Min Naql Ila Ibdac Talif
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
Genres
ويقل الموروث شيئا فشيئا بالتحول من التشخيص في الأمور الكلية إلى الأمراض الجزئية للأعضاء أو لغير الأعضاء، ويكاد يختفي في العلاج؛ أي في الطب العملي في الأدوية المفردة والمركبة، فتقل الإحالة إلى العناية الإلهية وتجلي حكمة الله في الكون تعبيرا عن
فتبارك الله أحسن الخالقين ، أو
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . وفي موضوع الراضعة وضرورة خلوها من الانفعالات الرديئة، مثل الغضب والضجر والجبن؛ لأن ذلك يفسد المزاج فيفسد الرضاع، يحيل ابن سينا إلى نهي الرسول عن استظئار المجنونة؛ لأن سوء خلقها قد يؤدي إلى سوء العناية بتعهد الصبي وإخلال مداراته.
51
هذا بالإضافة إلى مفاهيم الخلق والعناية والتي تتحول إلى مفاهيم طبية علمية في منافع الأعضاء والأدوية، مع البداية بالبسملة والحمدلة والنهاية بها؛ مما يضفي على الكتاب روح الموروث بعد تمثل الوافد.
وكما أن هناك صلة بين الطب والمنطق في القياس والتجربة هناك صلة أخرى بين الطب والإلهيات بظهور مفاهيم الروح والمحرك الأول والرؤيا الصادقة والخلق والعناية في الاستعمالين العلمي والديني في اشتباه الميتافيزيقا بين العلم والدين، فيستعمل بعض المفاهيم، مثل «الروح» و«النفس»، بالمعنى العلمي أكثر منها بالمعنى الديني، بالمعنى الوظيفي وليس بالمعنى العقائدي. ويعني بالروح أو النفس المعنى الطبيعي، ما يسري في البدن كقوة مادية؛ فالغضب ينشأ من إثارة القوة في الروح. كما يظهر مفهوم «المحرك الأول» عند الحديث عن حركة الأعضاء بعنصر النار، واجتماع الحار واليابس والخفة والثقل؛ فالثقل أعون في كون الأعضاء وسكونها، والخفة أعون في كون الأرواح وتحركها، والمحرك الأول هو المحرك للنفس بإذن باريها. وهنا تبدو الأشعرية الكامنة في نسيج الفلسفة الإشراقية. وبمناسبة ما قاله جالينوس في الرؤيا يضيف ابن سينا أن الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة، مكملا الوافد بالموروث وقارئا له من خلاله.
52
والفكرتان الرئيسيتان اللتان تتخللان الكتاب هي الخلق والعناية؛ فالطبيعة مخلوقة، والعناية فيها من صنع الله. الله هو الذي وضع المزاج المعتدل في الإنسان، وهو الذي وضع في كل عضو مزاجه الأصلح لأفعاله وأحواله بحسب إمكانياته، وذلك من اختصاص الفيلسوف لا الطبيب. وأعطى الإنسان أعدل مزاج في هذا العالم مناسبا لقواه، وتلك حكمة الخلق، وكأن ابن سينا يشرح آية
فتبارك الله أحسن الخالقين
في الطبيعة وفي علم الطب، ويظهر اللفظان، الخلق والعناية، على التبادل؛ الخلق أولا والعناية ثانيا. ويستعمل ابن سينا الآية على نحو حر تعبيرا عن حكمة الخلق، والتي صاح بها كاتب الوحي حتى قبل نزولها إحساسا منه بجمال الخلق وحكمته في تكوين الجنين في رحم الأم. والخلق والخلقة من نفس المصدر؛ الخلق طبيعة، والطبيعة خلق؛ ولا فرق في اللغة بينهما. وبعد أن يصف ابن سينا وظائف الأعضاء وحركة الاخلاط فيها يمدح الخلق. يصف الأعضاء وخلقها والحكمة في أجزائها ووظائفها طبقا للمنافع؛ فالخلق يقوم على زيادة المنفعة والإقلال من الضرر. ويحلل حكمة الخلق في البدن، في العظام والغضاريف والمفاصل وباقي أجزاء الهيكل العظمي لسهولة الحركة، كما يصف الحكمة في خلق الكتفين، تعليق للصدر وحمايته، وخلق الأنفين الدقيقتين، والنخاع والعنق والقصبة الهوائية والرئتين والعينين والأضلاع. ولا فرق في إدراك ذلك بين جالينوس وابن سينا، بين الحكمة اليونانية والعناية الإسلامية، بين العقل اليوناني والوحي الإسلامي، بين تراث الآخر وتراث الأنا، كلاهما يتوجهان نحو طبيعة واحدة. ولا فرق في حكمة الخلق بين خلق الإنسان وخلق الحيوان. يتحدث ابن سينا عن الخلق لا الخالق؛ أي عن الطبيعة وليس تشخيصها في فاعل، إجابة على سؤال «من؟» وهو أقرب إلى العلم منه إلى الدين. كما اقتضت العناية الإقلال من الآلات؛ لأن الإكثار منها ضرر، وخلق الأمعاء الستة آلات لدفع الفضل اليابس، وجعلها كثيرة العدد والتلافيف والاستدارات حتى لا ينفصل الغذاء سريعا، ولا يحتاج الإنسان إلى تناول الغذاء في كل وقت والتبرز الدائم والمشابهة بالبهائم. هناك إذن حكمة في الطبيعة تتجلى في المخلوقات. وتتجلى حكمة الخلق في تشريح المثانة، وهي وعاء يستوعب الماء مدة قبل أن يخرج من الحالبين ومن قضيب يتحكم فيه. وسبب ولادة الجنين احتياجه إلى هواء وغذاء أكثر مما في رحم الأم.
Unknown page