو نوعان: الأثيري المستدير، والعنصري المكون من مادة وصورة. وكلها في شوق إلى الله. ثم يتكرر الرباعي في الحروف الأربعة التالية: الهاء تعني الباري، والواو العقل، والزاي النفس، والحاء الطبيعة، وهي الأفضل. الطاء تعني الهيولى، والياء ليس لها إضافة تحتها على النحو الآتي:
أ
ب
ج
د
ه
و
ز
ح
ط
ي
الله
العقل
النفس
الطبيعة
الباري
العقل
النفس
الطبيعة
الهيولى
ليس لها إضافة تحتها
ثم يتحول الأمر إلى حساب الحروف وحساب الجمل عن طريق الضرب والجمع فالأربعة الأولى، الله والعقل والنفس والطبيعة ذوات أو آحاد. والأربعة الثانية، الباري والعقل والنفس والطبيعة مضافة إلى ما دونها. بعد الآحاد يكون الإبداع من إضافة الأول إلى العقل. كما أن الأمر إضافة الأول إلى العقل، والخلق إضافة الأول إلى الطبيعة، والتكوين إضافة الباري إلى الطبيعة. وتزيد الحروف وتشمل اللام والميم والنون والقاف والكاف والسين والصاد دون باقي الحروف. ولكن المهم هو الدلالة وليس الإحصاء الكامل.
20
وأحيانا تكون المعادلة حروفا صرفة دون كلمات كما هو الحال في المنطق الرمزي في الغرب فيستحيل الفهم كما تستحيل المراجعة، وهي أحجيات غير مقنعة لا يمكن التحقق من صدقها.
21
ثم يطبق ابن سينا في القسم الثالث عن الغرض حساب الحروف والجمل على أوائل السور. وكلها تخيلات وأوهام مثل خرافات علم التنجيم. وهو موضوع الإعجاز وأسرار البلاغة عند المتكلمين. ويلاحظ أن الحروف في أوائل السور ليست كلها مذكورة. وهناك حروف أخرى مذكورة ليست في القرآن مما يدل على إمكانيات تكاثرها ما دامت حساباتها أصبحت معروفة والنسج على منوالها ممكنا. ولما كانت الموجودات إما روحانية وإما جسمانية، يتعلق الأمر بكل ذي إدراك، ويتعلق الخلق بكل تسخير.
22 «وفي تفسير المعوذتين» اختار ابن سينا بعض قصار السور مثل المعوذتين التي تشير إلى العلاقة بين الله والإنسان ليمارس فيها منهج التأويل تأكيدا على هذه الصلة، وتعميقا للأشعرية عن طريق الاتصال وليس الانفصال. علوم الحكمة هنا تطوير لعلم الكلام، وتنظير للعقائد، وتحويلها من عقائد دينية خاصة إلى تصورات عامة للعالم. ابن سينا أول من حول التفسير إلى موضوع فلسفي، من علم نقلي إلى علم عقلي كعلم مستقل وليس فقط كموضوع جزئي كما فعل الكندي من قبل في تفسير آية
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
في رسالة «في سجود الجرم الأقصى». وقد اختار ابن سينا المعوذتين لأنه يسهل تفسيرهما من خلال نظرية الاتصال مثل اختيار الأحاديث الإشراقية. ففي المعوذة الأولى
قل أعوذ برب الفلق
رب الفلق هو الموجود الأول الخير، والرب هو العناية وليس الإله الذي لا يعتني بالعالم كما هو الحال عند اليونان. والشر في الخلق لا في الخالق. والفاسق هي النفاثات في العقد من خلال القوى الحيوانية والنباتية. وشر حاسد إذا حسد هو النزاع بين النفس والبدن الذي كان رمزه النزاع بين آدم وإبليس. والسوءة تشير إلى كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. ويشرح ابن سينا القرآن والحديث ويستعمل حديث «إن لربكم في أيام دهركم نفحات من رحمته إلا فتعرضوا لها» كما يستعمله الغزالي في «المنقذ من الضلال». وكلها تفسيرات ظنية تكشف عن دخول ثقافة العصر التي أصبحت مزيجا من الوافد والموروث، والصلة بين الخارج والداخل، بين الفرع والأصل، بين المحيط والمركز، بين النقل والعقل حماية للثقافة من الازدواجية المتصارعة بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر، بين السلفية والعلمانية، بين المحافظة والتجديد دفاعا عن وحدة الثقافة كما يحدث في كل عصر.
وفي المعوذة الثانية
قل أعوذ برب الناس ، الربوبية هي التربية والعناية. والناس هم الشعب أو الأمة. ويؤول ابن سينا أسماء الله باعتبارها قوى النفس. الرب بحساب المزاج، والملك بحساب فيض النفس، والإله بحسب شوق النفس. والوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس هي القوى المتخيلة. وهنا يعتمد التفسير على علم النفس كما تفعل الشيعة والباطنية. كما يشرح القرآن بالقرآن مثل الاستشهاد بآية
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي . وتعني التربية المزاج.
23
وفي تأويل «الصمدية» يبدأ ابن سينا بقرآن حر، مفسرا القرآن بلغة القرآن أو بأسلوب القرآن، السمع والإيقاع، والبداية بالبسملات والحمدلات. والموضوع التوحيد. ولفظ «أحد» مبالغة في الوحدة وكأن القرآن فيه مبالغة وليس فقط التأكيد. وتظهر ألفاظ «إلهي» و«إلهية» كثيرا مما يدل على استمرار الموضوع الأول في علم الكلام، كذلك استعمال صفات السلب وصفات الإيجاب. الفلسفة إذن دفع للكلام نحو مزيد من التنظير العقلي كما هو الحال في علم الكلام المتأخر، عرض فلسفي مجرد. لذلك يوجه ابن سينا إلى نفسه اعتراض معترض بطلب البرهان. ثم جاء التفسير في النهاية صعب الفهم. فكيف تكون به نجاة الناس. وكيف تعادل حينئذ «الصمدية » ثلث القرآن؟ هل تستطيع العامة فهم هذا التأويل وتنال به الخلاص؟ إن الآية، ببساطتها ومباشرتها وتركيزها أفضل من شرحها وتأويلها. لا يعدو التفسير الفلسفي للآيات كونه استيعابا حضاريا للوافد، واستعمال ثقافة العصر في عرض الموروث الأصيل وعدم تركه منعزلا تجاوزا لازدواجية الثقافة. قد لا تخرج عن التفسير الصوفي القرآن في إطار أشعري عام يظهر في المقدمة أو الخاتمة سواء كان من الناسخ أو الناشر. فالعمل جماعي. والعقل في حاجة إلى نقل. وهو حكم عام يتجاوز ابن سينا دور علوم الحكمة.
24
وفي «العرشية» يذكر القرآن (7 مرات)، والحديث (مرتان) مما يدل على حضور التفسير من علوم الحكمة قدر حضور علم الكلام من العلوم النقلية العقلية فيها. وهي آيات يسهل تفسيرها على نحو أشعري؛ لأنها تتعلق كلها بقدرة الله المطلقة في الإنسان والطبيعة، الآية الأولى تنفي التعدد، وتثبت أن الوحي غير قابل للتغيير والانفعال في أم الكتاب في مقابل تفسير آخر، النسخ والاستبدال. الأول يؤثر الثابت، والثاني المتحول. الأول يخرج من كل شيء هالك إلى وجهه،
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، والثاني يخرج من
كل يوم هو في شأن . والثالثة والرابعة تثبتان القضاء والقدر، وخلق الله الأفعال، والخامسة والسادسة تجعل الخير من الله وأنه يريد اليسر بالإنسان لا العسر. والسابعة تبين سيطرة الله على مظاهر الطبيعة، إنزال الماء، وأحياء الموات، وخلق الحيوان والإنسان. ويفسر ابن سينا الحديث القدسي الخاص بصدور الأفعال من العقل الأول سواء كان هو العقل صراحة أم القلم. فالقلم هو العقل. ويستعمل القرآن الحر كأداة للتعبير، تفسير للقرآن المباشر بالقرآن غير المباشر.
25
وفي رسالة «الفعل والانفعال» يذكر القرآن (13 آية) والحديث (4 أحاديث) بالإضافة إلى قول مأثور واحد، ودون أي ذكر للوافد اليوناني. كلها محاولة لتنظير الصلة بين النفس والجسم وبيان أثر النفسي في الجسمي وأثر الجسمي في النفسي، علاقة الفعل الانفعال لا فرق في ذلك بين الوافد اليوناني والموروث القرآني بعد أن انضوى الوافد التاريخي في أعماق اللاوعي المعرفي، وفي نفس الوقت يستعمل هذا المخزون المعرفي التنظير الموروث مثل الوحي والإلهام والمعجزات والكرامات والآيات والمنامات والسحر والعين والمؤثرات والنيرنجيات والطلسمات والحيل، حتى يسمح بإدخال هذا العنصر الجديد الموروث فيه. فتجتمع علوم الأوائل مع علوم الأواخر، علوم السلف وعلوم الخلف في رؤية حضارية واحدة. تفيد معظم الآيات المذكورة العلم الجديد وهو الوحي الذي لم يكن يعلمه الرسول من قبل، ما أسماه المتكلمون السمع أو النقل في مقابل العقل أو الحس بما في ذلك القصص. كان الرسول أميا غير حاضر زمن الأحداث المروية. وبعض الآيات تفسير على التفسير الصوفي الإشراقي لآية المشكاة المشهورة التي شرحها الغزالي في «مشكاة الأنوار».
26
وتذكر آية أخرى تشير إلى التنبؤ بالمستقبل وبانتصار الروم على الفرس. ويستشهد بآيات أخرى تشير إلى انفعالات النفس مثل الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس أو سحر الأعين، وبآية أخرى تعبر عن اتخاذ البعض عبادة الأصنام قربى إلى الله، وبآية تكشف عن أن البرهان في الطبيعة وفي النفس، في الخارج وفي الداخل. ويفسر ابن سينا الحديث القدسي الأول بأن الوحي يتم في حال اليقظة والنفث في الروح في حال النوم. ويفسر الثاني بأن رؤية الرجل الصالح جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما يقول الصوفية في الإلهام، والحكماء في الاتصال، والفلاسفة في الحدس. ويفسر الثالث ببلاغة الرسول، والرابع بالقدرة على التنبؤ، تنبؤ الرسول بقتل كسرى. كما يستشهد ابن سينا بالآثار والأخبار المروية وبالثقافة الشعبية الشائعة حتى ترتبط الفلسفة بثقافة الجمهور وتصبح نابعة منه ومن حياة الرسول.
27
وفي «رسالة الطير» يظهر القرآن المرسل أو الحديث في أسلوب ابن سينا باعتباره مخزونا بلاغيا أدبيا كبديل عن النهاية الدينية التقليدية. كما يظهر في «كتاب السياسة» التفكير والتقدير، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، والميثاق الغليظ. ويظهر في «الزيارة» صور فنية عن شمول العلم الإلهي وإحاطته. وفي «حي بن يقظان» يظهر الأسلوب القرآني الحر كوسيلة أدبية وتعبير بلاغي مثل البرزخ والحفظة والكرام الكاتبين والعين الحامئة والميثاق الغليظ، وابن سينا أقل من السهرودي وابن طفيل في استعمال القرآن المرسل.
28 (د) ابن باجه
ويستمر ابن باجه في تنظير الموروث مما يبين قدرة الفلسفة على الاستمرار اعتمادا على الداخل وحده دون الخارج، وعلى المكونات الذاتية دون العناصر الخارجية خاصة في موضوع النفس الناطقة باعتباره بؤرة الموروث، وما يتعلق بها من علوم عقلية.
ففي «ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة» يحال إلى الفارابي والزرقالة ويذكر القرآن.
29
وهو نموذج للتراكم الفلسفي من الفارابي والزرقالة ومن العودة إلى الموروث الأصلي، القرآن لمزيد من التنظير للموروث بعد أن أصبح الوافد موروثا من الفارابي والزرقالة. وصورة الفارابي في ذهن ابن باجه هو الشيخ أبو نصر تأكيدا على مقاييس الحس والعقل الإنسانية كمقاييس للصدق. فالفارابي في ذهن ابن باجه صوفي أقرب إلى الغزالي. ويضرب ابن باجه، اعتمادا على الزرقالة، المثل على التعلم من المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث ثم ينتقل إلى نفس المستنبط لا سيما في الأمور القريبة. فالعلم هنا من الموضوع إلى الذات.
30
ويستشهد ابن باجه بثلاث آيات قرآنية، الأولى مكررة مما يدل على أن تنظير أصل الموروث ما زال مستمرا، وأن الفكر الفلسفي له مصدره الداخلي المستمر بعد أن تحول الوافد إلى الموروث الكبير. ومنها التفكير في خلق السموات والأرض تدعيما لإدراك المعقولات وحصول القوة الناطقة بالفعل موهبة تتم بها رؤية المخلوقات للوصول إلى الله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة. وهنا تأتي آية التفكر تدعيما للطريق من المخلوق إلى الخالق، موهبة الاتصال بالعقل الفعال. وإذا كان العلم بالله وكتبه ورسله يؤدي إلى الهدى فإن نسيانه يؤدي إلى الضلال لأنه يؤدي إلى استبدال الهدى بالله فيكون من المغضوب عليهم أو الضالين. ولفظ الارتياض يعني التعليم والتعود أي النقل الموجه أو الهادف حتى يصبح جزءا من الموروث. التنزيل يصبح تأويلا.
31
وفي هذا الموضوع يرضى ابن باجه عن الغزالي ويستسلم له بالرغم من نقده السابق له. ويقبل التصوف، الجرثومة التي ازدوجت مع الأشعرية وقضت على المشروع النهضوي في الغرب. النبي هو رئيس الصوفية والإشراقيين، وكلهم إلى رسول الله منتسب. فقد تحول الفارابي من المنطق إلى الإشراق. ويدعو ابن باجه القارئ إلى المشاركة والانضمام إلى الزمرة. ويستعمل تشبيهات الشمس والنور والظلمة. ويمكن للحدس العقلي إدراك ما يدركه العقل الإشراقي إذا كانت الموضوعات بديهية رياضية وبموهبة من الله وفيض منه. كما يستعمل بعض التعبيرات القرآنية الحرة. ويكرر الإنسان النظر في المخلوقات حتى يصل إلى الخالق وهو العلم الذي ينكشف للأنبياء. فيتحد الطريق الصاعد والطريق النازل. ويصبح التأويل والتنزيل علما واحدا. والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقا لمعرفة أسبابها لأنه نظر أعلى وأرفع وأنفع. فعن طريق الأسباب يصل الإنسان إلى الله وملائكته وكتبه ورسله والحياة الآخرة. والناس متفاوتة في موهبة المعرفة بحسب ما يعطيه الله في أول الخلق من الاستعداد لقبولها. والموهبتان الاستعداد والنطق، ليسا مكتسبين إلا بالتوفيق من الله للعمل، وهذا هو الكمال الإنساني، ولا يتم إلا بما أتى به الرسل من الله. ويؤدي اتباع الهوى إلى الشقاء والضلال. سماع الأنبياء وطاعتهم هو نفس طريق التفكر في المخلوقات، لا فرق بين البصيرة والبصر، بين الوحي والطبيعة. يعلم الله كل شيء ويقدر كل شيء. وعلم الإنسان مستمد من الأشياء، وقدرته قائمة على الأسباب. ويحول ابن باجه الأسباب من العمل إلى النظر، وهو بداية الاغتراب. ويحاول الجمع بين العقل والإشراق، بين المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية في إطار صوفي إشراقي أقرب إلى التصوف منه إلى الفلسفة، وإلى حكمة الإشراق عند ابن سينا وابن طفيل منه إلى منطق البرهان عند الفارابي وابن رشد. كما يحاول التوفيق بين الحرية والجبر في نظرية الكسب بما تتسم به من غموض وأقرب إلى أحوال الصوفية كما هو كمواهب منها إلى حقائقهم كمكاسب. وإذا كان التفاضل فطريا فكيف يكون الاستحقاق؟ ويتم الخلق بالعلم لا بالإرادة، والصنع بالأسباب أي بالقوانين. والاستنباط أشرف من الاستقراء لأن الذات أشرف من الموضوع. والعلم من الذات أي الداخل أشرف من العلم من الموضوع أي الخارج. كل ذلك تنظير لا واع لآية
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، وجمع لا واع بين أرسطو وأفلاطون، وصب للوافد في الموروث. يتعدد خطاب ابن باجه، ويتنوع بين العقل والقلب، بين الحكمة والتصوف. وينتهي الخطاب الرياضي المنطقي الطبيعي إلى خطاب عقلاني صوفي فيما بعد الطبيعة. ويستعمل ابن باجه الأسلوب العربي مثل زيد وعمر وكمثل للمبتدأ أو الخبر أو الفاعل في النحو أو الموضوع والمحمول في المنطق.
32
وتبدأ الرسالة وتنتهي بالإيمانيات مع نداء للقارئ ودعوة له للمشاركة في الطريق وكأن الفلسفة طريقة صوفية أو دعوة أشعرية، لا فرق بين المؤلف والقارئ. وقد تكون النهاية أكثر من مجرد ترحم أو دعاء أو بسملة أو حمدلة بل إشارة إلى جماعات الصوفية وعقائدهم والمؤمنين وكأنه داعية شيعي. فتصوف ابن باجه وعقلانيته يجعلانه حلقة اتصال بين المشرق والمغرب، بين الغزالي وابن رشد، بين الفارابي وابن مسرة. ولا يأتي ذلك من الوافد، إبرقلس وإيضاح الخير أو أفلوطين والتاسوعات بل من الموروث، من التصوف الإسلامي وإلا تحول الأصل إلى فرع، والفرع إلى أصل كما هو الحال في الاستشراق وتوابعه.
33 «وفي العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العلم» يحيل ابن باجه إلى الزرقالة مستمدا منه المثل على التعليم من الذات قبل الموضوع والميكانة التي أستنيطها، ثم بعد ذلك يعقل الذات مع الموضوع.
34 (ه) الشيخ حسن المعدل
واستمد الفكر الشيعي محولا تاريخ الديانة إلى فلسفة التاريخ حتى القرون المتأخرة. ففي «معرفة النفس الناطقة والعلوم الغامضة» للشيخ حسن العدل (659ه) يتحول تاريخ الأديان إلى الداخل إلى قوى النفس وقوى البدن وانحساره عن الخارج والصراع السياسي بين الثورة القادمة ودولة الظلم والطغيان. فأولو العزم من الأنبياء مع القائم يقابلون آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم قوى النفس السبع والمميزة، والحافظة، والناطقة، العاقلة، والمفكرة، والذاكرة، والمتخيلة، وقوى البدن السبع الجاذبة، والماسكة، والدافعة، والمصورة، والهاضمة، والغاذية، والنامية على النحو الآتي:
35
قوى البدن
قوى النفس
الأنبياء
الأئمة
الجاذبة
العاقلة
آدم
علي
الماسكة
المفكرة
نوح
السبطان
الدافعة
الذاكرة
إبراهيم
علي بن الحسين
المصورة
المتخيلة
موسى
محمد الباقر
الهاضمة
المميزة
عيسى
جعفر الصادق
الغاذية
الحافظة
محمد
إسماعيل بن جعفر
وكل إمام له لقب بعد محمد الغفور الودود، فعلى صاحب اليوم الموعود، والسبطان الشهيدان وعلى ذريتهما الحجة على كل الوجود، وعلي بن الحسين الطاهر المحمود، ومحمد الباقر صاحب النور الموقود، وجعفر الصادق صاحب السر الموجود، وإسماعيل بن جعفر صاحب المقام المورود، والذرية الطيبة إلى اليوم المشهود.
وفي «مبتدأ العوالم وبدء دور الستر والتقية» تعود فلسفة التاريخ الأولى انطلاقا من تاريخ الدين، وتنظير للموروث وحده. فيذكر آدم ثم إبراهيم (الخليل) ثم نوح ثم إسماعيل ثم إسحاق ثم موسى والنمرود ثم هابيل وسام وحام ثم هند وتاريخ عيسى وعدنان.
36
فيتداخل الأنبياء مع الأضداد. كما يذكر الإمام ثم إبليس ثم الحارث بن مرة وهو إبليس على الأرض. ومن البيئة الجغرافية المحلية يذكر سرنديب وبوسباط.
37
ويركز على الأنبياء والأضداد: آدم وإبليس، إبراهيم ونمرود، موسى وفرعون، عيسى واليهود كلهم وليس يهوذا فحسب، ومحمد وأبو لهب. ولكل نبي دور منذ آدم حتى ينتهي دور المشيئة ويبدأ دور الستر والتقية. ويعاد توظيف مصطلحات الوافد مثل العقل الكلي، ويستعمل أسلوب القرآن الحر. ويتم الجمع كأساليب للتعبير بين الشعر والنثر بعد أن يعود الشعر في العصور المتأخرة حافظا للعلوم كما كان الحال قبل الوحي حافظا للآداب. يعبر المؤلف عن فكره بالشعر والنثر، ويشرح شعره نثرا. والشعر أقدر على التعبير عن الحالات النفسية. لذلك فضله الصوفية كأداة للتعبير. وتخاطب الرسالة القارئ لتشركه في الفكر كخطوة نحو إشراكه في الدعوة. وتبدأ بالبسملات وتنتهي بالحمدلات. (و) علي بن حنظلة المحفوظي الوادعي (626ه)
38
ويستمر الفكر الشيعي في تنظير الموروث عن طريق تحويل علم الكلام إلى فلسفة في الدين ثم تحويل فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ. ففي «ضياع الحلوم ومصباح العلوم» يتم التحول من علم الكلام إلى الفلسفة، ويرتكز الكلام على عقيدتين، التوحيد والمعاد، التوحيد لب الإلهيات أو العقليات والمعاد لب السمعيات أو النبوات. والتوحيد مبدأ الخلق. والمعاد منه مذموم ومنه محمود.
39
وتسود نظرية الفيض لربط الله بالعالم بدلا من الخلق. وتتداخل الإمامة مع الكون، فالإمامة هي القامة الألفية، والدعوة الذكية، والعلوم الحقيقة، والذرية الإمامية والمرتبة الروحانية.
ثم تتحول فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ عن طريق التواصل بين الأئمة والأنبياء، بين آدم وموسى وعيسى وفاطمة والحسن والحسين وأمير المؤمنين وسليمان ونوح وداود والحارث الأعور مخاطب علي وإبليس في جدل واحد بين الأنبياء والأئمة والأضداد. ولقد وصى إبراهيم لإسماعيل كما يوصي الإمام لإمام. وأولاد إسحاق خدم لأولاد إسماعيل. وعيسى صاحب الشريعة ثم محمد. وبين محمد وجده إسماعيل ثلاثون إماما، فالإمامة تكرار للنبوة. وكما يستشهد بالقرآن والحديث يستشهد أيضا بالتوراة في ترجمة عربية رصينة. وأكثر النصوص عن الأحوال النفسية للمضطهدين، إسماعيل الذبيح، وعيسى على الصليب.
40
ويظل القرآن هو الموروث الأصلي، والمصدر الأول للفكر الشيعي. وتتوجه الرسالة إلى القارئ للتواصل مع الكاتب. وكما تبدأ بالبسملات تنتهي بالحمدلات. (ز) الطوسي
وفي «شرح مسألة العلم» للمحقق خواجة نصير الدين محمد الطوسي (672ه) يتم التعرض لمسألة العلم، وهو موضوع مشترك بين الكلام والفلسفة في صيغة حوار افتراضي «قال ... يقول».
41
وبطبيعة الحال يتصدر المتكلمون ثم المعتزلة والحكماء ثم الأشعرية والأوائل ثم المنطقيون كفرق كلامية قبل ذكر أسماء الإعلام مثل الحسن البصري وفخر الدين الرازي وهشام بن الحكم وصاحب المختصر.
42
ومن الموروث الأصلي تذكر آيتان في الصلة بين الإدراك والعلم في الإنسان وهل يمكن قياسهما على الله مثل
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ،
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون .
وتضم الرسالة أربعا وعشرين مسألة عن أقسام العلم والمعلوم المستقبلي والمعدوم، والعلم البديهي والنظري، والعلم بالمتقدمين والنتيجة والإدراك والعلم. ثم يتم الانتقال إلى العلم الإلهي كصفة زائدة على الذات، والعمل بالجزئيات، وصلة العلم بالقوة والإرادة، وصلته بالكلام والعناية واللطف والهداية والجود وباقي الصفات. وهي موضوعات كلامية صرفة. نابعة من أصل الموروث ولا شأن لها بالوافد.
43
والرسالة في علم الكلام وفي الفلسفة في آن واحد تدل على تحول الكلام المتأخر إلى فلسفة وتحول الفلسفة المتأخرة إلى كلام. وهي أقرب للحوار، والسؤال والجواب، «قال ... يقول».
44
ويبدأ بعشرة أبيات من الشعر. فالشعر ثقافة العرب لو جمد الموروث وتحجر.
45
وينقد المعتزلة لقولهم الحقائق الثابتة، وإن المعدوم شيء. كما ينقد هشام بن الحكم لجعله العلم تابعا للاعتقاد . وينقد اعتبار العلم إضافة شعور العالم بالمعلوم عند أبي الحسين البصري وفخر الدين الرازي. ويصاغ الموضوع في صيغة تساؤلات مثل العلم تابع أم ليس بتابع.
46
ثم تأتي التأكيدات أن العلم فعل وانفعال، أما علم الله ففعلي غير انفعالي ويعرف حقيقة العلم مع التعريفات السابقة. ويعرض للصلة بين الإدراك والوجود والذهن، وأقسام الإدراك وعلم الله، ونقد أن العلم هو الإضافة. ثم تأتي بعد ذلك أربع وعشرون مسألة تدور أقل من نصفها حول العلم الإنساني والنصف الآخر أو أكثر حول العلم الإلهي. وقد يتداخل العلماء في بعض المسائل. والعلم الإنساني في الغالب مطروح في صيغة تساؤلية ما دام الأمر فيه وجهات نظر مختلفة. بل إن العلم الإلهي أيضا في أكثر من نصف مسائله معروض أيضا بصيغة تساؤلية.
47
وأحيانا تعرض موضوعات العلم الإلهي بصيغة تقريرية إيجابية مثل بعض موضوعات العلم الإنساني.
48 (ح) ابن النفيس
وفي «الرسالة الكاملية في السيرة النبوية» لابن النفيس (687ه) يختفي الوافد كلية مع أن أصولها في «حي بن يقظان» عند ابن سينا والتي يرجع أصولها إلى «سلامان وأبسال» اليونانية.
49
ولا يظهر من الموروث إلا النبي، خاتم النبيين دون ذكر ابن سينا. وفاضل ابن ناطق هو المؤلف الخيالي وكامل هو صاحب السيرة الخيالي. ولم يظهر من أسماء الأنبياء إلا يعقوب والعيص وعيسى وإسماعيل، مع صفات زهراني ويهودي وهاشمي وكافر وخارجي ومجوسي واليهود.
50
ومن أسماء البلدان تظهر مكة. ولا يستشهد إلا بآية قرآنية واحدة
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فيما يأتي به النبي من صفات الله. هي أقرب إلى الدين منها إلى الفلسفة، ومن أصول الدين منها إلى أصول الحكمة، ومع ذلك هو حديث النفس «مونولوج» كما تدل على ذلك عبارات مثل «ثم تفكر فقال».
51
وتحيل القصة إلى باقي مؤلفات ابن النفيس. فهي جزء من كل ويبدو فيها ابن النفيس الطبيب.
52
وهي أقل قيمة من الناحية الفلسفية من «حي بن يقظان»، لابن سينا ولابن طفيل، تقوم على دفاع صريح عن النبوة، وخاتم النبيين بطريقة المتكلمين وليس بطريقة الفلاسفة. موضوعها النبي وليس الله، إثبات سيرته الكاملة وليس إثبات وجود الله عن طريق التأمل في الطبيعة كما هو الحال في «حي بن يقظان». هي أقرب إلى علم السيرة منها إلى علوم الحكمة.
وتقوم على قسمة رباعية. كيفية وجود كامل في الجزيرة. وتحتوي على نظرية الولد الذاتي وكيفية تعرفه على العلوم والنبوات ثم سيرة الرسول ثم شريعته ثم التنبؤ بالحوادث بعده. فالقصة مركزة على شخص الرسول. وتقوم على شخصية واحدة كما هو الحال عند ابن سينا وليس على شخصيتين مثل ابن طفيل للإشارة إلى الطريقين طريق الوحي وطريق العقل، طريق النبوة وطريق الحكمة. والاسم نفسه له دلالته «كامل» دلالة على خاتم النبيين، والمؤلف «فاضل بن ناطق» أي الفضيلة ابنة النطق وليس «حي بن يقظان»، الحياة بنت اليقظة، ولا حياة دون يقظة.
53
والعجيب إدخال العقل فما لا دخل فيه مثل تبرير الشرائع والتنبؤ بالحوادث المستقبلة بعد موته وما يحدث بعده، والمعاصي في أمته وعقوبتها وحال الكفار وأحوال بلادهم، وسلطانهم وهذا الملك المتاخم لها، وما يحدث في العالم العلوي والعالم السفلي. ولو كان الأمر في بداية الإسلام وعدم الاستقرار السياسي لكان نوعا عن المصادرة على التاريخ، فالعقل هنا مجرد أداة لتبرير الدين بصرف النظر عما يمكن وعما لا يمكن. ولا حرج من البداية أن يعلن عن المطلوب إثباته وهو وجود الله واعتباره مقدمة. فالله تعالى لكرمه لا يمنع مستحقا حقه ويعطي كل مستعدم ما يستعدمه.
54
ولا بد أن يوجد لهذه الموجودات موجد وهو الله تعالى وأن يكون عالما متقن الصنع، معتنيا بكل شيء. فالمطلوب إثباته في النهاية تم الإعلان عنه في البداية. والله هو الذي أحكم الخلقة والصنعة بما في ذلك شعر العانة. وهنا يظهر الطبيب القاص الحكيم. وقد أخبر الله النبي أن يبلغ شرعه ويعرف الناس بجلاله وبأحوال المعاد. وما دام ذلك مبلغا من النبي فما وجه الحاجة للبحث عنه؟ والله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه ولا في جهة، ولا يشار إليه بالحس وهو ما حاول الفلاسفة البرهنة عليه وبيان استحالته، وتذكره القصة بلا برهان كقواعد الإيمان.
وتكثر العبارات الدينية في البداية والنهاية. فالمؤلف هو الفقير إلى الله تعالى، عفا الله عنه مع البسملة والحمدلة والصلاة على خير الأنبياء والمرسلين. وينتهي الكتاب بالاستعانة بالله وحده والصلاة على خير أنبيائه وصحبه وأصفيائه، ونفس الشيء يقال بالنسبة للنبوة لا جديد فيها يثبته العقل وكأن القصة مجرد سيرة تقليدية من سير الوعاظ المحدثين، نسبه وموطنه، وتربيته، وحاله، وهيئته، وعمره، وأولاده، ودعوته، واسمه، وكتابه.
55 (ط) إدريس عماد الدين القرشي (872ه)
ويستمر الفكر الشيعي حتى القرن التاسع منظرا للموروث ومطورا لعلم الكلام إلى فلسفة في الدين، ثم محولا فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ. ففي «كتاب زهور المعاني» لإدريس عماد الدين القرشي. لا يظهر الوافد على الإطلاق.
56
وإن ظهر خافتا فمن خلال الموروث مثل اختبار المأمون أحد الأئمة بعرض المجسطي عليه، والإشارة إلى هرمس باعتباره النبي إدريس، واستعمال لفظ «السسوفسطائية» لفظا معربا، وقسطا بن لوقا من المترجمين.
57
ولا يعتمد إلا على الموروث الأصلي القرآن والحديث والأنبياء والأئمة وأضدادهم. يتجاوز القرآن الحديث ثلاثة أضعاف. ومن يتصدر محمد والرسول والتراكم الفلسفي التاريخي لمجتمع المضطهدين، ويتفاعل النص مع الواقع التاريخي ويتم التأويل ويتم نسيج التصور للعالم.
58
وتذكر بعض الأحاديث الضعيفة، فالمهم المتن وليس السند. وصحة المتن المثنى في مطابقته مع النفس وليس في مطابقته مع قول القائل أو الراوي.
59
يتم التعبير أحيانا بالشعر لأنه أقرب إلى التعبير عن المأساة كما هو الحال في الشعر الملحمي ويستعمل أسلوب القرآن الحر والحديث الحر كجزء من الخطاب الفلسفي لإثرائه بلاغيا وفنيا. وتظهر أفعال القول الرواية أقوال الداخل. أفعال القول إذن ليست خاصة بالوافد، أرسطو أو غيره بل هو أسلوب في التعبير، في النقل عن الآخرين، يستعمله القرآن والحديث، وظهر في كافة العلوم النقلية والعقلية.
والحكيم الفاضل ليس أرسطو، والحكماء الفضلاء ليسوا اليونان. وإذا أطلقت الألقاب الأولى التي نشأت للوافد، أصبحت على العموم تشير إلى الموروث الذي أصبح الوافد جزءا منه. كما تظهر بعض مصطلحات الوافد مثل الهيولى والصورة بعد أن استقرت وأصبحت جزءا من الموروث الثقافي العام الذي لا تمايز فيه بين الوافد والموروث بفعل التراكم التاريخي.
وكما يظهر الموروث الأصلي في القرآن يظهر أيضا الموروث في التوراة استشهادا به على تاريخ الأنبياء تأصيلا للجديد في القديم وعودا إلى الجذور حتى يمكن أن تهز أبنية الظلم في الحاضر. وكثير من الروايات ظنون وتخيلات ينقصها البرهان. وبعض الأحاديث القدسية موضوعة لأنها تسمح بالخيال مثل كتاب «بدء الخلق» في البخاري وهي أحاديث طويلة لأنها من صنع الخيال المنطلق في إبداعه. ولا تهدف إلى بيانات عملية كما هو الحال في الأحاديث الصحيحة القصار. وكل التأويلات لتحقيق المناط وتركيب النصوص على الأئمة والأوصياء والأضداد وكأن النصوص نزلت في هذه المواقف الجديدة. لذلك تتعين النصوص في أسماء الأشخاص. بل يتم تأويل الشرائع لتعميمها وإطلاقها من حدودها الخاصة إلى حدودها العامة مثل تأويل أركان الإسلام الخمس. فالتأويل يقوم بحركتين من العام إلى الخاص في تحقيق المناط، ومن الخاص إلى العام في تأويل الحدود.
60
ويتم التحول من الكلام إلى الفلسفة، من الخلق إلى الفيض، ومن الإمام الشرعي إلى الإمام الكوني. ويدل العنوان كله على ذلك، على التوحيد والإبداع والكمال ثم ارتقاء الجسماني إلى الروحاني.
61
ويتجلى التوحيد في الإبداع أي الخالق في المخلوق حتى يتحقق في الإمامة الكونية.
62
ويتم نقد نظرية الذات والصفات والأفعال التي تحولت إلى جوهر صنمي عقلي بديلا عن الأصنام الحسية من أجل بيان تجليات الذات الإلهية في الكون بالطريقة الصوفية. ولفظ الإبداع وسط بين الخلق والفيض، وأقرب إلى التصور الفني منه إلى التقرير الوصفي. ويقل المعاد لصالح النبوة. كما يقل الإيمان والعمل لصالح الإمامة. ويتضخم التوحيد على حساب العدل نظرا لغياب العدل في الدنيا وثورة التوحيد على الظلم . والوراثة أفضل من الاختيار. العلم والملك وراثة أفضل من سوء التأويل وسوء الاختيار.
ومن الفلاسفة يتصدر حميد الدين الكرماني وكتابه الشهير «راحة العقل» ثم السجستاني في «إثبات النبوة»، وإخوان الصفا ورسالتهم خاصة «الجامعة»، ومؤلف «ضياء العقول». ويحيل إلى مؤلفين: «الروضة»، «جلاء العقول وزبدة المحصول» لعلي بن محمد بن الوليد.
63
وتكثر أسماء أعلام الخلفاء والأمراء والعلماء بما يفوق المائة مما يدل على مدى تفاعل الفكر الشيعي مع الموروث.
64
كل ذلك رد فعل على الاستبعاد والإقصاء من رجال السلطة لرجال المعارضة الذين يذكرهم التاريخ. ومن البيئة الجغرافية المحلية تذكر ديار مصر، والإسكندرية، والقاهرة ومسجد عمرو بن العاص، وبرقة والقيروان ومدن الشام، والشام، وأنطاكية، وملك الروم، ومن الأقوام العرب والعجم، ونظرا لهذا العدد الضخم من الأسماء جعل الفكر أقرب إلى التجميع منه إلى الإبداع، يظهر فيه التراكم التاريخي أكثر مما يظهر فيه النقل النوعي.
ومن الأنبياء من يتصدر محمد الرسول، ثم موسى، ثم آدم، ثم عيسى، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم نوح، ثم هارون، ثم إسحاق ويوشع بن نون، ثم سام، ثم يحيى، ثم مريم وتوما، ثم زكريا وفنحاس وداود ثم لوط وشيث وشعيب.
65
ويذكر أضداد الأنبياء مثل إبليس ويهوذا وأبي جهل وأبي لهب، كما يذكر النصارى وبني إسرائيل واليهود وهاروت وماورت. ويعاد بناء فلسفة التاريخ على نحو تقليدي قديم النبي والضد المقيم والوصي. لكل نبي مقيم، قابيل وهابيل، فالأنبياء أدوار تمثل مراحل التاريخ وكلها تمثل ارتقاء وتقدما وانتقالا من الظاهر إلى الباطن على عكس تصور أهل السنة الذي يقوم على الانهيار المستمر من الإمامة إلى الخلافة إلى الملك العضوض، من الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين كما هو معروف في كتب الطبقات، طبقات المعتزلة، وطبقات الصوفية، وطبقات الحنابلة ... إلخ.
النبي
الوصي
المقيم
الضد
آدم
سام
هنيد
إبليس
نوح
لافح
ابنه
إبراهيم
صالح
النمرود
موسى
جدعان
فرعون
ويستمر هذا التصور الجدلي للتاريخ على نفس النمط نظرا لاستمرار النبوة في الإمامة. فالمستنصر بالله ضده نزار أو محمد بن أبي قحافة. ويتكرر هذا الموقف في كل عصر من أجل شحذ الصراع بين الإمام وضده.
66
ومن الأئمة وآل البيت يتصدر أمير المؤمنين ثم الحسين وفاطمة ثم جعفر الصادق، وهم قادرون على إجراء المعجزات مثل حواري السيد المسيح. وبين التشيع والنصرانية وبين التشيع واليهودية هناك عناصر قربى؛ لذلك كثيرا ما ينصره المستشرقون. والأديان كلها تهدف إلى غاية واحدة بالرغم من تعدد مراحلها، ويصل حد الإشادة بالقدماء أئمة وأوصياء وعلماء إلى غياب النقد، ووصول الأمر إلى درجة التقديس ما يتنافى مع الاجتهاد والتطور وارتقاء التاريخ والفكر السني والفكر الشيعي عالمان مغلقان، تصوران متضادان للعالم، تضاد السلطة والمعارضة، الدولة وخصومها، الأمر الواقع والتغيير في المستقبل، شرعية الماضي وشرعية المستقبل. وكل باب له وحدته يبدأ بالبسملات والحمدلات وينتهي بها مما يبين أن الفكر خارج من الموروث وتنظير لعناصره.
67 (2) آليات الإبداع
ويقوم تنظير الموروث على الاختصار دون التطويل والتركيز على المعنى وتجاوز العقول إذا كانت الفكرة واضحة والموضوع جليا، والعقل قادر على الإمساك به وتحويله إلى نظرية. لذلك تتم العودة إليه باستمرار في حالة الاستطراد والتذكير به.
68
كما يظهر أسلوب النقد والتمحيص والتنبيه على الأوهام والجهل وبيان المحال والتناقض. فالفكر عملية تحقق وبرهان، ونقد ومراجعة، ترمي إلى تبديد الأوهام مما يدل على أهمية المعرفة وتبديد الوهم. وتوصف الأوهام بأنها عامية، أي إنها أقرب إلى أوهام السوق والأفكار الشائعة والأحكام الخاطئة.
69
ويفضل لفظ الجهل والفساد والخلف والمحال والبطلان. والغاية تبديد الوهم، وتصحيح الفكر والعودة إلى البرهان. بل يوجه النقد إلى القارئ إن وقع ضحية هذه الأفكار الشائعة والذي يظن أن السعادة في الطعام والشراب والنكاح. ويتفاوت النقد في الرسائل. يغيب في القصيرة نظرا لتركيزها ويكثر في الطويلة لإسهابها.
70
بل إنه يوجد أيضا في باقي الأشكال السابقة للعلاقة بين الوافد والموروث. ففي «الإشارات والتنبيهات» مثلا تظهر عناوين فرعية مثل «توهم وتنبيه»، «أوهام وتنبيهات».
71
ويظهر الأسلوب الإسلامي الأصولي في تخيل الاعتراض والرد عليه مسبقا حتى يمكن بناء الفكر نظريا متسقا مع نفسه. ويتم ذلك عن طريق فعل السؤال: فإن سأل سائل، أو فعل القول : فإن قال قائل. وقد يكون السؤال موجها للمؤلف، وقد يكون على العموم ليس موجها لأحد، تأكيدا للفكر الموضوعي المستقل. قد يكون القول القائل، وقد يكون الفعل مبنيا للمجهول بصرف النظر عن القائل. وهو قول متخيل لأنه بصيغة الاحتمال. ويظهر لفظ الاعتراض لبيان أن القول اعتراض وليس مجرد قول. والاعتراض أدق. كل اعتراض قول وليس كل قول اعتراضا. ولا يرد على الاعتراض إلا بعد التحقق والتيقن. وينطبق ذلك أيضا على «الإشارات والتنبيهات».
72
كما يكشف الأسلوب وطريقة التعبير أن المؤلف يصف فكره وفكر محاوره ورؤيته لمساره ووحدته ومنطقه واستدلاله. يذكر بما سبق ويخبر بما هو لاحق حتى يظهر التواصل بين مراحل الفكر والعلاقة بين المقدمات والنتائج، واتجاهه نحو غاية وقصد هو الموضوع ذاته. وتظهر عبارات الربط من أجل بيان وحدة الفكر في البداية ثم تقل عندما يبرز الموضوع. وينطبق ذلك على باقي أشكال التأليف.
73
والرسالة علاقة متبادلة بين المؤلف والقارئ وأحيانا بين الناشر والناسخ والقارئ لما كان الناشر والناسخ يتمثلان موقف المؤلف على نحو تصاعدي لاشتراكهما في نفس القضية. فالدعوات من المؤلف للقارئ بالسعادة ومديد العمر، والدعوة له بنيل الرغبات، وتحقيق الأمنيات والسعادة في الدارين وصرف المكروه ودوام السلامة. وقد تصبح مخاطبة القارئ، مناجاة له إذا كان من الصوفية مثل أبي سعيد، تنقلب إلى مناجاة الله، مرة أفقية، ومرة رأسية.
74
الفكر نفسه تجربة مشتركة بين الكاتب والقارئ وليس عملا فرديا بلا قضية أو جمهور. هذه التجربة المشتركة هي مقياس اليقين ومحك النظر ومعيار العلم. ما يقوله المؤلف يعلمه القارئ بفطرته وعن طريق السمع والرواية. وإن لم تكن لديه تجربة أو علم سابق يعطيها المؤلف إياه. دور المؤلف الزيادة في التوضيح. وشرط مشاركة الآخر فهمه وتأمله. وشرط الفهم والتأمل كبح الشهوات والتخلص من الأهواء وصفاء النية. الأخلاق شرط العلم. والطهارة تسبق المعرفة. ويقبل شك المستمع ويرد عليه، والله أعلم. وقد يأمر المؤلف القارئ بالعلم والاعتبار تنبيها له وإيقاظا لشعوره. وأحيانا يكون الأمر في صيغة مناشدة بل ومناجاة بين شقيقين طلبا للسعادة الأبدية. وينتهي الأمر بالدعاء إلى القارئ وكأنها علاقة بين شيخ ومريد، مرشد ومسترشد، وعظ في مسجد، مكافأة وجزاء، نصيحة وتناصح، وطلب الخير للاثنين، خير النصح وخير الاسترشاد بغية النجاة في الدارين. وإذا كان العمل صوفيا أدبيا فإن مخاطبة القارئ تتحول إلى مناجاة وابتهال ومناشدة بالصداقة والأخوة. وأحيانا يكون الخطاب للشخص الثالث على الإطلاق غير المحدد بل المخاطب كقضية أمة. فمن عاهد الله أن يسير بهذه السيرة وفقه الله إلى ما يتمناه. وقد يتحدث ابن سينا عن القارئ الغائب باعتباره آخر تسهيلا عليه. وأحيانا يقوم الناسخ بتقطيع نص المؤلف إلى فقرات ويصدره بقال الشيخ اشتراكا مع المؤلف في مساره مثل العلاقة بين المقرئ والمستمع.
75
وتظهر وحدة عمل ابن سينا في الإحالة إلى باقي مؤلفاته الجزئية حتى تظهر وحدة الرؤية الكلية والمذهب العام. كما يحيل الكتاب إلى آخر في نفس الموضوع كما تحيل «رسالة النفس الناطقة» إلى رسالة «معرفة النفس» على مراحل مختلفة من العمل. فقد كتب ابن سينا الثانية قبل الأولى بأربعين عاما بطريقة أهل الحكمة البحثية. فالكتابة في نفس الموضوع قد تكون بأكثر من طريقة، تمثلا للوافد أو تمثلا للوافد وتنظيرا للموروث أو تنظيرا للموروث فقط أو إبداعا خالصا عن طريق الحكمة البحثية أو الحكمة الذوقية.
76
وقد يحيل العلم بأكمله مثل علم النفس إلى باقي العلوم كالأخلاق. إذ يتبين من الأخلاق أنها والعادات تابعة لمزاج البدن، ويشمل الوظائف الشرعية والسنن المللية والعبادات البدنية والمالية أي الشرع. وقد يحيل موضوع التنفس إلى العلوم الطبيعية نظرا لارتباطه بالأجرام العلوية وتأثير العالم العلوي في العالم السفلي. فكل علم تثبت مقدماته في علم آخر.
77
وتظهر البيئة الدينية في البسملات والحمدلات في البداية والنهاية والوسط، في أول كل مقالة أو في آخرها في كل المؤلفات. كما تظهر الصلوات والتسليمات على الرسول وآله وصحبه. كما تظهر بعض الدعوات الصوفية ومصطلحات وغايات الإشراق كما هو الحال في المؤلفات الكلامية الأشعرية، ودعوات الكريم بالتيسير والإتمام بالخير، ودعوة الله بالتوفيق بمنه وجوده وكرمه، وربط كل شيء بالمشيئة الإلهية في تأليف الفصول القادمة والاستعانة بها. ولا فرق في ذلك بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك بائعا أو شاريا. فالمهم النص كوثيقة حضارية وكعمل جماعي يكشف عن دلالات عامة. ويكشف ذلك عن الجو الديني العام للتأليف طلبا للهداية إلى طريق الحكمة الذوقية ودعاء بحشر الجميع مع أهلها. وقد يزداد على البسملة الدعوة بالتوفيق والإنابة والاستعانة والتوفيق وإدراك المطالب العالية والنجاة يوم الحساب والمنفعة بالعلم وبنيل الغايات والسعادة في الدارين ودوام السلامة. ويمكن أن تحتوي الخاتمة الدينية على دعاء أو شهادة على خصم.
ويوصف الله بكثير من الأوصاف الفلسفية مثل واهب العقل أو واهب العقل والكمال. ويتكرر الوصف في معظم الرسائل، بالإضافة إلى مبدع الكل. وتتوالى الصور البلاغية مثل الذي خلق العدم بنور الوجود، ملهم الصواب. ويوصف بأنه واهب القوة مع عديد من العبارات ذات السمع والإيقاع اللفظي كما هو الحال في الدعوات والابتهالات والمواعظ والمواجيد. الله ملهم الصواب، ومنور الألباب، واهب العقل، والمتكفل بالعدل. كما تكشف المقدمات الدينية عن نظرية الاتصال الشهيرة في الفلسفة الإشراقية. فالله مخاطب، والإنسان مخاطب، والإشراق خطاب لمدافعة الخطأ وملازمة الصواب. وذلك لا يحدث عند العامة بل فقط في قلوب الأولياء المؤيدين منه والذين خلصت سرائرهم، وصفت ضمائرهم كما أشرق على الموجودات فأبدع الأفلاك، وخلق الأركان، وأنشأ النبات، وأكمل الحيوان ثم خص الإنسان بشرف المنطق والفكر والبيان حتى ليبدو أنه خلق كل شيء من فضالة الإنسان. لذلك استحق التعبد والتضرع. وتتم صياغة كل ذلك في أسلوب أدبي. فالأدب هو الرابط بين الفلسفة والتصوف، والإنسان مركز الكون وقصده في كلا العلمين.
78
وكذلك يوصف الرسول ببعض الصفات مثل صاحب الشريعة. وتتجدد صفات الرسول أيضا مثل واسطة عقد العدل، قلادة جيد الفضل، الحامل لواء الحمد، ملاح سفينة الرشد. وهي أقرب إلى الصور البلاغية منها إلى التصورات العقلية. وقد تصبح الصفات والصور لا شخصية بل عامة مجردة مثل شموس الدلالة، بدور الهداية، أعلام الدعوة إلى ينبوع الخير والشر والسعادة في البداية والنهاية، رسول الثقلين، النبي الأمي، أكمل البرية، سيد المرسلين، خير البرية والمطهرين من كدورات البشرية، سيد الأولين والآخرين. وتكشف الألفاظ الشيعة لابن سينا عن كثرة تعظيم الرسول مثل السيد والمولى والملاذ وكثرة الدعاء لشريعته وحزبه وحمد الله أولا وأخيرا وظاهرا وباطنا. بل إن اسمه يتضمن الأسماء المحببة إلى الشيعة من آل البيت مثل علي والحسين، فهو أبو علي الحسين بن سينا.
79
وتكشف بعض النهايات عن أسلوب التأليف المحلي، العمل باعتباره وثيقة شرعية يتحدد وقت كتابته وزمن الفراغ منه والدعوات للناسخ وطلب المغفرة له بل وللقراء أيضا مع تحديد وضعه، العبد الفقير لله، واسمه، ونسبه، ومذهبه، وتاريخ وفاته هجريا. فلم يكن الميلادي قد ظهر بعد في الوعي التاريخي الإسلامي.
80
وقد تصدر كل رسالة بآية تجعل موضوعها قرآنيا أي رد الحكمة من الخارج إلى الداخل. فالآية هي الحل والحامل والموضوع والموجه والنموذج والمثل، يختار الناشر الآية المناسبة لموضوع الرسالة ويصدرها بها فوق عنوانها الأصلي، مثل وضع
الله يفعل ما يشاء
فوق عنوان رسالة «الفعل والانفعال».
81
وباقي رسائل ابن سينا المنشورة في حيدر أباد مع الدعوة لحراستها من الفتن والمخاطر الداخلية والخارجية. فلا فرق بين النص والموقع، بين العمل والمدينة، بين الفكر والأمة، بين العقل والتاريخ. ويعلن عن الطبع في هذه البيئة الدينية مع ذكر التاريخ الهجري والصلاة والسلام على الرسول ومقابلة الطبع على النسخة القديمة وتحديد مكانها ورقمها وتصنيفها ومقابلتها مع النسخ الأخرى في أماكن أخرى، وذكر المصحح وألقابه وخبرته واسمه والدعوة له بالسلامة. بل لقد قلد المستشرقون ذلك فسمى المستشرق نفسه العبد الفقير إلى رحمة ربه. كما سمى ليدن المحروسة.
وتقترن بالدعوة إلى الله الدعوة إلى السلطان. ويشتق اسم الرسالة من اسمه كما فعل ابن سينا في «الرسالة النيروزية» لخدمة السلطان مولانا نيروز مع الدعوة لإدامة عزه ومدح جود اليد، وعرض خدمات ابن سينا حكيم البلاط له، وإعطائه أربعة ألقاب: المولى، والشيخ، والأمير، والسيد. ويكررها مرتين في مقدمة الرسالة. ثم يتواضع ابن سينا لدرجة الخضوع والتذلل، ويعتبر نفسه واحدا من القوم، من الرعية، من السواد الأعظم، يريد إعطاء هوية فكرية وليست دنيوية وكأن الفكر صناديق ومعلبات للخزانة الكريمة وليس للعقول، للأمير وليس لمجموع الأمة. بل يحتاج ابن سينا إلى مقابلة الأمير لمشافهته بها، والوقوف على الأعتاب السنية في الحضرة الملكية.
82 (3) تنظير الموروث المنطقي والعلمي
ولم يقتصر التنظير على علوم الحكمة وحدها الطبيعيات والإلهيات والنفسانيات بل امتد أيضا إلى آلة العلوم المنطقية وإلى العلوم الرياضية مثل الفلك والطبيعة مثل الطب والتي أصبحت علوما موروثة خالصة حتى ولو كانت في بداياتها وافدة بعد أن تحول الوافد إلى موروث. واستمر من القرن السادس حتى القرن الثالث عشر بداية فجر النهضة العربية على عكس الحكم الشائع أن الفلسفة انتهت بعد ابن رشد. (أ) تنظير الموروث المنطقي
ويبدأ ذلك عند ابن رشد المعروف بالشارح الأعظم وأكبر متمثل للوافد وشارح وملخص وجامع له. ويقوم ابن رشد بذلك في مقالاته الصغرى. ففي كتاب «العبارة لأبي نصر» لا يظهر إلا الموروث كدليل على التراكم الفلسفي من الفارابي وكما هو واضح في العنوان.
83
يظهر أبو نصر ثم ابن وهيب والفراء وأبو بكر.
84
ويستعمل ابن رشد نفس المنهج الشارح ولكن هذه المرة للفارابي وليس لأرسطو، للداخل وليس للخارج، للموروث وليس للوافد. فأول عبارة في المقال للفارابي، والموضوع لغوي محلي صرف لا شأن له بالوافد، ودلالة الاسم المشتق على المعنى والموضوع، وصلة اللفظ بالمعنى بالشيء. فالكلمة تدل على الفعل في الزمان المحصل وعلى المعنى والموضوع. ولا يشارك المعنى الأسماء المشتقة لأنها تشير إلى شيء وليس فقط إلى معنى. ورباط القضية يحيل إلى هذا الشيء. ويتجه ابن رشد إلى عدم تخطئة الفارابي. فالفيلسوف البرهاني لا يعارض الفيلسوف المنطقي؛ إذ إن حكيمها يشارك في منطق البرهان. ويعارض الفيلسوف الإشراقي سواء كان الفارابي أو ابن سينا. وكعادة ابن رشد في الشرح يستنبط النتائج من المقدمات، ويصف مسار الفكر، بداياته ونهاياته، ويتتبع منطق استدلاله، ويراجع أحكامه. ويبدأ المقال بالبسملة وطلب العون من الله والصلاة والسلام على محمد وينتهي بالله أعلم.
وفي «انعكاس القضايا» يغيب الوافد كلية ولا يحضر إلا الموروث، أبو نصر، ثم ابن سينا دون أرسطو أو أحد من شراح اليونان.
85
ولا توجد إحالات إلى مؤلفات أو مجموعات، هناك إشارة واحدة لبعض الفاضلين دون تحديد لهويتهم، من الوافد أو الموروث.
86
وبالرغم من أن الفارابي أكثر ذكرا إلا أن المقال كله نقد لمذهب ابن سينا في انعكاس القضايا. فقد رد ابن سينا على الفارابي في الممكنة ولم يرض عنه. كما رد ابن رشد على ابن سينا وفقا لتشنيعه. ويراجع رده من المتقدم إلى المتأخر، من الفارابي إلى ابن سينا إلى ابن رشد لبيان الانحراف في الفهم، ومن ابن رشد إلى ابن سينا إلى الفارابي لتجاوز هذا الانحراف والعودة إلى الأصول على نحو تراجعي، من المتأخر إلى المتقدم. فابن رشد مع أبي نصر ضد ابن سينا. الأول يحاصره من النهاية والثاني يحاصره من البداية. وأبو نصر بريء وابن سينا متهم. هذا حكم القاضي أبي الوليد. ابن سينا يعاند وابن رشد يفك عناده، لو كان ابن رشد مقلدا وتابعا لأرسطو لما محص أو نقد أو حكم. يتمثل إبداع ابن رشد في البحث عن الحقيقة والحكم بين المتخاصمين. ينقد ابن رشد مذهب ابن سينا في انعكاس القضايا، وهو مذهب الفارابي نظرا لمعاندة ابن سينا لأرسطو فيه. ويقوم بعملية تطهير للأصول من الفروع، ولا يعرض بل يأتي بجديد، ويأخذ موقفا، ويتناول كل ما هو في حاجة إلى تطهير كما هو الحال عند فقهاء الحنابلة. يشك ابن سينا في قول أرسطو إن الجزئية الموجبة الممكنة تنعكس ممكنة، وكذلك في الضرورية الجزئية الموجبة تنعكس ضرورية، وفي السالبة المطلقة تنعكس كلية. ويعاند قول أرسطو بالمواد ناقلا المنطق من المستوى الصوري إلى المستوى المادي كما حاول الفارابي من قبل، ويناقض نفسه، ويخرج من السياق، ويكرر شكوكا قديمة أمكن الرد عليها. يبحث ابن رشد عن صحة أشكال القياس. وهو الذي يقول وليس فقط أرسطو. وقوله هو الحق دون تعصب. وإن لم يبدأ المقال بالبسملة إلا أنه ينتهي بالحمدلة وبأن الله أعلم.
وفي «من كتاب البرهان لأبي نصر» يغيب الوافد كلية ويحضر الموروث.
87
ويظهر التراكم الفلسفي المنطقي من الفارابي إلى ابن باجه وابن وهيب والفراء. ويحيل إلى كتاب البرهان لأبي نصر كما يتضح في العنوان.
88
وألفاظ الكتاب هي ألفاظ أبي نصر. فلا داعي للحيد عنها بدعوى إصلاح المعنى لأن المعنى الجديد يمكن التعبير عنه بألفاظ أبي نصر. وقد أصاب أبو نصر فيما اشترط في جنس الفصل أن يكون محمولا أولا كما عرض لذلك في كتاب «البرهان». وقد أصلح ابن باجه لفظ الفارابي في القراءة وأرجعها إلى خطأ الناسخ، وبرأ أستاذه منه. فليس يمكن أن يكون جنس الفصل المقوم جنسا للموضوع مانعا لأن يكون محمولا أولا. وقد استكره البعض اللفظ، وأخرجوه من معناه الجائز في العربية. وقد قام بمثل هذا الإصلاح في كتاب مقابل بكتاب أبي عبد الله مالك بن وهيب وهو كتاب صاحبه الفراء. ويبحث ابن رشد عن الاتساق المنطقي والوضوح الفكري بعيدا عن التناقض والغموض. ويتوخى الدقة في اقتضاء الكلام لمقتضى الحال دون زيادة أو نقصان. ويستعمل أسلوب القول والاعتراض. فقال أرسطو لا تعني التبعية له بل أسلوب الجدل والتمايز بين الأنا والآخر. بل إنها عادة قد تكون أحيانا من الناسخ تقطيعا للحجج ومساعدة على فهمها. فالنص عمل حضاري مشترك بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك. وأحيانا يكون القول بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب، مفردا أو جمعا. ويجعل ابن رشد اللغة العربية وليس اللغة اليونانية أساس الاستحسان أو الاستهجان اللغوي في القضايا المنطقية. وكما يبدأ المقال بالبسملة وطلب العون من الله الرب والصلاة والسلام على محمد ينتهي بالحمدلة.
واستمر تنظير الموروث في القرن السابع في «المختصر في المنطق» لابن عرفة (716-805ه).
89
وهو إمام جامع الزيتونة مما يدل على اشتغال رجال الدين بالمنطق كبديل عن الجدل الكلامي. هدفه تعليمي تعليم المنطق بعد أن تداخل في العلوم. يعتمد على اقتباسات كثيرة مما يظهر في أسلوب «قال» و«قلت». ويظهر التراكم التاريخي في كثرة الأسماء للأعلام أو للكتب مع الألقاب مثل الشيخ الإمام، مع ظهور الوعي التاريخي والتمايز بين المتقدمين والمتأخرين، ويظهر أكثر من خمس وعشرين مؤلفا وعالما. يتصدرهم السراج ثم الخونجي وابن واصل ثم الأثير ثم الشيخ وهو في الغالب ابن سينا ثم الفخر ثم الفارابي ثم الكشي ثم الكابتي ونصير الدين السمرقندي. ثم ابن الحاجب، وابن الحباب، وابن التلمساني، وابن الأندراسي، والأيلي، وابن البديع. ثم الأشعري، والقرافي، والشيرازي، وعز الدين بن عبد السلام.
90
كما يحال إلى عديد من المؤلفات المنطقية مثل الكشف ، والموجز، والمجمل، والرسالة، والملخص، والشفاء، والإشارات، وشرح الإشارات. ويكثر ذكر الأقدمين ثم المتأخرين ثم المحدثين مما يدل على ارتقاء الوعي الفلسفي. ولا يذكر اليونانيون إلا مرة واحدة من ذكريات الماضي البعيد بعد أن ورثهم المسلمون. وبالإضافة إلى الإكثار من ألقاب العلماء وهي سمة العصر تظل الإيمانيات، البسملة والصلاة على محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين والدعوة بالتوفيق والدعاء بطلب حسن العون.
91
ويستمر تنظير الموروث المنطقي حتى القرن الثاني عشر في «الجواهر المنتظمات في عقود المعقولات» لأحمد السجاعي (ت 1197ه) وشرح المؤلف نفسه مع حاشية شيخ الإسلام الشيخ حسن العطار (ت 1250ه) مما يكشف عن طبيعة هذا العصر المتأخر وظهور التراكم الفلسفي وعيش الفكر على ذاته، تأليف على تأليف، شرح على متن، وحاشية على شرح، وتخريج على حاشية. ويستعمل القرآن في الشرح مثل
غير المغضوب عليهم
كمثل الإضافة المعرفة إلى المعرفة.
92
ويتعلق بالكلام أكثر من تعليقه بالمنطق. فالكلام منطق العقيدة كما أن المنطق هو آلة العلم. بل إنه يتعلق بالطبيعيات نظرا لتداخل موضوع المقولات بين المنطق والطبيعيات. فالموضوع هو الجوهر والأعراض.
93
ويعتمد على الموروث وحده، من الفرق على المتكلمين ثم الحكماء ثم الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة و«شيوخنا»، ومن الأعلام ابن السبكي، والزركشي، والشهاب الخفاجي، والسعد التفتازاني، والنظام وابن سينا، وابن دريد. ومن المؤلفات على شرح المقاصد، وشرح الطوالع، وشرح التجريد والمواقف. وواضح الاعتماد على الشروح أكثر من الاعتماد على المتون في عصر الشروح والملخصات. وينتهي العمل كالعادة بالحمدلات كما يبدأ بالبسملات. ويأخذ الله صفات المنطق مثل تنزيهه عن الكم والكيف، بالإضافة إلى الاستعاذة من شيطان الجن والإنس في الدنيا ويوم الثناء.
94
واستمر تنظير الموروث المنطقي في القرن الثالث عشر حتى في الحواشي مثل «حاشية شيخ الإسلام والمسلمين رب المريدين المرحوم الشيخ إبراهيم الباجوري على مختصر العلامة المحقق سيدنا الشيخ محمد السنوسي في فن المنطق». وهو عنوان طويل مركب يدل على تداخل النصوص والتراكم الفلسفي الداخلي بين المتون والشروح والحواشي والتخريجات بطريقة التناص بحيث تصبح الشروح أضعاف النص الأول كمركز حوله حلقات مع فصل بين النواة أو القلب وبين الأوراق المغلفة لها كما هو الحال في الشرح الكبير عند ابن رشد للوافد. فهو تراكم معرفي مغلق على ذاته، حضارة تعيش على ذاتها، تستلهم ذاكرتها، جمل يجتر في عصر القحط والجفاف ما طعم من قبل أيام الوفرة والرخاء. يتم التراكم على نحو دائرة ابتداء من المركز وليس على نحو طولي، قراءة اللاحق السابق وتطويره ونقله وإعادة بنائه من عصر إلى عصر.
وكان هناك وعي تاريخي بهذه الأنواع الأدبية مثل التقييد والتقرير.
95
ويصل حد التراكم إلى ضياع النص الأول وتغطيته بطبقات من الشروح والحواشي والتخريجات اللغوية والفقهية والكلامية لدرجة التطويل الذي يخلو من الفائدة أو تجديد حتى شرح البسملة وإعرابها نظرا لغياب مادة جديدة، بل شرح لفظ بلفظ مما يدل على غياب المعنى وضياع الشيء لحساب اللفظ دون أي فعل للقراءة أو التأويل لدرجة ضياع النص الأول، فتصبح الشروح مجرد حشو لغوي، ملء فراغ، تغطية مساحة دون مضمون قديم أو جديد. كل ذلك يدل على الحالة العقلية للعصر وأوضاعه الذهنية وتوقف الحضارة عن الإبداع والانتقال من مرحلة الإبداع التي قامت على العقل إلى مرحلة الاستدعاء الثانية التي تقوم على الذاكرة.
96
وتأتي مادة الشروح من العلوم النقلية طالما أن العقل قد توقف عن الإبداع، مجرد تجميع من مواد كلامية وفقهية ولغوية أو صوفية. ويبرز الشعر العربي، ثقافة العرب الأولى نابعا من الوعي العربي قبل الإسلام. ويتحول إلى شعر تعليمي من أجل حفظ المادة بأسلوب العرب الأول، الشعر. ويخرج الشرح عن موضوع المنطق إلى بعض المسائل الكلامية. مثل قدم العالم وحدوثه، أو إلى النحو وعلوم اللغة والنحو هو منطق العرب كما أن المنطق هو نحو اليونان. وربما تظهر بعض المواد الطبية نظرا لاستمرار الموروث الطبي إلى عصر متأخر لفائدته العملية.
وينتهي الوافد كلية لصالح الموروث، سواء الأصل القرآني أو الأحاديث النبوية. والحديث يتصدر القرآن لغلبة الرواية على الدراية كمواد وللحواشي أو أسماء الأعلام مثل اليوسي، ثم ابن عرفة، وابن سينا، ثم إمام الحرمين، ثم الفارابي والشافعي. فيختلط الحكماء بالفقهاء. نظرا لأن الفقهاء، أصبحوا حكماء العصر، ثم الأجهوري وامرؤ القيس نظرا لعودة شعراء العرب يحتلون مراكز الثقافة بعد انجسار علماء المسلمين. ثم يختلط الفقهاء بالمتكلمين بالمناطقة بالأنبياء وأضدادهم أو بالفرق مع إحساس بالتمايز بين المتقدمين والمتأخرين وبتنوع الثقافات الفارسية واليونانية، الموروث الشرقي والموروث الغربي، بعد أن أصبح كلاهما جزءا من الموروث العام. فإذا ظهر الوافد مثل «شرح أيساغوجي» شيخ الإسلام فلأنه أصبح موروثا ولم يعد وافدا. كما تظهر أمثلة محلية مثل التركي والزنجي والجرجسي. ويضرب المثل بزيد وعمرو على عادة الأسلوب العربي. وتظهر الإيمانيات في البسملة والحمدلة في البداية والنهاية بل وفي العنوان في ألقاب الشارح. ومن ثم تحول المنطق إلى علم من العلوم النقلية، ويكون التنظير قد تم لحساب النقل.
97 (ب) تنظير الموروث العلمي
ولما كانت العلوم قسمان، علوم رياضية وعلوم طبيعية فقد عم تنظير الموروث هذه العلوم خاصة علم الفلك من العلوم الرياضية. وعلم الطب من العلوم الطبيعية نظرا لفائدتها العملية. ففي علم الفلك «قضية معدل السير عند بطليموس» لابن سينا وأبي عبيد الجوزجاني نموذج لتنظير الموروث الفلكي ووضع بطليموس في العنوان من الناشر مما يجعله أقرب إلى العرض الجزئي منه إلى التراكم الفلسفي وتنظير الموروث العلمي؛ إذ إن العنوان الأصلي «مختصر في معنى فلك معدل السير ومعنى الميل والالتواء والانحراف لأفلاك التداوير استخرجته من كتاب كيفية تركيب الأفلاك مصنف الشيخ الجليل أبي عبيد عبد الواحد بن محمد الجوزجاني». وهو يدل على أنه اختصار وبالتالي أقرب إلى التلخيص، قام به ابن سينا من كتاب آخر «كيفية تركيب الأفلاك» للجوزجاني. ولما كان خاليا من الوافد اليوناني تماما مما لا يجيز للناشر وضع اسم بطليموس وإلا كان الوافد حاضرا فيه وإجابة عن سؤال محلي، وتلخيص لنص موروث كان أقرب إلى تنظير الموروث لتراكم فلسفي داخلي من الجوزجاني صاحب النص إلى ابن سينا صاحب العرض. فهو نص له مؤلفان كبداية للتأليف الجماعي. هو تناص بين نصين من أجل خلق نص واحد. وهي مشكلة واحدة تعرض لها المؤلفان وانتهيا إلى نتيجة واحدة. فسبب التأليف محلي صرف. هو تأليف إبداعي خالص لولا ذكره للجوزجاني فأصبح تراكما فلسفيا، تنظيرا للموروث.
98
ويشار إلى الفرغاني في فصوله.
99
وهي مشكلة فلسفية خالصة، التناقض بين التصور الرياضي والطبيعي من ناحية والتصور الذاتي. أثارها ابن الهيثم في «الشكوك على بطليموس». فالبطء والسرعة في الحركة ليسا في ذاتهما بل لقربهما أو بعدهما من الرائي، ويستعمل المؤلف ضمير المتكلم «أقول» وليس الغائب «يقول» مما يدل على درجة عالية من الإبداع. ويتضح ذلك أيضا في وصف مسار الفكر بين الإجمال والتفصيل والسابق واللاحق، والمقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات. ويبدأ المقال بالبسملة وينتهي بالحمدلة والترحم على الناس والله أعلم.
100
وفي «شرح الدائرة الهندية في معرفة سمت القبلة» لحسين الحسيني الخلخالي (ت 1014ه) يتم تنظير الموروث الهندي، الوافد الشرقي.
101
وفيها يتم رصد سرنديب نصف النهار في منتصف المعمورة وترثها مكة عرضا وطولا. ويغيب الوافد اليوناني كلية. وهو تنظير للموروث بثلاث آيات قرآنية كونية عن الشمس وعشق الليل والفجر.
102
وكان الدافع محليا صرفا، لما كانت الصلاة أشرف الطاعات بعد الإيمان وأمر الله تعالى بها في أوقاتها كما يحيل إلى الواحدي مفسرا مع كل ألقاب التعظيم والتفخيم الممكنة التي تميز هذا العصر.
103
وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة تنتهي بالصلاة على نبيه محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه أجمعين. وتختتم الرسالة بتاريخ تأليفها ونسخها مع كل التعبيرات الإيمانية الممكنة.
104
وبالرغم من أن الطب كان وافدا في البداية منذ عصر الترجمة إلا أنه أصبح في النهاية موروثا يتم تنظيره دون الاعتماد على الوافد. ففي «أصول تركيب الأدوية» لنجيب الدين محمد بن علي بن عمر السمرقندي (ت 619ه) يغيب الوافد كلية. تقصر الفصول . ويتحول الطب إلى علم عملي في الممارسة الطبية ويتحول إلى صيدلة دون ذكر لديسقوريدس الذي انزوى إلى اللاشعور المعرفي. بل تظهر البيئة المحلية في أسماء الأدوية: الهليج البصري، والأسود الهندي، والعود هندي، والتمر هندي، والملح الهندي، والصمغ العربي، والأنطاكي، والأرمني مما يدل على انفتاح الحضارة الإسلامية شرقا إلى فارس والهند والصين، وشمالا إلى اليونان وتركيا، وغربا إلى الأندلس، وجنوبا إلى أفريقيا. وتعود أحاديث الطب النبوي إلى الظهور مثل «الحمة فيح من فيح جهنم فأبردوها بالماء». وفي التعبيرات الإيمانية الأخيرة يعبر عن الله بصفات طبية مثل الشافي والمداوي والمبرئ، ووصف الدواء بأنه إلهي إذا ما كان نافعا بالإضافة إلى التعبيرات التقليدية، وأن الله هو الموفق وأعلم بالصواب وإليه المرجع والثواب.
105
وفي «المغني في البيطرة» للملك الأشرف عمر بن يوسف القسائي يقوم تنظير الموروث على التجربة الشخصية دون الوافد اليوناني وفي صيغ مختصرة يتخللها السمع الذي يميز العصور المتأخرة. ويتصدر الخيل باقي الحيوانات نظرا لظروف البيئة العربية.
106
يبدأ بالأسباب ثم بالعلامات وينتهي بالعلاج. ولا يخلو الطب من رؤية أدبية لألوان الحيوان وطباعها أسوة بالجاحظ،
107
وبناء على إحساس قرآني بالألوان في الطبيعة.
108
أما الوافد الشرقي فقد أصبح جزءا من الموروث مثل العلامات المحمودة والعلامات المذمومة لحكماء الهند.
109
أما الموروث الأصلي فإنه يقتصر على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون أسماء الأعلام. ويظل التصور الإسلامي أو التوجه القرآني هو العامل الموجه لتنظير الموروث الطبي وأساسه النظري. فالحيوان خلق من أجل الإنسان، زينة للحياة الدنيا ومنافع له مثل النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة.
110
وبطبيعة الحال تكثر التعبيرات الإيمانية التي تعبر عن ازدواج الأشعرية بالتصوف في هذا العصر المتأخر خاصة الاعتماد على المشيئة الإلهية في العلاج والله تعالى أعلم.
111
الفصل الثالث: الإبداع الخالص
أولا: تجليات الإبداع
يعني الإبداع الخالص وجود نصوص فلسفية لا تعتمد لا على الوافد ولا على الموروث. إذ يستقل العقل بذاته ويضع نصا قائما بذاته اعتمادا على العقل الصريح، وبنية الموضوع. لم يعد النص بحاجة إلى مكونات من الخارج أو من الداخل كي يصوغ خطابه بل أصبح العقل قادرا بمكوناته الذاتية أن ينسج خطابا لا يحتاج إلى دعائم خارجية من الوافد أو من الموروث بعد أن تم تمثل الوافد وتنظير الموروث. لم يعد العقل بحاجة إلى عوامل مساعدة خارجية، «عكازين خارجيين يستند عليهما. فقد بلغ حدا من النضج والاستقلال تجعله قادرا على أن يبدع خطابه المستقل دون إحالات إلى مكوناته الخارجية. يعتمد العقل فقط على طبيعته وقدرته على بناء الموضوع ووضع المقدمات والانتهاء إلى نتائج، والربط بينهما بمنطق محكم للاستدلال.
مقياس الإبداع الخالص هنا شكلي خالص طبقا لمنهج تحليل المضمون وجدل الوافد والموروث، درءا لشبهتين. الأولى شبهة الاستشراق، أن علوم الحكمة مجرد نقل للوافد وامتداد له في الحضارة الإسلامية مع بعض التشويه والخلط وسوء الفهم والتلوين بالدين حتى أتى الغرب ورفض هذه الشروح الإسلامية على الفلسفة اليونانية، وعاد إلى الأصول اليونانية ذاتها ينهل منها ويؤسس عليها النهضة الأوروبية الحديثة. والثانية شبهة الإسلاميين الذين يرون في علوم الحكمة فلسفة إسلامية تقليدية موازية لعلم الكلام دفاعا عن العقيدة، لا فرق بين الحكماء والمتكلمين. فالله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة تنال الجزاء طبقا للأعمال.
ولا يتعرض الإبداع الخالص إلى مواطن الإبداع. فتلك مهمة أهل الاختصاص، المناطقة والحكماء والرياضيون وعلماء الطبيعة. فالمناطقة هم الأقدر على معرفة مواطن الإبداع في المنطق العربي. والفلاسفة هم الأقدر على معرفة إبداع المسلمين في علوم الحكمة إضافة إلى التصورات القديمة للعالم الغربية اليونانية الرومانية أو الشرقية الفارسية الهندية. والرياضيون هم الأقدر، كل في ميدانه، الحساب، والهندسة، والفلك. والموسيقى على معرفة إبداعات العرب فيها بل وفي العلوم الموازية مثل الجبر، والمناظر، والحيل، والأكر المتحركة، والمنجنيق أي العلوم الرياضية التطبيقية. وعلماء الطبيعة هم الأقدر على معرفة إضافات العرب في علوم الطبيعة والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن.
ويمكن التطرق إلى الإبداع الخالص بعدة طرق. الأولى التتبع التاريخي للإبداع قرنا وراء قرن من عصر الترجمة الأول، فقد كان المترجمون مبدعين حتى العصر المتأخر حيث اتحد العقل بالذاكرة الواعية حفاظا على الإبداع القديم، وميزة هذه الطريقة تتبع مراحل الإبداع ومعرفة تطوره عبر العصور، والحكم على التاريخ، متى ساد النقل ومتى تحول إلى إبداع، ومتى أصبح إبداعا خالصا. وعيبها أنها تقطع ميادين الإبداع، وتنتقل من الإبداع المنطقي إلى العلمي إلى الفلسفي عبر العصور. فيتم التضحية بالعلوم لصالح التاريخ. فتتجزأ وحدة العلم لحساب النزعة «التاريخانية».
والطريقة الثانية عرض الإبداع الخالص طبقا للعلوم: المنطق، والحكمة، طبيعيات وإلهيات ونفسانيات، والعلوم الرياضية والطبيعية حتى يسهل الحكم في أي علم كان الإبداع أكثر. ويلاحظ أنه كان في العلوم الرياضية والطبيعية والذي دخل كجزء من تاريخ العلم الغربي في العصر الوسيط حيث توضع الحضارة الإسلامية طبقا للتحقيب الغربي وكأن تاريخ الغرب، القديم والوسيط والحديث، هو تاريخ العالم كله وتاريخ الحضارات السابقة على الغرب والمعاصرة له. وفي نفس الوقت عرض الإبداعات في كل علم على نحو تاريخي لمعرفة تطوره. ومن ثم الجمع بين ميزة المنهج التاريخي وفي نفس الوقت الحرص على وحدة كل علم وعدم التنقل جزئيا من علم إلى آخر.
ثانيا: الإبداع المنطقي
(1) يحيى بن عدي
بدأ الإبداع المنطقي عند المترجمين دون انتظار مرحلة تمثل الوافد وتنظير الموروث. فالإبداع غير مشروط بالزمان. قد يكون مبكرا وقد يكون متأخرا. (أ)
مثال ذلك مقالة «في تبيين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي» ليحيى بن عدي (364ه)، تخلو من الوافد والموروث على حد سواء.
1
ويهدف المقال إلى تحقيق غرض وقصد وليس مجرد تجميع مادة كما هو الحال في العرض. والغرض هو الموضوع، التمييز بين المنطق الفلسفي والنحو العربي، وهو نفس موضوع المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي عن الصلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي.
2
ويشير يحيى بن عدي إلى نحو العرب وليس إلى منطق اليونان. ويغلب عليه مشكلة «اللفظ والمعنى». فالمنطق دلالة الألفاظ على الأمور الكلية. والنحو صناعة الألفاظ لتحريكها وتسكينها سواء كانت دالة أو غير دالة. والمنهج معرفة الحدود أي التعريفات وهي الخطوة المنطقية الأولى. ويبين تحليل أفعال البيان مسار الفكر الاستنباطي البرهان، والانتقال من المقدمات إلى النتائج. ويبدأ المقال بالبسملة ولا ينتهي بتعبيرات إيمانية. يكفي الإعلان الأول عن الجو الثقافي العام للحضارة التي ينتمي إليها بصرف النظر عن طائفته. (ب)
وفي «مقالة أن العرض ليس جنسا للتسع المقولات العرضية» له أيضا يغيب الوافد والموروث كلية، ويتم الاعتماد على العقل الخالص وحده. والموضوع مشترك بين المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة، بين المقولات العشر، والجوهر والأعراض، والجوهر الأول. والمقالة أقرب إلى المنطق منها إلى الطبيعة وما بعد الطبيعة. والغاية إثبات أن العرض ليس جنسا للمقولات التسع حتى لا يقع في التصور الهرمي للأسماء الخمس مفضلا تصور المركز والمحيط، التصور الشمسي. أو التصور الدائري المركزي.
يعتمد يحيى بن عدي على العقل الخالص وعلى منطق البرهان. لذلك يكثر استعمال أفعال البيان «ومن البين»، والاستدلال «إذا كان ذلك كذلك»، والانتهاء إلى «وذلك ما أردنا أن نبين». ولا تزيد العبارات الإيمانية عن البسملة الأولى.
3 (ج)
وفي «الحاجة إلى معرفة ماهيات الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض في معرفة البرهان» له أيضا؛ إجابة على سؤال من أبي حاتم السجستاني عن الصلة بين الأسماء الخمسة والبرهان، وهي الأسماء التي وضعها فرفوريوس وأعجب بها المسلمون لنسقها الرياضي المنطقي. القياس يحتاج إلى حد أوسط، اشتراك المحمول في المقدمتين الكبرى والصغرى. في حين أن الأسماء الخمسة أيضا متداخلة فيما بينها ومشتركة في مركز واحد. القياس يحتاج إلى مقدمتين فقط وليس إلى أسماء خمسة. البرهان في حاجة إلى طبقتين لا أكثر. ويتكلم يحيى بن عدي بضمير المتكلم المفرد. والبداية البسملة والنهاية بالحمدلة مع الدعوات للسائل وطلب التوفيق له. ويتصف الله بصفات الحكمة مثل: ذو الحكمة والجود والحول، ولي العدل، وواهب العقل.
4 (2) عمر بن سهلان الساوي
ويستمر الإبداع المنطقي من القرن الثالث عند يحيى بن عدي إلى القرن الرابع في «البصائر النصيرية في علم المنطق» لعمر بن سهلان الساوي (450ه). ويبلغ درجة عالية من التجريد بالرغم من بعض الأمثلة فيه. وتبدو أهميته في تحقيق محمد عبده له واستعماله في تدريسه في الأزهر بل تقرير تدريسه عام 1316ه ربما ليس لما فيه من قدرة على العرض النظري الخالص بل لأنه أقرب إلى العرض النسقي الواضح التقليدي التعليمي مثل منطق «الشفاء» لابن سينا على نحو مختصر ومركز.
5
وهو مثل ابن سينا في الصمت عن مصادره. وكلاهما من نفس العصر الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية الذروة في الإبداع الحضاري، مع أن معرفة المتقدمين شرط الإبداع. وبالرغم من التجريد إلا أن مسار الفكر واضح. ويتم تخيل الاعتراض مسبقا للرد عليه كما هو الحال في أسلوب التدوين في العلوم الإسلامية القديمة. وتدل أفعال البيان على الرغبة في التوضيح والإجابة مسبقا على تساؤلات القارئ، فهو جزء من الخطاب. ويحيل اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق تذكيرا بوحدة الاستدلال وباختصار وتركيز شديدين.
6
ويتم تحويل المنطق كله إلى منطق اليقين واستبعاد منطق الظن الجدل والخطابة والشعر، والاكتفاء بمنطق البرهان. فبعد مقدمتين عن ماهية المنطق وموضوعه يتم عرض منطق اليقين في ثلاثة عناصر، المفردات والتصور والتصديق وليست القسمة الرباعية الشهيرة بإضافة البرهان. وفي التصديق يتم عرض المفردات والحجج وموادها والبرهان والمغالطات في القياس. ويضاف تقسيم العلوم كجزء من المنطق، والتعرض لصلة المنطق بالطبيعة، وإحالته إلى الفطرة. فالإنسان الطبيعي، بفطرته، يستغني عن المنطق. يكفيه الحس والعقل والبداهات حتى إذا وقع في الخطأ ظهرت الحاجة إلى المنطق.
7
وقد تكون الفطرة تعبيرا في اللاوعي المعرفي عن الوحي الطبيعي من الموروث القديم خاصة وأنها لفظ قرآني.
8
وبالرغم من عدم وجود الوافد أو الموروث صراحة في صيغة أسماء أعلام إلا أن الوافد يبدو في بعض الألفاظ المعربة مثل قاطيغورياس، باريرمنياس دون إشارة صريحة إلى اليونان.
أما الموروث فهو الأكثر وضوحا على نحو خافت وراء التنظير العقلي الخالص. فيشار إلى أفضل المتأخرين. وهو في رأي محمد عبده ابن سينا. والتحول من الاسم إلى اللقب هو في حد ذاته انتقال من الشخص إلى الرمز، ومن الخاص إلى العام، ومن النقل إلى الإبداع. ولم يحدث ذلك مع اليونان فحسب، الانتقال من أرسطو إلى الحكيم أو المعلم الأول، ومن جالينوس إلى فاضل المتقدمين والمتأخرين، ومن سقراط إلى أحكم البشر، ومن أفلاطون إلى صاحب الأيد والنور، ومن أفلوطين إلى الشيخ اليوناني. ويستشهد بآية قرآنية واحدة
واسأل القرية
كمثل على المجاز كما هي العادة في علم أصول الفقه.
9
كما يظهر الموروث كمادة للمنطق مثل أقسام العلل وهو مبحث مشترك بين المنطق وعلم أصول الفقه. كما تعطي بعض الأمثلة الفقهية مثل انتقال الصلاة والصوم من المعنى الأول الاشتقاقي اللغوي إلى المعنى الثاني الاصطلاحي، واسم الخمر الذي يطلق على مسميات كثيرة. لذلك يشار إلى النحويين ولغة العرب. وأمثلة التناقض من الموروث مثل عبد الله، والاختلاف في القوة والفعل مثل الخمر مسكر أو في الزمان مثل تغير الصلاة من بيت المقدس إلى البيت الحرام. كما تعطى نماذج من التواتر والمشهورات المقدمات الأقيسة من حديث «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
10
بل إن الهدف من المنطق ذاته هو التوصل إلى الصواب والخطأ في العقائد أي إنه أقرب إلى الجدل المعروف في علم الكلام. فهو منطق عملي يهدف إلى إثبات صدق العقيدة ونيل النعيم الدائم إلى جوار رب العالمين والنجاة في الدنيا والآخرة. فهو وسيلة عدم الوقوع في الغلط في العلوم الإلهية. وكالعادة البداية بالبسملة والصلاة على محمد خير الخلف وآل الفترة، والنهاية بالاستعانة بالله والاتكال عليه والدعوة للعصمة من الزلل والخلل في القول والعمل. وما بين البداية والنهاية آفة العلوم، الانتقال من مدح الله إلى مدح السلطان. فالإبداع المنطقي كما أنه وسيلة لنيل حسن الدار في الآخرة هو وسيلة للتقرب إلى مجلس مولانا الأجل السيد نصير الدين. لذلك سمي البصائر «النصيرية»، ظهير الإسلام بهاء الدولة، ونيل الرضا من الله والسلطان، في الآخرة والدنيا جمعا بين الحسنيين. فأذن له صاحب الحضرة الشريفة والسدة المنيفة للخادم أن يحرر كتاب المنطق.
11 (3) ابن رشد
وبالرغم من شهرة ابن رشد (595ه) وعقلانيته ودفاعه عن الحكمة بأنها النظر في الأشياء كما تقتضيه طبيعة البرهان إلا أن مؤلفاته الإبداعية الخالية من الوافد والموروث قليلة للغاية. على الرغم من الأحكام العامة التي تقال على إبداعاته في كتبه الطبيعية والفلكية التي هي أقرب إلى المراجعات الجزئية لأحكام السابقين ، وهي الأحكام التي لا تعتمد على تحليل المضمون لكل عمل كوحدة قائمة بذاتها لمعرفة نوعها الأدبي في جدل الوافد والموروث. فهو إما شارح أو ملخص أو جامع لأرسطو وأفلاطون أو عارض لجالينوس أو متكلم فيلسوف فقيه في الموروث. ومع ذلك فإن رسالته في «حد الشخص» من رسائله المنطقية الصغيرة يغيب فيها الوافد والموروث على حد سواء. وتتسم الرسالة بالوضوح والاتساق وبيان وجه الغلط في القول وفي رفع الشك عن الحدود وإزالة التناقض. يضع ابن رشد المقدمات، وينتهي إلى النتائج المتسقة مع المقدمات، ويصوغ الاستدلالات والبراهين وبالتالي يرتفع الشك عما قيل في حد الشخص، وأن الحدود تكون للأمور الكلية لا للأشخاص. يعرض للشك ولأسبابه ثم يحاول دفعه، وينتهي إلى الحكم، وهو أن كل شيء له حكم. وإذا دخل مع شخص آخر يكون كليا.
12 (4) أفضل الدين الخونجي
وفي العصور المتأخرة بعد القرن السادس بدأ الإبداع الخالص الذي لا يعتمد لا على الوافد ولا على الموروث قائما على صورية خالصة ودرجة عالية من التجريد لدرجة غياب الهدف والقصد والاتجاه والإشكال وكأن البناء النظري المستقل يحتوي على عناصر فنائه ومؤشرات نهايته وهي الصورية الفارغة، وكأن الوافد والموروث كانا يمدان التأليف بمادة حية خصبة ومتجددة. فلما انقطع الرافدان جف المصب مهما حاولت الشروح والملخصات على المتون من إعادة الحياة لها بإدخال العلوم النقلية، اللغوية والفقهية أو النقلية العقلية، الكلام والتصوف، كمادة للشرح.
مثال ذلك «الجمل» لأفضل الدين الخونجي (590-646ه). فهو نص مركز للغاية وكأنه صب من حديد. لا يصوب نحو هدف أو قصد؛ بل ويخلو من التبويب والتقسيم الذي يبين أقسام الموضوع، مقدماته ونتائجه، تطوره وبنيته. يخلو من الأمثلة التي تعطي الوصف الشكلي للفكر حيوية وتعيده إلى عالم الأشياء. وبطبيعة الحال يخلو من الوافد والموروث معا. كما يخلو من أسماء الأعلام والآيات والأحاديث. بل ويخلو من أية دلالة أو مؤشر حضاري، باستثناء البدايات والنهايات الإيمانية، بالبسملة وصلاة على مولانا محمد وآله وصحبه في البداية، والترحم على المؤلف، والاعتماد على الله في حسن التوفيق بمنه وفضله وطلب العون منه على ما يقرب إليه تزلفا بسيدنا محمد وآله الطاهرين. التجريد إلى الحد الأقصى من جانب والإيمانيات إلى الحد الأقصى من جانب آخر.
13 (5) ابن العسال
وقد أبدع في المنطق أسعد أبو الفرج هبة الله بن العسال (القرن السابع) في «مقالة في المنطق» تعتمد على العقل وحده. وتتضمن مبحث الألفاظ والقضايا وجهاتها وشروط التناقض والقياس والدليل والنظر.
14
ويساعد على ذلك الطابع العقلي الصوري الخالص الذي لا تظهر فيه خصوصية الفكر وإطاره الحضاري. والقضايا لب المنطق، جهاتها وتناقضاتها وشروطها. فالمنطق صورة الفكر. وهو ما يستغرق كل المقالة. أما مادته فهي إما اليقينيات في البرهان، أو المسلمات العامة في الجدل أو المظنونات وهي الخطابة أو المشبهات بالحق وهي المغالطة أو المخيلات وهو الشعر. وفي الدليل يظهر التقابل الكلامي بين الدليل النقلي والدليل العقلي. ويمكن تركيب قياس من أدلة عقلية كما هو الحال في المنطق أو عقلية نقلية كما هو الحال في الأصول ولكن لا يمكن تركيبه من أدلة نقلية لأن النقل لا يثبت بالعقل أو بالنقل بل بالحواس أو بأوائل العقول. والدليل النقلي لا يفيد اليقين لأنه مبني على نقل اللغات وعدم النسخ والخلو من المعارض العقلي. فالدليل النقلي ظني والدليل العقلي قطعي، والظن لا يعارض العقل بل يمكن تأويل النقل الصحيح بالعقل الصريح. والنظر يفيد العلم، ومجموع علمين يفيد علما ثالثا. والدليل موجب العلم. ويكون الدليل عقليا أو حسيا، استنباطا أو استقراء. (6) الكاتبي
وفي «الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية» لنجم الدين عمر بن علي القزويني المعروف بالكاتبي (493، 675ه) يتضح الإبداع الخالص. فالمنطق أكثر العلوم إمكانية للاستقلال العقلي فيه لما فيه من تجريد دون ما حاجة إلى إحالة خارجية أو داخلية بعكس العلوم الطبيعية. يتوجه المنطق نحو صورة الفكر ومادته. لذلك يمتاز بالوضوح والترتيب والدقة والتركيز والأسلوب الرياضي دون زيادة أو حشو. ومع ذلك دلالاته محدودة إلا من قدرة العقلية الدينية الفقهية المرتبطة بالعالم وبحياة الناس على هذا المستوى من التجريد العقلي. يشار فقط إلى المتقدمين لوضع مسار العلم ووصف تقدمه حتى اكتماله في لحظة الإبداع الخالص مع وضع جداول عامة وشارحة خاصة لأشكال القياس التي يصعب استيعابها دون رسوم بيانية.
15
وهناك إحساس بالجدة والأصالة وعدم الاتباع مع ضرورة الالتزام بأصول العلم وإضافة بعض الزيادات المحسنة لقبوله.
16
فبعد المقدمة عن ماهية المنطق وموضوعه يقوم المنطق على بنية ثلاثية، المفردات، والقضايا وأحكامها، والقياس. مع خاتمة في مواد الأقيسة وأجزاء العلوم أي مادة المنطق وتصنيف العلوم . فالمفردات تعادل التصورات ولكن بمصطلح لغوي، والقضايا وأحكامها أقرب إلى البرهان الذي يسبق القياس. فمسار المنطق من اللغة إلى الفكر، من الألفاظ إلى البراهين.
وفي البدايات والنهايات التقليدية، بعد البسملة والحمدلة تظهر صفات الله المنطقية الطبيعية مثل الله الذي أبدع نظام الوجود، واخترع ماهيات الأشياء بمقتضى الجود، وأنشأ بقدرته أنواع الجواهر العقلية، وأفاض برحمته محركات الأجرام السماوية، والصلاة على ذوات النفس القدسية المنزهة عن الكدورات الإنسانية، وفي نفس الوقت الصلاة على سيدنا محمد صاحب الآيات والمعجزات وعلى آله وأصحابه التابعين للحجج والبينات، جمعا بين التنزيه العقلي والتشبيه الحسي. والاعتصام بحبل التوفيق من واهب العقل، والتوكل على وجوده المتعين للخير والعدالة فهو خير موفق ومعين. ثم يتم الانتقال بسهولة ويسر من مدح الله إلى مدح السلطان، ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان، ومن صفات الله الكاملة إلى صفات السلطان الكاملة، ومن التقرب والزلفى إلى الله إلى التقرب والزلفى للسلطان. فالتأليف تم بإشارة من السلطان المؤيد من كافة الخلق والذي يتجه له القاصي والداني، ويتبعه المطيع والعاصي، الولي الصدر الصاحب المعظم العالم الفاضل القبول المنعم المحسن، الحسيب النسيب، ذو المناقب والمفاخر، الشمس والبهاء والمالك والقطب، والصدر والصاحب، إلى آخر هذه المبالغات بحيث لا يبدو فرق بين الله والسلطان.
17
ولما عاشت الحضارة الإسلامية على ذاتها، تجتر ما أبدعته أولا بالعقل كي تدونه ثانيا من الذاكرة ظهرت الشروح والملخصات والحواشي والتخريجات على نص قديم تقلل من تجريده وتضيف إليه مواد من العلوم النقلية السائدة خاصة الفقهية أو العقلية النقلية خاصة الكلام والفلسفة بعد أن اتحدا معا في هذه العصور المتأخرة. فشرح قطب الدين محمود بن محمد الرازي (766ه) «الرسالة الشمسية» في «تحرير القواعد المنطقية» ثم أضاف إليه السيد الشريف الجرجاني (816ه) «حاشية على تحرير القواعد المنطقية» على النحو الآتي:
وفي الشرح والحاشية توضع مادة الفكر على صورته. ويضاف حد الفلسفة للمنطق ثم إخراج المنطق من الآيات القرآنية.
18
فالمنطق آلة تعصم الذهن من الخطأ. إنما أتت أغلاط الفلسفة من سوء تطبيقها كما لاحظ الغزالي من قبل في «مقاصد الفلاسفة». وقد تأتي المادة من الطبيعيات مثل «الحكمة السعيدية» أو من الإلهيات سواء من الفلسفة نموذج «المثل الأفلاطونية» أو من الفلسفة الإلهية عند ابن سبعين. كما يستعمل الموروث الديني لشرح ألفاظ المنطق مثل امتناع الكلي في الخارج كشريك الباري عز اسمه، وأن الوجود واحد مع امتناع غيره كالباري عز اسمه، وأن الوجود غير متناه كالنفس الناطقة. كما يستعمل القرآن الحر كأمثلة في القضايا. هذا بالإضافة إلى البدايات والنهايات الإيمانية التقليدية، البسملة والحمدلة، مع ظهور صفات الله المنطقية مثل واهب العقل، والصلاة على محمد وآله، منجي الخلائق من الغواية، وأصحابه من أهل الدراية.
19 (7) الجرجاني
واستمرت الشروح المتتالية على نفس النص العمدة في القرنين التاسع والعاشر مثل «الغرة» للجرجاني (816ه) مع «شرح خضر بن محمد بن علي الرازي» (850ه) و«شرح عيسى بن محمد بن عبد الله الإيجي الصفوي» (953ه).
20
ازدهر المنطق بعد ابن رشد خاصة في المشرق عند الشيعة. ومن ثم يخطئ الحكم الشائع أن الشروح والملخصات خالية من الإبداع. يكفي قدرتها على التجريد والتنظير وبناء الموضوع اعتمادا على العقل وحده، واختفاء روافد الوافد والموروث إلا من استعمال بقايا الموروث في اللاوعي المعرفي من علم الأصول بشقيه، أصول الدين وأصول الفقه مع بعض تحليلات اللغة العربية، الموروث الثقافي المستمر. يغيب الوافد كلية باستثناء الحديث عن القدماء والمتأخرين أي الأوائل والأواخر في مسار تاريخي عام دون تحديد لليونان أو لغيرهم من الغرب أو الشرق. ولا يذكر فخر الدين الرازي إلا مرة واحدة باعتباره من البيئة الثقافية للمنطقة. كما تظهر بعض المصطلحات الموروثة مثل الخبر . ولا يوجد فصل بين النص المشروح والنص الشارح بل الشرح إعادة كتابة للمشروح، إعادة فهم وإعادة عرض وإعادة تأليف دون الخروج على بنيته بل بتتبع مساره من البداية إلى النهاية. ويسمى ذلك «شرح مخروج» أي إعادة كتابة دون فصل بين النصين كما هو الحال في «تفسير ما بعد الطبيعة» لابن رشد وفي باقي التفاسير الأخرى. ولا تذكر أسماء أعلام من الموروث بل مجرد الألقاب مثل الإمام، السيد، خطوة على تحويل العلم إلى بنية مستقلة عن العلماء.
21
وقد يعاد بناء الموضوع على مستوى جديد من التحليل مثل بداية شرح الصفوي بتحليل قوى النفس الناطقة لأن المنطق والإلهام قوتان لها على مذهب الحكماء.
22
والأسلوب موجز دون استطراد وحذف مباحث لا تليق بالكتاب. يقوم على الرد على الاعتراضات مسبقا إثباتا لاتساق الفكر، مع إشراك القارئ ودعوته للتأمل والفهم والتدبر وعدم الغلط، مع رد اللاحق للسابق، والسابق للاحق بيانا لوحدة الموضوع.
23
وفي البدايات والنهايات الإيمانية يوازي الوحي المنطق أو يقابله أو يماثله، المنطق للمعرفة المكتسبة في مقابل المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، يضاف إلى ذلك التعبيرات الصوفية والابتهالات الدينية الغالبة على العصر مع طلب التوفيق والعون والصواب مع الشكر والحمد والله أعلم.
24 (8) السنوسي
وقد يقوم المؤلف بشرح نفسه، نصا على نص، وفكرا على فكر، طالما غاب الموضوع وانتهى التراكم الفلسفي إلى حده الأقصى، وتوقف تواصل الأجيال. مثال ذلك «شرح أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (832-895ه) على مختصره فن المنطق».
25
الهدف شرح المختصر أو اختصار الشرح، من الأقل فالأكثر أو من الأكثر فالأقل مما يدل على قدرة فائقة على التعبير عن العلم تركيزا وإسهابا، اختصارا وتطويلا. فقد استقل العلم عن العبارة، والمعنى عن الخطاب. غاية التركيز الاستفادة منه في المقاصد الشرعية الأخروية وإرشاد العقل بدلا من التحير وتشتت الأنظار. قد لا يتضمن جديدا بالنسبة لمادة المنطق، ولكن الإبداع فيه في الشكل واستقلال الموضوع عن مصدريه الرئيسيين في الوافد والموروث.
يغيب الوافد كلية ولا حتى من بقايا الزمن الغابر باستثناء ذكر المعلم الأول أرسطوطاليس ، والإسكندر كل منهما مرة واحدة في الشرح كنوع من تحقيق المناط والحديث عن الأقدمين إحساسا بالتاريخ والانتقال من القدماء إلى المحدثين. كما يغيب الموروث في الشرح إلا من زيادة في الشرح اعتمادا على بعض العلوم النقلية مثل الحديث، صحيح مسلم، والإمام ابن عرفة، والاستشهاد بحديث «الليل مثنى مثنى» على تركيب مقدمات القياس وعلى القرآن دون ذكر آيات محددة بل استعمالا لبعض ألفاظه. كما تظهر بعض مصطلحات الكلام مثل صفات الخالق والرازق، والاستحقاق والصلاح والأصلح من المعتزلة. وتظهر أسماء الفارابي والخونجي ثم ابن سينا وابن رشد الحفيد.
26
وتظهر بعض أسماء الفرق كالحشوية والباطنية والنصارى. وهو منطق للاستعمال. لذلك يكثر التنبيه على فوائده ومخاطبة القارئ. ويضرب المثل الشهير على التناقض في المنطق، التوجه من بيت المقدس إلى الكعبة في مكة واستحالة الجمع بين الصدق والكذب في قضية واحدة.
27
كما يشار إلى القدم والحدوث، وضرب المثل بالنبي والصحابة على التقدم في الفضيلة. وكما يبدأ العمل بالبسملة وينتهي بالحمدلة، ترد التعبيرات الإيمانية مثل طلب التوفيق من الله والاعتماد والتوكل عليه. وتكثر ألقاب سواء كانت من المؤلف أو الشارح أو الناسخ.
28
مما يدل على أنه في قمة الإبداع الخالص تكمن بذور تقليد القدماء.
29
ثالثا: الإبداع الفلسفي
(1) الرازي
وبالرغم من أن الرازي مقل في التأليف إلا أن مقالته الصغيرة «في أمارات الإقبال والدولة» إبداع خالص، لا يظهر فيها الموروث ولا الوافد. بل إن موضوعها جديد على علوم الحكمة وهو فلسفة التاريخ ليس المقصود منها التقرب إلى أمراء أهل زمانه بل هي تحيل لنشأة الدول وسقوطها، نشأتها بالعلم، والنظام، والأخلاق، والرياسة، والحلم، والصدق، والصداقة وميل الناس، والصفاء والعدل. فالأخلاق هي محرك التاريخ.
1 (2) أبو سليمان السجستاني
وبالرغم من ارتباط أبي سليمان السجستاني (331ه) بتنظير الموروث والتنظير المباشر للواقع وتفاعل النص مع التاريخ إلا أنه أيضا من أصحاب الإبداع الخالص. (أ)
ففي رسالة «في أن الأجرام العلوية ذوات أنفس ناطقة» يتم وضع الموضوع بالتركيز على الذهن دون ما حاجة إلى وافد أو موروث.
2
فكل جسم طبيعي له حركة تخصه . تتحرك من المركز إلى المركز حركة مستقيمة في أربعة اتجاهات. أما الأجرام السماوية فهي مخالفة لطبيعة الاستقامات؛ إذ إنها تتحرك حركة خاصة، لا خفيفة ولا ثقيلة، تتحرك على المركز حركة دائرية. والدائري أشرف من المستقيم. وفي نفس الوقت يظهر مسار الفكر، بداية ونهاية، مقدمات ونتائج، إحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، مع استيفاء الوسع وبذل الجهد مع خاتمة إيمانية، الحمدلة والصلاة على خاتم الرسالة محمد وآله.
3 (ب)
وفي رسالة «في الكمال الخاص بنوع الإنسان» له أيضا، لا وافد ولا موروث باستثناء الاعتماد على الأمم السالفة ومذاهبهم على العموم كثقافة عامة دون إحالات خاصة، وبداية بالوعي التاريخي. فالغاية الإبانة عن الكمال الخاص بنوع الإنسان ووصف الشخص الذي ظهرت فيه جوامع ذلك الكمال في هذا الزمان من أجل سياسة العالم. فالحاجة تولد الإبداع. وهم المستقبل يحيل إلى الماضي.
4
وفي البحث عن الذات يتم استعراض مذاهب القائلين فيها؛ الذات المتحدة التي يقول بها النصارى والصوفية كما هو الحال في شخصية السيد المسيح، والأجرام السماوية التي يقول بها الفلاسفة مع العقل الإنساني، والقائلون بأصلين والمتكلمون، كل ذلك كتراكم فلسفي في الوعي التاريخي. ثم يبدأ تحليل قوى النفس على التوسط بين الإفراط والتفريط. ويرصد تسع عشرة قوة طبقا لرمز الأعداد؛ ستا يشارك فيها الحيوان الإنسان مثل الموافقة والنزاع والشوق والحس والتخيل والوهم، وثلاث عشرة يختص بها الإنسان: التصور، والفكر، والرأي، والعزيمة، والحدس، والذكاء، والذهن، والحفظ، والذكر، والإنارة، والظن، والعلم، والعقل. والبداية فلسفية إيمانية. ويوصف الله بصفات الإبداع مع الحمدلة مثل «فالق صبح ظلمته العدم بضياء وجود الجود، ويثبت حجج الإلهية وبراهين الوحدانية». وأحيانا يدعو الشيعة أيضا إلى السلطان «ليتبين مولانا الملك أدام الله دولته وعلوه وأيد سلطانه».
5 (3) يحيى بن عدي
ويبدو أن يحيى بن عدي قاسم مشترك في معظم الأشكال الأدبية للتأليف والتراكم، وفي الإبداع المنطقي والفلسفي. (أ)
في «مقالة تبين أن كل متصل إنما ينقسم إلى منفصل وغير ممكن أن ينقسم إلى ما لا ينقسم» ليحيى بن عدي (364ه) يغيب الوافد والموروث معا . والمؤلف من المترجمين الفلاسفة وأقرب عادة إلى تمثل الوافد كشكل أدبي. والموضوع بين الطبيعيات وما بعد الطبيعة. والغرض من المقال بيان أن كل متصل منقسم والمؤلف هو الذي يتحدث «نقول» وليس غيره «يقول». يشرح المعنى، ويعتمد على البين الظاهر. لذلك تكثر أفعال البيان وينتهي إلى «وذلك ما أردنا أن نبين» كما هو الحال في البرهان الرياضي. ويعتمد على منهج القسمة مثل قسمة المنقسم إلى منقسم بالفعل ومنقسم بالقوة. وهو موضوع عقلي خالص يتم تناوله بالعقل الخالص ربما له دلالة بعيدة في إثبات التوحيد الفعلي، ما لا ينقسم، ولكن الميتافيزيقيا هي الغالبة، وهو توحيد عقلي غير مباشر. ويبدأ المقال بالبسملة وينتهي بالحمدلة. ويتصف الله بصفات الحكمة مثل: ذو الجود والحكمة، والحول ولي العدل، وواهب العقل.
6 (ب)
وفي «رؤيا في تعريف النفس» له أيضا، لا يظهر الوافد أو الموروث.
7
ويعتمد يحيى بن عدي على تجربة شخصية والتركيز عليها بالعقل الخالص مع استعمال منهج القسمة، والعد والإحصاء المشابه للسبر والتقسيم عند الأصوليين. فقد رأى رؤية، شخص يسأله عن ماهية النفس ويقول أنها مثارة أي؛ كثيرة. ويعطي الرائي عشر حجج لإثبات ذلك لتجاوز الكثرة إلى الوحدة، والكم إلى كيف. فهي جوهر والجوهر لا يتناثر. وهي المتعالية في مقابل السفل، و«الأصل في مقابل الفروع»، والوحدة وراء التنوع، والوجود وراء العدم، والثبات في مقابل التحول، والهوية في مقابل الاختلاف، والتواصل في مقابل الانقطاع، والبقاء في مواجهة الفناء، والروح القائم في مقابل البدن المتغذي.
8
فالسؤال من مادي والجواب من مثالي. ولا توجد عبارات إيمانية، بسملة أو حمدلة، لا في البداية ولا في النهاية.
9 (ج)
وفي مقالة «في الكل والأجزاء» له أيضا يغيب الوافد والموروث كلية.
10
وهو موضوع بين المنطق والميتافيزيقيا ولكنه إلى الميتافيزيقيا أقرب نظرا لتداخل مقولات ميتافيزيقية أخرى كالهيولى والصورة وغياب موضوع القضايا والقياس. وتكشف أفعال القول وصيغة ضمير المتكلم المفرد أن يحيى بن عدي هو الذي يتكلم ويحلل ويصف. فهو الدارس وليس الناقل. ويبدو البعد اللغوي في القضية عن طريق تحليل الكل والجزء كاسمين مشتقين. والإشكال معروف في تاريخ الفكر البشري، هل يرد الكل إلى أجزائه أم أنه مستقل عنها؟
11
والمنهج المتبع هو القسمة المتداخلة، قسمة الشيء إلى قسمين ثم كل قسم إلى قسمين وهو ما يعادل التحليل. والبرهان داخل الموضوع وليس خارجه، والدليل ذاتي وليس عرضيا. وبطبيعة الحال ينضم يحيى بن عدي إلى رأي العقليين المثاليين الذين يقولون بعدم رد الكل إلى الأجزاء ربما لتصور لا شعوري لصلة النفس بالبدن أو الله بالعالم. إذ يشار إلى الله في البداية وإلى النفس في النهاية. ويبدأ المقال بالبسملة وينتهي بالحمدلة في أقل قدر ممكن من العبارات الإيمانية. (د)
ولما كانت الفلسفة تطويرا لعلم الكلام فإن بعض الموضوعات الكلامية ما زالت مطروقة في الفلسفة مثل الاستطاعة عند الكندي والكسب عند يحيى بن عدي. ففي رسالة «في نقض الحجج التي أنفذها إليه في نصرة قول القائلين أن الأفعال خلق الله واكتساب للعباد» ليحيى بن عدي، الموجهة إلى أبي عمر السعدي بن سعيد الزيني ينقض يحيى باسم الفلسفة نظرية الكسب الأشعري التي سادت بعد أن خرج الأشعري عن خلق الأفعال عند المعتزلة. وكعادة الفلسفة لا يعتمد يحيى على أي من الحجج النقلية كما هو الحال في علم الكلام بل يعتمد على الحجج العقلية وحدها. وكما كانت المشكلة من الموروث الكلامي فلم يظهر الوافد على الإطلاق. ويستعمل يحيى طريق منطق الخلف، إثبات استحالة الكسب لأنه نسبة أفعال العباد إلى الله. واستحالة الجبر لنفس السبب فلم يبق إلا خلق الأفعال للعباد. ويصل يحيى لذلك عن طريق القسمة العقلية والانتهاء مسبقا إلى ثلاث نظريات. يعرض أولا حجة الخصم ثم يرد عليها ولا يذكر أي اسم من أسماء المتكلمين، أشاعرة أو معتزلة، مع تقابل «يقول ... أقول». ويستعمل منهج تحليل الألفاظ مثل الفعل والخلق والاكتساب والعين. ويظهر منطق الاستدلال، والانتقال من المقدمات إلى النتائج، وإحالة اللاحق إلى السابق. والبداية بالبسملة والنهاية بالحمدلة مع الدعوة بالتوفيق وإعطاء الله صفات الحكمة مثل: ذو الجود والحكمة والمولى ولي العدل واهب العقل.
12 (ه)
وفي «تهذيب الأخلاق» واضح أن يحيى بن عدي (364ه) قد ألف في كل الأشكال الأدبية منذ تمثل الوافد حتى الإبداع الخالص، وأن له فضلا كبيرا منذ الترجمة والتلخيص والشرح. فكتابه «تهذيب الأخلاق» نموذج الإبداع الخالص، لا يحال فيه إلى وافد أو موروث، يوناني أو نصراني، اسم علم أو نص.
13
وهو نفس عنوان كتاب مسكويه الشهير بعد ما يقرب من نصف قرن.
ويتضمن الكتاب مقدمة وخاتمة وثمانية أقسام.
14
وفي المقدمة تظهر النزعة الإنسانية منذ البداية وارتباط الأخلاق بالإنسان. والإنسان هو قدرته على التمييز والرغبة في الكمال. ثم يتم تحديد الأخلاق ابتداء من تحليل قوى النفس إلى ثلاث: الشهوية والغضبية والعاقلة. وهي قسمة أفلاطون بعد أن قبلها العقل الخالص ولم تعد من الوافد. فالأخلاق فطرية مغروزة في النفس، فضائل ورذائل.
فعلة اختلاف الأخلاق هي تعدد قوى النفس. النفس الشهوانية مشتركة بين الإنسان والحيوان وقوامها اللذة. والنفس الغضبية أيضا مشتركة بين الإنسان والحيوان وقوامها الشجاعة والقوة والنفس الناطقة خاصة بالإنسان وحده وقوامها التمييز وإدراك قائمة بالأخلاق الحسنة، وأخرى بالرديئة، وهي الفضائل والرذائل المعروفة عند الأخلاقيين في كل حضارة كماهيات عقلية مستقلة عن ممارساتها العملية وبيئاتها الاجتماعية وأطرها الحضارية.
15
إنما الخلاف الوحيد في الرئاسة إذ تتميز هذه الفضائل والرذائل بين الرئيس والمرءوس. والرئاسة قديما هي الطبقة حديثا. فالقناعة للمرءوس وليست للرئيس، للصغير وليست للكبير. وقد تختلف الفضائل طبقا للرئاسة في الوجوب والندب. فالسخاء عند المرءوس مندوب وعند الرئيس واجب. وقد يكون للملوك فضائل أخص بهم مثل عظم الهمة. والرذائل قد تكون للصغار وليست للرؤساء مثل الشره الذي يعين الملوك على أداء الأعباء. وقد يكون بعضها أقبح عند الملوك مثل السفه والبخل والجبن، والأهم هو تقرير نسبية الأخلاق بالإضافة إلى الرئاسة. فالأخلاق قد تكون في بعض الناس فضيلة وفي بعضهم رذيلة مثل حب الكرامة، فضيلة عند الأحداث وأقل من ذلك عند الكبار، والإكرام والتبجيل، وحب الزينة، والمجازاة على المدح، والزهد.
16
وبعد رصد قوائم الفضائل والرذائل على المستوى النظري يتم الانتقال إلى الوسائل العملية لتحقيق الأولى وتجنب الثانية وهو ما يسمى «تهذيب الأخلاق». فالأخلاق علم نظري وعلم عملي. لا تجتمع الفضائل في إنسان واحد ولكن قد تجتمع الرذائل فيه، والتفاضل بين الناس في الفضائل وليس في الرذائل، في الإيجاب وليس في السلب. وليس الأقل جبنا أفضل من الأكثر جبنا. والإنسان قادر على أن يهذب نفسه بنفسه وهو معنى الرياسة أن يسوس الإنسان نفسه بنفسه عن طريق التهذيب الذاتي. فالاكتساب ليس للأموال فحسب، وهو طريق الارتياض والتعود على الفضائل عن طريق تذليل النفس الشهوانية والغضبية وتهذيب النفس الناطقة والتدرج في ذلك، وطريق قمع النفس الشهوانية هو تذكر أن اللذة رذيلة في ذروة الحصول عليها والإكثار من مجالسة الزهاد والنساك والرهبان وأهل الورع والواعظين والرؤساء وأهل العلم، وإدامة النظر في كتب الأخلاق والسياسة، وتجنب السكر. ويحيى بن عدي نصراني ليس السكر بحرام في شريعته ولكنه يعبر عن الموقف الحضاري العام له. فتحريم الخمر، وهو حكم الإسلام، أقرب إلى الفضيلة من إباحته. كما يمكن الإقلال من السماع خاصة من النساء، الشابات والمتصنعات المثيرات للشهوات وهو ما يشار إليه في عصرنا بالأغاني الخليعة، والإقلال من الشبع، والتيقظ الدائم إلى العفة.
17
والطريق إلى السيطرة على النفس الغضبية هو تدبر أحوال الذين يسايرونها وسفههم كما يفعل الخدم والعبيد. فالأحرار أكثر قدرة على السيطرة على النفس الغضبية من العبيد. فمعايير الاختلاف في الأخلاق ما زالت إما الرئاسة أو العبودية بالإضافة إلى تخيل الإنسان نفسه أنه هو المجني عليه من الغضب. وعلى الغاضب تجنب حمل السلاح، وأماكن الفتن، ومواضع الحروب، ومجالسة الأشرار، ومعاشرة السفهاء، وتجنب السكر، واستعمال الفكر وسيطرة النفس الناطقة وتقويتها بالعلوم العقلية، والنظر في كتب الأخلاق والسياسات، والارتياض بعلوم الحقائق، ومجالسة أهل العلم، وإلا فمجاهدة النفس والتخلص من الحسد والحقد والخبث.
18
فإذا ما تم الارتياض وتحقق الإنسان بالأخلاق، تصفية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل، ظهر الإنسان التام أي الإنسان الكامل بتعبير الصوفية، وهو الإنسان الذي لم تفته فضيلة ولم تشنعه رذيلة فكان أشبه بالملائكة منه بالناس. ويحتفظ هذا الكمال بالنظر في العلوم الحقيقية، محاطا بأهل العلم ، معتدلا في سلوكه، وتجاوز الشهوة والغضب، ومواساة الإخوان متعودا على محبة الناس، وأن يكون برا فاضلا حليما وقورا خاصة إذا كان من الرؤساء محبا للكمال.
19
فإذا ما وصل إليه كان أحق الناس بالرياسة. ولا يمكن ستر العيوب ولا يجب تتبعها حتى يظل الإنسان جميل الذكر مخلدا.
يقوم «تهذيب الأخلاق» على العقل الخالص وهو مناط الإبداع، والاستدلال والاتساق الداخلي والحسن والقبح العقليين. كما يقوم في نفس الوقت على التجربة الإنسانية والطبيعة والفطرة والخلق الخير. هذه المثاليات الأخلاقية تحويل دلالي للإلهيات الغائبة تماما؛ إذ يمكن إقامة أخلاق مستقلة عن الدين، بلا إلزام ولا جزاء، ولا عقائد ولا شعائر، أخلاق إنسانية عامة لا تمايز فيها بين الأديان. تظهر فيها روح الفارابي. فقد كان يحيى بن عدي تلميذه خاصة في الرئاسة الفاضلة وكمال الأوصاف. قد يغلب عليه التكرار، ووضع ما يجب أن يكون دون وصف ما هو كائن. ويكون التحدي هو: ومن الذي سيربط الجرس في رقبة القط؟ (4) أبو الحسن العامري
وفي «الفصول في المعالم الإلهية» للعامري (381ه) يغيب الوافد والموروث على حد سواء باستثناء اللفظ المعرب «الأسطقسات». وتضم عشرين فصلا متداخلة حول المعاني الذاتية في جواهر الموجودات وتكون أسبق منها كسبق الماهية على الوجود.
20
ومراتب الأشياء في حقيقة الوجود خمس: الأول موجود بالذات فوق الدهر وقبله، والثاني موجود بالإبداع مع الدهر وقرينه، والثالث موجود بالخلق بعد الدهر وقبل الزمان، والرابع موجود بالتسخير مع الزمان وقرينه ويعني التسخير الطبع، والخامس موجود بالتوليد بعد الزمان وتلوه. ويعني التوليد التكوين. الأول هو الباري والثاني التعلم والأمر. والثالث العرش واللوح. والرابع الأفلاك الدائرة والأجرام الأولية. والخامس الأسطقسات الأربعة. وبلغة الفلاسفة يسمى القلم العقل الكلي، والأمر الصور الكلية، واللوح النفس الكلية، والعرش الفلك المستقيم وفلك الأفلاك. وهنا يبدو تكوين الخطاب الإبداعي الخالص من خلال التشكل الكاذب، التعبير عن مضمون الموروث بلغة الوافد في خطاب عقلي تجريدي، قادر على الجمع بين الخطابين في خطاب عقلي واحد يقوم على الاستدلال والاتساق المنطقي، والانتقال من المقدمات إلى النتائج، مع استعمال أفعال مثل «فقد ظهر». وللعامري موقف خاص وليس مجرد عارض تصور موجود، يختلف ويتفق معه. لذلك يقول أحيانا «أما أنا فأرى أن». وهي نوع من المثاليات العقلية تضع الوجود على مراتب، وتجعل للأعلى القوة والسيطرة على الأدنى كما هو معروف في نظرية الفيض معرفيا ووجوديا وأخلاقيا، دون أن تكون بالضرورة «أفلاطونية محدثة»، فالداخل لا يحال إلى الخارج، والإبداع لا يرجع إلى النقل. هو التوحيد الإشراقي الذي يجمع بين العقل والذوق، بين المعرفة والوجود.
والموجود بالذات هو الباري تعالى هو المحيط بالموجودات كلها. يفيض على العقل الكلي أي القلم الصور العقلية أي الأمر. وتوجد هذه الصور في جوهر النفس أي اللوح بحسب التجزيء والتكثر دون أن تفسد. فهي متناهية من جهة ولا متناهية من جهة. هو مبدع العقل، وخالق النفس، ومسخر الطبيعة، ومولد الأكوان. ليس كالعقل أو النفس أو الطبيعة أو الجسم أو العرض أو الصورة العقلية أو الأكوان الطبيعية أو المدركات الوهمية. وليس مادة أو صورة أو قوة أو نهاية. ليس له نظر ولا شبيه أو شكل أو مثل، حق محض، وإني محض، وخير، وتمام محض. وهو محدث العالم، مدبر الأشياء كلها. وهو الغني الأكبر لمن له الخلق والأمر، فوق التمام ولا يوصف بالنقص. يفيض بالخير، والمدبر للكل. هو الموجد للكل، معطي الحياة.
والتراكيب القويمة من الناس معتقدة كلها بإنية الصانع بالرغم من اختلافات العقائد بين الوجود الدهري والزماني والوجود الروحاني والجسماني والوجود الوحداني والمتكثر. والجواهر على الحقيقة هي الصور وليس المواد. وهي المؤدية للأفعال على الحقيقة. وهي إما إلهية أو صناعية أو طبيعية. وكل جوهر قائم بذات الموجد فإن حصوله يكون من النقض إلى الكمال ولو لم يكن العقل الإنسي جوهرا لما كان قابلا للعلم والحكمة أو مفارقة المادة.
والموجود بالإبداع هو القلم، وهو العقل الكلي وهو جوهر لا يتجزأ. ليس بجسم ولا عظم ولا زمان ولا تجزيء. إنما يتعرض للانفصال. يتصور الأشياء الحسية لا كما تدركها الحواس، بنوع جوهر نفسه. ويتصور الأعراض الجسمانية لا بعللها بل بالقوة الإلهية فيه وبفضيلتها. وبكماله يستفيد الفرقان من أعلى المتمم له، الأحد الحق. يعلمه لأنه سبب وجوده وكماله. ويحيط بالأكوان الطبيعية وبذات الطبيعة وبالمستولي على الطبيعة أي النفس بجوهريته لا بقوة قائمة به. هو جوهر مدبر للنفس وهي مستجيبة له. جوهره أن يكون مملوءا بالصور العقلية التي هي أكمل في العقول الأولى عنها في العقول الثواني. منها عقل إلهي وهي عقول صفوة البشر أرباب الشرائع والأنبياء، ومنها عقل فحسب يقبل الصور بواسطة العقول الأولى مثل عقول الأئمة الراشدين. كل عقل يعقل ذاته بالفعل فيصبح عقلا وعاقلا ومعقولا.
والموجود بالخلق هو العرش واللوح. وهي النفس الكلية التي تتسم بثلاث خواص: إلهية لتدبيرها الطبيعة، وعقلية لأنها تعلم الأشياء بحقائقها، وذاتية لأنها تعطي الأجسام صورة ونسيما أي حياة على الكمال. منها نفوس عقلية لأنها متعلقة بالعقل، ومنها نفوس فقط لا تتجاوز الحس. والقلم واللوح يوصفان بالوحدانية من أعلى وحملة العرش بالكثرة من أسفل وهم ثمانية. وجوهر النفس ثلاثي، اثنان للعقل والثالث كمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة، وهو تعريف وافد تحول إلى تصور عقلي خالص. والنفس ذات وجود وعقل وحياة. والنفس من جهة تكوينها واقعة تحت الزمان، ومن جهة تكاملها بالعقل واقعة تحت الدهر.
والموجود بالتسخير الأفلاك الدائرة والأجرام الأولية. وهو أقل المستويات الأربعة تحليلا وعرضا لأنه خارج الواحد والعقل والنفس والطبيعة. الأجرام العلوية جواهر وديمومتها في الزمان، تسخيرية، وكمالها في الصور الموجودة، بثرواتها في حيز الدهر، وبأفعالها في حيز الزمان. أما الجواهر السفلية التي لا ديمومة لها في الزمان وهي التوليدية فتتعلق مدتها بالأجرام العالية. فالدوام نوعان: دهري وزماني. الأول ثابت، والثاني زائل.
والموجود بالتوليد جميع ما يتكون من الأسطقسات الأربعة. ومن الطبيعة ما هي نفسانية لأنها تخضع لتدبير الأنفس ومنها ما هي طبيعية فقط. إذا اجتمعت قواها أدت أفعالا عظيمة، وإذا تفرقت انحلت وضعفت. والطبيعة رباعية. والقوى الطبيعية في الجوهر الإنسي كالأساس للحيوانية، وهي المغذية والمنمية والمولدة للمثل. وتشمل الحيوانية الحساسة والمتخيلة والمتكلفة للرياضة. وهي اضطرارية في الإنسان أو شبيهة بالاضطرارية. وتتكامل بالطبع في الحيوان. والتعبيرات الشائعة «كبير النفس» صغير النفس تعبر عن حقيقة النفس وعامة عند كل الأمم والشعوب، وكذلك «ذكي النفس» «بليد النفس» «شره النفس» «عفيف النفس».
وتتخلل الفقرات العبارات الإيمانية مثل: والله أعلم، والله الموفق للصواب. كما تظهر الصفات الإلهية بالإشارة إلى الواحد الحق مثل «جل جلاله»، «عز اسمه» وتنتهي المقالة بحمد الله ومنه وجميل صنعه والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين وصحبه الأكرمين والسلام إلى يوم الدين. (5) ابن سينا
ولما كان كل فيلسوف يمثل مرحلة الانتقال من النقل إلى الإبداع، فالنقل لديه ليس الترجمة أو التعليق بل الشرح أو التلخيص أو العرض أو التأليف؟ وبالتالي لزم في كل فيلسوف الآتي: (أ)
نسبة الشرح والتلخيص إلى نسبة التأليف لمعرفة المحور الغالب عليه وعلى الحضارة ككل انتقالا من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع. (ب)
في مرحلة الشرح والتلخيص معرفة نسبة المنطق إلى الطبيعيات إلى الإلهيات ووضع الآثار العلوية بين الطبيعيات والإلهيات، والنبات والحيوان مع الطبيعيات والنفس مع الإلهيات لمعرفة المحور الغالب عليه، فكر منطقي أو علمي أو ميتافيزيقي. (ج)
ما هي موضوعات التأليف هل هي مرتبطة بمرحلة النقل مثل العرض والتأليف في الوافد أم بمرحلة الإبداع والتأليف في الموروث أو التأليف المستقل الذي يجمع بين الوافد والموروث أو التأليف الخالص الذي يكون أقرب إلى رؤية الموضوعات ذاتها دون نصوص أي التنظير المباشر للواقع؟ (د)
نسبة نصوص الفيلسوف الضائعة بالنسبة للموجود منها، ونسبة المخطوط للمطبوع لمعرفة إلى أي حد يمكن تعميم الأحكام على الفيلسوف.
والتأليف مرحلة طبيعية بعد الترجمة والشرح والتلخيص، الشيء وتمدده وتقلصه حتى يقضى على الشيء ويتم تفتيته كلية وتبخيره والقضاء عليه. بعد ملأ الشعور بالنقل يتم العطاء بالتأليف والتحول من الشعور القابل إلى الشعور المعطي. الترجمة مرحلة محدودة للوعي الفردي والوعي الحضاري تنتهي تلقائيا بعد التعليق والشرح والتلخيص. والاستمرار في النقل إجهاد وموت في حين أن الانتقال من النقل إلى الإبداع استمرار وحياة. قراءة الترجمة أصعب على النفس وأشق على الذهن من قراءة التأليف. ولولا التعليق لكانت قراءة الترجمة غير دالة إلا من حيث إعادة التجربة الحضارية الأولى، الاحتواء والتمثل والاكتمال، الترجمة وسيلة وليست غاية، مقدمة وليست نهاية، طريق وليست هدفا، بدن وليس روحا.
كان من الطبيعي ألا يكون الكندي (252ه) شارحا لأنه سابق على العصر الذهبي للترجمة وهو القرن الثالث. وهذا يدل على أن التأليف ليس بالضرورة مرتبطا بالترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض والتأليف في الوافد وهي المراحل السابقة على الإبداع. فإبداع الكندي مستقل عن النقل مثل إبداع الشافعي علم الأصول في الرسالة. كان محاولة للتنظير المباشر للواقع قبل الشروح. كان الواقع علميا في مجتمع علمي.
21
لقد اشتغل الكندي بالترجمة والشروح بعض الوقت ولكن إبداعه مستقل عما اشتغل به وكانت مدرسته معتنية بالترجمة والشرح ولكن الغالب عليها كان الفكر العلمي مثل اتجاه الكندي نحو العلوم والصناعات أكثر من اتجاهه نحو الفلسفات، لقد تحول الفكر الإسلامي من الفكر العلمي الأول عند الكندي والرازي إلى الفكر الفلسفي بعد ازدهار عصر الترجمة في القرن الثالث.
22
أما الفارابي (339ه) فكان هو نموذج العارض الذي تجاوز الشرح والتلخيص الذي قام به المترجمون من خلال التعليقات. قدم معاني النصوص بسهولة ويسر حتى يسهل التعامل معها بعد ذلك عمليا داخل الحضارة. ومن هنا أتى لقب «المعلم الثاني» وهو ليس بأقل فضلا من الأول أو تلميذا له بل لأنه علم المسلمين الفلسفة كمعان وموضوعات مستقلة. وكثيرا ما يكون المعلم الثاني أفضل من المعلم الأول لأنه هو الذي يعطيه معناه ويبرزه للناس. وبهذا المعنى يكون سقراط هو المعلم الأول وأفلاطون المعلم الثاني. ولولا أفلاطون لما كان سقراط.
الفارابي يعد بحق المعلم الثاني بالنسبة لليونان ولكنه المعلم الأول بالنسبة للمسلمين. لذلك فهم ابن سينا من شروح الفارابي وتلخيصاته أكثر مما فهم من الترجمات الأصلية.
23
لم يحتج الفارابي إلى الشرح والتلخيص لأنه عاش في العصر الذهبي للترجمة في القرن الثالث بعد أن كانت قد استقرت وتم فهمها من خلال التعليقات. إنما كانت في حاجة إلى إعادة العرض.
أما ابن سينا (428ه) فلم يكن شارحا ولا ملخصا ولا عارضا ولا مؤلفا في الوافد بل كان مؤلفا، بل المؤلف بمعنى الكلمة
excellence
الذي اعتمد على شروح الفارابي وتلخيصاته وعروضه. فقد مهد له الفارابي الطريق، وقدم له المعنى، وسهل له الأداء، وأعطاه الوسيلة. فلولا الفارابي لما كان ابن سينا. ابن سينا هو الجامع الذي صمت عن مصادره، وحاول بناء الفلسفة دون تمييز بين وافد وموروث. هو الذي بنى الحكمة وأكملها، وتجلت في أسفاره ظاهرة «التشكل الكاذب» في أوضح صورها.
ثم أتى ابن رشد (595ه) آخر الحكماء ليعود من البداية، للنصوص الأولى وتصحيح شروحها وتلخيصاتها حتى يعيد إلى النص معناه واتجاهه بعد أن ساء استخدامه لدى الفلاسفة الإشراقيين خاصة ابن سينا. ومن ثم جعل مهمته الرئيسية الشرح والتلخيص وليس التأليف حرصا على النصوص الأولى، وإنقاذا لها من سوء التأويل حتى سماه اللاتين الشارح الأعظم؛ لأنه أعاد تقديم أرسطو كما هو عليه دون تأويل حضاري أو قراءة محلية، أرسطو التاريخي، العقلاني العالم. (أ) الإبداع الكلي
بالرغم من أن ابن سينا هو فيلسوف العرض الكلي بلا منازع في موسوعاته الثلاث، إلا أن مؤلفاته منتشرة على عديد من الأشكال الأدبية في التأليف مثل تمثل الوافد، وتمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وتمثل الوافد مع تنظير الموروث، وفي التراكم في تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، وفي تنظير الموروث حتى الإبداع الخالص.
ويظهر الوافد والموروث في العرض النسقي لابن سينا في الموسوعات الثلاث وحدها التي لا تتجاوز ثلث مؤلفات ابن سينا التي يظهر فيها تزاوج الوافد والموروث، وهي بدورها لا تتجاوز خمس مجموع مؤلفات ابن سينا التي يظهر فيها تمثل الوافد وحده أو تنظير الموروث وحده أو الإبداع الخالص الذي لا يحيل إلى وافد أو موروث.
24
فهناك تحول طبيعي من تمثل الوافد يتساوى مع المزج العضوي بين الوافد والموروث ثم يزيد تنظير الموروث ثم يزيد الإبداع الخالص.
25
كما تقل المؤلفات المعتمدة على الوافد وتزيد المؤلفات المعتمدة على الموروث مما يدل على التحول من الخارج إلى الداخل.
26
وبالرغم من تغطية الموسوعات الثلاث لأقسام الحكمة، المنطقية والطبيعية والإلهية وضم الرياضية إلى المنطقية إلا أن هذه الحكمة قد تم التأليف فيها ليس بطريق العرض النسقي المنطقي المجرد المذهبي ولكن بطريقة التأليف، حيث يتم تمثل الوافد أو تزاوج الوافد والموروث أو تنظير الموروث أو الإبداع الخالص. وبالتالي تكون هذه الأعمال أدخل في التأليف منها في العرض. وتختلف هذه الأقسام فيما بينها من حيث الكم. المنطق والرياضيات أصغرها ثم الطبيعيات أوسطها ثم الإلهيات أكبرها.
27
ويمكن تقسيم مؤلفات ابن سينا المنسوبة له طبقا لأقسام الحكمة إلى الآتي: (1)
المنطق. ويضم أحد عشر مؤلفا البعض منها أقرب إلى العرض الجزئي والعرض الكلي،
28
والبعض الآخر بين الموجز والمختصر الصغير والمتوسط والكبير مثل شروح ابن رشد الثلاثة: التفسير والتلخيص والجامع، وتمثل أكثر من ثلث الأعمال المنطقية.
29
وبالإضافة إلى المختصرات هناك أيضا العروض مثل «الإشارة» و«الفاتح».
30
ويكتب المنطق بالشعر في بيئة ثقافية الشعر فيما يمثل الثقافة الشعبية حتى يسهل فهم المنطق بأداة بيئية، فهم الوافد بأدوات الموروث.
31 (عملان على الأقل). وبالرغم من أن المنطق يعطي القوانين العامة، إلا أن علوم الناس فيه فردية فالعلم للتطبيق والمنطق للاستعمال.
32 (2)
الرياضي. ويضم أيضا أحد عشر مؤلفا بين اختصار الوافد مثل تلخيص ابن رشد أو العرض الجزئي أو العرض الكلي.
33
الاختصار لفظ شائع في العلم قد يعني الحالة الراهنة له.
34
والباقي دراسة للموضوعات أي أقرب إلى التأليف في الموضوعات.
35
مثل دراسة الزاوية والجهة والحدود واللانهاية والصلة بينها وبين النهاية، وارتباط الرياضيات بالجسم. (3)
الطبيعيات. وتضم أربعة وعشرين محلا تدور حول الفلك كعلم طبيعي يقوم على الرصد بالآلات.
36
كما تضم موضوعات الجغرافيا الطبيعية مثل الأجرام السماوية وقيام الأرض وسط السماء وخواص خط الاستواء.
37
والجغرافيا السياسية مثل الممالك وبقاع الأرض. وقد يتكرر الموضوع في أكثر من عمل. وبطبيعة الحال يتم إبطال علم أحكام النجوم الذي يقوم على الخرافة والتنجيم.
38
ويدخل علم الكيمياء مع العلوم الطبيعية.
39
كما تدخل الموسيقى مع أنها من العلوم الرياضية أو لأنها تجمع بين الطبيعيات والرياضة كما هو الحال في الطبيعيات المعاصرة، دراسة الذبذبات (الطنين) رياضيا كما فعل الفارابي.
40
وتمثل هذه الأعمال نصف الطبيعيات. ثم يستغرق موضوع النفس النصف الآخر باعتبارها موضوعا طبيعيا مع تحليل قواها الطبيعية والنفسية وانفعالاتها مثل الحزن والعشق ورؤياها وخلودها مع بعض الأقاويل الرمزية.
41
وقد تتبقى بعض الأنواع الأدبية السابقة مثل الشرح.
42
كما قد يظهر التراكم الفلسفي اللاحق من خلال حوار الموروث مع نفسه مثل حوار ابن سينا مع النيسابوري حول النفس.
43
وكما أن الرياضي ملحق بالمنطقي كذلك الطب ملحق بالطبيعيات. ويضم الطب اثني عشر عملا تتراوح بين القوانين الكلية لعلم الطب ومسائله النظرية ووظائف الأعضاء وبين تشخيص الأمراض وطرق العلاج وأصناف الأدوية ومهنة الطبيب ورسالته وتواضعه.
44
ويظهر التراكم الفلسفي عندما يشرح الحكيم نفسه أو عندما يعلق على السابقين.
45 (4)
الإلهيات. وتضم أربعة وخمسين عملا. تضم بعض الموضوعات الطبيعية نظرا لارتباط الطبيعيات بالإلهيات إن لم يكونا علما واحدا. مرة مقلوبا إلى أعلى ومرة إلى أسفل.
46
والموسوعات الثلاثة في الإلهيات بالرغم من اشتمالها على المنطق والطبيعيات.
47
وهناك مجموعات أخرى أصغر مثل الموسوعات تعطي نظرة شاملة للإلهيات بما في ذلك موضوع أقسام العلوم.
48
وتشمل الإلهيات أساسا الموضوعات الأخلاقية.
49
ويرتبط التصوف بالأخلاق.
50
كما تظهر بعض الموضوعات الكلامية مثل القضاء والقدر والمعاد وخلود النفس.
51
ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في الحكمة المشرقية.
52
ونقل الموضوعات الإلهية بالمعنى الدقيق مثل الأول والصلة بين الدين والفلسفة.
53
وتظهر بعض الموضوعات السياسية القليلة مرتبطة ببعض الموضوعات الغيبية دون أن تصل إلى مرتبة اللاهوت السياسي.
54
وتتباين الأنواع الأدبية في المؤلفات مثل الشعر والخطبة والرواية.
55
كما يكثر النوع الأدبي، والسؤال والجواب أو السؤال وحده أو التعليقات أو الرسائل مما يدل على أن الحكمة مستمدة من الواقع أيضا وليس فقط من الوافد أو الموروث. وكلها أسئلة محلية مثل النوازل الفقهية.
56
ويتضح التراكم الفلسفي عند ابن سينا في كثرة حواراته مع باقي حكماء الموروث بأسمائهم مع الرد على من يدعي الحكمة مثل الهمذاني. ومعظمها بالعربية، وقليل منها بالفارسية.
57
والبعض كتبها في السجن.
58
ولا يوجد تأليف واحد في الوافد. وواضح أن ابن سينا أكثر الحكماء تأليفا من حيث الكم وإن كان ابن رشد أهمهم من حيث الكيف.
ويغلب على أسماء مؤلفات ابن سينا كلها طابع الإشراق: «الشفاء»، «النجاة»، «الإشارات والتنبيهات».
59
ومن مظاهر الإشراق تصور الأفلاك على أنها كائنات حية ناطقة.
60
وفي نفس الوقت تشير كتب التاريخ إلى ولع الحكماء بالعلم وقدرتهم على الاستيعاب، وربما أنانيتهم وإخفاء مصادرهم إلى درجة حرق المكتبات. وبصرف النظر عن صحة الروايات فإن دلالتها الحضارية تظل واردة.
61 (ب) آليات الإبداع
في الإبداع الخالص تظهر قدرة العقل على البرهان دون وافد أو موروث كمصدرين خارجيين، الفلسفة في ذاتها.
62
بالرغم مما قد يبدو على بعضها من عرض أو تأليف، وبالرغم مما تدل بعض عناوينها على الوافد مثل في الطبيعيات في عيون الحكمة. أو على الموروث مثل «رسالة الطير» والصمدية والعرشية. ويبدو الإحساس بالإبداع الفلسفي الخالص واضحا عند ابن سينا في المنطق الذي بلغ فيه مبلغا لم يبلغه أحد من الأوائل.
63
كما يتجلى إبداع ابن سينا في الرسائل أكثر مما يتجلى في الموسوعات. وهذا لا يمنع من أن يكون الموروث هو الباعث والدافع.
ففي «رسالة العشق» لابن سينا إجابة على سؤال محلى صرف في موضوع محلي صرف هو التصوف. ورسالة ابن سينا في ماهية الصلاة إجابة على سؤال محلي لا شأن لها بالوافد. والدافع إصلاحي.
64
ورسالة «معنى الزيارة» أيضا جواب على الشيخ سعيد بن أبي الخير الصوفي عن سبب إجابة الدعاء. و«في القوى الإنسانية وإدراكاتها» لا وافد ولا موروث، لا يونان ولا قرآن بل تحليل عقلي صرف. «ورسالة المبدأ والمعاد» موضوع ديني فلسفي صرف، لا يونان ولا قرآن، إلا من القرآن الحر مثل مادامت السموات والأرض إلا ما شاء الله إن ربك فعال لما يريد أو بعض الصور القرآنية مثل ثقل الموازين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. ويشار إلى القرآن كمصدر أصلي للموروث مثل لم يرد في القرآن من هذا الأمر ولا إلى صريح مفصل. وتدخل حجة الشرع مع حجة اللغة وكلاهما موروثان محليان.
65
ويتطلب البرهان الاتساق العقلي بين المقدمات والنتائج واستبعاد التناقض والخلف والاستحالة.
66
فالأشياء المتفق عليها مبادئ أولى تنتهي إلى فروع متفقة معها طبقا للاتساق في النسق الاستنباطي.
67
وتظهر وحدة الفكر والرؤية في الإبداع الفلسفي في إحالة العمل إلى أعمال أخرى، إحالة الفعل والانفعال إلى كتاب النفس. كما يحال الأخلاق إلى كتب إحصاء العلوم.
68
وأحيانا يكون الكل موضوع موضعه الخاص في نسق متكامل فلا داعي للتكرار أو التطويل.
69
ويظهر أيضا مسار الفكر في تذكير السابق وإعلانا عن الحاضر، وتنويها بالمستقبل في أفعال البيان في الأزمنة الثلاثة.
70
ويتميز الإبداع الفلسفي أيضا بالرغبة في الاختصار دون التطويل خوفا من ملل القارئ، اكتفاء بالفطرة والذكاء والقدرة على فهم الإشارات والدلالات، حتى ولو كان الموضوع أثيرا عند الحكيم الفاضل مثل موضوع الفعل والانفعال.
71
وتبدو الدلالات الدينية في المقدمات والنهايات في رسائل الإبداع الفلسفي الخالص لتذكر بالجو الثقافي العام للحضارة الإسلامية، مثل طلبة العون من الله.
72
وفي رسالة الرئيس أبي علي بن سينا فيما تقرر عنده من الحكومة في حجج المثبتين للماضي مبدأ زمانيا وتحليلها إلى القياسات (428ه) يصمت ابن سينا عن مصادره ويتحول إلى إبداع خالص.
73
فلا يظهر وافد ولا موروث، لا بطريق مباشر ولا بطريق غير مباشر. والحكومة هنا تعني الحكم. وتتمثل القدرة على الإبداع في تحويل حجج المثبتين للماضي بعدا زمانيا إلى قياسات بصورها وموادها أو تحويل الميتافيزيقيا إلى منطق، والفلسفة إلى رياضة. وتتكون من إحدى عشر فصلا، أربعة منها في القياسات والسبعة الأخرى في تطبيقها على موضوع المبدأ الزماني للماضي.
74
وربما لم يساعد ذلك على زيادة فهم الموضوع لدفع التجريد إلى المنطق من الميتافيزيقيا خطوة أخرى، ومن المادة إلى الصورة. ويظل السؤال: ما الهدف؟ وهل مسار الإبداع هو التحول من التجارب الحسية إلى الصورية الفارغة؟ (6) ابن هندو (أ)
الرسالة المشوقة. هي أقرب إلى الإبداع منها إلى التأليف أو العرض.
75
فلم يذكر أرسطو إلا مرة واحدة حيث إن أرسطو احتذى هذا الترتيب التعليمي الذي عرضه ابن هندو. فأرسطو هو الشارح لابن هندو والمؤيد له، وليس ابن هندو هو الشارح لأرسطو والتابع له.
76
يعتمد على العقل الخالص وهو مشترك بين الشعوب وليس يونانيا أو أرسطيا بالضرورة. وإذا كانت كتب أرسطو هي مادة التحليل فلأنها كانت الثقافة الفلسفية للعصر. (ب)
ورسالته «في المعاد الفلسفي» هي أيضا أقرب إلى أولوية الموروث على الوافد. وما بينها وبين الفوز الأصغر لمسكويه من تشابه لأن كليهما يشاركان في نفس النموذج الحضاري الجماعي الذي يساهم فيه كل الحكماء.
77
وقد تكون أقرب إلى الإبداع الخالص نظرا لاعتمادها على النسق العقلي والرد على الاعتراضات السبعة بأسلوب «فإن قيل». فمن الدلائل القوية إثبات اتفاق الفلسفة مع الشرع في أن مذهب الفلاسفة في هذه الأشياء موافق لما جاء به أصحاب الشرائع عليهم السلام. ويقارن مع الهند في حرق الجثث كدليل على تمايز النفس والبدن.
78 (7) بهمنيار بن المرزبان
وإذا كان ابن سينا قد وصل إلى أعلى درجة في التجريد والصمت عن مصادره فإن تلميذه بهمنيار (458ه) قد استطاع التحول إلى الإبداع الخالص في بعض رسائله مثل «ما بعد الطبيعة» و«مراتب الموجودات». (أ)
تضم رسالة «ما بعد الطبيعة» اثتي عشر فصلا: موضوع العلم، وأول الأشياء المنصورة وهو الوجود، والماهية، وصلة الماهية بالوجود، والتمييز بين الحكمة والواجب والممتنع، ومعنى المتقدم والمتأخر، والقوة والفعل، والفعل والانفعال، والتنفس وقبول المعقولات. وهو خطاب مركز للغاية يستبعد «حشو الكلام غير المفيد». ويتأسس على البرهان الداخلي وينقد الوقوع في الدور في تحديد الممكن والواجب والممتنع.
79 (ب)
وللرسالة الثانية عنوانان «مراتب الوجود» و«إثبات المفارقات وأحوالها». والعنوان الثاني شبيه بعنوان رسالة للفارابي. وتضم خمسة فصول الأول المفارقات. أربع مراتب مختلفة الحقائق: الأول الموجود الذي لا سبب له وهو واحد، والثاني العقول الفعالة وهي كثيرة بالنوع، والثالث النفوس السمائية وهي كثيرة أيضا بالنوع. والرابع النفوس الإنسانية وهي كثيرة بالأشخاص. وتتصف بأربع صفات، ليست بأجسام ولا تموت ولا تفسد، وتدرك ذواتها، ولكل منها سعادة مفارقة للمادة. والثاني البراهين على إثباتها. والثالث إثبات العقول الفعالة. والرابع إثبات النفوس السمائية، والخامس إثبات النفوس الإنسانية ومفارقتها وسعادتها. وكلها براهين عقلية مجردة أشبه بالبراهين الرياضية.
80 (8) ابن باجه
وهو أول فيلسوف في المغرب استأنف تراث الفارابي بعد هجوم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة في المشرق. أفسح الطريق بعده لابن طفيل وابن رشد وابن خلدون بالرغم من اشتغال مالك بن وهيب وابن حزم بالفلسفة قبله، أما مالك وهيب فقد ترك الفلسفة لما طالبوا بدمه. بل ازدهرت في صقلية، ربما لأن تهافت الفلاسفة لم يصل ابن باجه. بل إنه لم يعرف من كتبه إلا «المنقذ من الضلال» أو حتى مقتطفات منه يذكرها في «رسالة الوداع». ويدل على صلة المغرب بالمشرق وجود نسخة الشيخ أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام في مدينة قوص في مصر. فلها فضلها في حفاظ تراث المغرب، من خلال رحلة القارئ إلى الصعيد.
81
وإن رفض مقارنة ابن باجه بالفارابي (العلوي) لخصوصية عقليته هو وقوع في أخطاء تاريخية وسياسية. فإن ابن باجه إشراقي في تدبير المتوحد ورسالة الوداع ورسائله عن اتصال العقل الفعال قدر إشراقيات الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة. وسيادة التصوف في المغرب عند ابن عربي لا تقل عن سيادة التصوف في المشرق عند الغزالي. فالخصوصية المغربية تضحية بالتاريخ من أجل الجغرافيا، وبالعلم من أجل السياسة، وبالعرب والمسلمين من أجل الغرب والفرنسيس، وتعويض عن النقص أمام المشارقة بكمال المغاربة، الأندلس حضارة المسلمين شرفا وغربا فتلك بضاع ردت إلينا، والمحافظة والتقليد في المغرب وسيطرة الفقهاء لا تقل عنها في المشرق. المشرق رائد باستمرار وسباق على الغرب بالرغم من دعوة المغاربة المعاصرين للخصوصية.
82
وهناك صورة أخرى لابن باجه من تلميذه ابن الإمام بعيدا عن السلطة مما يدل على قدرة المؤرخين على خلق نماذج تتساوى فيها البطولة مع الخيانة، الإيمان مع الكفر. فعند ابن الإمام ابن باجه ثاقب الذهن، لطيف القوص على المعاني الجليلة الشريفة، أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه. استطاع توضيح لقب الفلسفة الواردة إلى الأندلس، بل فاق ابن حزم ومالك بن وهيب، وكلاهما من إشبيلية. بالرغم من ترك مالك لها إلى العلوم الشرعية. ربما كان مشروع ابن باجه إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الأندلس، إحياء الفلسفة وهو ما حاول ابن رشد استكماله من بعده. وهو ما يحاول مشروع «التراث والتجديد» استكماله بعدهما. فأي الصورتين أحق وأصدق لابن باجه. صورة ابن خلكان أم صورة ابن الإمام؟
ويمثل ابن باجه وحدة المعرفة الممثلة في علوم الحكمة. كما هو الحال في القرآن. فهو فيلسوف وشاعر يجمع بين الحكمة والأدب مثل ابن حزم والفقهاء. فالأدب جزء من الفلسفة ويجمع بينهما الرياضيات والمنطق والطبيعيات والإلهيات والإنسانيات بما في ذلك الموسيقى والفلك كجزء من علوم الحكمة. لم يأخذ موقف محايدا من العلم أو أسطوريا من العالم بل موقفا عقلانيا من الإنسان والطبيعة ضد خرافات العجائز، والعقل النظري أو العقل العملي معها، في المعرفة والأخلاق.
83
كان من المقلين في التأليف بالرغم من قوائم مصنفاته بالعشرات. المنشور له حوالي أربعون مقالا وكتابا ومن ثم فهو ليس فيلسوفا ثانويا. ويمكن الحكم عليه عن مؤلفاته المنشورة التي تبلع مجموع ما يذكر له من مصنفات ومجموعها حوالي سبع وخمسين مصنفا.
وقد كانت صورة ابن باجه في التراث ملحدا، يقول بالتعطيل ومذهب الحكماء والفلاسفة وانحلال العقيدة، وكأن الدين ضد العلم والعلوم الرياضية والفلك والعلل المباشرة، وكأن النقل ضد العقل. وقد كان المؤرخون مؤرخي السلطان.
84
لا هم لهم إلا السجع في اللغة والمزايدة في الدين. هاجمه في أكثر من ست صفحات في نهاية كتبه، يعيب عليه أنه جعل البهيمة أهوى من الإنسان، وأنه اشتغل بالعلم، وأنه ابتعد عن ظاهر القرآن تأييدا للأشعرية الحسية السلطوية. مع أن المشروع الفلسفي عند ابن باجه وابن طفيل وابن رشد بل والصوفي عند ابن عربي، والفقهي عند ابن الأزرق، والأصولي عند الشاطبي محاولة لإنقاذ الروح قبل أن يضيع الجسد، والحفاظ على الحضارة قبل أن تضيع في الأندلس. كثر حساده بعد أن حظي بمنصب الوزارة أكثر من مرة. ثم قتل بالسم، ولكنه أنجب ابن طفيل وابن رشد.
وما يهم هو نشر النصوص من ناشرين متعددين، كل منهم يؤدي دورا دون نقد كل منهم للآخر إزاحة له عن الطريق حتى يكون العالم واحدا فقط والآخرون أقل علما أو أكثر جهلا، الناجي واحد، والباقي هالكون.
85
مع أن احترام جهد السابقين واجب، والاعتراف بفضلهم سنة. والعنف معهم خاصة بدوي وقنواتي لا مبرر له وكلاهما يستحقان كل تقدير. صحيح أن النقل بلا تحقيق أو بحث في المخطوطات القديمة، غير علمي وعدم الإشارة إليها أيضا تنقصه الأمانة ومن ثم يكون البحث والتمحيص والإحالة إلى المصادر أكثر علمية وأمانة دون تعال أو ادعاء أو إزاحة الزملاء الوطن والإحلال محلهم حتى ولو كان دون نقد أو تشهير. وكل نشر وتحقيق خطوة في سبيل العلم. السابق الله فضل البداية ، واللاحق له فضل الاكمال. الهدف النشر الأول، حتى ولم يكن علميا مثل النشر الأزهري أو الهندي في الجامعة العثمانية. الغرض منه معرفة النصوص. والنشر العلمي اللاحق الغرض منه ضبطها بعد استيفاء أدوات البحث العلمي ومناهجه.
وأخطاء الناقد كثيرة كأن نقده للآخرين يتوجه إلى نفسه.
86
ولا يعرف كل نشرات ابن باجه ولا اطلع على كل المخطوطات.
87
ونماذجها.
88
وتحقيق مقدمات المستشرقين تتطلب وقتا وجهدا أكثر مما يتطلب النص نفسه، ويحول البحث العلمي إلى جدل. ويتجاوز النقد أحيانا النشر إلى القراءة التجزيئية المتعسفة، وكل قراءة تأويل تعكس نظر الباحث. كذلك تتعدد القداءات بما في ذلك القراءة الاستشراقية المصمته التاريخية الخالية من أية دلالة حضارية. وتقدير جهد السابقين ضروري فلولا السابق ما كان اللاحق، ولولا الخطأ ما كان الصواب، في جدل السلب والإيجاب.
89
كما أن الدراسات التجريبية لها محاسنها وعيوبها.
90
وإن ذكر الدراسات عن ابن باجه بأسماء أصحابها جزء من الأمانة العلمية.
91
وما يعنينا في النص ليس الاستشراق بل الدلالة الحضارية الملاحظات المستشرقين. فالنص وثيقة حضارية جماعية بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك، كل بدون اسمه عليه تخليدا لذكراه، نسبه وأساتذته وألقابه.
92
والأفضل ترك المخطوط كما هو دون إضافة أسماء لها. فلو كان مؤلفها أراد تسميتها لفعل. وعيب أسماء الناشرين أنها تخرج عن قصد المؤلف وقد تبرز قصدا غير قصده حتى يصح تحليل المضمون. وقد يحدث التحول من الشخص إلى الرمز من أرسطو إلى الحكيم في المخطوط وعناوينه.
93
وقد يكون العنوان من الناسخ وليس من المؤلف كما يفعل الناشر الحديث. والبحث في سنة ميلاده مجرد جهد استشراقي.
94
المهم أنه ولد ومات في أواخر الخامس وأوائل السادس. ومستشرق عربي آخر يؤرخ لوفاته بالميلادي 1138م.
95
ونشر المسائل الفلسفية لابن باجه استشراق مادي نصي بلا دلالة حضارية، مادة أولى يمكن تأويلها. وتضم «رسائل ابن باجه الإلهية» أعمال ابن باجه التي نشرت سابقا، فالمستشرقون العرب يعيدون نشر ما نشره من قبل المستشرقون الغربيون وفضله أنه فيلسوف أندلسي مثل الكندي في الشرق بالرغم من وجود بعض الصوفية مثل ابن مسرة وفقهاء مثل ابن حزم ونصارى مثل ملك بن وهب الذين ارتبطوا باليونانية مثل ارتباط نصارى المشرق.
96 (أ) الإبداع الكلي
ويغلب على أعماله التأليف أكثر من الشرح والتلخيص، سواء كان تمثلا للوافد أو جمعا للوافد والموروث أو تنظيرا للموروث على عكس الفارابي الذي يغلب على مؤلفاته الشرح والتلخيص أكثر من التأليف. ومن ثم يبدو خطأ القبول بأن أعمال ابن باجه شروح. هي تأليف لتمثله الوافد وإعادة عرض الوافد من خلال الموروث وتنظير الموروث. ويبدو التأليف في عناوين المؤلفات التي تشير إلى المعاني والموضوعات وليس إلى النصوص والعبارات. لم يسمها ابن باجه شروحا كلها بل قولا وتعليقا وكلاما ورسالة وفصلا وذكرا ونبيذة وكتابا وجملا ... إلخ حتى ولو كانت من الناسخ. فالنص عمل حضاري مشترك بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك. كما أن باجه يلخص المقالات الأربعة الأولى من السماع في مقالة واحدة، فهو تأليف وليس شرحا، يؤلف في العلم الطبيعي ولا يشرح السماع الطبيعي. والقوة في البداية بالعلم مباشرة وليس بكتاب فيه أو قول عليه. لذلك لا يظهر التعبير الشهير قال أرسطو والذي اتخذه الاستشراق دليلا على التبعية. والتأليف في العلم الطبيعي أي في الواقع الطبيعي المحسوس المرئي. ويتضمن المقال حدودا أي تعريفات وليست أقاويل شارحه. وكان التوجه قرآنيا خالصا
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ،
وفي الأرض آيات للموقنين . ويعرض ابن باجه نفسه بأنه في بداية المقالة الخامسة.
97
السماع الطبيعي ليس قولا شارحا بل تأليفا، دراسة للمتحرك والساكن. وقد تكون أكثر أعماله اقترابا من الإبداع بالرغم مما فيها من إحالات إلى الوافد أو الموروث: تدبير التوحد، ورسالة الاتصال، ورسالة الوداع. وتتسم كلها بأنها أعمال قصيرة لم تتم. لا ينتهي عمل إلا ويبدأ بآخر يحيل إليه كما تدل عليه عبارات الإحالة.
98
وبالرغم من تواصل الموضوع الوافد والموروث والواقع أو آليات التأليف إلا أن التصنيف طبقا للأنواع الأدبية، الشرح والتأليف، كان ضروريا لمعرفة مراحل التحول من النقل إلى الإبداع، فالمهم هو المنهج وليس الموضوع، طوليا وليس عرضيا. وهذا لا يمنع من وجود دراسات أخرى للموضوعات تخترق الأنواع الأدبية.
وطبقا لقائمة مؤلفاته يغلب التأليف على الوافد والموروث. فهناك خمسة أعمال في الوافد، وخمسة في الموروث، وسبعة عشر عملا بلا إشارة إلى وافد أو موروث صراحة.
99
فالتأليف المستقل عن الوافد والموروث ضعفهما معا. ويغلب على عناوين التأليف موضوعات الوافد مثل: البرهان، النفس.
ويمكن تصنيف مؤلفات ابن باجه طبقا للفهارس القديمة أو القوائم الجديدة أو طبقا للناشرين أو حسب مراحله الفكرية. ولكن الأنسب لمعرفة التحول من النقل إلى الإبداع تصنيفها طبقا للنوع الأدبي، الشرح أو التأليف وأنواعهما. ويمكن تقسيمها إلى خمسة أنواع: الشرح، والتعليق، والتأليف في موضوعات الوافد وعلومه من أجل تمثله، والتأليف في الوافد من خلال الموروث نظرا للتراكم الفلسفي، والتأليف في الموروث ثم التأليف الإبداعي الخالص بالرغم من تداخل هذه الأنواع الأدبية.
100
وهناك ست قوائم معروفة؟
101
وفهارس المكتبات غير دقيقة وصعبة وتطلب وقتا وجهدا لتحقيقها مما يبين أهمية التوثيق وإعادة النظر في التحقيق والنشر، والنص وثيقة حضارية جماعية بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك. المؤلف يكتب والناسخ يخرج، القارئ يعلق، والمالك يوقع.
102
ما يهم دلالته وليس ضبطه، فتلك مهمة الاستشراق.
وكل قائمة لها معيار تصنيفها. فقائمة ابن الإمام تبدأ بالنقل (الوافد) ثم الإبداع ولا تعطي إحصاء كاملا بل قلب العمل دون الأطراف. وتركز على شرح الفارابي في المنطق. وتذكر الطرف الآخر الذي يرسل إليه العمل (الوزير)، ويتفادى التكرار، ويضم أجزاء مقالات السماع الطبيعي إلى الكتاب الأم وكأن المصنف يريد معرفة اتجاهات التأليف عند ابن باجه، لا فرق لديه بين المنطق والطبيعيات والإلهيات (الإنسانيات) لبيان وحدة المذهب. يبدأ بالطبيعيات وينتهي بالإلهيات (الإنسانيات) ويعود إلى الطبيعيات من جديد مما يدل على أن رؤية ابن باجه للحكمة أنها أساسا طبيعية، والإلهيات طبيعيات مقلوبة، والإنسان في الطبيعة، والمنطق آلة. ويربط ابن الإمام بين الأعمال بأفعال وحروف تدل على وحدة العمل وكان ابن باجه له مسار فكرى واحد، يؤدي كل عمل سابق إلى العمل اللاحق مع ذكر الترتيب الذي يوحي بالزمان. ويبدو أن كتاب المتوحد الذي اشتهر عنه واحد من عشرات المؤلفات . كما يركز المصنف على سلامة النص وإن كان كاملا أم ناقصا، كما يحدد النوع الأدبي إذا كان شرحا أو قولا أو تعليقا أو كلاما أو ذكرا أو رسالة أو فصلا أو كتابا أو نبذة أو جملا.
ويقوم الناسخ بتقديم مجموع المؤلفات، وينتقي منها طبقا لمقاييسه، الأهمية أو المزاج، قصدية أو عفوية أو البداية بالنقل ثم التثنية بالإبداع أو البداية بالمنطق والطبيعيات ثم التثنية بالسياسيات. كما يذكر الناسخ النقل الكتابي، المناولة من يد إلى يد، من الأندلس إلى المغرب إلى صعيد مصر.
103
مع حفظ الألقاب للناسخ والمالك وذكر التاريخ والمكان والدعوة للجميع.
تدبير المتوحد ربما آخر ما كتب. ومع ذلك هل يمكن ترتيب مؤلفات الفيلسوف طبقا للترتيب الزماني لمعرفة تطوره؟ ليس التأليف بناء على مأساة في حياته ومزاجه ومواقفه بل تعبيرا عن بنية حضارية سابقة عليه في إحصاء العلوم.
104
وفي مجموعة أكسفورد اثنتان وثلاثون رسالة، تركز على السماع الطبيعي، وتفحصه مقالة مقالة مع التركيز على السابعة والثامنة عن المحرك الأول وهو بؤرة الحضارة الإسلامية مع استعراض أجزاء الطبيعيات كلها أكثر من المنطق أو ما بعد الطبيعة على عكس الفارابي الذي بدأ بالمنطق وابن رشد الذي شرح الكل عودا على بدا. ويعود ابن باجه إلى المنطق مثل الفارابي. ويكون القول في المعاني الحلقة المتوسطة بين الألفاظ والاشياء. ويكتفى ابن باجه بمنطق اليقين دون منطق الظن. ويشعر الناسخ بالمنحول لذلك يقول «المنسوبة إليه».
ويختلف النوع الأدبي للرسائل بين القول والكلام والشرح. فليس أرسطو فقط هو الذي يقول وله قول بل أيضا ابن باجه يقول وله قول، وليس كل أقواله نظرا للتبعيض في «من قوله» وأحيانا الكلام والنظر دون تحديد للموضوع. ويبدأ المصنف بالوافد قبل الموروث وقبل الإبداع ممثلا في تدبير المتوحد.
105
وتذكر مخطوطة برلين أربعا وعشرين رسالة، تقوم على بيان القصد وتوضيح الهدف من كل رسالة، وتكشف عن وحدة العمل الفلسفي كله إذ تؤدي كل رسالة إلى السابقة أو اللاحقة، وتخاطب القارئ لتسهل عليه فهمه. فالعمل رسالة بين المؤلف والقارئ. كما تكشف عن البعد الديني صراحة كما هو الحال في نهاية «رسالة الدوام»، ولذلك في خلق الأشياء بالدوام هو الله عز وجل وهو «معطى الدوام». كما تبدأ بالدعاء للقارئ. ويكمل ابن باجه عملية إيضاح جالينوس لأبو قراط، مع إحساس بهموم قصر العمر وبالوعي التاريخي يذكر المتقدمين ويلاحظ أنها كلها في الطبيعيات، وأن السماع رسالة واحدة، والمزاج رسالتان، والحيوان رسالتان، مرة في الموضوع ومرة في المعنى، وأن العقل رسالتان، وأن هناك بعض الموضوعات المتناثرة تحت عنوان فنون شتى، وأن رسالتين فقط يحملان أسماء أعلام في العنوان (الإسكندر وأرسطو). وفي مخطوط الإسكوريال يضم خمس مقالات في المنطق بينما يضم مخطوط طشقند أربع مقالات في الطبيعيات.
106
وما مقياس تقسيم الرسائل الثلاث والعشرين إلى قسمين، الأول إحدى عشرة رسالة والثاني اثنتا عشرة رسالة؟ وكل العناوين من الناشر باستثناء العنوانين في القسم الأول مما قد يظهر قصدا لم يشأ المؤلف إظهاره أو توجيه عمل نحو قصد لم يكن قصد المؤلف. وعناوين القسم الأول بها فقط ثلاثة أعلام مما يدل على غلبة الموضوعات على الأشخاص بينما القسم الثاني خلو منها كلها.
107
والقسم الأول أكبر من الثاني.
108
وأطول رسائل القسم الأول في الوحدة والواحد «وأصغرها» ومن كلامه في الألحان. وأطول رسائل القسم الثاني «من كلامه ارتياض في تصور القوة الناطقة» وأصغرها: ومن كلامه بين العقل والقوة المخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول، نظر آخر فيض العلم الإلهي، ومن كلامه في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي، في تراتب العقول وظهورها. القسم الأول يغلب عليه المنطق والطبيعيات، والثاني يغلب عليه العقليات ممثلة في نظرية الاتصال وهي ما تعادل الإلهيات. أما الإلهيات بمعنى المحرك الأول ففي الطبيعيات. وبالإضافة إلى الثلاث والعشرين رسالة هناك سبع عشرة رسالة أخرى فيكون مجموع المعروف من أعمال ابن باجه أربعين من سبع وخمسين رسالة، أكثر من الثلثين مما يسمح بإصدار حكم على مجمل فلسفته.
والأفضل الحرص على وحدة كل عمل ومعرفة جدل الوافد والموروث وآليات التأليف بالرغم مما يوقع ذلك في التكرار بدلا من الاختراق العرضي لها كلها فتجمع الوافد معا والموروث معا وآليات التأليف معا مما يساعد على إصدار الحكم على ابن باجه ولكنه لا يكشف عن آليات التأليف.
ويمكن تصنيف أعمال ابن باجه طبقا لثلاث مراحل في حياته. الأولى يغلب عليها الأعمال المنطقية، والثانية ويغلب عليها الأعمال الطبيعية، والثالثة يغلب عليها الأعمال الإلهية، وكأن أجزاء الحكمة الثلاثة، المنطق والطبيعيات والإلهيات تعبر عن مراحل العمر. ومع ذلك لا يوجد ضمان أنها ألفت جميعا في مرحلة الشباب، بالإضافة إلى صعوبة تحديدها. وهل تدل هذه المراحل على تطور طبيعي أم أنها المصادفة التي جعلت مراحل العمر الثلاث تطابق أقسام الحكمة الثلاثة. ويلاحظ التأليف في الوافد أو الموروث في المرحلة الأولى، والإبداع في المرحلة الثالثة، والثانية متوسطة بين النقل والإبداع.
109
ويلاحظ على مجموعة المرحلة الأولى البداية بالرياضة والمنطق، ودخول الموسيقى والفلك ضمن الرياضيات. ويغيب الوافد، ويظهر الوافد الموروث أو الموروث وحده. كما يظهر تكرار التعليق على بعض الكتب مثل المقولات مرتين ولواحق المقولات، والعبارة مرتين وكتاب العبارة، والقياس، وارتياض في كتاب التحليل، والبرهان مرتين، والمدخل والفصول وإيساغوجي. ويغيب منطق الظن مع أنه شاعر ويحضر منطق اليقين، وهو ما أكمله ابن رشد. ويصعب تصنيف «في ماهية الشوق الطبيعي» في الإنسانيات أو النفسانيات أم الطبيعيات في المرحلة الرياضية المنطقية الأولى بالرغم من الحديث عن الأسباب الأربعة في إطار منطق البرهان.
110
ويظل الغالب على ابن باجه المنطق والطبيعيات أي العقل والواقع، الإنسان والعالم. أما الإلهيات فإنها تأتي بطريقة مباشرة في الطبيعيات مثل الوحي والله في ثلاثي بنيوي على النحو الآتي:
والمرحلة الثانية المرحلة الطبيعية وهي أكبر المراحل. تتكرر فيها بعض الموضوعات أيضا خاصة المزاج. ويتم تفصيل السماع الطبيعي في خمسة مؤلفات، والتأليف في الطب والنبات والحيوان كأجزاء من الطبيعيات. وظهور موضوعات طبية فلكية وطبيعية للتأليف المستقل مثل الصورة، والمادة، والأسطقسات، والمزاج، والأدوية المفردة، والحميات، والنيلوفر، وذكر أبقراط وجالينوس من الوافد، وذكر ابن وافد والرازي والحسن بن الإمام من الموروث، واليهود جزء من الأمة. والغريب ظهور بعض مسائل العلم المدني في المرحلة الطبيعة وهي أقرب إلى الإنسانيات والاجتماعيات.
111
المرحلة الثالثة وهي المرحلة الإلهية وهي أصغر المراحل. تتكرر بعض موضوعاتها مثل رسالة الوداع وقول يتلو رسالة الوداع، والنفس النزوعية مرتين وهو نفس عنوان ابن رشد. يغيب لفظ الإلهيات عنها ويغلب عليها الإنسانيات، النفسيات والعقليات مثل إخوان الصفا في الشرق. ومع ذلك تتداخل مع الطبيعيات في النفس والمتحرك. تخلو من أسماء الأعلام والسماء والمؤلفات. أقرب إلى الموضوعات منها إلى الأجوبة على أسئلة. لا تخلو بعض العناوين من جمال مثل «رسالة الوداع» بما يثيره من حنين وشجن وهموم قصر العمر.
112
وإذا تم تصنيف الرسائل الثلاث والعشرين طبقا للأنواع الأربعة، تمثل الوافد، وتمثل الوافد مع تنظير الموروث وقبله وبعده، وتنظير الموروث، والإبداع الخالص فإننا نجد الآتي: (1)
تمثل الوافد (رسالتان) لأن التمثل كان قد تم من قبل منذ الكندي والفارابي وابن سينا. (2)
تمثل الوافد وتنظير الموروث (اثنتا عشرة رسالة)، قمة التأليف، المزدوج. (3)
تنظير الموروث (رسالتان)، فقد كانت تلك مهمة الكلام والتصوف والأصول. (4)
الإبداع الخالص (سبع رسائل) مما يدل على اتساع رقعة الإبداع الخالص دون إحالة إلى وافد أو موروث.
وبالنسبة لمكونات الإبداع، الوافد والموروث والواقع يمكن استنباط بعض الملاحظات العامة: (1)
الوافد أكثر واليوناني أقل في حين أن الموروث أقل والعربي أكثر في مرحلة الإبداع. (2)
في القسم الأول الوافد أكثر (منطق ورياضة وطبيعة) وفي القسم الثاني الموروث أكثر (عقليات وإلهيات). (3)
القسم الأول أقرب إلى النقل، والقسم الثاني أقرب إلى الإبداع. (4)
القسم الأول كما أطول من الثاني. فالنقل إسهاب، والإبداع تركيز . (5)
الرسائل في القسم الأول أطول، وفي الثاني أقصر.
113 (6)
ظهور الموروث في الجزء الثاني أكثر من الجزء الأول مما يدل على ارتباط الإبداع بالموروث.
ومن ثم يمكن توزيع مؤلفات ابن باجه على مكونات الإبداع الثلاثة كالآتي: (1)
التأليف في موضوعات الوافد وعلومه. وهو التحول من اللفظ إلى المعنى، وإعادة بناء المعنى. ويلاحظ عليها تكرار بعض الأعمال والتأليف فيها أكثر من مرة مثل: المزاج، والنفس النزوعية. ولا توجد عناوين بل موضوعات أي الذهاب إلى الشيء، الأمر وفي نفسه مباشرة.
114 (2)
التأليف في الوافد من خلال الموروث (التراكم الفلسفي). وهو التأليف في الوافد بعد أن تم تحوله إلى موروث على أيدي الحكماء المسلمين خاصة الفارابي. ويظهر نفس الشيء بتحليل فهارس المؤلفات.
115
ويظهر الفارابي المنطقي، ويتقدم شرح إيساغوجي أي المدخل أو الفصول، كتاب واحد له ستة شروح بالإضافة إلى قول سابع على كتاب العبارة.
116 (3)
التأليف في الموروث. وهو التنظير له حتى يكون على مستوى تنظير الوافد، في إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد والزرقالة إبراهيم بن يحيى الأندلسي، وجعفر بن يوسف بن حسداي وابن وافد، والرازي، وأبو الحسن الإمام. فقد ارتبط بمعاصريه، لا فرق بين حياتهم وفكرهم أو بين حياته وفكره في سيرة ذاتية تتخلل مؤلفاته. فالارتباط بالموروث قد ارتبط بالوافد منذ المرحلة الأولى.
ويظهر الطب كجزء من الموروث، واليهود جزء من الأمة، ورسالة من الأستاذ إلى التلميذ. كما يظهر الفارابي المؤلف المستقل وليس فقط شارح أرسطو. ويظهر الزرقالي مع النهايات الإيمانية مما يدل على أنه شيخ، وهو عالم الهيئة المحلي. فمن الموروث ظهر خمسة أعلام عبد الرحمن بن سيد، ابن الوافد، الرازي، بن حسداى والحسن بن الإمام في حين من الوافد اثنان أبو قراط وجالينوس. ولم يظهر أرسطو. واليهود جزء من الحضارة.
117 (4)
التأليف الإبداعي الخالص. وهو التأليف المستقل عن الوافد والموروث في آن واحد إلى حد كبير.
118 (ب) الإبداع الفلسفي الخالص
ولابن باجه (531ه) إبداعاته الفلسفية نظرا لقدرته على التركيز وبنية الموضوع اعتمادا على العقل الخالص مثل كلامه «في ماهية الشوق الطبيعي». وهو موضوع أرسطي دون أرسطو. وكلامه «في النيلوفر». وهو موضوع طبيعي علمي في أسلوب صوفي يظهر فيه اللفظ المعرب الأسطقسات. وفي كلامه «بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول» يتناول موضوع الرؤية والكهانة كمدخل شعبي للنبوة. وقد تطرق لنفس الموضوع في النفس النزوعية والوقوف على العقل الفعال وماهية الشوق الطبيعي. وينتهي بخاتمة إيمانية وإشارة إلى الصالحين الذين هداهم الله وآمنوا به وبملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه فإنه يفيض عليهم بتوسط الملائكة في الرؤيا والمعجزات. وواضح التقابل المزدوج بين قدرة عالية على التنظير في الموضوع وخاتمة إيمانية صوفية دون تعارض العقل والذوق. ويكرر ابن باجه نفس الموضوع في «نظر آخر يقوى تصور ما تقدم» فهو يتعامل مع موضوعات ليس مع روافد حضارية، معتمدا على طبيعة العقل وليس على مكوناته: وفي «فيض العلم الإلهي» بالرغم من أنه الموضوع صوفي إلا أن ابن باجه يبنيه عقليا في خطاب قصير ومركز عن فيض الله من علمه على موجوداته ومخلوقاته من العلم أو العمل. وفي نظر آخر «في الواجب الوجود والممكن الوجود» يعتمد ابن باجه على العقل الخالص لإثبات أن العقول الإلهية مع الدهر لا مع الزمان في حين أن الأجرام السماوية مع الزمان لا في زمان لأنها محدثة للزمان. أما الكون والفساد فحسب الزمان. وهي ثنائية الحكماء بين واجب الوجود وممكن الوجود، ثنائية الخلود والزمان.
119
وتظهر آليات الإبداع في أفعال البيان ووصف المسار الفكري وأنماط الاعتقاد من شك وظن ويقين. ويطلب الناسخ للمؤلف رضي الله وهو يقوم بتقطيع النص الإبداعي الخالص، مع تحديد المكان، إشبيلية، والتاريخ الهجري، وقد تطول المقدمة الدينية فتغرق في الإيمانيات وتبدأ بالحمدلة والصلاة على الرسول وصحبه. ويقارن الناسخ بين الصورة والأصل، ويتعرف على الخط المنقول منه طبقا لطرق الرواية المدونة، الإجازة والمناولة، والقراءة على الشيخ وقراءة الشيخ كما هو معروف في علم أصول الفقه. ويحدد الزمان والمكان واسم الناسخ. فالإبداع النظري مشروط بالموقف التاريخي.
120 (9) نصير الدين الطوسي
ويستمر الإبداع الفلسفي الخالص في القرن السابع عند نصير الدين الطوسي (672ه) في «رسالة بقاء النفس بعد فناء الجسد» شرح الشيخ أبي عبد الله الزنجاني.
121
والنص خال من الوافد والموروث. يعتمد على العقل الخالص وقسمة الموجودات إلى حسية وعقلية بحجج عقلية وبراهين صورية لإثبات الثنائيات الشهيرة في الذهن البشري، الكم والكيف، العرض والجوهر، المكان والزمان، المرئي واللامرئي.
122
وهو التصور الذي يسهل إثبات فناء البدن وخلود النفس عليه؛ لأن البدن يقع في طرف والنفس تقع في الطرف المضاد. المتن قصير والشرح طويل. وكلاهما يخلو حتى من الموروث في اللاوعي المعرفي، القرآن والحديث وأسماء الأعلام والفرق. وتبدو زيادة التفخيم والتعظيم في الألقاب مثل الفيلسوف الكبير والفلكي الشهير الطوسي، علامة العالم، نصير الملة والدين، رسم المولى العالم الفاضل، مؤيد الدولة والدين قدوة المهندسين والعلامة الكبير والمصلح النحرير الأستاذ الشيخ الزنجاني مما يدل على بداية التقليد واحترام القدماء في نفس الوقت الذي يبلغ فيه العقل استقلاله. وينتهى النص كالعادة بسؤال الله العصمة والتوفيق لصوالح الأعمال. فالله ملهم العقل وولى الخير. منه المبدأ وإليه المعاد. وهو أعلم بحقيقة الحال.
123 (10) صدر الدين الشيرازي
وفي رسالة «الخلسة» لصدر الدين الشيرازي (1050ه) يعتمد الإبداع الخالص على الذوق الصوفي. تبدأ برؤية في المنام على لسان جده بعد صلاة بعض النوافل سائرا في طريق وعر حتى رأي طلعة بهية. فاستيقظ وأدرك أنه طريق الملكوت الأعلى، الطريق الذي يسلكه الروح المنطقي مثل «رسالة الطير» لابن سينا.
124
رابعا: الإبداع الرياضي
واضح أن الإبداع الرياضي، الحساب، والهندسة، والفلك، والموسيقى وباقي العلوم بين الرياضة والطبيعة مثل علم المناظر هو أكثر الإبداعات ربما لقدرة العقل الخالص الموجه بالتوحيد على إدراك التنزيه ودفع العقل إلى إدراك اللامتناهي واللانهائي واللامحدود. فلا فرق بين صورية الرياضة والتنزيه في التوحيد، بين الرياضيات البحتة ورفض التجسيم والتشبيه في العقائد. فإذا كان نسق العقل هو نسق الوحي فمن الطبيعي أن يتحد النسقان في نسق واحد. وهو نفس الدافع وراء الإبداع الرياضي والمنطقي الهندي.
1
وكما يصعب التمييز بين الطبيعيات في علوم الحكمة وبين تاريخ العلوم الطبيعية، يصعب أيضا التمييز بين الرياضيات كجزء من المنطق وبين تاريخ العلوم الرياضية. (1) الحساب والجبر
وبالرغم من أن دور المترجمين كان نقل الوافد أولا وأحيانا تمثله ثانيا إلا أنهم أيضا ساهموا في الإبداع الخالص. (أ) يحيى بن عدي
ففي مقاله في «استخراج العدد المضمر من غير أن يسأل المضمر عن شيء» ليحيى بن عدي (364ه) يغيب الوافد والموروث، ويتم الاعتماد على العقل الخالص. فيقسم العدد المضمر إلى عشرة أنواع لإثبات المطلوب منها جميعا «وذلك ما أردنا معرفته». والبداية بالبسملة، والوسط بمشيئة الله وفي النهاية عون الله.
2
وفي «البحوث الثلاثة عن غير المتناهي» له أيضا يغيب الوافد والموروث على الإطلاق. غرضها إثبات أن من لوازم غير المتناهي أنه لا فرق بين التابع والمتبوع في وجوب النفي أو عدم وجوبه، وأن يكون متناهيا من الأول والآخر، وأنه لا يلزم أن يكون هناك قبل وبعد له. ويتم شرح كل لازمة على حدة لبيان معناها عاريا عن اللبس ابتداء من شرح الألفاظ اعتمادا على الوضوح وأوائل العقول، والانتهاء إلى «وذلك ما أردنا أن نبين». ويحيى هو الذي يقول بضمير المتكلم المفرد دارسا الموضوع دون الاعتماد على أقوال الآخرين. ونقل العبارات الدينية باستثناء البسملة في البداية والاستعانة بالله والدعوة إلى التوفيق للصواب والهداية إلى كل حقيقة في الوسط ثم الحمدلة في النهاية، والشكر لله حسب ما يستحق بإنعامه على جميع الخلق.
3 (ب) القبيصي
ويبدو أن الإبداع في علم الحساب هو أكثر الإبداعات الرياضية استقلالا عن الوافد اليوناني أو الهندي. ففي رسالة «في جميع أنواع الأعداد» للقبيصي (325-380ه) الفلكي المشهور لا يظهر الوافد أو الموروث. بل يشار فحسب إلى جميع القدماء أي الموروث التاريخي العلمي مع ضرورة تجاوز الحساب الهندي إلى الحساب العربي. فالإبداع ليس فقط لدى العلماء كأفراد بل لدى الشعوب كحضارات. ولا يحال إلى الهند إلا لجبل سرنديب كنقطة إحالة لمعرفة قطر الأرض.
4
والحساب هنا ليس علما مستقلا بذاته بل هو أساس العلوم الرياضية كلها، الهندسة والفلك والموسيقى. لذلك يعتبره القبيصي مقدمة لعلم الفلك ومؤسسا له. والحساب نظام طبيعي لأنه نظام عقلي ونظرا للتماهي بين نظام العقل ونظام الطبيعة بل أيضا نظام الوحي.
5
كما أن علم الحساب يجمع بين النظر والعمل. فالعنوان الكامل هو «أنواع الأعداد وطرائف من الأعمال». ويتحقق الحساب العملي في بيوت الشطرنج. الرسالة تجميع من القدماء وإضافة من المحدثين، تعبر عن سمة التأليف في هذا العصر، تمثل القدماء وتجاوز المحدثين. هي إبداع خالص لأنها تجاوزت الرافدين، وبنت الحساب اعتمادا على العقل الخالص. ويبدأ بالبسملة وينتهي بالحمدلة كالعادة والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين، وما بينهما دعاء للسلطان، مولانا سيف الدولة.
6 (ج) الكرجي
وفي «الكافي في الحساب» لأبي بكر محمد بن الحسن الكرجي (410، 419، 429ه).
7
تظهر نفس سمات الإبداع الرياضي، القدرة على التجريد، والاعتماد على العقل الخالص، والموضوعية المتناهية في صياغة العناوين الفرعية ورسم الأشكال الهندسية والتخلص من الإشراقيات والفلسفات. لا يعتمد على الوافد أو الموروث. ومن ثم تغيب أسماء الأعلام والفرق غربا وشرقا. ولا يعتمد على أصل الموروث، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقد استقل العقل، وأصبح قادرا على التعامل مع الموضوعات اعتمادا على سلطته وحده. ومع ذلك تختفي الدلالة الدينية أو الفلسفية المباشرة. كما يختفي القصد والهدف والحركة والغائية لصالح البنية المجردة في مرحلة اكتمال العلم أي نهايته.
8
ومع ذلك يتضح مسار الفكر من إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق. كما تتم مخاطبة القارئ من أجل اشتراكه في التأمل والتفكير والدعوة له بحسن الفهم.
9
وبين البسملات الأولى والحمدلات الثانية ومدائح الله يتم الانتقال إلى مدائح السلطان المؤيد المنصور فخر الملك الكامل ذي الجلالتين وزير الوزراء.
10 (د) الفارسي
وفي «تذكرة الأحباب في بيان التحاب» لكمال الدين الفارسي (665-718ه).
11
لا يذكر من الوافد إلا إقليدس مرة واحدة بداية بالمشهور ثم البرهان على البرهان والاستنتاج منه بمزيد من العمل العقلي حتى يصبح الموضوع مستقلا عن روافده. يستوفي الفارسي المقدمات ويؤسس المبادئ، ويبني الموضوع بصرف النظر عن الروافد بالرغم من أهمية معرفة القدماء لمعرفة تطور العلم قبل أن تنكشف بنيته، وتتحدد موضوعاته.
12
وبالرغم من صدارة أفعال القول، «قالوا ... أقول»، فذلك استرجاع التراث الرياضي السابق من أجل مراجعته وتصحيحه وصبه في بنية الموضوع. يعرض الأشكال أولا ثم بعد ذلك يوضع البرهان القائم على الاتساق واستحالة الخلف والتناقض.
13
وبالإضافة إلى البسملة في البداية والحمدلة في النهاية والصلاة على عبده ونبيه محمد الداعي بفصل الخطاب الهادي إلى الرشاد والصواب إلى يوم الحساب، والاستعانة بالله والتوكل عليه وكالعادة يتم الانتقال من مدح الله إلى مدح السلطان.
14 (ه) المراكشي
وفي «تلخيص أعمال الحساب» لابن البناء المراكشي (654-721ه) يغيب الوافد والموروث وتحضر قسمة عقلية خالصة للحساب تقوم على العقل الخالص، تقوم على قسمة العدد إلى معلوم ومجهول، والمعلوم إلى عدد صحيح وكسور وجذور، والمجهول إلى نسبة وكفات دون وضعهما في قسمة مستقلة ثم جبر ومقابلة.
15 (و) المقدسي
وفي «ملجأ الاضطراب في الفرائض» لابن هائم المقدسي (753-815ه) يغيب الوافد بطبيعة الحال لأن الموضوع محلي خالص وهو كيفية قسمة الميراث إلى النصف والثلث والسدس والثمن في حالة الوفاة وكل احتمالات وجود الأب والأم والابن والابنة والأخ والأخت وهو موضوع غير يوناني، اعتمادا على آية الميراث.
16
ولا يشار إلا إلى أستاذ المؤلف أبو الحسن الجلاوي اعترافا بفضله.
17
ولما كانت بعض الحالات مجهولة ارتبط الحساب بالجبر، والميراث اصطلاحا هي قواعد الفقه والحساب التي يعرف بها المستحقون للتركة بنصيب كل مستحق. فالميراث علم رياضي، والفقه حساب. تجاوز التنظير الموروث إلى الإبداع الخالص. ولما كان لكل علم مصطلحاته فإنه يتم شرح مصطلحات علم الحساب مثل الناسخات، والنسب بين الأعداد مثل التماثل والتداخل والتوافق والتباين. وتوضع جداول مسبقة لكل الاحتمالات اعتمادا على الجبر والمقابلة بعد توحيد المقام بين 2 / 1 + 3 / 1 + 6 / 1 + 8 / 1. وبطبيعة الحال يبدأ المقال بالبسملة والصلاة على محمد وآله وصحبه وبالحمدلة والاستعانة بواهب العقل واستمداد الهداية منه.
وفي «الحاوي في الحساب» له أيضا مجرد تلخيص لابن البناء دون دلالة أو قصد وكأن الاعتماد على العقل الخالص دون الرافدين، الوافد والموروث، ينتهي أيضا إلى صورية فارغة تجد مادتها في العواطف الدينية التي تبدو في البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على خير الأنبياء وآله وصحبه والسادة الفضلة مع تواضع جم واعتذار عن النقص. فالكمال لله وحده.
18 (ز) القلصاوي
وفي «كشف الأسرار عن علم حروف الغبار» للقلصاوي (815، 803-819ه) يستمر الدافع على الإبداع الخالص في الحساب هو إيجاد نسق عقلي للمواريث يضبط الاحتمالات الفقهية كلها ما دام نسق العقل متماهيا مع نسق الوحي مع نسق الطبيعة أي نسق القرابة والفطرة.
19
فالإبداع العقلي الخالص تتويج للوحي العقلي. ويغيب الوافد بطبيعة الحال نظرا لأن الموضوع شرعي ولكن يغيب أيضا الموروث نظرا لأنه فقهي، وعلم الحساب علم عقلي خالص يستند إليه فقه المواريث ولا يستند هو على فقه المواريث. الحساب هو الأصل والمواريث الفرع. ويظل السؤال قائما عن معنى «الغبار» وعلى أي شيء يدل رمز الغبار؟ هل يدل على الطبيعة والحالات الفقهية المتناثرة كالغبار والتي في حاجة إلى قانون حسابي؟ لذلك من شرط فقيه المواريث أن يكون عالما بالحساب، بل إن يكون هو العالم بالمنطق، آله العلوم، والرحلات والسياحة في العالم المعرفة التوازن كما هو واضح من مؤلفات القلصاوي. وهو ملخص وجيز في الحساب والجبر للمبتدئين، مملوء بالأمثلة الرياضية للتوضيح دون الأمثلة الدينية. الغاية منه تطبيق أعمال الكسور على مسائل الفرائض وقسمة المواريث مثل وفاة امرأة عن زوج وشقيقين فيكون للزوج النصف ولكل من الشقيقين الثلث فتتجاوز القسمة الواحد الصحيح. هنا يعاد قسمة الميراث بما يتفق مع النقل، ويتم التقسيم سباعيا فيكون للزوج ثلاثة ولكل من الشقيقين سبعان.
20
فالنصف في المواريث لا يكون حسابيا إلا إذا كانت القسمة زوجية أما إذا كانت فردية فيكون النصف تقريبيا مثل الثلاثة أسباع، وقد تطلب ذلك بناء علم الحساب ووضع قسمة رباعية له: العدد الصحيح الذي يقبل الجمع والطرح والضرب والقسمة، والكسور، والجذور، واستخراج المجهول. والغاية من العلم النجاة في الآخرة. وبعد البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على محمد سيد الثقلين، وسؤال الله الإعانة والإرشاد والتوفيق والسداد في الدنيا والمعاد يأخذ الله صفات الحساب مثل سريع الحساب ثم مكان النسخ، القاهرة المحروسة، زاوية ابن أبي الوفاء وتاريخه الهجري. (ح) العاملي
وفي «الخلاصة في علم الحساب والجبر والمقابلة» لبهاء الدين العاملي (953-1031ه) كان الباعث على الإبداع الخالص هو أيضا تحديد جهة القبلة. لذلك شمل الحساب كثيرا من العلوم الرياضية الأخرى مثل الهندسة والجبر والمقابلة والمساحة.
21
وكان علماء الرياضة هم علماء الدين. والذين أبدعوا في العلوم العقلية أبدعوا أيضا في العلوم النقلية. وربما أبدع الشيعة أكثر من السنة في العصور المتأخرة نظرا لرغبة المضطهدين في السيطرة على العالم، وتحول الفلسفة من المغرب بعد ابن رشد إلى المشرق حتى صدر الدين الشيرازي وأئمة الشيعة المجتهدين حتى اليوم بعد أن انحسرت العلوم الرياضية والطبيعية عن علماء الأزهر والزيتونة والقرويين. وربما كانت وحدة الوجود التي عمت التصوف المتأخر أحد أسباب ازدهار العلوم الرياضية. فلا فرق بين الروح والكون، بين العقل والوجود، ويتفاوت الإبداع الخالص في الرياضيات بين بنية العلم النظري طبقا لطبيعة الذهن والموضوع وبين تجميع مادته في فصول وأبواب. وهو أقل إحكاما من بنية العقل.
22
وكان بالإمكان التحول من التجميع والحفظ إلى بنية العقل حتى ولو كان صوريا فارغا إلا أن الرغبة في التدوين بالذاكرة كانت أقوى في العصور المتأخرة، عصر الشروح والملخصات. وما أسهل تحويل القواعد إلى نسق كلي شامل للعلم، مثل ملحق الرسالة عن قاعدة في بيان قسمة الغرماء. يتحول الوافد والموروث إلى مجرد تاريخ، المتقدمون والمتأخرون فلا بنية بلا تاريخ، ولا إبداع بلا نقل.
23
ويحال إلى باقي الأعمال مثل «بحر الحساب» لمزيد من البراهين.
وتشمل الأعمال الرياضية قسما ثانيا «مسائل الحساب والجبر والمساحة الواردة في كتاب الكشكول» له أيضا. وما زال فيها بقايا الحساب العددي القديم والربط بين صفات آدم وحواء وخواص الأعداد كما خلقت حواء من الضلع الأيسر لآدم، العدد 9 بمنزلة آدم، والعدد 5 بمنزلة حواء، والحرفان طه إشارة إلى آدم وحواء معا. فالإبداع الرياضي لم يخل من بقايا حساب الجمل والحروف.
24
ومع البسملة والحمدلة في البداية والنهاية تستعمل الصفات الرياضية الله مما يدل على أن لغة مخاطبة الله هي لغة إنسانية مستقاة من العلوم الإنسانية وأن العلوم الإلهية علوم إنسانية مقلوبة. فالنعم الإلهية لا تحيط بها الأعداد أو تضاعيف القسمة، ومن الأئمة أربعة متناسية ، والدعوة إلى النطق بالصواب يوم الحساب.
25 (ط) الطوسي
وإذا كان الجبر هو حلقة الصلة بين الحساب والهندسة فإن مؤلفات شرف الدين الطوسي (النصف الثاني من القرن الثاني من القرن السادس) تمثل نموذجا للإبداع الخالص في الجبر في رسالتين عن «المعادلات» ورسالة «في الخطين اللذين يقربان ولا يلتقيان» ورسالة «في عمل مسألة هندسية».
26
يغيب فيها الوافد والموروث من حيث الشكل الأدبي، بصرف النظر عن الإبداع في المضمون. ورسالتا المعادلات، تلخيص قام به شخص آخر لاستبعاد التطويل وإسقاط الجداول الحسابية لبعدها عن الطبع واستدعاء طول الزمان الموجب للملل جمع بين العمل والبرهان. فالملخص كان يشعر بصورية الرياضيات وتعقيدها وطولها. ومن هنا أتت ضرورة تلخيصها.
27
وتظهر أفعال القول في ضمير المتكلم المفرد «أقول».
28
فالطوسي هو الذي يدرس ولا يروي أقوال السابقين. كما أنه يقوم بالبرهان الذي تدل عليه أفعال البيان وتكرار عبارة «وذلك ما أردنا بيانه». والفكر البرهاني يقوم على الاتساق، واستحالة التناقض. لذلك يكثر برهان الخلف.
وتقوم المسائل الرياضية بعضها فوق بعض. فالرياضة نسق برهاني وتترتب المقدمات من أجل الانتهاء إلى نتائج والانتهاء إلى المطلوب الأعظم أو الأصغر. ويحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق. وتتم مخاطبة القارئ بالرغم من الموضوع النظري والأسلوب التجريدي.
29
وتبدأ بالبسملة وتنتهي بالحمدلة والاستعانة بالله وحسن توفيقه وهو نعم المعين.
30
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو العزيز الوهاب. وكما تبين المقدمة نوع الخطاب الرياضي، طوله وتجريده، تعيد الخاتمة نفس المعنى. قد تقع بعض الأخطاء في الحسابات والبراهين لكثرة المقدمات واختلاط الهندسة بالحساب. والدربة والارتياض قادران على الأمان من الخطأ. وتطويل المقدمات ضرورة في البراهين الرياضية ولا مندوحة من ذلك. ثم يتم الانتقال من مدح الله إلى مدح السلطان حتى في الخطاب الرياضي لأنه نمط ثقافي عام.
31 (2) الهندسة
ولما كانت الهندسة تطبيقا للحساب على المساحة المتصلة حدث إبداع هندسي أيضا سواء في الهندسة النظرية أم الهندسة التطبيقية. (أ) الكندي
ولما كان إبداع الكندي مبكرا فقد تمثل إبداعه في الهندسة في رسالته «في عمل الساعات» تطبيقا للحساب على المسطحات كما هو الحال في الهندسة مصاحبة ببعض الأشكال الهندسية والرسومات التوضيحية.
32
وهي إجابة على سؤال «رسم كيفية صنعة آلة تدرك بها الساعات سطحها مواز لسطح الأفق بالخطوط خبر من غير برهان». فالسؤال طلب للبرهان وألا يكون العلم مجرد خبر. ومن شروط البرهان السهولة حتى يدركه الجميع وليس فقط المرتاضون المدربون على الصناعة وعلى الرياضيات. وهي أقرب إلى الساعة الشمسية التي تتطلب علوم الفلك والحساب والهندسة. وتعتمد على العقل الخالص دون إحالة إلى وافد أو اعتماد على موروث. وقد يبدو الموروث في اللاوعي المعرفي في وظيفة الأهلة في معرفة المواقيت.
33
ثم يتحول النظر إلى عمل والهندسة إلى ميكانيكا في «كيفية نصب الآلة». ولا ضير أن تبدأ الرسالة بالإيمانيات وتنتهي.
34 (ب) البوزجاني
ففي «ما يحتاج إليه الصانع من علم الهندسة» للبوزجاني (328-388ه) ترتبط الهندسة النظرية بالهندسة العملية، والعلم النظري بتطبيقاته العملية دون اللجوء إلى الإنشائيات والمواعظ الدينية.
35
إذ يغيب الموروث على الإطلاق كما يغيب الوافد. فالعلم ينشأ في الذهن ويطبق في الواقع نظرا لاتحاد نظام العقل ونظام الطبيعة. ومع أن الأسلوب هو قيل وقال وكثرة أفعال القول إلا أن الأقوال غير منسوبة إلى أصحابها. فما يهم هو المتن لا السند، العلم لا العالم. ونظرا للتركيز الشديد والعرض المجرد تعطى العديد من الأمثلة التوضيحية. ونظرا لارتباط النظر بالعمل تبدأ الرسالة بشرح الآلات الهندسية وكيفية عملها قبل الدخول في النظريات الهندسية.
36 (ج) العلاء بن سهل
وفي «خواص القطوع الثلاثة» للعلاء بن سهل (القرن الرابع) يغيب الوافد والموروث اعتمادا على العقل الخالص.
37
وتدل أفعال القول على استعمال «أقول» أي أن ابن سهل هو الذي يدرس ويحلل ويبرهن. كما يكثر استعمال لفظ البرهان في صيغة «برهانه» أو «برهان ذلك».
38
والخطاب تجريدي خالص تتخلله الرسومات التوضيحية. (د) تقي الدين
ومن مظاهر الهندسة التطبيقية الهندسة الميكانيكية والآلات الحربية مثل المناجنيق، والفروسية خاصة رمي الرمح. ففي كتاب «الطرق السنية في الآلات الروحانية» لتقي الدين (927، 932، 993ه) تسمى الهندسة الميكانيكية الآلات الروحانية أي إن عمل الآلة لا ينفصل عن عمل الروح.
39
فالروح ترتاح فقط إلى غرائب بل قدرة العقل البشري على أن يخترع آلة تسير بذاتها وكأن روحا أي طاقة ذاتية فيها مثل عمل الروح في البدن فالرؤية اللوحي وللطبيعة رؤية عقلية واحدة. الهندسة الميكانيكية إذن هو علم الهندسة بالإضافة إلى الحيل أي تطبيق الهندسة في آلات متحركة تولد طاقة يمكن استخدامها في الحياة العملية. وتقي الدين مهندس ميكانيكي، ورياضي، وفلكي، وفيزيائي، وشاعر. وهو الذي بني مرصد استانبول. وتقوم الهندسة الميكانيكية على فكرة فلسفية معروفة في الكلام والفلسفة وهي ضرورة عدم الخلاء لأن الله في كل مكان. لذلك لا يخلو العلم من ألفاظ الكلام مثل «كأس العدل والجور». ولا يوجد وافد ولا موروث. والنص عقلي عملي مجرد خالص. بل ولا يظهر الباعث الديني كما هو الحال في سمت القبلة أو تحديد أوقات الصلاة. إنما الهدف تطبيق العلم النظري في الحياة العملية. ويعترف تقي الدين أنه اعتمد على كتب سابقة متعددة، وسمع مشايخ وعلماء شفاها، ثم اجتهد واستنبط وقدح ذهنه.
40
ويتضمن أربعة أبواب: البنكامات أي الساعات، وآلات جر الأثقال، وحيل إخراج الماء إلى جهة العلو (الأشكال والأوضاع)، وعمل الزمر الدائم والتقاءات وغير ذلك من القرارات المختلفة أي علم الموسيقى وآلات النفخ. ولا حرج في الكلام عن «سرير العاشق» وكيف أنه أيضا مجال لتطبيق الهندسة الميكانيكية لتحقيق اهتزازات معينة للسرير أثناء الجماع، وتشمل الهندسة اثنا عشر علما تطبيقيا: عقود الأبنية، المناظر، المرايا المحرقة، مراكز الانتقال، المساحة، أنباط المياه، جر الأثقال، الآلات الحربية (الرمي) الملاحة (البامة)، البكامات، الأوزان والموازين، الآلات الروحانية. وبعد البسملة والحمدلة يتحول الثناء على الله إلى الثناء على السلطان. وتلحق أشعار بالزهد في الدنيا والبعد عن الناس.
41 (ه) الزردكاشي
وفي «الأنيق في المناجنيق» لابن أرنبغا الزردكاشي (867ه) يتضح من اللفظ «جه نيك» الأصل الفارسي.
42
ومع ذلك فالنص إبداع خالص لا يشير إلى وافد أو موروث. يدل على ارتباط الهندسة بالحساب. فيه أدوات قياس المسافة بالإضافة إلى هيكل المنجنيق (الميكانيكا). وهو نوعان «إفرنجي» أي وافد و«سلطاني» أي موروث. ويتضمن قسمين : الأول المنجانيق والرماية عليها، والثاني عبارات النفط وسقايات السيوف. والعرض موضوعي علمي مجرد، تضاف إليه الصور والأشكال الضرب الأمثال. وبعد البسملة والحمدلة تظهر صفات الله مشتقة من العلم، فالله مدبر الوجود، ومؤيد الجنود، الواحد القهار، العزيز الجبار، ذو الرأس الشديد، الفعال لما يريد. وصفات الرسول أيضا مشتقة من صفات الحرب، محمد الذي بعثه الله وجيش الكفر منشور بالعصايب، وعشقه محلولك الغياهب، فشمر عن ساق الاجتهاد، وجاهد في الله حق جهاد حتى أشرق بدر الإسلام، وانجلت غياهب الظلام، وسطعت أنوار الإيمان. والمشيئة الله والله أعلم.
43
ثم يتم التحول من مدح الله إلى مدح السلطان.
44 (و ) الأحدب
وفي «الفروسية والمناصب الحربية» لنجم الدين حسن الرماح المعروف بالأحدب (636-695ه) ينتقل علم الهندسة إلى العلوم الحربية التقليدية مثل رمي الرمح الذي يقتدى تقدير المسافات والارتفاع والزوايا وقوة الدفع. يغيب الوافد والموروث. وتظهر الدوافع العملية وراء الإبداع النظري في عصر الجهاد، الدفاع عن الدولة العثمانية وفتوحاتها. ولقد بلغ حد الإبداع أن سمي صاحبه «الرماح». ويستفاد منه في تكوين المفرقعات التي تخضع لنفس القوانين الهندسية. وتضاف الرسوم التوضيحية للإقلال من طابع الخطاب النظري التجريدي الخالص مع بعض النصائح التي يعرفها الأعداء أيضا مع إضافة بعض الأشعار في النهاية عودا إلى تراث العرب القديم. وتزدهر الإيمانيات وتكثر العبارات الدينية في النهاية تعويضا عن هذا التجريد الأول. فتذكر آيات قرآنية ثلاث بعد البسملة والحمدلة تشير إلى الجهاد في سبيل الله والشهادة والعلم.
45
ويتم تأصيل هذه الصناعة حتى الرسول والصحابة والتابعين، صناعة الجهاد والفتح، وصناعة الفروسية تتطلب قبلها أخلاق الفروسية. فالصنعة ليست فقط مهارة بل سلوك. وتكثر العبارات الإيمانية التي تكشف عن تزاوج الأشعرية والتصوف في هذا العصر المتأخر مثل الصبر، والاستعانة بالله، والاعتماد على مشيئته وإذنه، والإيمان بقدرته. والله هو المعين لا حول ولا قوة إلا به، ولا توفيق إلا منه، وهو أعلم بكل شيء.
46 (ز) نصير الدين الطوسي (672ه)
وهناك نوع أدبي جديد وضعه الطوسي وهو «التحرير» أي إعادة الكتابة للنص شاملا تمثل الوافد وتنظير الموروث معا . فهو تمثل للوافد لأنه إصلاح للعبارة المترجمة والانتقال بالترجمة من مستوى النقل إلى مستوى العقل، وهو في نفس الوقت تنظير للموروث لأن الباعث عليه سؤال من الداخل لمزيد من الإيضاح واعتمادا على الشروح الموروثة السابقة وتجاوزهما معا إلى الإبداع الخالص. وهو في نفس الوقت إبداع خالص لأنه لا يحيل في النص إلى وافد أو موروث بالرغم من أن العنوان يضم أسماء الوافد مثل أرشميدس أرسطخرس، أوطولوقوس، أيسقلاوس، مانالاوس أو الموروث مثل بني موسى، ثابت بن قرة الحراني، الصابئي.
47
مثال ذلك كتاب «مأخوذات لأرشميدس» ترجمة ثابت بن قرة وتفسير الأستاذ المختص أبي الحسن علي بن أحمد النسوي . وهي مقالة منسوبة لأرشميدس. يحال فيها إلى الموروث الشارح مثل «تزكية كتاب أرشميدس في المأخوذات» لأبي سهيل القوهي، ولكن الطوسي يتجاوز الوافد والموروث إلى بنية العقل الخالص. ويضع تقابلا بين «قال الأستاذ» و«أقول» ثم يلجأ إلى البرهان «برهانه».
وفي «كتاب الكرة والأسطوانة لأرشميدس» يعني تحرير الطوسي إعادة كتابة النص المترجم بطريقة التأليف وعلى مستوى عال من التجريد مع الاتجاه نحو الموضوع العلمي مباشرة بلا إضافات والعودة إلى النص الأصلي. التحرير إصلاح للترجمة وإضافة ما نقص منها، وإصلاح النسخ على عكس ترجمة إسحاق بن حنين الجيد، ويعتمد التحرير على الشراح السابقين يونان مثل أوطوقيوس أو مسلمين مثل العسقلاني. ثم ينتقل التحرير من الشكل إلى المضمون، ومن النص الموضوع بإعادة ترتيب أصوله حتى يكون الموضوع أكثر اتساقا مع المنطق ثم التحقق منه وإكمال ما نقص فيه من براهين. التحرير إذن إعادة ترتيب الأصول، وتلخيص المعاني، وبيان المصادرات، وشرح ما أشكل على الشراح، والتمييز بين النص والشرح، وإثبات الموضوع طبقا لرواياته المختلفة وإلحاق نصوص أخرى مثل مقالة لأرشميدس لأنها مفيدة في بيان بعض المصادرات.
48
وفي كتاب «في جرمي النيرين وبعدهما لأرسطوخس» يكتفي الطوسي بشرح اشتقاق اسم العلم أرسطوخس وأصله أرسطو ومعناه الصالح وأرخس ومعناه الرأس. وبعد التركيب أسقطت الألف والواو تخفيفا. فالإبداع هنا إيضاح حتى يصبح النص مفهوما حتى في اشتقاق أسماء الأعلام.
49
وقد يقتصر التحرير على مجرد إصلاح الترجمة القديمة مما يجعل التحرير أحيانا يبدو وكأنه مرحلة بعد الترجمة مباشرة وقبل التعليق لولا أنه عرض نظري خالص لا يعتمد إلا على طبيعة العقل وحده مما يجعله أيضا أقرب إلى الإبداع الخالص. مثال ذلك «كتاب الطلوع والغروب لاوطولوقس» الذي يهدف التحرير فيه فقط إلى إصلاح ترجمة ثابت.
50
وكذلك «كتاب في المطالع لايسقلاوس» يعني التحرير فيه مراجعة ما أصلح الكندي من نقل قسطا بن لوقا البعلبكي. فالنقل إذن ما هو إلا أولى المراحل نحو الإبداع الخالص. والتحرير مراجعة النقل والإصلاح والشرح حتى يتجاوز العبارة إلى الشيء، والنص إلى الموضوع.
51
وفي «كتاب مانالاوس» وهو أطول كتب التحرير عند الطوسي يعني التحرير نوعا أدبيا محددا وهو إعادة عرض الكتب المتوسطة في الترتيب التعليمي مثل كتاب «الأصول» الإقليدس وكتاب «المجسطي» لبطليموس. يعني التحرير هنا إيجاد نسق ترابط بين العلوم من أجل وحدة العلم مثل كتاب مانوس الذي يربط بين هندسة إقليدس وفلك بطليموس، بالإضافة إلى إصلاح الشكل أي إتقان العبارة ومقارنة النسخ المختلفة والاستقرار على نص موحد كما هو الحال في تحقيق النصوص عند المحدثين مع التخلص من الإصلاحات الخاطئة التي قام بها السابقون مثل الماهاني والهروي وإيثار إصلاح آخر مثل إصلاح الأمير أبي منصور. التحرير إذن هو عود إلى النص الأصلي من أجل رؤية الموضوع. والنص الملتبس يجعل الموضوع غامضا. وهنا يقوم الطوسي في القرن السابع بالنسبة للنص العلمي ما قام به ابن رشد من قبل في القرن السادس بالنسبة إلى النص الفلسفي.
52
والإحالات في النص إلى أصحاب النسخ أي إلى النص ذاته، إلى الكتابة وليس إلى القراءة.
53
وتتردد ألفاظ القول والعلم والبيان مما يدل على أن التحرير نظرية في الإيضاح.
54
ومن الموروث «كتاب معرفة مساحة الأشكال لبني موسى». يتجه الطوسي إلى الموضوع مباشرة ويبنيه عقلا على أعلى مستوى من التجريد مستعملا الأشكال والرموز تخليا عن اللغة.
55
وكذلك «كتاب المفروضات لثابت بن قرة الحراني الصابئي»، لا فرق بين صابئي ومسلم ونصراني ويهودي ومجوسي في العلم الذي أصبح قاسما مشتركا لجميع الديانات.
56
وقد يتجاوز إبداع الطوسي التحرير إلى التأليف مثل «الرسالة الشافية عن الشك في الخطوط المتوازية» مع إشارات محدودة للوافد مثل سنبليقوس ثم إقليدس أو الموروث مثل ابن الهيثم. وتدل أفعال القول على أن الطوسي هو الذي يقول ويدرس الموضوع ويبدد وهم الشراح ومخاطبا القارئ «اعلم».
57
وتكشف مرحلة الإبداع الخالص عن الإيمانيات والأوضاع السياسية للحكماء؛ إذ تبدأ بالبسملة كالعادة وتنتهي بعون الله وحسن توفيقه والحمدلة أولا وآخرا والصلاة على الرسول ظاهرا وباطنا وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار مع الترحم على المؤلف، والدعوة بالتوفيق لاكتساب رضاء الله، وهو خير موفق ومعين، وبعض الأوصاف من وحي العلم مثل مفتح الأبواب، مسهل الصعاب، واهب العقل، ملهم الصواب. ولا ضير من إضفاء بعض الألقاب على المؤلف مثل الإمام، الحبر الهمام، وحيد الدهر، فريد العصر، قطب الحق والملة والدين الشيرازي، والدعوة له ثم توقيع الناسخ وتاريخ النسخ والإعلان عن نهاية الكتاب بعون الله الوهاب، وإعلان مذهب الناسخ الحنفي وموطنه الشام، ووضعه الاجتماعي، مولى السلطان مع بعض المدائح له مثل سلطان الحكماء والعلماء المحققين، نصير الملة والدين، برهان الإسلام والمسلمين، أفضل المتقدمين والمتأخرين. كما تظهر أوضاع حيدر أباد الدكن ودفاعها عن استقلالها لا زالت شموس إفاداتها بازغة، وبدور إفاضاتها طالعة إلى آخر الزمن مع تاريخ النسخ.
58 (3) الفلك
وهو علم جامع العديد من العلوم الرياضية مثل علم المناظر الذي يجمع بين الرياضيات والطبيعيات بعد أن كان عند اليونان علما رياضيا خالصا. (أ) ابن الهيثم
مثال ذلك «كتاب المناظر» للحسن بن الهيثم (432ه).
59
وهو نموذج الإبداع الخالص الخالي من الوافد والموروث. فلا توجد أسماء أعلام من الوافد أو الموروث باستثناء علم واحد من الموروث هو أحمد بن محمد بن جعفر الكاتب.
60
وتحولت أسماء الفرق إلى مذاهب ونظريات مثل أصحاب الطبيعة الذين يتصورون البصر شعاعا من الشيء إلى العين، وأصحاب الرياضيات الذين يجعلون الشعاع من العين إلى الشيء حتى يتم الإبصار. وكلاهما أصحاب الشعاع. وهو نفس الخلاف القديم الذي تصوره الناس بين أرسطو وأفلاطون وحاول الفارابي الجمع بينهما . كما حاول ابن الهيثم مرة ثانية الجمع بين النظريتين مما يدل على وجود تصور واحد للعالم يجمع بين الفارابي وابن الهيثم يقوم على التوحيد وليس على التفريق. وقد اختلف الرياضيون فيما بينهم في تصور الشعاع إلى ثلاثة آراء: جسم مصمت متصل أو خطوط مستقيمة أو قوة نورية. الخلاف في المناظر إذن ليس في العلم الطبيعي أي الضوء ولكن في علاقة العلم الطبيعي بعلم النفس في كيفية الإبصار. لذلك وضع ابن الهيثم عنوانا فرعيا «في الإبصار على الاستقامة». ويراجع ابن الهيثم النظريتين ويبين الفاسد والصحيح في كل منهما، ينقد الفاسد ويعيد تركيب الصحيح مبينا علة كل رأي.
61
وقد يرجع خطأ أصحاب التعالم القائلين بالشعاع أنهم يستعملون في مقاييسهم وبراهينهم خطوطا متوهمة ويسمونها الشعاع. فالخطأ في البرهان. ويتحدث أيضا عن أصحاب التشريح في كتب التشريح التحليل كيفية عمل العين والاعتماد على علم الطب باعتباره علما طبيعيا. فلا توجد إحالة إلى حكيم أول أو إلى حكيم ثاني ولا حتى ذكر لأشهر أقرانه مثل ابن سينا والبيروني. إذا يعتمد على العقل الخالص وعلى النظر العقلي كما يقتضيه البرهان والتجريب وهو ما يسميه ابن الهيثم الاعتبار ويعني أيضا الاستقراء. ويحيل إلى آراء المتقدمين جملة كوعي تاريخي بالماضي. وهي آراء مختلفة، الحقائق فيها غامضة، والشبهات كثيرة، والمقاييس متباينة، والمقدمات حسية. وقد تظهر بعض المصطلحات الموروثة مثل الإشراق بمعنى علمي أي الضوء وليس بمعني صوفي أي في التنفس. والإشراق إما أن يكون استقامة أو انعكاسا أو انعطافا. ويحلل ابن الهيثم في المقالة الأولى خواص البصر والضوء والعلاقة بينهما في كيفية الأبصار وآلاته، وفي الثانية نظرية أصحاب الشعاع، وفي الثالثة أغلاط البصر أي خداع الحواس.
ويكثر ابن الهيثم من استعمال أفعال البيان لأن مهمته التوضيح والبرهان.
62
كما يحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق مما يكشف عن مسار الفكر ومنطق الاستدلال.
63
ويكون البيان باستقراء العلل واستيفاء البراهين.
64
وابن الهيثم هو الذي يقول وليس غيره. هو الذي يتحدث ولا ينقل أقوال السابقين.
65
هذا بالإضافة إلى وضوح اللغة والمصطلحات، وسهولة الأسلوب ودقة التحليل العلمي والاعتماد على العقل الخالص وقدرته الذاتية على البرهان. فقد كتب ابن الهيثم من قبل مقالا في علم المناظر على نحو إقناعي، ولكن في كتاب المناظر يعيد كتابته على نحو برهاني.
66
ويستعمل بعض الرسوم التوضيحية للإقلال من حدة الخطاب التجريدي الرمزي وبالرغم من عدم ذكره أسماء أعلام ولا آيات قرآنية ولا شواهد نقلية من الوافد أو الموروث إلا أنه يؤسس المعرفة في النفس وفي العقل في علم النفس المعرفي.
ويوجد عند ابن الهيثم أقل قدر من التعبيرات الإيمانية في البداية والنهاية باستثناء البسملة والحمدلة والصلاة على محمد النبي وآله في أول كل مقالة وفي آخرها، واستمداد العون من الله في جميع الأمور. ويشار مرتين إلى الطائف حكمة الصانع ورأفته وبديع صنعه وحسن نظام الطبيعة ولطيف آثارها. فعلم المناظر أحد المعاني التي تظهر فيها حكمة الصانع جلت عظمته ولطف صنيعه، وتلطف الطبيعة في تهيئة آلات البصر الهيئة التي بها يتم الإحساس وبها تتميز المبصرات.
67
وفي المقالة السابعة من «الكاسر الكري» يستمر الإبداع الخالص اعتمادا على العقل المحض وبراهينه.
68
لذلك تكثر أفعال البيان ولفظ البرهان، واستعمال برهان الخلف وهو إثبات استحالة النقيض.
69
وتقلل من طابع الخطاب التجريدي الرسوم التوضيحية. وكذلك الأمر في «العدسة الكرية».
70
أما في «كيفية الإرصاد» له أيضا فإنه يتناول موضوع الفلك مباشرة. يغيب فيها الوافد والموروث تماما. يترك ابن الهيثم القيل والقال، ويتوجه إلى الموضوع مباشرة ثم التحقق من صحة الأقوال بمراجعتها على التجربة.
71
وكالعادة يتحدث ابن الهيثم عن فرق ومذاهب من الناظرين في علم الهيئة ولا يذكر أسماء أعلام أو أماكن. وهناك نصوص زائدة على النص الأول إضافة من الناسخ أو القارئ أو المالك لوضع علامات للأفلاك من المستوى التجريدي للنص نقلا عن ابن الشاطر ولتعميم الفائدة وذكر المراصد منذ إبرخس وبطليموس والمأمون في بغداد والبتاني في الشام والحاكم في مصر، وإحالة إلى شيخ المشايخ السيد الطحان وذكره تقويم النيرين من الزيج الحاكمي لابن يونس وتقويم الخمسة المتحيرة من الشاهي الغيبك، ومراجعة ذلك بالعين في مصر المحروسة.
72
والرسالة تعتمد على العقل الخالص والمدخل الفلسفي النظري من أجل تحويل الفلك إلى علم دقيق. وقد يظهر الموروث في اللاوعي المعرفي في التصور الإسلامي للعالم المنبثق من التوجه القرآني نحو الكون والمطابق لنظام الكون ذاته. فعلم الفلك الذي هو من عمل الذهن هو الذي يربط بين تصور الوحي للعالم وما ينتج بالاعتبار أي بالقياس من إدراك نظام الطبيعة بدافع اشتياق النفوس إلى معرفة الحقائق مع الأخذ في الاعتبار تغير المراصد بتغير الأماكن في المغرب أو المشرق وأن الزمان مرتبط بالمكان.
73
ويضيف ابن الهيثم الآلات إلى الرصد، فالعمل والنظر علم واحد. ويبدو مسار الفكر في أفعال البيان التي تكشف عن هدف التوضيح والبرهان.
74
والمقال موجه إلى المتعلمين دون المتخصصين أو المحققين.
75
وبالرغم من قلة العبارات الإيمانية التقليدية باستثناء البسملة والحمدلة إلا أن علم الفلك قريب من الأمور الإلهية. لذلك يتسم بعلو المنزلة وشرف الرتبة، يحسن الظن بأهل الصناعة ومحبتهم للحق واجتهادهم في معرفته.
76
وفي رسالة «الأثر الظاهر في وجه القمر» له أيضا جمع بين الفلك والمناظر، وطرح إشكال الموضوعية والذاتية، هل ما يرى ظاهرة على وجه القمر له وجود موضوعي أم أنه إدراك ورؤية؟
77
لا يعتمد على الوافد أو الموروث بل يراجع التراث العلمي كله حول الموضوع، وينقد جميع الآراء السابقة ويبين بطلانها بالتجربة دون تشخيص لها في أسماء أعلام أو أسماء فرق ومذاهب. فقد نقلت في الموضوع آراء ستة كلها خاطئة، أولا: أن هذا الأثر الظاهر في وجه القمر هو نفس جرم القمر شفافا أو خشنا، ثانيا: أنه خارج عن جرم القمر ومتوسط بين الجرم والبصر، ثالثا: أنه صورة تظهر بالانعكاس على سطح القمر الصورة الأرض، رابعا: أنه صورة البحار في الأرض بالانعكاس، خامسا: أنه صورة الجبال في الأرض بالانعكاس، سادسا: أنه صورة قطعة من الأرض بالانعكاس. وكل هذه الآراء تتأرجح بين الوجود الموضوعي للظاهرة، الرأيان الأول والثاني، والوجود الذاتي لها، صورة انعكاسية في البصر، الآراء الأربعة الأخيرة. وابن الهيثم من أنصار الوجود الموضوعي للظاهر وهو عالم الإبصار .
78
ويبرهن على ذلك بالدليل. لذلك تكثر أفعال البيان والدليل، ويتحدث بضمير المتكلم فهو الذي يبحث ويتحقق ويحكم، يطور العلم ويكمله. وتقل الإيمانيات إلى أقصى حد لا تتجاوز البسملة والحمدلة.
79 (ب) نصر بن عبد الله المهندس
وفي رسالة «في استخراج سمت القبلة» لنصر بن عبد الله المهندس يغيب الوافد والموروث ويتضح الدافع على الإبداع الخالص.
80
وهو واقع عملي وليس مجرد حب استطلاع نظري. وهو البحث عن سمت القبلة واتجاه الكعبة لبناء المساجد. لذلك ارتبط الفلك بالهندسة، ووسيلة ذلك إيجاد طريقة سهلة والبحث عن وسائل عملية وبرهان قصير.
81
وتقل العبارات الإيمانية. تكفي البسملة والحمدلة والصلاة على النبي والدعوة بالتوفيق للصواب. وتنتهي الرسالة كوثيقة شرعية، تاريخ النقل ومكانه، ومقابلة خط الناسخ مع الخط الأصلي. (4) الموسيقى
كانت الموسيقى ضمن علوم الحكمة، ألف فيها الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجه. (أ) ابن باجه
ويتمثل الإبداع الموسيقي عند ابن باجه (531ه) في «من كلامه رضي الله عنه في الألحان».
82
كانت الموسيقى من الموضوعات الرئيسية في الأندلس مثلها في البصرة وبغداد وإستانبول فيما بعد. المهم عند ابن باجه هو الربط بين النغم التأليفية والأفلاك، الألحان في الإنسان والألحان في الطبيعة، النغم في النفس والنغم في الكون. والسؤال هو: هل تدخل الموسيقى في العلوم الرياضية باعتبارها تحليلا للذبذبات أم في العلوم الإنسانية باعتبارها تذوقا للأنغام والمقامات؟ (ب) صفي الدين الأرموي
وفي «كتاب الأدوار في الموسيقى» لصفي الدين عبد المؤمن بن أبي المفاخر الأرموي البغدادي (693ه) يغيب الوافد والموروث معا ويتم تأسيس الأنغام والأدوار بحثا عن الأسباب في التناغم والتناظر من داخل الصوت وليس اعتمادا على الأدبيات المنقولة عن القدماء.
83
تكثر التقسيمات والرسوم الرياضية من أجل إيجاد البراهين الداخلية في الموسيقى كعلم. ومع ذلك يحضر الموروث الشرقي في اللاوعي المعرفي خاصة الموروث الفارسي في المصطلحات الموسيقية مثل الرست والنهفث والبوسليك والنوروز والزنكولة والزير افكند والراهوبي والبزيك والكواشت التي تبلغ حوالي نصف المصطلحات. كما تظهر أسماء المدن المحلية كمصدر ثان المصطلحات مثل عراق، أصفهان، نهاوند والحجازين أو أسماء أعلام مثل الحسيني أو أسماء عربية خالصة مثل عشاق ونوى ومحير وعزال. كما يستعمل الشعر العربي كشواهد. فالشعر موسيقى الكلمات، والموسيقى شعر الأصوات. الموسيقى علم رياضي وعلم صرفي في آن واحد. ويتألف الكتاب من خمسة عشر فصلا في النغم والدساتين ونسب الأبعاد وأسباب التنافر والتلائم ونسب الأدوار وطبقاتها والإيقاع والمشهور منها، وأحكام الأوتار واستخراج الأدوار منها مع قدرة على وضع مصطلحات عربية رياضية مثل الثقيل والخفيف وخفيف الثقيل، والرمل وخفيف الرمل والهزج. وثقل العبارات الإيمانية إلى الحد الأدنى باستثناء البسملة ومدح الله ثم التحول كالعادة إلى مدح السلطان.
84
خامسا: الإبداع العلمي
(1) الإبداع الطبيعي
الكندي: ظهر الإبداع مبكرا للغاية عند الكندي (252ه) أو الفلاسفة مرورا بالسجستاني (331ه) وابن باجه (531ه) حتى شرف الدين الطوسي (672ه). وتبقى ظاهرة الإبداع الفلسفي عند الكندي ظاهرة فريدة تسترعي الانتباه وفي حاجة إلى تفسير. فالإبداع عادة ما يكون لحظة ثالثة بعد النقل لحظة أولى، ثم التحول لحظة ثانية. عند الكندي الإبداع لحظة أولى. لذلك تنقل الفلسفة من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع مباشرة بل في جيل واحد، وشخص واحد، هو الكندي نفسه. لذلك سمي بحق فيلسوف العرب. (أ) الإبداع المبكر
فمن مجموع رسائل الكندي المنسوبة إليه لا يذكر أعلام الوافد إلا في 14٪ منها، أرسطو ثم سقراط ثم إقليدس ثم أفلاطون ثم باقي الرياضيين مثل أرشميدس، وأسقلاوس، ومناطقة مثل فرفوريوس وجغرافيين مثل بطليموس أو أطباء مثل أبقراط وجالينوس.
1
وأحيانا تذكر بعض الرسائل بأسماء الكتب الوافدة دون مؤلفيها مما يدل على تحول الكتاب الوافد إلى موضوع مثالي دون مؤلفه. عاش المؤلف، مات المؤلف مثل رسائل «أثولوجيا» و«الخير المحض».
2
ومن الرسائل المتاحة والمطبوعة حاليا، لا توجد رسائل تحتوي على عناوين وافدة من مجموع رسائله الفلسفية الخمس عشرة بما في ذلك «رسالة في دفع الأحزان» إلا رسالتان، الأولى بها اسما أرسطو وأفلاطون، والثانية بها اسم أرسطو فحسب في بيئة حضارية تقوم على الرواية والخبر.
3
وفي رسائله العلمية لا توجد أية إشارة إلى أي اسم علم إلا القدماء.
4
ولا توجد في رسائله الأخرى المطبوعة أو المخطوطة أي إشارة إلى اليونان إلا في رسالتين، الأولى من أجل تصحيح قول أسقلاوس وليس تبعية له. والثانية أثولوجيا أرسطوطاليس من أجل إكمال النسق العقلي بالنسق الديني.
5
ومن مجموع الرسائل والكتب لم تظهر أسماء الوافد إلا في ثلاثة، والرابعة تشير إلى القدماء بوجه عام مما يدل على أن الإشارة المشخصة إلى أفلاطون وأرسطو وأسقلاوس تتم في إطار حضاري عام. وقد ذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم الأشهر فلسفيا وعلميا.
6
ومن مجموع الرسائل الفلسفية والعلمية يتصدر أفلاطون ثم أرسطو ثم سقراط والإسكندر، ثم فيثاغورس ثم أبقراط ومارينوس ونيرن. يذكر أفلاطون وأرسطو وسقراط والإسكندر في الفلسفة، وفيثاغورس في الرياضة، وأبقراط في الطب، وأكثر من نصف الرسائل الفلسفية والعلمية المنشورة لا توجد بها إشارة إلى اليونان لا عامة ولا خاصة، لا في العنوان ولا في الصلب، لا صراحة ولا ضمنا أي إن الإبداع الفلسفي والعلمي ممكن دون الغير، الوافد أو الموروث، «بقدرة العقل على التركيز على موضوعه، والتأمل في الطبيعة. الإبداع الفلسفي ممكن دون اليونان.
7
أما بالنسبة إلى الموروث فقد بدأ الإبداع أيضا مستقلا عنه إلى حد كبير كما هو مستقل عن الوافد. فمن رسائل الكندي الفلسفية اثنتان فقط يحملان لفظ الله «وحدانية الله»، «طاعة الله عز وجل»، ولا شيء في الرسائل العلمية.
8
ورسالة واحدة بها لفظ قرآني عام مثل الرؤيا.
9
فنسبة موضوعات الموروث في المؤلفات المطبوعة قليلة للغاية حتى بعد إضافة موضوع الرؤية مما يدل على أولوية الإبداع على الوافد والموروث معا.
10
فإذا أخذ المخطوط والمترجم في الاعتبار تزيد النسبة قليلا على فرض أن روحانية مثل أرواح.
11
وإذا أخذت كل المؤلفات المنسوبة إلى الكندي المطبوعة والمخطوطة والمفقودة ألا يتجاوز الموروث طبقا لعناوينها إلا نسبة ضئيلة عن التوحيد والعدل والاستطاعة والإباحة العقلية قبل الحظر. وهي موضوعات كلامية اعتزالية. وموضوعات الزجر والفأل موضوعات قرآنية. والرد على المنانية والثنوية والملحدين والنصارى فرق غير إسلامية كجزء من الفرق داخل الحضارة الإسلامية. والمنانية أهمها وهي موضوع أربع رسائل نظرا لخطورة الثنائية على التوحيد.
12
وموضوع النبوات وإثباتها موضوع كلامي، والروحانيات والكواكب والطب واستحضار الأرواح موضوعات موروثة. ورسالة واحدة تستشهد بآية قرآنية، وأخرى تذكر الله عز وجل. فموضوعات الرسائل ثلاث كلها موروثة: كلامية وفرق وروحانيات.
13
وفي معظم الرسائل الفلسفية لا توجد آيات قرآنية إلا في ثمانية منها في السؤال عن معنى
والنجم والشجر يسجدان . والثانية داخل رسالة عن كمية كتب أرسطوطاليس. فالغاية إذن ليس أرسطو بل التوجه القرآني. أرسطو مجرد مادة. المهم هو التصور الإسلامي في النص.
14
ويمكن تصنيف كل مؤلفات الكندي في سبعة عشر علما أو موضوعا لا تزيد العلوم الفلسفية بالمعنى الدقيق، الفلسفية والمنطقية والجدليات والنفسانيات والسياسيات والتقدميات على ربع المؤلفات، والثلاثة أرباع الأخرى كلها في العلوم الرياضية والطبيعية . بل إن المؤلفات الفلسفية بالمعنى الدقيق لا تنفصل عن المؤلفات العلمية، وتبدو مرتبطة بالطبيعيات وبالحس وبالرياضيات والصناعة، كما أن الكتب المنطقية مرتبطة بالصناعة وبالطبيعيات وبالأصوات.
15
وبعض الموضوعات العلمية ترتبط ببعض الموضوعات الفلسفية بالمعنى العام مثل التشابه بين رئيس البدن ورئيس المدينة في الطبيات، والرد على المنانية، والجدل في الفلكيات، وبعض موضوعات الأخلاق مثل الوفاء في الأنواعيات (الكيمياء).
16
والغالب على مؤلفات الكندي النزعة العقلية وكأن الفلسفة بدأت علمية عقلية، وأن الإشراقيات طارئة عليها ومتأخرة عنها. من حيث الكم أكثرها الرياضيات والفلكيات ثم الكيمياء ثم الفلسفة ثم الطبيعيات والجغرافيا والجدليات. وأقلها النفسانيات والتقدميات ثم السياسيات.
وقد قام الكندي بكل هذا التأليف دون شرح أو تلخيص أو جوامع كما فعل ابن رشد فيما بعد من أجل تمثل الوافد واستيعابه. كانت معرفته به مباشرة من الترجمة وربما كان هو مترجما. كانت الترجمة جديدة لا تحتاج إلى شرح أو تصحيح فهم من سوء تأويل الشراح كما شعر ابن رشد الحاجة إلى ذلك فيما بعد. وربما لأنه كان عالما يفكر على معطيات العلم، ويتأمل في الظواهر الطبيعية مباشرة دون توسط النصوص الوافدة أو الموروثة على عكس الفارابي الذي كان يعرض الوافد، وابن سينا الذي كان ينسق الوافد وينظر الموروث. كان الفيلسوف ذا ثقافتين، وافدة وموروثة. يتلقى الموروث أولا كما تلقى الكندي علوم القرآن والدين والكلام ثم اللغة والأدب ثم الوافد، العلوم الدخيلة، مثل الفلسفة. وكان على علم باللغات السريانية واليونانية. كان أعلم أهل زمانه بأرسطو. وكان العصر يساعد على ذلك، الحرية التي أباحها الخلفاء مثل المأمون، وإباحة الكلام، وامتزاج الأديان وثقافات الشعوب. وبالرغم من أن التأليف في موضوعات الثقافة الوافدة إلا أنه يمثل قمة الاحتواء بعد أن قام العرض والتأليف بتطويع المادة العلمية.
ومعظم الرسائل الإبداعية العلمية الخالصة إنما تنبت أيضا ردا على أسئلة من الواقع وليس تبعية للوافد كما هو الحال في رسالة «في مائية ما لا يمكن أن يكون لا نهاية له». والإجابة طبقا لقدرة المسائل على النظر والفهم، وتكرار السؤال والجواب في المقدمة والخاتمة مع الدعوة للسائل بالسداد والتوفيق. وهي نفس الطريقة التي اتبعها الفارابي في «المسائل المتفرقة» وابن سينا في «الإجابة على أسئلة البيروني والسهلي». وكانت رسالة «الإبانة عن أي جرم الفلك لا يقبل شيئا من الكيفيات الأولى» بناء على سؤال.
17
وفي باقي المؤلفات المفقودة هناك عشرات رسائل من هذا النوع، السؤال والجواب، في الرياضيات والطبيعيات والمنطق أي في المسائل العلمية وليس في المسائل العملية كما هو الحال في الفقه.
18
ويبرز هذا النوع الأدبي، السؤال والجواب، في الإبداع الفلسفي، في السؤال عن العلة الفاعلة القريبة، وعن وحدانية الله أو عن معنى آية
والنجم والشجر يسجدان . فموضوع السؤال ليس بالضرورة الوافد بل يكون الموروث أيضا أو ما ينتج في الوعي الجمعي من حصيلة الجمع بين الوافد والموروث. فالسؤال عن الآخر وعن الأنا، عن لسانهم ولساننا، مع الدعاء بالسداد والتوفيق.
19
السائل يسأل الحكيم فيصبح الحكيم مسئولا. والجواب المختصر القصير أفيد عمليا من الجواب المسهب الطويل. وتكون فرصة الكندي في هذه الدعوات التحرر من الأسلوب الركيك. فيطلق لعواطفه العنان في السجع الأدبي واستعمال المترادفات والصور والتشبيهات التي تختفي تماما في مرحلة النسق المنطقي عند ابن سينا، وتعود في مرحلة المراجعة السلفية عند الغزالي والمراجعة العقلية عند ابن رشد. فالإجابة عن تحديد وقت الدعاء بناء على سؤال. والمسائل عويصة على الروحانيين. وهي مشكلة في الواقع وليست في الوافد، مسألة صعبة على الفلاسفة وعلى غير الفلاسفة، على الفضلاء والأراذل إلا لمن عرفوا الموضوع في الموروث. فالموروث به حل لكل المسائل العويصة.
20
بل إن الموضوعات العلمية الخالصة أيضا كتبت كإجابات على أسئلة. فالسؤال لا يقتصر فقط على الاهتمام العام بل يتعلق أيضا بالاهتمام الخاص مثل السؤال عن علة اللون اللازوردي الذي يظن أنه لون السماء. والإجابة قدر اهتمام السائل وقدرته على الفهم مع الدعوة له بالتوفيق في بداية الرسالة وفي نهايتها. وكذلك السؤال عن الجرم الحامل بطبعه اللون من العناصر الأربعة وهو مركب منها، والإجابة قدر فهم السائل وكأن الإجابة لها مستويات، خاصة وعامة مع الدعاء بالتوفيق. وكذلك السؤال عن الضباب والثلج، وهي ظواهر تسترعي نظر العالم والإنسان العادي لما فيها من حب الاستطلاع، ضباب الصباح، والثلج على قمم الجبال يلاحظها أناس قدموا من الصحراء. والإجابة كافية، لا بالمسهبة ولا بالمخلة. ومع الثلج يكون السؤال عن البرد والرعد والبرق والصواعق القريبة والبعيدة التي قد تكون أسباب وضعها الله في الكون. والإجابة أيضا بحسب موضع السائل من العلم والدعوة له بالتوفيق.
21
ويبدو التأليف المصطنع حتى في الإبداع الفلسفي كما هو الحال في «الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد». فالإبداع في بدايته يبحث عن شكل يستقر في نهايته. والكندي أو المبدعين ما زال يبحث عن شكل الخطاب. فبعد الدعاء والمقدمة عن المنهج والموضوع تبدأ القسمة العقلية له. ثم يتعين. الحديث في الطبيعيات والإلهيات ثم في الحيوان والنبات والعمران. ثم تأتي الخاتمة من المنهج عودا على بدأ، وخاتمة ثانية. فالأقسام متداخلة. وكل قسمة نتيجة للأخرى. ويصعب التمييز بينها إلا على وجه العموم. والرسالة ناقصة لا يوجد بها إلا الفن الأول. ويبدو التأليف المصطنع أيضا في «وحدانية الله وتناهي جرم العالم». إذ تتضمن الرسالة الدعاء ثم السؤال والإجابة. المقدمات الأولى عن المنهج ثم تطبيقاتها لإثبات الموضوع. وقد يقل هذا التأليف المصطنع حتى يمكن اكتشاف الأقسام المتضمنة فيه والتي لم تصل بعد إلى حد البنية، مثل «رسالة الكندي إلى أحمد بن محمد الخراساني في إيضاح تناهي جرم العالم». إذ يمكن التعرف على ثلاثة أقسام الأول الدعاء القصير ثم الحديث عن منهج الفكر الرياضي. والثاني ذكر المصادرات الرياضية الأربعة. والثالث تطبيق البرهان الرياضي في الموضوع الفلسفي وفي البرهان الفلسفي أيضا.
22 (ب) في المعادن والكيمياء
ويبدو إبداع الكندي (252ه) مبكرا في العلوم الطبيعية وفي علم المعادن وفي علم الكيمياء. ففي علم المعادن رسالة «السيوف وأجناسها». وهي رسالة تخلو من الوافد أو الموروث ككونين علميين ولكنها تنظر للواقع تنظيرا مباشرا.
23
ولا تنقسم أبوابا أو فصولا، ولكنها تبدأ بمقدمة عامة عن الحديد الذي تصنع منه السيوف، الحديد والفولاذ وأنواعها العتيق وغير العتيق فالقسمة أولى طرق التعريف.
24
وتظهر البيئة الجغرافية التي تشتق منها أسماء السيوف وكلها أسماء محلية مثل فارس وسرنديب على حدود الأوطان وفي قلبها، والكوفة والبصرة وخراسان والمنصورة وخسروان ودمشق ومصر وبغداد. وقد تكون النسبة إلى شخص مثل زيد. وتظهر أسماء الأقوام مثل الروم والشراة والفرنجة. وقد يحال إلى العصور والأزمان مثل الجاهلية. ويظهر الجناح الشرقي فارس والهند قدر ظهور الجناح الغربي، روما والفرنجة وكما تبدأ بأمر مولانا الإمام أن يرسم أوصاف السيوف بقول يعم أجناسها تنتهي بالدعوة له بطول العمر والبقاء.
25
وفي علم الكيمياء كتب الكندي رسالة ثانية «فيما يطرح على الحديد والسيوف فلا تتثلم ولا تكل».
26
والموضوع عربي أصيل منذ الشعر العربي قبل الإسلام في مجتمع قبلي محارب، وإسلامي فاتح. ومنهج الكندي الكيمياء العملية وما وقعت له من معاناة في الموضوع. فالكيمياء ممارسة عملية أكثر منها بحثا نظريا. فالرسالة في صناعة السيوف بحيث لا تتلم ولا تتأكل ابتداء من برادة الحديد وسقاياتها، وآلات قطع السيوف والزجاج. كما تقوم على منهج القسمة مثل قسمة الحديد إلى لونين، ذكر وأنثى ثم انقسام الذكر إلى قسمين، والأنثى إلى قسمين، فالمنطق آلة للعلم والعقل مدخل إلى الطبيعة.
وتخلو الرسالة من الأبواب والفصول. إنما تبدأ كثر من الفقرات بتعبير «نوع آخر» طالما أن الرسالة في أنواع الحديد والسيوف. والقليل «باب آخر» «أو كلاهما» باب «نوع آخر» أو «آخر» فحسب، وتظهر البيئة المحلية في اشتقاق الأسماء مثل الفرس والحجاز وسرنديب. وقد تختلف الأسماء والمسمى واحد. وتظهر البيئة الشرقية الهندية مثل برادة الزماهن وصفة السيوف الهندية. والأسلوب لم يستقر بعد من ناحية التأليف العربي كما هو معروف في خطاب الكندي. والرسالة موجهة إلى المعتصم أمير المؤمنين والدعوة له «أدام الله تعالى عزك، وحرس أيامك». وتظهر العبارات الإيمانية خلال الرسالة مثل «إن شاء الله تعالى»، في آخر كثير من الفقرات. وتنتهي بالصلاة على محمد وآله وسلم. (2) الإبداع الطبي
ويتركز الإبداع العملي في الإبداع الطبي أكثر من باقي العلوم الطبيعية كالطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان والمعادن. وقد بلغت شهرة الطب العربي الآفاق. والعلم جزء من الفلسفة والعلماء هم الفلاسفة.
27
ولم تكن الفلسفة علما مجردا بل كانت تجارب حية للفلاسفة الذين كتبوا سيرة ذاتية تعبر عن مسارهم الفلسفة أو كتبها تلاميذهم نيابة عنهم.
28
وبالرغم من أن التأليف كان أقرب إلى الجمع ثم الإضافة، وضع الأدبيات السابقة مع الموضوع، فتاريخ العلم جزء من العلم، إلا أن الإبداع العلمي واضح يتجاوز الوافد والموروث المشخص في أسماء الأعلام والمصنفات إلى الحديث عن القدماء أو المتقدمين. ليس العلم آخر مرحلة فيه بل هو تاريخه أيضا لمعرفة تطور العلم ومراحله. فلعل أزمة العلم في عصر تجد حلا لها في تاريخه.
29
الجديد يخرج من القديم ويتجاوزه ولا ينقطع معه ويناقضه. وهو نمط تطور الوحي ومراحله، المسيحية من اليهودية والإسلام من المسيحية، نموذج التواصل والانقطاع في آن واحد. لذلك ضم الطب العربي طب الإغريق وطب باقي الشعوب مع طب العرب. (أ) الرازي
وبالرغم من دخول «الحاوي» و«المنصوري» في أشكال التأليف الأخرى إلا أن «تقرير الرازي حول الزكام المزمن عند تفتح الورد» للرازي (251-313ه) يمثل نموذجا للإبداع الخالص في الطب. يخلو من الوافد والموروث على حد سواء.
30
ويأخذ شكل السؤال والجواب، وهو شكل التأليف الفقهي كما هو معروف في أحكام السؤال والجواب في علم أصول الفقه، وأسلوب القرآن في الإجابة على أسئلة في صيغة
ويسألونك عن ...
والتي عرفت بمصطلح أسباب النزول. فهو تقرير وضعه الرازي لمعالجة أبي زيد البلخي (236-322ه) أستاذه الذي كان يعاني من الزكام. وانتهى الرازي إلى اكتشاف الطب الجغرافي، طب الفصول الأربعة وطب النباتات أي طب البيئة. ولا يضم من العبارات الدينية في البداية والنهاية أكثر من البسملة والحمدلة والصلاة على خير خلقه محمد المصطفى وآله وصحبه. (ب) ابن سينا
وتمثل أعمال ابن سينا الطبية الصغرى نماذج من الإبداع العلمي الطبي بالرغم من صمت ابن سينا عن مصادره على نحو ظاهر في باقي المؤلفات.
31
تمثل هذه الرسائل الصغرى أعمالا فلسفية إبداعية بالأصالة وليست أعمالا تجميعية كما هو الحال في «الشفاء». وصيغتها إما السؤال والجواب كما هو الحال في النوازل في الفقه أو الشعر، شكل التعبير العربي الأول الذي جاء القرآن لوراثته. وهو الذي بدأ التخصص في الطب كما وضح ذلك في «الاختصاص». وفي نفس الوقت حاول إقامة الطب على أسس فلسفية كما فعل ابن رشد في «الكليات» فيما بعد. فليس الطب مجرد علم عملي للعلاج. ألقابه كثيرة ومتعددة مثل: حجة الحق، رئيس العقلاء، أمير الأطباء، أبقراط العرب، أرسطو الإسلام، المعلم الثالث، الشيخ الرئيس، شرف الملك (بعد أن تقلد الوزارة). دخلت كثير من الأفكار الشرقية والغربية في مؤلفاته بالإضافة إلى الموروث الشيعي إلا أنه كان قادرا على تمثل ذلك كله وتجاوزه إلى الإبداع الخالص. يغلب على أعماله الطب ثم الرياضيات ثم اللاهوت ثم الفلسفة ثم علم النفس ثم المنطق ثم التفسير، بالإضافة إلى مراسلات ومؤلفات في الزهد والقصص والعشق والموسيقى.
32
ووضع نوعا من «لسان العرب» لم يتم.
ففي رسالة «رفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية أو تدارك أنواع الخطأ الواقع في التدبير» لابن سينا (428ه).
33
يحصي الأمراض الكلية بداية بالكليات كما هو الحال في الفلسفة، ويؤسس الطب على المنطق. ويدل تعبير «الأبدان الإنسانية» على النزعة الإنسانية في الطب. فالأبدان ليست مجرد آلات عضوية صرفة. كما أن النصف الثاني من العنوان يشير إلى الطب الوقائي السابق على الطب العلاجي. ويصف ابن سينا أنواع الخطأ في الهواء والحمام والطعام والماء والمشروبات والحركات والاستفراغ. وتخلو الرسالة من الوافد والموروث تماما، وابن سينا قادر على ذلك وهو المعروف بإخفاء مصادره. يرجع في التفصيلات إلى الأدبيات السابقة. ويكتفى برصد الأمور الكلية تصنيفا وجمعا. يبدأ بالقول. فهو المؤلف وليس الآخر، ويعبر في تركيز شديد، متوجها نحو العمل، واضعا الطب في بيئته، مكتشفا الطب الجغرافيا أو الجغرافيا الطبية، ومدركا أهمية الحمام في العلاج. يحيل اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق لبيان وحدة الفكر. ويتحدد الغرض الكلي للرسالة ومسارها البرهاني دون تكرار ما هو معروف سلفا. وهو شرط الإبداع. وبين البسملة والحمدلة التقليديين يتم الانتقال من مدح الله إلى مدح السلطان.
34
وتخلو «رسالة الأدوية القلبية» له أيضا من الوافد والموروث، باستثناء الحديث عن الحكماء والأطباء على العموم. وتعتمد على العقل الخالص والرؤية الفلسفة العامة التي يتأسس عليها علم الطب مثل نظرية الخلق، ومفهوم الحياة، ودور الأفلاك والأجسام السماوية. وكل شيء في بدن الإنسان خلقه الله لوظيفة. فغائية الله هي غائية الطبيعة.
35
ويجد ابن سينا البرهان على ذلك، ويزيل تناقض الفكر، ويحدد معاني الألفاظ، وينعى جهل الأطباء، ويتحدث بضمير المتكلم.
36
ومع البسملة والحمدلة كالمعتاد يتم الانتقال بسهولة من مدح الله إلى مدح السلطان.
37
ولما كان الشعر هو ديوان العرب ووسيلتهم في التعبير، نظم ابن سينا «أرجوزة» في ذكر الأمور الطبيعية وتقسيم الطب إلى علم وعمل. تحتوي على أكثر من الف بيت تختصر كتاب «القانون» وتصوغه شعرا حتى يسهل حفظه. وبحر الرجز سهل التعليم. لم تكن أول قصيدة علمية. سيقتها قصيدة خالد بن يزيد في السيمياء. عيبها فقط ضرورة الحفظ، والاختصار، وعدم الشاعرية، واستبدال الكلمات من النساخ، والانتحال الجزئي. ومع ذلك شرحها كثيرون من الأطباء. لم يذكر فيها وافد ولا موروث إلا مرة واحدة ذكر بقراط في بيت للحفاظ على الوزن والإيقاع ولضرورة الشعر وفي إطار من تصحيح نظريته بعد مراجعتها دون الاعتماد عليها أو استعمالها. فابن سينا فيلسوف وأديب يخضع الأدب للفلسفة نثرا وشعرا وينقد أدعياء العلم.
وتقسم الطب إلى علمي وعملي. ويشمل العلمي أربعة أمور: الأمور الطبيعية، وأحوال البدن، والأسباب، والعلامات. ويشمل العملي أمرين: حفظ الصحة، ومعالجة المرض.
38
وتبرز المصطلحات الفلسفية الطبيعية عند ابن سينا مثل العقل والطبيعة والقيمة.
39
وكما تبدأ الأرجوزة بالبسملة وتنتهي بالحمدلة يتم الانتقال كالعادة من مدح الله إلى مدح السلطان، ومن طاعة الله إلى خدمة الملوك والأمراء، ومن دعاء الله إلى طلب الحاجة عند الخلفاء. كما عبر ابن سينا عن الطب شعرا حتى يزين به المجالس ويطلع الموك على القوانين الطبية، والذين يفهمون الشعر أكثر مما يفهمون الطب، لا فرق في ذلك بين سني وشيعي.
40
أما «أرجوزة في تدبير الصحة في الفصول الأربعة» له أيضا فهي أصغر من أرجوزة الطب وأكثر تخصصا في الطب الجغرافي أو الجغرافيا الطبية.
41
فقد نظم الله الفصول الأربعة، فأصبحت للأزمنة طبائع كما أن للأغذية والأدوية فوائد. ويزيد الناسخ البسلمة والحمدلة، حوالي سبعة أبيات كعمل مشترك بين المؤلف والناسخ.
42 (ج) ابن النفيس
وقد ساهم ابن النفيس (687ه) في الإبداع الطبي قدر مساهمته في أشكال التأليف الأخرى ابتداء من الشرح والتلخيص.
43
ففي «رسالة الأعضاء» يغيب الوافد والموروث، باستثناء ابن سينا مرة واحدة لبيان وحدة عمل ابن النفيس وشرحه لكتاب «القانون» في الطب إشارة خارجية وليست في النص نفسه كإحالة داخلية.
44
ويدل شرحه لعلم الحديث على وحدة المعرفة النقلية والعقلية. وتظهر النزعة الإنسانية في تصوره للطب «في بيان احتياج الإنسان إلى الأعضاء الرئيسية ومواضعها»، وأيضا «في نواحي الإنسان والاستدلال على أخلاقه من بقية أعضائه»، وفي «المقارنة بين الإنسان والحيوان». فالطب علم إنساني قبل أن يكون علما طبيعيا.
45
ويبدأ ابن النفيس مثل ابن سينا وابن رشد بالقول الكلي قبل الأجزاء. ويتصور الإنسان من أعلى إلى أسفل، من الرئيس إلى المرءوس، من القلب أو الدماغ إلى الأعضاء الخادمة له. فهناك مركزان، القلب والدماغ، وربما أربعة: القلب، والدماغ، والكبد، الأنثيان. والأسلوب دقيق واضح بلا حشو أو إنشاء لذلك جاءت الفصول قصيرة التركيز على العلم وحده وليس سياقه الاجتماعي. ويستعمل ابن النفيس ضمير المتكلم المفردة في أفعال القول. فهو الذي يدرس ويحلل ويصف الأشياء. دون نقل وشرح للأقوال.
46
ويقدم ابن النفيس فلسفة في الطب تقوم على وصف الأعضاء ووظيفة البدن بلغة الوجوب أي ضرورة الطبيعة. تبارك الله أحسن الخالقين.
47
وبعد البسملة والحمدلة يتم التحول من صفات الله إلى صفات السلطان بل تزيد صفات السلطان عن صفات الله. وكلما زاد تعظيم الله والسلطان زاد تحقير العبد الفقير إلى رحمته تعالى.
48
وفي «المختار من الأغذية» له أيضا يغيب الوافد والموروث على الإطلاق.
49
ويتم التوجه إلى الموضوع مباشرة، الأغذية لأصحاب الأمراض على نحو عملي رصدي إحصائي صرف دون أفكار أو تصورات أو دلالات، أقرب إلى القاموس منه إلى الفكر مثل ديسقوريدس وابن البيطار. والعبارات الإيمانية قليلة للغاية لا تتجاوز البسملة في البداية والحمدلة والصلاة على محمد وآله في النهاية.
وفي «الموجز الطب» لابن النفيس (687ه) يصل الإبداع الطبي إلى مداه.
50
إذ يغيب الوافد والموروث كلية، لا جالينوس ولا ابن سينا.
51
ومع ذلك تظل بعض الكلمات المعربة مثل كيموس، ديابيطس التي استقرت في الطب مثل باقي الأسماء المعربة المستقرة مثل موسيقى وجغرافيا وهندسة. ومن ثم فإنه يكون موجز لكتاب «القانون في الطب» لابن سينا باستثناء التشريح ووظائف الأعضاء ومن ثم يكون أدخل في التلخيص لأن ابن النفيس لم يصرح أن الموجز اختصار لا اسما ولا مقدمة كما هو الحال في باقي مؤلفاته الشارحة مثل «شرح تشريح ابن سينا». بل إنه لا يعرض آراء ابن سينا، بل ينقده كما نقد جالينوس في عمل القلب والرئتين. بل كان يفضي من كلام جالينوس ويصفه بالعي والإسهاب الذي ليس تحته طائل.
52
هو مؤلف إبداعي مستقل، يضم علم الطب في نسق عقلي محكم وبطريقة القوانين الكلية حتى في الطب العملي. كان يكتب من الذاكرة وليس من مصادر طبية سابقة. وكان الدافع مراعاة المشهور في أمر المعالجات من الأدوية والأغذية أي القواعد الطبية العامة، اكتمال العلم بعد تطوره. وتدل كثرة الألقاب على تفرد مؤلفه وإبداعه وشموله. فقد ألف في الفقه وأصول الفقه والحديث والسيرة والنحو والبيان.
53
ويقوم على قسمة رباعية تبدأ من الكلي إلى الجزئي ثم إلى الكلي من جديد. أكبرها الفن الثالث عن الأمراض الخاصة بكل عضو، ثم الثاني عن الأدوية والأغذية المفردة والمركبة، ثم الرابع عن الأمراض التي لا تخص العضو، وأخيرا الأول قواعد الطب النظري والعملي.
54
كما يجمع بين النظري والعملي. والنظري يقوم على تحليل الأمور الطبيعية ثم أحوال البدن، فالبدن جزء من الطبيعة، الإنسان عالم أصغر، والعالم إنسان أكبر. وبتفاعل البدن مع الطبيعة تظهر الأسباب والدلائل.
55
وبالرغم من الطابع القاموسي للكتاب إلا أن منطق الاستدلال فيه واضح، وتدل عليه أفعال البيان. يجمع بين القياس والتجربة. وتستعمل التشبيهات من أجل توضيح المصطلحات الطبية بعد اشتقاقها اليوناني مثل «البحران»، وهو الوقت الذي يبلغ فيه المرض شدته بحيث يتحول الإنسان من الصحة إلى المرض أو من المرض إلى الصحة.
56
فالمرض هو العدو الباغي، والبدن هو المدينة، والطبيعة السلطان المدافع عنها والبحران يوم القتال الفاصل.
57
تقل فيه التصورات والموضوعات الدينية بل تغيب غيابا شبه كلي. فالأرواح وهي القسم الخامس من الأمور الطبيعية في الطب النظري لا تعني النفس كما يراد بها في الكتب الإلهية بل تعني جسما لطيف بخاريا يتكون من لطافة الأخلاط كتكون الأعضاء عن كثافتها وهي الحاملة للقوى، وأصنافها.
58
وفي أقل القليل، وتظهر العبارات الإيمانية خلال الكتاب سؤال الله التوفيق والعصمة وتنتهي بعض الأجزاء بالتعبير الشهير «والله أعلم» تواضعا وتركا المجال مفتوحا لتقدم العلم. ويروح العالم المؤمن بعض وصف القوى والإحساس بالتوافق بين العقل والطبيعة والوحي
فتبارك الله أحسن الخالقين .
59
و«المهذب في الكحل المجرب لابن النفيس» (687ه) يمثل أيضا نموذجا للإبداع الخالص.
60
يغيب فيه الوافد والموروث باستثناء جالينوس مرتين الأولى للمناطقة والثانية اسم دواء، ولفظ اليوناني ثلاث مرات كألفاظ وإحالة إلى معنى قول الرسول عن فوائد إثمد، إنه يحد البصر وينبت الشعر، وأيضا إلى رؤيته وهو في يثرب نعش النجاشي وهو في الحبشة وهي خارج الرؤية بالعين.
61
ومع ذلك تذكر أسماء الفرق دون الأشخاص مثل أصحاب الشعاع الرياضيون، الطبيعيون، الفلاسفة، الأطباء، الآخرون. ولا تذكر أسماء الأعلام حرصا على التجريد ، والتمييز بين النظرية وصاحبها، بين بناء العلم وتاريخ العلماء مثل الإحالة إلى القائلين بالمخروطين المصمتين، والقائلين بالمخروطين غير المصمتين، والقائلين بخروج خطين، والقائلين بورود والشبح.
62
والمرة الوحيدة التي ذكر فيها اسم علم ابن البيطار إحالة إليه بعد الاقتباس من كلامه من الناسخ، زيادة في أحد المخطوطات.
63
والاسم نفسه يدل على المنهج «المهذب في الكحل المجرب». فالمهذب أي المختصر المفيد، والكحل أي العين، فالكتاب في العين، والمجرب إشارة إلى منهج التجربة وكيف أن ابن النفيس يعرض أقوال السابقين على التجربة للتحقق من صدقها دون الاعتماد على سلطة جالينوس من الوافد أو ابن سينا من الموروث، وهو الذي كان يحفظ القانون ظهرا عن قلب.
ويعتمد ابن النفيس أيضا على القياس. فالعلم بناء نظري عقلي متسق. وبتطابق التجربة والعقل يصدق العلم، ولو كان الموروث ظاهرا لصدق الوحي. يعرض المذاهب العلماء في الرؤية، ويذكر حجج كل فريق. ثم يبطل آراء المخالفين، ويدحض حججهم وينصر الحق الذي هو مذهبه، ويورد الأدلة على صحته، ويرد على الشبه التي تقال حوله ويحل شكوكه.
64
يبدأ بالتاريخ وينتهي بالبنية. تتوالى الآراء ثم تكتمل الحقيقة.
العين هي بؤرة التحليل. ولا يكتفي بالعين العضوية بل أيضا في اختلاف الحيوانات بحسب العين، وفي خواص الإنسان في أمر العين، وأعين السودان كحل جاحظة، وأعين الترك ضيقة، وأعين الأعراب نجل متسعة، وأعين المصريين صغار فوق كبر الأنوف.
65
وينقسم الكتاب إلى نمطين، القواعد والتفاريع أي الأصول والفروع. وينقسم كل نمط إلى عدة جمل، الأول إلى جملتين وقواعد العمل. وتنقسم كل جملة إلى أبواب، والجملة الأولى إلى أربعة: خلقة العين وفعلها، وأمراضها وأحوالها، وعلاماتها، والثانية إلى بابين حفظ الصحة وعلاج الأمراض. وينقسم النمط الثاني، وهو الأكبر كما إلى سبع جمل: الأدوية، الأصول العملية، الأمراض الخارجية، أمراض الوسط، أمراض المقلة، أمراض القوة الباصرة، أحوال المقلة، أمراض باقي العين. ثم تنقسم الجملة الأولى إلى ما بين الأصول العملية وأحكام الأدوية. وتنقسم الجملة الثانية إلى بابين: أمراض الجفن وأمراض الموق، والجملة الثالثة إلى أربعة أبواب: أمراض الطبقة الملتحمة، وأمراض القرنية، وأمراض العنبية، وأمراض الحدقة وأمراض المقلة.
66
فالقسمة عقلية تقوم على بنية عقلية مثل نظري-عملي، أصل-فرع، أحوال-علامات، داخل-خارج، وقاية-علاج، مفرد-مركب، كلي-جزئي.
ويحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق، بالتذكير والتقديم والتأخير والتنبيه.
67
كما أنه يرد على الاعتراض مسبقا، ويأخذه بعين الاعتبار في بنية العقل.
68
وبالرغم من الطابع الإبداعي الخالص إلا أن العبارات الإيمانية كثيرة ومتنوعة. فلا تعارض بين الإيمان والإبداع. الإيمان تقوى والإبداع عقل مثل: «والله تعالى أعلم»، و«الله أعلم»، إن شاء الله»، «والله هو الموفق للصواب». وقد يكبر التعبير ويصبح «مستعين بالله وحده لا شريك له وهو أعلم». وكثير من هذه العبارات زيادة من الناسخ لأنها توجد في بعض النسخ دون الأخرى مما يدل على قلتها في نص ابن النفيس لانشغاله ببناء العقل الخالص.
69 (د) القليوبي
وفي «تذكرة» شهاب الدين أحمد بن محمد سلافة القليوبي الشافعي من القرن الحادي عشر يظهر نوع أدبي جديد هو «التذكرة» بعد الجامع.
70
وهو أقرب إلى الكناش القديم أي مجرد تجميع أقوال، وصفات طبية مباشرة ذات توجه عملي ودون أي أساس نظري أو دلالة فكرية. فهو إبداع بالذاكرة أي القدرة على استيعاب المصب دون الروافد، وهو ما يتطلب قدرة على التركيز على الشيء دون رواته، على المتن دون السند. يخلو من أسماء الأعلام مثل جوامع ابن رشد. وفي نفس الوقت يغيب المنهج، قياسا أو تجربة، أقرب إلى النتائج الجاهزة منه إلى البحث عنها: ومن ثم يغيب المسار الفكري، المقدمات والنتائج، ومنطق الاستدلال. ويرث الفقهاء الأطباء كما هو واضح في ألقاب المؤلف «الشافعي» بدلا من «الحكيم الفاضل»؛ لذلك تدخل بعض الطلاسم والخرافات كوسيلة للعلاج وتحول الطب العلمي إلى طب شعبي.
71 (ه) ابن شقرون
وتعتبر «الأرجوزة الشقرونية» لعبد القادر بن شقرون من القرن الثاني عشر آخر محاولة في طب المغرب للتعبير عن الطب شعرا دون إحالة إلى الوافد أو الموروث، بل عودا إلى ثقافة العرب الأولى كأداة للتعبير عما اختزنته الذاكرة العربية لما أبدعه العقل العربي سلفا.
72
وهي من وزن الرجز، إجابة بالشعر على سؤال بالشعر. العصر انتكاس في الطب ولكن الشكل الأدبي إبداع خالص. تحول الشعر الغنائي العربي التقليدي إلى شعر تعليمي. واستطاع الشعر قبل الوحي احتواء الحضارة بعد الوحي كأداة للتعبير. ويغلب على الأرجوزة التوجه العملي، التغذية والصحة والعلاج بالأعشاب كما هو الحال في الطب المتأخر. ومع ذلك يعتمد الطب في الأرجوزة على العقل والقياس حتى يكون مفهوما.
73
ولا حرج من تخصيص فصول للجماع والذكر. والموضوعات كلها محلية، الطب البيئي المباشر بمصطلحات عربية أصيلة كالخلق والطبع ومنهج التجربة والمجريات على المأكول والمشروب والملبوس. وذلك مثل الأبيات عن فواكه الفصول.
74
ويتم التعبير عن مضمون العبارات الدينية التقليدية شعرا في البداية والنهاية على أساس العقائد الأشعرية. فالله خالق كل شيء، والطبيعة تعمل بأمره، الخير من الله، والشر من النفس، ودعوة الله للهداية. وتشتق صفات الله من الطب والنبات والطبيعة، والنهاية بالصلاة والسلام على الرسول وخير الأتباع.
75
Unknown page